
قراءة نسقية في”الأسوار والكوريدا” لمحمد منيب البوريمي
محمد أعزيز: باحث في سلك الدكتوراه جامعة الحسن الثاني الدارالبيضاء- المغرب
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 47 الصفحة 27.
الملخص :
تتأمل هذه الدراسة المجموعة القصصية “الأسوار والكوريدا” للقاص المغربي محمد منيب البوريمي لاستنبات الأسئلة الموجهة لفعل الكتابة لديه،باعتبار الشروط التاريخية والسياسية والثقافية، وفقا لذلك اعتمدت المقاربة المدخل النسقي بغية كشف حجب هذه التجربة.
الكلمات المفتاحية:
النسق، الكتابة،التأويل، الصمت، المواجهة.
مدخل
تستند الكتابة عند منيب البوريمي على مرجعية فكرية واضحه، تتجسد بشكل جلي في إنتاجاته الأدبية سواء الشعرية أو السردية، إذ إن الرجل انخرط في مشروعه الإبداعي مراكما هما مجتمعيا طالما شكل من حيث الحضور وطبيعة المعالجة الخيط الناظم لكل إبداعاته، لكن هذا الهم المجتمعي المركب بأبعاده السياسية والاقتصادية والدينية يلوح بشكل أكبر وأوضح في كتابات منيب السردية بالنظر إلى خصوصية السرد القصصي تحديدا، فهو يتيح من الإمكانات التعبيرية ما قد لا يتأتى في الشعر، لأن “القصة القصيرة ..أضحت إحدى أهم العلامات الثقافية لعصرنا وأحد أكثر الرادارات الأدبية قدرة على التقاط إيقاعات وذبذبات العصر… أضحت على قصرها وصغرها مستودعا للأسئلة الكبيرة الساخنة”[1]، سيما حين تحاول “أن تستعيد الأحداث والوقائع المرتبطة بعنف الدولة وانتهاكات حقوق الإنسان بما في ذلك حق التعبير من خلال الكتابة، وما نتج عن ذلك من ضروب المعاناة والآلام والعنف والإزاحة[2] وفقا لذلك تتجه القصة إلى التعبير عن “حال المثقف العربي الملتزم بقضايا أمته، فعلاقته بالسلطة السياسية، علاقة يطبعها التوتر الناجم عن مواقفه الهادفة إلى التعبير عن القضايا الكبرى لوطنه أو أمته أو للإنسان المقهور بصفة عامة”[3]، هذا التعبير “ما يجعل الكتابة تنوس بين الكشف العاري عن الدور القمعي لدولة ما بعد الاستقلال أو التعبير الرمزي الذي يجترح أفقا للقول يجنبها المواجهة المباشرة مع حراس المؤسسة السياسية”.[4]
ولعل هذا الاجتراح هو المسلك الذي خطه المبدع منيب البوريمي في فعل الكتابة عبر توجهه إلى بناء رمزية لعالمه القصصي مستبطنا في ذلك دلالات سياسية واجتماعية لاحد لها، لا يتأتى الكشف عنها إلا عبر المصاحبة المتأنية لأن “الأعمال الأدبية لا تبلغ التطابق والإعتلاء من جهة الدلالة، وعلى القارئ أن يحسن التذوق ليستخلص بلاغة النصوص .. عليه أن يتموضع ضمن فراغات النص لينصت إلى صمت الكاتب فيغترف من بلاغته العجيبة المترسبة في الأعماق، وبفعل ذلك يرتفع النص، فيولد من خلال التأويل خيالا يقتسم به الرؤية مع الكاتب”[5].
“لأن عملية الكتابة تفترض عملية القراءة كتلازم جدلي… وهذا معناه أن القراءة عديلة الكتابة في إنتاج النص… لأنها تشرك القارئ بمعرفة الكاتب. فتخصب العمل بطريقة ديناميكية ومتجددة”[6].
