مقال نشر بالعدد الأول من مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية، ص 61 بقلم الناقد الجزائري عبد الحفيظ بن جلولي، للاطلاع على كل العدد اضغط على لوجو المجلة:
مقدمة:
يتجلى مفهوم الفكر العربي المعاصر عند عتبة الزّمن، حيث يتأسّس موضوع المعاصرة كعلامة زمنية تنبيهية وكفعل تحفيزي، على أساس أهمية الزّمن في سباق عملية التأسيس للوجودية الفاعلة، فمفهوم المعاصرة يشكل الدّلالة التشريحية للحظة الفاصلة التي أنتجت الوعي بالذات، أي الذات المعاصرة نتاج ما بعد المرحلة الحديثة، حيث البعث الفكري العربي المنجَز في إطار صدمتيْ الاستعمار والحداثة، بعد أن رتّبت مرحلة النّهضة إواليات الإنعاش، وحدّدت عناصر البعث، ومهّدت لعملية الحفر المعرفي، وتمكّنت من استغلال الهامش الرّؤيوي في ظل ضخامة الجسد الإستعماري المهيمن، وإنتاج المحك الذي استطاع أن ينفك من رضوض العملية الإنقضاضية التي جاءت على كل الجسد الفكري العربي وأحالته إلى مجرّد فعل للممارسة الإنتاجية للهوية الوافدة بكل ما تحمله من عناصر التّغريب، فكان المفهوم التوصيفي للحالة المناهضة، محدّدا بالصّدمة الإنبعاثية، فالصّدمة الماحقة للهوية أفرزت انبعاثا باحثا عن الذات.
تُمثل الذات العربية ذلك المركّب الذي دأب في مرحلة تاريخية معيّنة على إعادة البحث عن مجمل الصورة التكوينية للماهية المؤسِّسة، حيث إنّ ضغط العوامل الخارجية فكّك بنيتها عن طريق خلخلة معالم الفكر الذي يتحكم في توجيهها، فانساقت الرّؤية الفكرية تتلمّس هويتها داخل معترك كوني راح يؤسّس للبنى الفكرية عن طريق تحوّل شمولي داخل البنى المادية، إذ كان الإنتقال يتأسّس شيئا فشيئا من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي، وبالتالي أنتجت الحاجة إلى الموارد الأوّلية الضرورة القصوى لتوسيع المجال الحيوي للدول المنفتحة لتوّها على التّصنيع، فأصبحت الحالة الإستعمارية صورة للتحوّل الجوهري داخل البنية العربية الفكرية ذاتها بفعل الإنتقال الأداتي المنجِز للحظة الحضارية، ومنتجا للحيرة الوجودية حيث اشتمال النّمودج الغالب على تناقضات أنطولوجية تجمع عنصري التطوّر والهيمنة، وبذلك “أعلن صعود الهيمنة الأوربية، والغربية عامّة، نهاية المدنيات الكلاسيكية، وبداية تحلل بنياتها الأساسية، وأدخلها في أزمة تاريخية طويلة مادية وروحية”1.
