
أدب ” قطرى بن الفجاءة ” شاعر الخوارج وخطيبها( ت 79 ه )
للباحثة د/ الشيماء سامى محمد، قسم اللغة العربية وآدابها ـ كلية الآداب جامعة حلوان ـ مصر.
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية العدد 43 الصفحة 73.
الملخص :
اهتمت هذه الدراسة بالتعريف بالخوارج،وبداية ظهورهم،وأهم فرق الخوارج،ثم تناولت بعد ذلك التعريف بقطرى بن الفجاءة،وهو من أكبر أمراء وشعراء الخوارج،ودراسة إنتاجه الأدبى من شعر ونثر بالتعليق والتحليل،وأهم الأغراض الشعرية التى تعرض لها قطرى فى شعره ، وأهم الخطب والرسائل التى ألقاها فى خضم الأحداث التى عاشها،والكشف عن أسلوبه الأدبى فى تصوير ما خاضه من حروب ضد الأمويين والتى استمرت لأكثر من عشرين عاما،وضد الخيانة التى تعرض لها من بعض رفاقه من الخوارج.
Abstract
This study was concerned with the definition of Khawarij, and the beginning of the emergence of this group, and the most important Kharij teams, and then dealt with the definition of Qatar ibn al-Fajja, one of the greatest princes and poets Kharij, and study of literary production of poetry and prose commenting and analysis, and the most important poetic purpose presented to a Qatari in his Poetry, And the most important speeches and messages delivered in the midst of the events he lived, and the disclosure of his literary style in the portrayal of the wars fought against the Umayyads, which lasted more than twenty years, and against the betrayal that was exposed to him by some of his companions from the Kharij.
المقدمة:
كان شعر قطرى بن الفجاءة تجربة حية،ومرآة لحياته،وسجلا وديوانا لبطولاته وانتصاراته،ظهر فيه:حماسته للقتال،وآهاته من كثرة الحروب التى خاضها ضد الدولة الأموية من جهة،وضد بعض أصدقائه الذين خانوه من جهة أخرى،والانقسامات التى حدثت فى جيشه،وحزنه على من قُتل من أصحابه،وقد ارتبط شعره بالحالة السياسية السائدة فى تلك الفترة.
ومن الجدير بالذكر أن التعسف والقمع الذى لحق بالخوارج على يد الأمويين،وسوء المعاملة التى كانوا يلقونها من عمالهم،قد دفعهم إلى تلك الثورات المتعددة لمواجهة أعدائهم،فكان شعرهم تعبيرا فنيا ناتجا عن تجربة ذاتية،تخللتها معارك ومواجهات شكلت جزءا كبيرا من حياتهم،فالحرب لم تكن شيئا عابرا فى حياتهم،إنما هى ركن أساسى فى عقيدتهم،فلم تتوقف ثوراتهم وكانوا فى مواجهة دائمة مع الموت، وهذا الإصرار على الموت كان مبعثه الاطمئنان إلى مآلهم بعد الموت.
وقد جاء شعر الخوارج مصطبغا بصبغة دينية فى إطار العقيدة الخارجية،وتمتع شعراؤهم بصدق العاطفة ، وتماثل شخصياتهم الشعرية فى الصورة العامة.([1])
ومن الملاحظ إهمال الرواة لتدوين شعر قطرى بن الفجاءة وربما يرجع السبب فى ذلك أمر إلى أمرين:أولهما أنه لم يكن من كبار شعراء عصره أمثال : جرير والفرزدق والأخطل،والأمر الثانى أن شعره كان يرد ضمن أخباره التاريخية وحروبه التى خاضها،فلم يكن له ديوان خاص به .
لذلك سوف تقوم الباحثة بتتبع أدب قطرى بن الفجاءة من شعر ونثر،وتقسيمهما من حيث الأغراض والخصائص.
موضوعات البحث :
أولا : التعريف بالخوارج وأهم فرقهم .
ثانيا : التعريف بقطرى بن الفجاءة .
ثالثا : شعر قطرى بن الفجاءة وأهم موضوعاته وخصائصه .
رابعا : نثر قطرى بن الفجاءة وأهم موضوعاته وخصائصه .
خامسا : أهم نتائج البحث .
سادسا : المصادر والمراجع .