عموما فإن مصاحبتنا لمجموعة “الأسوار والكوريدا” وفق هذا التصور أفضت إلى استنبات مجموعة من الأسئلة الخليقة بالتأمل مردها إلى أن كاتبنا قد أدار دفة الحكي بما اقتضاه سياقه التاريخي والمجتمعي ليعبر عن واقع المثقف العربي الرافض لكل أشكال الإحباط والإذلال، والتواق إلى الحرية والديمقراطية”.[7]
في أفق ذلك شكلت كتابته القصصية في هذا المتن مسعى لتكسير جدار الصمت بغية التأسيس للخلاص الجمعي، من ثمة استحالت “الأسوار والكوريدا “إلى منصة احتجاج أو غدت ساحة تظاهرة عارمة ضد الصمت والقمع، إنها كتابة تروم” التعبير عن صراع الأنا الفردية خلال سعيها لتحقيق رغباتها، بل للتعبير عن الأنا الفردية الواعية بذاتها وذوات الآخرين لتحقيق أهداف مشتركة”[8] يأتي على رأسها الخروج من دوامة الاختلال المجتمعي، للنهوض بواقع البلاد المزري، على اعتبار ما يعتري هذه البلاد من أوبئة مرضية مردها إلى اختلال السلطة، المنكلة بالحقوق والمعززة للتخلف والفوارق الطبقية، وذلك بما يتأتى لها من وسائل، من ثمة فإن منيب البوريمي يحاول عبر فعل الكتابة تحريك الماء الآسن، الذي يعزز سطوة السلطة، تعزيز لا يتحقق لها إلا عبر تكميم الأفواه، مما دفع بكاتبنا إلى التركيز على نقد هذا الصمت المطبق، مفككا إياه عبر بيان أبعاده المختلفة مبرزا آليات تكريسه في البلدان المستبدة.
1- الصمت أبعاده وآليات تكريسه:
1-1 أبعاده:
تتواشج جل قصص “الأسوار والكوريدا” مشكلة أقنوما واحدا، مداره، بيان عواقب الصمت، باعتباره جريمة، تسهم في تعميق الأزمة في مجتمعات التنكيل وهضم الحقوق، فرغم اختلاف المادة الحكائية بين القصة والأخرى داخل هذه المجموعة، إلا أن التعالق بين بينها، على اعتبار أن الكاتب يهدف إلى تقويض بنية الرضوخ، تقويض توسل الترميز بها يحمل هذا الأخير من دلالات منفتحة، من ذلك ما نجده في قصة “في بطن الحوت” التي تتحدث عن ابتلاع الحوت لقرية بأكملها يقول السارد “كان قد ابتلعنا جميعا، الدور… والأشجار والعصافير وكل الأشياء سواء منها الحية أو الجامدة”.[9]
فالحوت في هذه القصة لا يعدو كونه تعبيرا عن إفرازات نسق سياسي ثقافي واجتماعي، إنه فضاء رمزي بما يكتنزه من معان ترتبط بالقهر والاختلال والفساد، “حذقت ببلاهة في الجهات الأربع، كان جوف الحوت – التنين – قد أخذ في حصارنا بشكل جد مرعب، أصابه انتفاخ مفاجئ، كانت عملية اختمار الغازات بادية للعين المجردة بصورة تبعث على القرف والغثيان”[10].
إن هذا النسق السياسي والاجتماعي المقرف يحاصر المجموعة البشرية التي يحكي عنها السارد، والتي لا تعكس إلا مكونات المجتمع باعتبار حالة اللاتجانس بينها، فنجد الشاعر، والشيخ… والآخرين، لذلك فهذه الشخصيات عينة تمثيلية لمكونات المجتمع، وهذا ما نتلمسه في حوار الشخصيات التي تبدي مواقف متباينة إزاء هذه الورطة في بطن الحوت المتعفن، الذي يعكس حال الوطن القذرة جراء استفحال عِلاته، استفحال لم يتحقق لولا مواصلة الصمت، فالاستكانة والاستسلام إسهام في الجريمة، وهذا ما عبرت عنه شخصية الشاعر في قصة الحوت، حيث عبر عن رفضه لاستسلام بقية المجموعة “الصمت أكبر جريمة اعلموا… اعلموا هذا جيدا إنكم تشاركون في قتل أنفسكم بمجانية مضحكة… لكم أنتم سخفاء وتافهون”[11].
إن هذه السخافة تتبدى أكثر حين يصبح هؤلاء المنكل بِهم ، حجرة عثرة أمام كل مندد بالوضع، باتخاذهم مواقف ممعنة في الانحطاط وذلك ما نلاحظ في قصة “الأسوار” حيث اصطف المستعبدون إلى جانب المنكل بهم ولم يدافعوا عن زميلهم الذي يتعرض إلى أقصى درجات التعذيب حيث “ارتفع السوط… لمع في الفضاء تهاوى، محدثا فرقعة مدوية، لسع الظهر المقوس في عنف مسعور اهترأ القميص تفتت احتر الجلد انبعثت منه رائحة كريهة”[12].