جاء هذا التحوّل المانح للهوية الجديدة للتطور الغربي، وخصوصا في المنحى الفكري، متزامنا مع لحظة السلب للهوية القومية للدول المستعمَرَة، مما أنتج رتبة فكرية طامحة إلى المحافظة على الذات، لكن في ذات الوقت كانت عينها على المنجز المادي الذي أنتج البنى الفكرية للوافد الإستعماري، فنشأ الفكر العربي داخل هذه الجدلية التي استمرت مهتزّة في الوعي العربي نتيجة لقيام رهاناتها على الصراع بين التراث والحداثة، أو بين القَدامة والمُعاصرة حيث تأسّس نضال الفكر العربي متمثلا في شقيه الإصلاحي والسياسي ومنظوماته الدينية والوطنية والعلمانية، وبروز المحاولات المتتالية للتوفيق بين الاتّجاهات المختلفة لأجل الانتصار للحظة النّاقلة للفكر من مستوى العطالة إلى مستوى الحركة، والفكر العربي المعاصر يتحدّد بالرّغبة في إنتاج الجوهر المعرفي المناضل والمتاخم للحداثات المنتجة والمناهض للتقوقع العقلي والذّهني، بغضّ النّظر عن التحقّقات الواقعية، هذه الخريطة الفكرية، تتجاوز بالفكر من المسار العمودي إلى الانتشار الأفقي حيث تتفجّر اللحظة الحنينية للمنجز الجوهري التراثي الذي راهن عليه فصيل فكري في مواجهة العقلانية المعاصرة والمحاصِرة بالتماهي، ومن ذلك يتأسّس سؤال الفكر العربي المعاصر، وحدود تمدّداته المعرفية، ونطاقات اشتغالاته الإجرائية، ومدى فعاليته في ترتيب الخصوصية الفكرية العربية؟
الفكر العربي المعاصر/ المعنى والجوهر:
إن نهضوية الفكر العربي المعاصر تثير إشكالا فلسفيا يتعلق بالمعنى والجوهر، إذ تتماهى الحدود لتنتج العلاقات المتداخلة التي لا تفسّر، وإنّما تعمّق لتفجّر الأسئلة المتعلقة بحركته، حيث اللحظة الرّاهنة كفيلة بكل معطياتها بأن تزيح سطحية التّفسير لصالح المَشْكلة والبحث في الرّؤيا، وتحرير العقل من عمودية التلقي الظاهر إلى أفقية التأويل الإشكالي، وبهذا يتشظى المعنى ويتعدّد الجوهر، ويبدو من خلال الإستنارة الفكرية التي حدّدت منوالها الإشتغالي على الرّؤيا والتأويل، أنّ تعريف الفكر العربي المعاصر لا يتعلق بثبوتية التّحديد المانع الشامل، وإنّما يتعالق مع بنية المبادرة التي تتأسّس وفق جوهرية الحركة المنطلقة من الذات والمتجاوزة إلى الآخر، لأنّ إنتاجية الرّاهن الفكري تتعدّد مداخلها بعدد مخرجاتها المنشئة للحظة الحفر العقلي في المجرّد والمحسوس، وبذلك لا يمكن ونحن نحدّد معنى الفكر العربي المعاصر تجاوز لحظة العولمة الكاسرة للحدود والمُراهنة على احتكار الهوية الكونية الثقافية والفكرية.
يعرّف ‘المنجد في اللغة والأعلام’ الفكر على إنّه “تردّد الخاطر بالتأمّل والتدبّر بطلب المعاني”2، أمّا ‘لاروس الصغير’ فيعرّف الفكر على إنه “النّشاط الذي يُعمل العقل، وينسّق بين الأفكار”3، ويعرّفه في المجال الفلسفي على إنه “مجموعة الظواهر القابلة لاكتساب المعرفة والقادرة على نشرها”4.