أولا: التعريف بالخوارج وأهم فرقهم
الخوارج فرقة ظهرت فى جيش الإمام ” علىّ بن أبى طالب ” – كرم الله وجهه – عندما اشتد القتال بينه وبين ” معاوية بن أبى سفيان ” فى معركة صفين ([2])،حينما شعر معاوية بن أبى سفيان بقرب الهزيمة ،وهمَّ بالفرار،إلا أنه استقر مع عمرو بن العاص على حيلة للتخلص من تلك الهزيمة؛وهى اللجوء إلى التحكيم ورفع المصاحف،ورفع جيش معاوية المصاحف على السيوف؛ليحتكموا إلى القرآن الكريم،ولكن عليَّا أصر على القتال حتى يفصل الله بينهما،فخرجت عليه طائفة من جيشه تطلب منه قبول التحكيم قائلين: ” كيف نُدْعَى إلى كتاب الله ولا نجيب ؟”،فقبل علىّ التحكيم مضطرا لا مختارا،وأراد الإمام على ّ اختيار” عبد الله بن عباس “حَكَمًا،إلا أن الخوارج رفضوه وحملوه على اختيار “أبى موسى الأشعرى”،وانتهى أمر التحكيم إلى عزل علىّ بن أبى طالب عن الخلافة،وتثبيت معاوية بن أبى سفيان .
ومن الغريب أن الخوارج بعد ذلك اعتبرت أن التحكيم جريمة كبرى،وطلبوا من الإمام علىّ أن يشهد على نفسه بالكفر بسبب قبوله للتحكيم،وعليه أن يتوب إلى الله عما ارتكبه،وكان شعارهم ” إن الحكم إلا لله ” لا للحَكَمين ولا لعلىّ بن أبى طالب .
أهم السمات الفكرية للخوارج :
1- الخوارج من أشد الفرق الإسلامية دفاعا عن مذهبها وحماسة لآرائها،وأكثرها تهورا واندفاعا ضد أعدائها ومعارضيها،فهم يتعاملون بعنف وقسوة شديدة مع من يختلفون معهم .
2- الخوارج يتمسكون بظاهر الألفاظ – ألفاظ القرآن الكريم – دون الرجوع إلى المضمون،وأسباب النزول،ولا يتجاوزون الظاهر إلى المرمى والمقصد والموضوع،فما يظهر لهم بادى الرأى يقفون عنده،ولا يحيدون عنه قيد أنملة،وقد ساق العلماء كثيرا من الأدلة على ذلك منها :
- أنهم كفروا تارك الحج استنادا إلى قوله تعالى :” ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا، ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين”([3]).
ففسروا الآية بأن ترك الحج ذنب ، وكل مرتكب للذنب كافر.
وهذا المبدأ هو الذى جعلهم يخرجون على جماهير المسلمين،ويجعلون مخالفيهم مشركين،أو أى مرتكب للذنب فهو كافر.
3- فكرة البراءة من عثمان بن عفان،وطلحة،والزبير،وعلىّ بن أبى طالب،ورَمْى أتباعهم بالكفر وبالشرك،وأقوى دليل على ذلك ما فعلوه مع “عبد الله بن خباب بن الأرت” – عامل علىّ بن أبى طالب على مدينة الأنبار- ، فقد قاموا بقتله وقتل زوجته وهى حامل وبقروا بطنها،فطلب منهم علىّ بن أبى طالب أن يدفعوا إليه قتلة عبد الله بن خباب،فقالوا له : ” كلنا قتلناه “، فقاتلهم علىّ بن أبى طالب فى النهروان، وكاد يبيدهم، ولم يمنع ذلك بقيتهم أن يسيروا سيرهم .
4- الخوارج اتصفوا بالتقوى والتدين فانظر ماذا قال عمر بن الخطاب عن عبد الرحمن بن ملجم قاتل علىّ بن أبى طالب عند فتح مصر :” قربوا دار عبد الرحمن بن ملجم من المسجد فهو من أفقه الناس “.
5- الخليفة لا يكون إلا بانتخاب حر صحيح يقوم به عامة المسلمين،ويستمر خليفة مادام قائما للعدل،مقيما للشرع،مبتعدا عن الخطأ والزيغ،فإن حاد عن ذلك وجب قتله .