إن الوصول إلى هذا الحد من التنكيل لم يكن ليتحقق لولا أن استكان الجمع للصمت، لذلك فالقاص حريص على بيان أبعاد هذا الصمت، إذ كلما تهيأ ذلك للمستبد، إلا وأمعن في الإذلال، إذلال يأخذ صبغة القمع الجسدي في هذه القصة، فالسيد يعذب العامل ويلحق به الأذى عبر زبانيته، لانعدام أية ردة فعل مقاومة حيث “لم يأبه أي واحد من العمال بالزعيق الهستيري المتشنج الذي كان يتصاعد… يملأ الأسماع الفضاء… لم نحفل، لم نكترث”[13].
إن القاص منيب البوريمي جعل من تفكيك بنية الاستبداد والتنكيل مدار اشتغاله في هذا العمل القصصي فأبرز خلفياته وحدد نتائجه الوخيمة، مركزا على إسهام الصمت في تعزيز نتانة هذه البنية، فأبرز تجلياتها على مستوى الحوت/الوطن حيث صار متعفنا يدعو إلى الغثيان فقد استحال إلى جثة تنعدم فيها سبل العيش “أدركت أني كالآخرين تماما… أتنفس بصعوبة… لا وجود للأكسجين في فراغ محيطنا… استهلكه الحوت عن آخره بل إن الحوت نفسه كان يعاني مما نحن فيه… لقد دخل هو الآخر منطقة الاختناق التي أصبحت دوائرها تضيق حول أعناقنا في سرعة مذهلة… واتضح للجميع… أننا قاب قوسين أو أدنى من هاوية الهلاك”[14].
فطبيعة النسق الاستبدادي أن يمتزج الوطن بالنظام فلما يستشتري الاختلال يعتل الوطن فيصير منهكا بفعل العبث الذي يقدم عليه النظام من إفساد، إنهاك يعد بعدا من الأبعاد المتعددة لهذا الصمت غير المبرر، مما يدفع بالنسق الاستبدادي الفاسد إلى التغول ليبطش بكل مكونات محيطه عبر آلياته المتعددة، حيث يصير آلة سحق طاحنة تزرع الخوف بعد تمكنه من اغتيال العدالة التي صارت جثثها “ظاهرة فيزيقية”، بل واقعة قابلة للمعاينة والدرس، وفي إمكان الناس كل الناس، بل والعاديين منهم جدا أن يتعرفوا عليها”.[15]
اغتيال يتستر عليه النسق الفاسد عبر وسائله الإعلامية:“قال المذيع… المدينة كل المدينة هادئة تماما، خلافا لما قد أشاع بعض المشاغبين المهرجين من الإذاعات المجاورة”[16].
عموما تظل هذه الدلالات مجرد مسالك قرائية أفضى إليها التأويل، والذي وجهنا إلى استنباط بعض آليات تكريس الصمت التي سنشير إليها في المحور الثاني من هذه الورقة.
1-2- آليات تكريس الصمت:
إن القاص منيب البوريمي لا يدخر جهدا في تحليل الواقع المؤلم لعصره مسخرا في ذلك مختلف الوسائل الترميزية التي تسعف القارئ في بناء الدلالة، من ثمة فإن تأمل المتن القصصي للمبدع قاد في إلى استجلاء مجموعة من الآليات المكرسة للصمت في ظل نسق متخلف اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.