فالفكر نشاط عقلي يروم التأمّل والتدبّر بهدف الوصول إلى المعاني، أي العناصر الكامنة وراء حركة الواقع في تشكّلاته الظاهرة، أو تأمّل وتدبّر منجز التفاعلات بين الأشياء والأشخاص والأفكار خلال سريانها في الزّمن والمكان، أو التّنسيق بين مجريات الظاهر المتناقضة ومحاولة الوصول إلى ترتيب منطقي لعلاقات الكينونة الفكرية الناتجة عن التأمّل، وهو ما يفصل هذه الظاهرة بمفهوم ‘لاروس الصغير’ الفلسفي للفكر عن كل ما هو ذاتي وعاطفي، وبهذا نستطيع أن نميّز بنية متعالية للتأمل، تحفر في ما هو قابل للترشيح العقلي والتّحليل المنهجي بواسطة ديناميات ابستيمولوجية، أي ما يجعل المعرفة ممكنة الوجود أو صالحة، والمعنى المستتر في مفاهيمية إمكانية الوجود يتصالح مع الشّرط البنيوي لمطمح الإستمرارية أو الوجود في العالم بمفهوم هايدغر، “فإن الفهم، الذي يدرك عبره ‘الدازين’ ذاته في وجوده وفي عالمه، لا يقتصر على سلوك وتصرف اتجاه موضوعات المعرفة ولكنّه الوجود ـ في ـ العالم نفسه ‘للدازاين'”.5، فهايدغر يضع الموجود في مواجهة مع العالم من حيث إن فعاليات الإيجاد المرتبطة بكينونة الموجود في الوجود، وحاجته إلى الوجود، تدفع به إلى ممارسة الواقع الذي تفرض حتمياته الانخراط في جزئياته والتفاعل معها قصد إنتاج الوجودانية العارفة والمنتجة.
إن شرط الانخراط يستبق فعالية التأمل في تأكيد وجودية متفاعلة ومتسامحة مع المستويات المستوعِبة لجوهر الكينونة في تعالياتها المعرفية واندراجاتها التطبيقية، المتوافقة وتحقيق الهوية التفاعلية مع السطح المجتمعي المتحرّك نحو أمدائه الإنتاجية، وهو ما يعبّر عن انسيابية فكرية في استيعاب الواقع وعرفنته، لكن هذه العملية لا تتم بهذه السّهولة التي تنفلت من عدّة شروط من ضمنها ما يذهب إليه الدكتور محمد عابد الجابري والمتمثل في الصراع الطبقي المحرّك للتاريخ، بمعنى الحالة التي ينخرط فيها الفكر في الواقع إنّما تعبر عن هذا الصراع، والذي لا يكون انعكاسا مرآويا صادقا، “الأمر الذي يجعل الرّبط الميكانيكي بين أجزاء الواقع الفعلي والصورة التي يعكسها الفكر عنه عملية مضللة، والنتائج التي تترتب عنها نتائج فاسدة”6.
إن الدكتور الجابري، يقدّم نظرية الإنعكاس كعملية لانخراط الفكر في الواقع، إلا أنّه يشترط لعملية الإنعكاس أن تقوم على تحليل الواقع، و”تحليل الصورة المرآوية المهشّمة، أي صورة الواقع ‘العامية’ كما تنعكس في وعي النّاس ـ مطلق الناس ـ وإعادة مفصلتها وترتيب العلاقات بين أجزائها لاستخلاص صورتها ‘العالمة’، أي الصورة التي تؤّسس الوعي الطبقي الصحيح”7.
إن التحليل الذي يرومه الفكر في عملية اندراجه في الواقع تشتغل على التغلغل العارف الذي يستذهن المجتمع برمّته، مصيغا إياه في صورة أولية تتخذ شكل الفكرة، ومن ثم يتزحزح شكل الصراع متخذا علاقات التواصل والتكامل، حيث ميراث الحداثة أنتج أدواته الفعالة التي تسمح للفكر بأن يزاول تداوليته على عدّة مستويات، إن في الواقع الحقيقي أو الواقع السيبرنتيكي الإفتراضي، فأصبح الواقع يمتلك القابلية لحوار الفكر ومناقشته في عملية تبادلية، وأصبح هامش الصراع الطبقي محصورا في زوايا فكرية تشتغل على تراث الفكر، ذلك أن الفكر عبر حركته في التاريخ أنتج تاريخيته المكرّسة عبر التجديد في وسائله الممكنة لتشكيل عناصر الهوية المتعدّدة، والفضاء الإفتراضي أصبح يحقق الإوالية التبادلية للحوار بتحقق المجتمع التفاعلي المنجِز للراهن التغييري في الزمن والمكان المحدّدين بلحظة تواجد الفاعل الفكري.