6- لا يشترط أن يكون الخليفة قرشيا أو أمويا،بل يفضلون ألا تكون له عصبية حتى يسهل قتله أو خلعه إذا أخطأ فى الرأى،وعلى هذا الأساس اختاروا ” عبد الله بن وهب الراسبى “،وأمَّروه عليهم وسموه أمير المؤمنين ” ، وهو ليس بقرشى أو أموى.
7- اتصفوا بالفصاحة،وطلاقة اللسان،والعلم بطرق التأثير البيانى،وقول الشعر،وكلام العرب.
8- التعصب الشديد لأفكارهم،حتى يروى عن خارجى تائب أن الخوارج كانوا إذا لم يجدوا دليلا إلى فكرتهم نسبوا إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – كلاما يؤيد فكرتهم .
ومن الملاحظ أن عقيدة الخوارج ثورية تحمل مُثلا دينية ، لكن دون أن تتبلور فى عقولهم عقيدة واضحة المعالم،ولعل ذلك ما جعلهم أميل للتطرف والانفعال منه إلى العمل الفكرى المنظم،فمنذ نشأتهم لم تهدأ لهم ثورة،وكلما فنيت جماعة نشأت جماعة أخرى وهكذا .
أهم فرق الخوارج :
انقسمت الخوارج فيما بينها إلى عشرين فرقة ، وهم مع هذا الانقسام فهم يجتمعون على تكفير علىّ بن أبى طالب،وعثمان،وأصحاب الجمل،والحَكَمين،وكل من رضى بتحكيم الحَكَمين، وكل من يرتكب ذنبا،ووجوب الخروج على الإمام الجائر،وأهم هذه الفرق:
المُحكِّمةالأولى([4])، الأزارقة([5])، النجدات([6])، الصفرية([7])، العجاردة([8])، الخازمية([9])، الشعيبية([10])، الصلتية([11]) الميمونية([12])، الخلفية([13])، الحمزية([14]) الثعالبية([15])، المعبدية، الأخنسية، الشيبانية، الرشيدية، المكرمية، الأباضية([16])، اليزيدية([17])، الحفصية([18]).
وبعض استعراضنا لفرق الخوارج يظهر لنا مدى تطرفهم الفكرى، وانحرافهم فى الاجتهاد،وتكفيرهم لكبار الصحابة الأجلاء المشهود لهم بالجنة،وتكفيرهم أيضا لمعارضيهم فى الآراء،وأخذهم بظواهر النصوص القرآنية،وتأولهم على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فى بعض الأحاديث،مما جعل بعض فرقهم تتسم بالغلو والخروج من الدين كاليزيدية، والميمونية، والحفصية .
قطرى بن الفجاءة ([19]):
الأمير أبو نعامة التميمىُّ،المازنىُّ،البطل المشهور، رأس الخوارج الأزارقة ،لُقِّب أبوه بالفجاءة؛لأنه قدم من سفره فجأة،واسم الفجاءة جعونة بن مازن، كان شاعرا وخطيبا،شعره ذو أسلوب رفيع،وكان فى الصفوف الأولى من شعراء الخوارج،خرج زمن ابن الزبير فهزم الجيوش،واستفحل بلاؤه،أخذ يقاتل بنى أمية لمدة عشرين عامًا ،تغلب على نواحى فارس وغيرها ووقائعه مشهورة فيها ،وكانت الكفاءة العسكرية لقطرى عاملا أساسيا فى ترشيح قطرى لزعامة الخوارج ، وجه إليه الحجاج([20]) جيشا بعد جيش بقيادة المهلب بن أبى صفرة ([21])،وولديه يزيد بن المهلب،والمغيرة بن المهلب،كان آخرهم جيش بقيادة سفيان بن الأبرد الكلبى،قيل وقع عن دابته،فتفرق عنه أصحابه،فأقبل عليه الأمويون وقتلوه بطبرستان،وحُمل رأسه سنة تسع وسبعين إلى الحجاج،ولا عقب له .