يشكل الترهيب أحد أهم الآليات يعتمدها النسق الاستبدادي في الإبقاء على الوضع القائم فالكاتب ما فتئ يلمح إلى ذلك وقد أبرزه في قصة “الأسوار” حيث يبلغ التنكيل منتهاه، إذ يستعين السيد في القصة بمن يسميهم السارد بالظلال، فالظل هو تلك اليد الطويلة التي تتفنن في التنكيل عبر سادية مقيته مستفيدة في ذلك بما يتيحه لها النسق الفاسد إذ إن هذا الظل “يزدرد شرائح اللحم المحمرة اللذيذة، يرتشف أقداح الويسكي المعتقة يحشو غليونه بالتبغ… يتشهى مضاجعة قروية ما… غضة الاهاب، عابقة الظفائر بروائح الحقول البرية يتنهد في ارتياح… وجموع الخماسين والحمالين والأجراء في سعي ميكانيكي متصل بين خزائن القصر وحقول السيد”.[17]
إن الترهيب المعتمد في النسق السلطوي لا يتوسل بالتنكيل الجسدي فقط، فآليات تعزيز الصمت تعدد إذ نجد الاعتقال كما تبرز قصة “نطفة” إذ إن مجرد النزوع نحو التفكير المضاد قد يقود صاحبه إلى السجن “حين أنزلوني من الفاركونيت، بعد حوالي ساعة ساروا بي في مسارب معتمة ومجهولة تغشيها عتمات ثخينة”.[18]
تشكل هذه الآليات المتعددة والمكرسة للصمت سلاحا في يد النسق السلطوي من أجل ترويض المواطنين عبر الإيغال في التنكيل، للتعود على ذلك حتى استأنس الجميع بالاغتيالات المتتالية للعدالة إلى درجة أن سكان المدينة في هذا النسق “ألفوا رمدهم وزكامهم وانسداد خياشيمهم وحتى منظر الجثة الهائلة والمنطرحة وسط الشارع الرئيسي للمدينة الكئيبة المزكومة يبدو أنهم ألفوه لست أدري كيف تدجنوا بهذه السهولة المفرطة”[19] إن فعل التدجين هذا يتحقق عبر آليات مختلفة منها توظيف المؤسسة الدينية بما يخدم توجهات هذا النسق ولعل هذا ما نزع المبدع إلى بيانه في قصة “في بطن الحوت” فالشيخ بخطابه يرمز إلى المؤسسة الدينية في صيغتها الرسمية، إذ تشرعن الخضوع وتزكي الاستسلام بانهزامية قدرية موغلة في الخبث:” كح الشيخ ثم استأنف بعد صمت قصير:
لا تحاولوا مرة أخرى كفانا عبثا وطيشا… لنستكن… لنلتقط الأنفاس في هدوء لقد ابتلعنا الحوت – لحكمة ما – دون أن ندري وشاءت إرادة الله أن نمكث طويلا في بطنه دون أن يأتينا الخلاص نحن لا نعلم حقيقة ذنبنا إنما شاءت قدرته أن يستبدل قوما غيرنا… لقد انتهى أمرنا جميعا حاسما ربنا حاسبنا عسيرا”[20].
إن النسق السلطوي المهيمن لا يقتصر في إرساء هيمنته على ما سبق ذكره من آليات، بل إنه ينوع في الوسائل لتعزيز الصمت، ولإخضاع جميع الأصوات التي قد تحاول زحزحة سطوته، ومن آليات التدجين هاته ما يشير إليه القاص في قصة “سيزيف معاصر” التي تعبر عن أزمة البطل العائد من ساحة المعركة على تخوم البلاد، مدافعا عن تحررها، ليجد واقعا مزريا في مدينته، على اعتبار حال الفوضى العارمة التي تشهدها، إنها فوضى العبث، التي تعززها السلطة، من خلال توجيه العامة إلى ما يصرفهم عن قضاياهم الأساسية إذ يتأتى لها ذلك عبر ما تعد من مظاهر احتفالية ترفيهية جوفاء، الهدف منها إرساء ثقافة مشوهة تتغيا دفع المواطنين المكلومين إلى تناسي همومهم بانخراطهم فيها يقول السارد “لكن المدينة كانت جثة هامدة، جثة متعفنة، وكانت الشوارع مقفرة، القطط والكلاب تلغ في العفونات … بقايا زينة هنا وهناك أعلام ورقية أشرطة حمراء وخضراء وزرقاء علب كرتونية فارغة… لاشك أنهم فرحوا بعمق… رقصوا لحد الانتشاء… شربوا حتى الثمالة، ثم ضاجعوا نساءهم لدرجة الغثيان… القرف أخيرا”[21].