قلق الفكر العربي المعاصر:
قلق الفكر فرع من القلق المعرفي الذي يدفع بالذّات إلى تمثل وجوديتها عبر السّؤال وإنتاجية الأفق المؤثَّث بالرّؤيا، “بالتأكيد فإن القلق المقصود هو ما ينتج عن عدم الاطمئنان إلى الجاهز والسّهل من الأجوبة والحلول، وليس القلق المرضي الناتج عن خلل نفسي”8 حسب الدكتور سعد البازعي.
يستمر قلق الفكر العربي منذ المحاولات الأولى لاستنهاض الذات العربية حتى تتبيّن موقعها من خارطة التّغيير الكونية، محاولا في بعض اتّجهاته عدم إعادة إنتاج المتداول، وذلك عن طريق استبطان العالم الخارجي عبر صورته الثابتة في لحظة معيّنة ومواجهته بأسئلة الداخل المدرجة على جدول أعمال قلق ذات اللحظة الترحيلية للعالم، ومن هذه المواجهة يتأسّس الفكر الخلاق المساهم في ترميز الكينونة ورسم مداراتها عبر صدمة الأسئلة والشك الفلسفي المُراهن على درء هوية الإكتمال.
تمتحن الذات قلقها الفكري على نول التجربة، لهذا تلعب الكتابة السيرـ ذاتية دورا بالغ الأهمية في تحريك رواكد الفكر، لأنّها منتج حركة في التاريخ استطاعت أن تستلهم معالم كينونة الفاعل الفكري وتقديمها عبر مراحل سيرورتها المتسائلة والمتفاعلة مع اللحظة الوجودية الصائرة إلى نهاياتها، كما إنها تمثل قلق البحث عن الشظايا المتناثرة للذات عبر الزّمن ومحاولة العثور على شكل النّسق الوجودي في تمثلاته الأشد انخراطا في العالم، ولعل الفكر العربي عانى كثيرا من النّقص في هذا المجال الذي تعجّ به الحالات الفكرية المغايرة، فالسّيرة الذاتية تمنح الأداة الإجرائية والنّظرية التي تحرّر المبادرة لكشف عناصر الانطلاق وترتيب أرضية المواجهة مع بديهيات الواقع والمعاني المطروحة على الطريق، كما يقول الجاحظ، فكل ما يحيط بالذات في غياب التساؤل يعتبر عاديا إلى أن يخلخله السؤال فتنكشف مفردات غرابته.
تتعدّد الخطابات، ويمتلك المفكر العربي لحظته الخطابية، التي لا يستطيع الإنفلات من تحديداتها المؤرّقة، فيباغته سؤال الهوية لينطرح “خطاب الهوية”9، كمحور أساس في السّيرة الفكرية، حيث تتأسّس محصِّلة المفكر التجرباتية الوحيدة التي ترسم ملامح هويته الأصيلة كإطار فكري لا يملك غيره كي يعلقه على جدار الكتابة المناضلة من أجل نحت البدايات، ومحرّك الفكر لدى المفكر يبدأ من عتبة الشك والحذر كما يبيّن على حرب في سيرته الفكرية، يقول عن نفسه: “ولكنّه حذر بطبعه ومنذ ولدته أمّه، شكاك بالخبرة والاستفادة، وكان يكفيه أدنى دليل لكي يفطن إلى حقيقة ما يجري ولكي يستدل على وجهة تطور الأحداث”10، فالحذر والشك هما العاملان الأساسيان لترتيب الدّليل، حيث تخشى الذات المفكرة استنفاذ قواها في عملية فكرية أشبه بإجراء عملية حسابية تنكشف نتيجتها بمجرّد الطرح أو الجمع أو غيرهما، فتعمد إلى الشك الذي يقرأ الوجود والعالم والواقع كمنجزات لا نهائية تختلف علامات تمظهرها كلما ترتب أفقها الثابت، ولا يمكن خرق نظام الثبات إلا عن طريق الشك المنهجي أو الفلسفي.