أولا: شعر قطرى بن الفجاءة
تعرض قطرى بن الفجاءة لكثير من أغراض الشعر ، فقد كان شاعرا فصيحا،وخطيبا مفوها،على درجة عالية من الفصاحة والبلاغة،ومن الأغراض التى تناولها قطرى فى شعره :
أولا:شعر الاستنفار [ الطويل ]
أبَا خالدٍ ؛ انفرْ فلستَ بخــــــــــالدٍ | وما جعل الرحمنُ عذرًا لقاعدِ ([22]) |
أَتزعمُ أن الخارجىَّ على الهـــــــــدى | وأنتَ مقيم ٌ بين لصٍ وجاحدِ |
لما قعد أبو خالد القنانى عن القتال بعث إليه قطرى بقصيدة يقرعه فيها،ويحثه على النفير،وهو لا يرى عذرا لقاعد،أى لا عذر لمن لا يخرج لقتال مخالفى الخوارج،ويلفت نظر صديقه إلى المصير المحتوم،وإنه سيبعث فى حساب عسير،يوم يغدو الناس إلى ربهم حفاة عراة،ثم يطلب منه التوبة إلى الله من ذلك الذنب الذى اقترفه،وعليه أن يتهيأ للمسير إلى ساحة القتال والجهاد،حيث تنتظره هناك تجارة لن تبور،وأخيرا يصف قطرى القعدة بأنهم على درجة واحدة مع اللصوص والجاحدين .
وقد أوردت المصادر رد أبى خالد القنانى على قطرى بهذه البيت :
لقد زاد الحياة إلىّ حبَّا | بناتى إنهن من الضعاف |
قام أبو خالد القنانى بالرد على قطرى موضحا ومعللا له أسباب القعود وتخلف عن المعارك؛بأنه مسئول عن بناته،ويراهم من الضعيفات اللاتى يحتجن إلى من يعينهن ويرعاهن،لذلك فقد آثر البقاء بجوارهن .
ثانيا:شعر الغزل
إن الغزل وحب المرأة فى شعر قطرى دليل على الإحساس بالحياة والاستمساك بها،فالمرأة تنطوى على جوهر الحياة وروحها وحضورها الذى يمنح للحياة بهجتها،وتميزت صورة المرأة فى شعر قطرى بأنها ليست موضوعا للغزل الصريح،بل هى رفيقة كفاح للشاعر،تخوض معه المعارك وتبلى معه بلاء الرجال،وهى الحبيبة التى يبوح لها بأسرار قلبه،وبما يدور فى عقله،فهى الشاهد الثقة على كل ما يمر به الشاعر. ([23])
[ الطويل ]
إذا قلتُ تسلو النفسُ أو تنتهى المنى | أَبى القلبُ إلا حبَّ أم حكيـــــــــــــــــــــــــمِ ([24]) |
منعــــــــــــــــــمةٌ صفراء ُ حــــــلـــــــــــــوٌ دلالهـــــــــــــا | أَبيــــــــــــــت بها بعد الهــــــدو ِّ أهــــــــــــــــــــــــــــــيمُ |
قَطوفُ الخطى محطوطة المتن زانهـــــــــــــــــا | مع الحسنِ خَلْقٌ فى الجمالِ عمـــــــــــــــيم |
يعلن قطرى فى الأبيات السابقة أنه يحب سيدة تدعى أم حكيم([25])،وقد ظفر بالزواج منها،ويذكر عنها أنه قد تقدم كثيرون لخطبتها فردتهم،وكانت زوجته التى يحبها،وهى من طراز فريد،فهى جميلة ذات دلال،وتجتمع فيها صفة أخرى مع الجمال،وهى حسن الخلق،وقد وصف المرأة وصفا رائعا عبر فيه عن قيم الجمال الأنثوى، ويُصَنَّف هذا النوع من الغزل بالغزل العفيف الذى يصف أخلاق المرأة ،ولعل الخلفية الدينية لقطرى جعلته يبتعد عن الغزل الصريح الذى يصف مفاتن المرأة الحسية .