تلك أهم الآليات التي قادتنا القراءة إلى استنباطها من مجموعة “الأسوار والكوريدا” على اعتبار ما تميزت به من رمزية خصيبة، تحتمل ما لاحد له من القراءات، إنها آليات تنسحب على جميع الأنساق السلطوية الموغلة في ممارسة العنف والقهر، بما يخدم وضعيتها، حيث تستفيد من خيرات الوطن المكلوم، في انتهاك صارخ لقيم العدالة، مما يسمح للقلة المتحكمة وحدها في التمتع بثروات الوطن والاستفراد بها ولعل ذلك ما يرمز إليه هذا المقطع من قصة “الكوريدا وأطفال قرطبة” تتذكر أنك في حاجة إلى إشباع غريزة ما، تمر في مخيلتك صحاف من فضة ملوكية النفس… رصت حتى الحافة بقطع البفتيك الطرية المحمرة… تمتلئ أشداقك بمادة لزجة تزعزد عصافير بطنك… تكتظ بالرعب، بالارتجاف، بالخواء… تتخشب إذ يفاجأك الثور بنظرات جمرية متقدة، تتخيل أنه سمع صهيل شهوتك الجشعة فانبرى يطالبك بفاتورة الحساب يأمرك يستحثك أن تؤدي ثمنا مشرفا – على الأقل – ما دمت قد تلذذت…اجتزأتها بسكينك اللامع الحاد من مؤخرته الضخمة”.
يعكس المقطع أعلاه مدى تمسك النسق السلطوي بمنافع الوطن إلى درجة أنها التصقت به فاحتكرها وحده، صارت جزءا من كينونته لشدة تكرس الهيمنة، فالمطالبة بها تقطيع لجسده، إنه اجتزاء مؤلم بالنسبة إليه، لذلك لن يسمح حتى بمجرد الحلم في هذا الاجتزاء، على اعتبار أن الحلم يصبح في هذه اللحظة تهديدا له، من ثمة لا مناص من أن يدفع الحالم ثمن الحلم الذي يزعج هذا النسق الفاسد المحتكر.
2-المواجهة الواعية أفقا للخلاص
إن المتفحص في المتن القصصي للمبدع منيب البوريمي، لاشك أنه سيتنبه إلى الرؤيا العميقة التي يؤسس لها، فالرجل لا تقتصر كتابته على نقد الصمت وتفكيك بإبراز أبعاده وآليات تكريسه، بل يتجاوز ذلك إلى اقتراح أفق مركب للخلاص للخروج من ضيق القهر إلى سعة التحرر، خلاص لا يتحقق إلا بتوفر جملة من الشروط، هذه الأخيرة، التي نتأولها باعتماد مجموعة من المؤشرات المبثوثة في مجموعة “الأسوار والكوريدا” من بين ذلك ما نستشفه في قصة “في بطن الحوت” فالمجموعة المتورطة في بطن هذا (التنين) تباينت بينهم الآراء واختلفت مواقفهم تجاه الأزمة، فمنهم من استسلم للواقع النتن ومنهم من حاول النجاة، إلا أن سبل النجاة وسمت بالعشوائية فما أن يحاول فرد التسلق للخروج إلا وفشلت محاولاته المتكررة، باستثناء محاولة شخصية الشاعر الذي نهج في محاولته سلوكا مغايرا عن العامة، حيث “ينزع مسمارا من مداسه المثقوب ويتجه صوب السلالم المطحلبة اللزجة، ويكتب عليها بعض أشعاره”[22].
تتظافر في هذا المقطع العديد من الموجهات الخصيبة التأويل المؤسسة لأفق الخلاص المنشود، إنه خلاص يشكل فيه الشاعر اللبنة الأساس، على اعتبار ما تحمله كلمة شاعر من دلالات باذخة فالشعر إشارة إلى المعرفة، إلى المثقف الملتزم، أما الكتابة فترجمة لهذا الوعي، إنها الفعل أو الممارسة العملية للأفكار، أي تجسيد الوعي، وأخذ المبادرة بالاتكاء على التضحية، تضحية نتأملها في الوصف المشخص لوضعية الشاعر (صاحب المداس المثقوب)، بل إن التضحية لا تقتصر على وضعه المبرز لحالته الاجتماعية باعتبار انتمائه إلى الفئات المسحوقة، بل يتعدى الأمر ذلك باستحضار النهاية التي رسمها القاص لمسار القصة إذ إن الخلاص لما تحقق بعد أن تجشأ الحوت متأثرا بفعل الكتابة، فإن الشاعر لم يكن ضمن الناجين، يقول السارد “حدقوا للمرة الألف، في وجوه بعضهم… فيما حولهم بحثوا عن الدرويش المتشرد عن المداس المثقوب عن المسار، عن الأشعار… لكن عبثا… وحدي الذي كان يعلم أنه ما زال هناك هناك في العتمة، وأنه سيبقى في بطن الحوت”[23].