يمتحن الفكر دلالات استمراره وقلقه من حيث اختباره لمفاصل سيرته الفكرية التي لا تقف عند حدود الفاعل الفكري بقدر ما تتجاوزه إلى الآخر، لأنّ طبيعة التّجربة الفيضية تفرض عناصر البحث فيها والتّفتيش عنها، لهذا لا يستطيع الإنسان الانفكاك من هاجس التواصل مع الآخر قصد ملء فجوات الكينونة، وتنبثق التّجربة كعنصر فعال في فضاء التواصل، ولهذا يتأسّس علي حرب كتجربة فكرية تنتقل في مراحل وجوديتها عبر علامات دالة، فبعد الشك، يستقر العقلاني في عمق علي حرب عند مرفأ الرّمز، بعد أن تتبع الحركة الإنسانية في مسارها التبجيلي للأشياء في رتابتها وثباتها، فـ “هي يستبد بها الوهم ويحرّكها الخيال وتعشق الرّمز”11، فالمحرّك للإرادة الإنسانية الخلاقة لا يشكله العقل وحده، بل تتضافر على تنميته عوامل تستقر في الوعي الوجودي للجماعة الإنسانية، تُبنين تصوّراتها المعاشية، وتمدّها بالمسافة الحلمية التي تعزّز من بنية الخيال وحفرياته الماورائية المضاءة بالوجداني، حيث يستثمر العقل في منتجات الخيال والرّمز كي يرمّم تجريد وجوديته، فـ “بدون مساعدة الشعراء، ماذا يمكن لفيلسوف محمّل بالسنين فعله وهو مصرّ على التكلم عن الخيال؟”12، يتساءل غاستون باشلار في “شعرية حلم اليقظة”، والرّمز يتغذّى على الأسطورة والمعتقدات الشعبية، من تعليق أصغر تميمة ورشِّ حصوات الملح على الدّم المراق، إلى مزارات الأضرحة والقباب، وبالتالي يلتقي المخيال المفكر والمخيال الشعبي في تكامل وتواصل، حيث إنّ “الإنسان مهما بلغ به الوهم وأيا شطح به الخيال ونأت به الرّموز، فلا مناص له من أن يتأوّل الإشارات ويفك الرّموز وأن يتحقق مما يتخيّله ويشهد على ما يغيب عنه”13، كما يرى علي حرب، وهو ما ينفي عملية تواصل الفكر بالواقع عن طريق الصراع الطبقي، حيث تتكامل وتتواصل فعاليات الوجودية الإنسانية في مستوييها الفكري والشعبي عن طريق إنتاج الرّمز والخيال وتأوّل إشارتيهما.
ما يمكن أن نصل إليه في خطاطة الفكر التي راح يرسم منحنياتها على حرب منطلقا من الشك ثم الرّمز فالتأويل، هو إن الرّمز كعملية وجدانية، يقف بين الشك والتأويل كعمليتين عقليتين، وبالتالي يصبح ما هو وجداني يشكل المعبر الإيصالي إلى التّحفيزات التي تقذف بالإرادة الباحثة في معترك المعقولية الفكرية الواعية بوحدات اشتغالها.
الوعي الوجودي ورهانات الفكر:
تستحضر الذاكرة العربية ذاتها ضمن مأساوية وجودية تعيد استرجاع الإستيلاب أو تتمثله كلما استُفزّ وعيها الوجودي، ذلك إنّ الفكر العربي المعاصر ما فتئ يعمل على ترميم الفجوة الوجودية التي أحدثها الإستعمار والحداثة في إطار الصّدمة التي خلخلت البنى الرّاكدة في كينونته الفكرية، ولعلّ صدمة الإستعمار من حيث طبيعته المهيمِنة كرّست فعل الإغتراب داخل البنية الذّهنية العربية، فلا تلبث الفعالية الفكرية العربية أن تؤكد على الدّوام امتثالها للذات القومية المتأرجحة ما بين الجغرافيا الوطنية والقومية، كتكريس للهوية الثابتة في التاريخ، ولعل الشّرخ الإغترابي الذي تسبّب فيه العامل الاستعماري قد أوقد في الفكر العربي الرّغبة في اللجوء إلى الذات كلما أمكن ذلك خلال العملية التأسيسية لمعالم الفكر، وهو الهاجس الذي يضع هشام شرابي أمام معضلة الإغتراب لحظة ضياع الوطن، حيث يسترجع الذاكرة الوجودية المهدّدة: “أسأل نفسي الآن، وأنا أخط هذه الكلمات بعد مرور سنين عديدة، كيف غادرنا بلادنا، والحرب قائمة فيها، واليهود يستعدّون لابتلاعها..”14، يوازن هشام شرابي هذه المعادلة القائمة في أساسها الفكري على غياب مرآوية الإنعكاس الذاتوي على صفحة المعرفي، حيث الرّبط بين الإغتراب والمثقف، وبالتالي تصبح الذات في تشظياتها الفكرية والوجودية مدار عملية استقصائية تبحث عن المنفلت من خارطة الوعي والنّاقص في الكينونة عبر تحدي الفكر الراهن برهانات مفقودة، تستحوذ على اللحظة الإغترابية وتنتج مآلات ممارستها من حيث الإصرار على كسب رهان إنتاج الفكر العربي المعاصر، لهذا أصبح رواده ـ الفكر العربي المعاصر ـ “يقدمّون أنفسهم على أنهم أصحاب مشاريع فكرية فلسفية وسياسية وحضارية، يحضر فيها الفكر الغربي كمفاهيم ومقولات”15.
إنّ هذا الإصرار على ترتيب هوية الذات الفاعلة والمؤثِّثة لمجالها الفكري يدخل في إطار إثبات الهوية المهدّدة على الدّوام بالإغتراب نظرا لمسلكها المأساوي في تجربة الإستعمار، وفقدان الأرض التي تعني بالضرورة فقدان الهوية، التي تتمظهر كصورة أوّلية تطال حتى النّهايات طبقا للشعور الإغترابي المصاحب للذات، فتفكر “خارج المكان”16، لأنّ الحيّز الوجودي يحمل هوية الكينونة التي تنطرح في تضاريسه إنتاجيات هوياتية تسرح به في مدار الكونية، والإحساس بفقدان ناصية منح المكان تلك الهوية التي يتبادلها مع الذات، يؤجج الذاكرة ويؤبّد فيها الاسترجاع الاغترابي، الذي بقدر ما هو سلبي، لكنّه يشكل الدافع على مستوى الفكر العربي المعاصر إلى تفجير المعقولية المفكرة المتشبّثة بالسّند الوطني والقومي، والمختلفة في أساليب إنتاج المعرفة ولو إنطلاقا من انفتاح الوعي الذاتي على أسس التطور الغيري، وتجربة هشام شرابي الإغترابية تعوّل على التنبّه للمهمل في الوعي الذاتي المتساكن مع عناصره، يقول: “عند التحاقي في جامعة شيكاغو اكتشفت أن هناك تعابير في اللغة الإنكليزية كنت أعرف معناها لكنّي لم أستعملها إلا نادرا، مثل (على الأرجح) (نوعا ما ) )إلى حد ما)، وهذه التعابير تستعمل للتخفيف من حدّة الجزم، فتسبغ على الكلام اتزانا واعتدالا”17.