بقاء يشير السارد إلى طبيعته، مبرزا ديمومة فعل الكتابة على أضلاع الحوت الداخلية، دون كلل أو ملل متسلحا في ذلك بأحلامه وآماله اللامحدودة في الوصول إلى مجتمع تزهر فيه العدالة الاجتماعية وتتدفق فيه الحرية، فكتابة الشاعر مقاومة عبرها يتحقق الخلاص من أمراض النسق الفاسد النتن، لأن هذا الشاعر “سيكتب الأشعار بالمسمار على الأضلاع المطحلبة اللزجة إلى أن تنتن الجثة… تتحلل… ويعود النهر للجريان والتدفق يسقي الحقول والبساتين”.[24]
إن التأسيس لفعل المواجهة يأخذ أبعادا مختلفة في مجموعة الأسوار والكوريدا. فهو لا يقتصر على المثقف وحده بل هو نسق وجب أن يسري في مختلف فئات المجتمع لتحقيق المبتغى، في قيام مجتمع عادل، ولعل انتهاء القصة بمواصلة الشاعر لحلمه في بطن الحوت ما هو إلا دلالة على أن خلاص المجموعة غير نهائي، فالخلاص النهائي لن يتحقق بالمواجهة الفردية، فهذه الأخيرة قد تحقق انفراجات إلا أنها تظل قاصرة في تغيير النسق برمته، إذ إن مواجهة النسق السلطوي تقتضي أن يلتحم المثقف بمختلف الفئات لتأسيس المواجهة الجماعية الواعية الكفيلة وحدها بالتحرر.
ولعل هذا ما نلمحه أيضا في قصة “الأسوار” التي تبرز فشل العامل البسيط في تحقيق التغيير، فثورته على استعباد السيد لم تؤدي به في الأخير إلا إلى الهلاك وحيدا، متحسرا على وضع رفاقه المزري.
يقول السارد “ترى هل فكر هؤلاء الأجراء الأشقياء التعساء في الدم البريء المسفوح الذي روى أعراق هذه الأسوار السميكة الملونة الضاربة في متاهة الفضاء؟
ولمالم يجبني أحد أدركت أنهم كانوا قد تفرقوا”[25]
يبدي المقطع بجلاء عاقبة كل مواجهة غير مؤسسة على خلق نسق متكامل يجمع بين الوعي والممارسة، فالعمال هنا “لا يفكرون” أي يغيب عنهم الوعي للانخراط في المقاومة لذلك لم يتحقق للبطل مبتغاه في المواجهة، فلاقى مصيره وحده بينما واصل “التعساء” تشييد الأسوار لجلاديهم.
إن تكسير جدار الصمت وتحريك الماء الآسن في النسق السلطوي الفاسد لا يمكن أن يتحقق دون التوفيق بين الوعي والفعل، فعبر هذه الثنائية يمكن بناء النسق القوي المواجه للنسق الفاسد، ولعل هذا ما تبرزه قصة “الكوريدا وأطفال قرطبة”.
فلوضع الحد لمشاهد الكوريدا المؤلمة أي تقديم القرابين الفردية في مواجهة الثور الهائج، وجب أن يتحقق الوعي المعزز بالممارسة، ثنائية يعبر عنها نص “حوارية الأطفال” المتضمن في القصة، فالنص لا يبتعد عن دلالات المعرفة والوعي باعتباره نصا مقروءا من طرف السارد البطل، أما هبة الأطفال فإشارة واضحة إلى التكاثف الجماعي لتحقيق التغيير المأمول المعبر عنه بالصرخات الجماعية الواعية “إلى الكوريدا… إلى الكوريدا أيها الرفاق كلنا ننزل إلى الساحة… إلى الميدان… نواجه الثور ندخل في عينيه الوحشيتين القانيتين، لن نرهب عينيه من بعد اليوم سنواجهها في المدن… القبائل… وفي القصائد …اللوحات…ومواويل الغجر”[26].