إنّ اللحظة الإغترابية في واقع الذات الشرابية لم تكن مسلوبة طبقا لافتراضات المس السلبي للهوية المهاجرة، بل كانت في حقيقتها واقفة عند المفاصل الحساسة التي تنبني عليها المعرفة وترفد مجالية الفكر، وبالتالي تتحرّر الرّؤية الفكرية من الوثوقية واليقينية اللتان يتعلق بهما العقل المفكر متشبثا بالإنطوائية التاريخية، المُحْتمية بالوقف المعرفي الناجز في لحظة تاريخية تجاوزية سابقة، فدحض الوثوقية واليقينية يؤسّس للرّؤية النّقدية التي تضع الذات ومنجزها على محك التحقّق الواقعي في مضمار المنازلة الفكرية الباعثة للأنا التاريخية محاصَرة بالشك المنهجي والإستخلاص التأويلي.
الفكر العربي المعاصر في مواجهة التحديات:
يتعيّن الحديث عن الفكر العربي المعاصر بالعناصر الفاعلة في إنتاجه، ذلك إن تحديد معالم تتعلق بقيم مضافة تُنسب إلى هذا المفكر أو ذاك لا يعني البتة ثمرانية المسار المنتج، فالبدايات دوما تشتغل على التأسيس وتكريس التقاليد التي تساهم في ديمومة المفاعيل الفكرية، وما زالت المشاريع الفكرية العربية المعاصرة تتعثر رغم تعدّد المعايير الرّؤيوية التي تساهم في الحفر الأركيولوجي للمعرفة، مندّدة بالعقل النّهائي الذي لا يمتحن جدواه إلا في مرآة القرابات المحيطة متغاضيا عن فعل الكينونة الإنسانية، فالنّهضة تحتاج إلى “نظرة شاملة الى تاريخ المجتمعات البشرية، وصورة محدّدة للإنسان”18، كما يرى الدكتور أنور عبد الملك، فتاريخ المجتمعات الإنسانية يعتبر المسرح الكوني الذي يشتغل وفقا للمختلف والمغاير، لكن بمحدِّدات تختلف أيضا حسب الخصوصية الإنسانية، وقد يكون القصد في معنى “صورة محدّدة للإنسان”، فالعملية الفكرية تترشّد بالرّقابة الذاتية التي تمنع الفاعل الفكري من العمل بمعزل عن التّجربة العالمية، حيث التسامح والتواصل مع الآخر والقبول به، وهو ما يفعّل إوالية النّقد الذاتي التي لا يمكن أن تُنجز في إطار الاتجاه الواحد لمخطط الفكر الحضاري، فالتفاعل كفيل بأن يدحض سطوة الصّدام التي تثير وبشراهة العوامل المقيتة للتمركز حول الذات وإقصاء فعاليات الإنفتاح على الإنساني في انسراحاته المبدئية العابرة للخصوصيات، وهو ما تحاول أن تحققه العولمة لكن من منظور التدمير المبدئي أيضا لمسحة الخصوصية وتدشين اللحظة الثقافية الإنسانية الموحَّدة تحت سقف النموذج الفكري والمجتمعي الغالب، فالنّقد الذاتي هو ما تمارسه الفعالية الواعية بذاتها، حيث يندحر المسعى الإكتمالي أمام نزعة المغايرة المرتجعة على وقع الإنعكاسات المرآوية المتعدّدة والمختلفة والتي تنبّه بإلحاح إلى السعي الحثيث لمساءلة الوعي الناقص للكينونة الذي يكتمل بالحاجة المستمرّة إلى المختلف والمتعدّد، وهو ما يفك حصار الثقافة حول نفسها، فـ “لا تموت الثقافة بسبب أخطائها أو عيوبـها، ولكن بعدم الإعتراف بـهذه الأخطاء والعيوب؛ فهي تموت بعدم شجاعتها في ممارسة النقد الذاتي”19، كما يقول محمد عزيز الحبابي.