إنها المواجهة الشاملة التي تجمع مختلف أطياف المجتمع، بمثقفيه وفنانيه وعامته، وهي المواجهة الوحيدة القادرة على هدم نسق التسلط السائد، مواجهة ظلت حلم مبدعنا حيث أسندها إلى سارده في القصة الآنفة الذكر، إنه السارد الذي يقرأ الحوارية مترقبا تحققها في واقعه، تحقق لن يتم في ظل هيمنة نسق الصمت وتغول آليات التخويف إلى الدرجة التي تجعل السارد لا يجرؤ على رفع الصوت في عملية القراءة إلا أنه يواصل القراءة بإصرار،بما تمثله عملية القراءة من تكريس للمقاومة، باعتبارها اللبنة الأساس لتجذير الوعي، وعي الأنا، في أفق تعميمه نحو الآخر لتشييد نسق المواجهة حتى يتحقق الانسجام بين السواعد المشيدة للأسوار [العمال] والقراء الحالمين بكوريدا ينهزم فيها الثور الهائج.
المصادر والمراجع
مصدر الدراسة
– منيب البوريمي: الأسوار والكوريدا، المنشأة العامة للنشر والتوزيع طرابلس ليبيا، الطبعة الأولى، 1984.
المراجع
الكتب
– ادريس خضراوي: سرديات الآمة افريقيا الشرق، الطبعة 2017.
– عبد الرحمان النوايتي: السرد والأنساق الثقافية في الكتابة الروائية، دار كنوز المعرفة، الطبعة الأولى، 2016
– محمد خرماش: النص الأدبي وإشكالية القراءة والتأويل فكر ونقد عدد 67 مارس 2005.
– نجيب العوفي: ظواهر نصية، عيون المقالات، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 1992.
.المجلات
– السيد نجم: ملامح أدب المقاومة، مجلة فكر ونقد، عدد 83، السنة التاسعة نونبر 2006.
[1]– نجيب العوفي: ظواهر نصية، عيون المقالات، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 1992، ص: 115.
[2]– ادريس خضراوي: سرديات الآمة افريقيا الشرق، الطبعة 2017، ص: 95.
[3]– عبد الرحمان النوايتي: السرد والأنساق الثقافية في الكتابة الروائية، دار كنوز المعرفة، الطبعة الأولى، 2016، ص: 176.
[4]– ادريس خضراوي: سرديات الآمة،م.س، ص: 95.
[5]– عبد الرحمان النوايتي: السرد والأنساق الثقافية،م.س، ص: 220.
[6]– محمد خرماش: والنص الأدبي وإشكالية القراءة والتأويل فكر ونقد عدد 67 مارس 2005، ص: 49.
[7]– عبد الرحمان النوايتي: السرد والأنساق الثقافية، م.س، ص: 278.
[8]– السيد نجم: ملامح أدب المقاومة، مجلة فكر ونقد، عدد 83، السنة التاسعة نونبر 2006، ص: 99.
[9]– منيب البوريمي: الأسوار والكوريدا، المنشأة العامة للنشر والتوزيع طرابلس ليبيا، الطبعة الأولى، 1984، ص: 9.
[10]– منيب البوريمي: الأسوار والكوريدا، م.س.، ص: 14.
[11]– منيب البوريمي: الأسوار والكوريدا، ص: 17.
[12] منيب البوريمي: الأسوار والكوريدا، ص: 29.
[13]– منيب البوريمي: الأسوار والكوريدا، ص: 30.
[14]منيب البوريمي: الأسوار والكوريدا، ص: 29.
[15]– منيب البوريمي: الأسوار والكوريدا، ص: 137.
[16]– منيب البوريمي: ص:143.
[17]– منيب البوريمي: الأسوار والكوريدا، ص: 43.
[18]– منيب البوريمي: الأسوار والكوريدا، ص: 65.
[19] – منيب البوريمي: الأسوار والكوريدا، ص: 134.
[20]– منيب البوريمي: الأسوار والكوريدا، ص: 19.
[21]– منيب البوريمي: الأسوار والكوريدا، م.س، ص:105.
[22] منيب البوريمي: الأسوار والكوريدا، م.س، ص:21.
[23]– منيب البوريمي: الأسوار والكوريدا، م.س، ص: 25.
[24]– منيب البوريمي: الأسوار والكوريدا، م.س، ص: 25.
[25]– منيب البوريمي: الأسوار والكوريدا، ص: 45.
[26]– منيب البوريمي: الأسوار والكوريدا، م.س، ص: 194.