قد تندرج هذه المقولة ضمن مشروع لحبابي حول الشخصانية الإسلامية، حيث إنّ البناء، أيّ بناء يهدف إلى إشادة كيان خاص، لابد وأن ينهمك في رؤية ذاته التي تعكس الحالة العامة إن في طور البناء، أو في طور الحركة في التاريخ، ولهذا تتصحّح المسارات وتندمج ضمن الفعل الكوني لعملية التغيير، وبالتالي تصبح عملية إنتاج الآلية للتغيير من ضمن فواعل الثقافة التي تتبنى مفهوم النقد الذاتي، أو إنتاج الخصوصية، ويصبح التغيير من ضمن العناصر الوجودية التي تحمل دلالة الكونية، فتتلاقى الثقافات من حيث تقبل باختلافها.
نتيجة:
المأمول في الفكر العربي المعاصر إنبناءه في أحد وجوهه على الشك والرّمز والتأويل كما راح يؤسس علي حرب رؤيته عبر سيرته الفكرية، وكذلك على نبذ الوثوقية المُحتمية بالذات التاريخية في مواجه زحف وهمي للهويات الفاعلة، وهو ما أثبتته تجربة هشام شرابي في ارتحاله القسري ووعيه بمسار الأفكار العملي في الوقوف على ما كان يعرفه ولا يستعمله، فالذات برصيدها التاريخي كفيلة بأن تزاحم وتتواصل دون قطائع، حيث لا يمكن التغاضي عن تجربة الاغتراب، وحالة ‘خارج المكان’ التي رسمت منحنيات قدرية راحت تبرمج فعاليات الحركة الفكرية العربية لردح من الزّمن، مما أدخل التّجربة العربية منخفض البحث عن الهوية والإحتماء بالذات إلى درجة الإنغلاق، فالتحرّر من فوبيا الآخر يتجدّد انبعاثه على مستوى رؤية الفاعل الفكري الذي يمنح الفكر العربي المعاصر أداة إجرائية ونظرية للكينونة الكونية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ برهان غليون، إعتيال العقل، موفم صاد، الجزائر، 1990، ص5.
2 ـ المنجد في اللغة والأعلام، مادة فَكَرَ، دار الشروق، بيروت، ط/29، ص591.
3 ـ petit Larousse,librairie larousse,1980,p/683. 4 ـ petit larousse,p/683.5 ـ هانس غيورغ عادمير، فلسفة التاويل، تر/محمد شوقي الزين، منشورات الإختلاف، م ث ع، الدار العربية للعلوم، ط/2، ص176.
6 ـ محمد عابد الجابري، إشكاليات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، ط/2، 1990، ص14.
7 ـ م ن، ص 14.
8 ـ نقلا عن جريدة الرياض ، العدد 15193/ 28 يناير 2010.
9 ـ علي حرب، خطاب الهوية/ سيرة فكرية، طبعة جديدة، منشورات الإختلاف، الدار العربية للعلوم، ط/2، 2008.
10 ـ م ن، ص15.
11 ـ م ن، ص29.
12 ـ سعيد بوخليط، غاستون باشلار، منشورات الإختلاف، دار الفارابي، الجزائر، بيروت، ط/1، 2011، ص47.
13 ـ خطاب الهوية /سيرة فكرية، م س، ص31.
14 ـ هشام شرابي، الجمر والرماد، دار الطليعة بيروت، ط/1، 1978، ص12.
15 ـ كيحل مصطفى، الأنسنة والتأويل في فكر محمد أركون، منشورات الإختلاف، ط/1، 2011، ص 11.
16 ـ إدوارد سعيد، خارج المكان، تر/فواز طرابلسي، دار الآداب، بيروت، ط/1، 2000.
17 ـ الجمر والرماد، م س، ص 31.
18 ـ د.أنور عبد الملك، الفكر العربي في معركة النهضة، تر/ بدر الدين عرودكي، دار الآداب، بيروت، ط/3، 1981،ص 17.
19 ـ نقلا عن محمد شوقي الزين، محمد عزيز الحبابي، الملتقى الدولي 16 للفلسفات حول مبحث الثقافة، 1974.