وله أبيات أخرى تجمع بين غزله لأم حكيم ووصفه لمعركة ” دولاب”([26]) قال فيها ([27]): [ الطويل ]
لعَمْرُكَ إنِّى فى الحياةِ لزاهـــــــــــــــــــــــــــدٌ | وفى العيشِ ما لم ألق أمَّ حـــــــــــــــــــــــــــــــــكيمِ |
من الخفراتِ البيضِ لم يُر مثلَها | شفـــــــــــــــــــــــاءً لذى بثٍ ولا لـــــــــــــــسقيـــــــــــــمِ |
لعمرك إنى يومَ ألطـــمُ وجههـــــــــــــــــــا | على نائباتِ الـــــــــــــــدهرِ جـــــــــدُّ لئيــــــــــــــــــــمِ |
ولو شَهدتْنى يومَ دولابَ أبْصرتْ | طعانَ فتى ً فى الحـــــــرب غيرَ ذميـــــــــــــــــــــمِ |
غداة طفت عَ الماء بكر بن وائل | وألافـــــــــــها من حـــــمـــــــــــــــيرٍ وســــــــــــــــــــــــــــــليمِ |
ومالَ الحجـــــــــــــــازيون نَحْو بِلادهم | وعُجْنا صــــــــــــــدور الخــــــــــــــــيل نحو تمـــــــــيم |
وكان لعبد القـــــــــــــــــــيس أول جِدّها | وولت شيـــــــــــوخُ الأَزدِ فـــــــــــــــهى تــــــــــــــعوم |
فلم أر يومًا كان أكــــــــــــثر مَقْعصًا | يمـــــــــــــــــــــــــج دمــــًـــــــــــــا مــــــن فائظٍ وكـــــــــليــــــــم |
وضاربةٍ خداً كـــــــــــــــريماً علـى فتىً | أغـــــــــــــــــــــر نجـــــــــــــيب الأمــــــــــــهـــــــــــــات كريم |
أصيب بدولاب ولم تك مــــــــــوطناً | لــــــــــــه أرض دولاب وديـــــــــــــــــــر حمـــــــــــــيم |
فلو شاهدتنـــــــــــــا يوم ذاك وخيـــلـــــنا | تبيـــــــــــــــــــحُ من الـــــــــــــكفــــــــــــارِ كل حـــــريم |
رأيت فتيةً باعوا الإله نفــــــــوسَــــــــــهُم | بجـــــــــــــــــــنات عــــــــــــدن عــــــــنده ونـــــــــــــــــعيم |
فى المقطوعة الشعرية الشعرية السابقة يبدأ بوصف ” بأم حكيم” ، فيقول إن الحياة ليس لها أى قيمة بدونها،فهى الشفاء من كل حزن وهمٍّ و مرض،ووصفه للمرأة كان مدخلا لوصفه للحرب،فقد أخذ يقص لها ما حدث فى معركة دولاب بين الأزارقة ودولة بنى أمية بقيادة ” المهلب بن أبى صفرة “،ويصف لها الطعن وشدة القتال،ويذكر أنه لم ير يوما أشد قتالا من هذا اليوم،لكثرة ما وقع فيه من قتلٍ وسفكٍ للدماء،ويؤكد إصابته فى المعركة،وفى نهاية الأبيات يشيد قطرى بشجاعة الأزارقة فى المعركة،ويصف جيش المهلب بالكفار،ويصف الأزارقة بأنهم باعوا أنفسهم لله فى سبيل دخول الجنة والتمتع بما فيها من نعيم، ومن الملاحظ فى المقطوعة الشعرية السابقة تعصب قطرى لقبيلته – قبيلة تميم – فالقبيلة لا تزال جاثمة وفاعلة أمامه.
ثالثا: شعر الحماسة
شعر الحماسة من أهم الأغراض الشعرية التى تعرض لها قطرى بن الفجاءة،وذلك نظرا للقتال الدائم والمستمر الذى كان يعيشه قطرى بن الفجاءة مع الأزارقة،فهم إما فى قتال مع الدولة الأموية بقيادة “المهلب بن أبى صفرة “،أو فى قتال داخلى بين بعضهم البعض،وقد استغل المهلب بن أبى صفرة هذا الانقسام الداخلى فى حربه ضدهم، ومن الملاحظ فى شعر الحماسة لدى قطرى استخدامه لألفاظ تلهب حماسة المقاتلين،وتتميز هذه الألفاظ بنوع من الحرارة والقوة،وتساعدهم فى المثابرة والصمود فى الحرب .
فيقول قطرى ([28]) : [ الوافر ]
أقولُ لها وقد طارتْ شَعَــــــــــــاعــــــــــــــــــاً | من الأبطالِ ويْــــــــــــــــحك لــن تراعــــــــــى |
فإنكِ لــــــــــــو سألتِ بقــــــــــــــاءَ يــــــــــــــومٍ | على الأجلِ الذى لكِ لم تُطــــــــاعـــــــى |
صبراً فى مجالِ المـــــــــــــوتِ صـــــــــــــــــــــــــبراً | فما نيـــــــــــــــــلُ الخـــــــــــــــلودِ بمستـــــطـــــــــــــاع |
ولا ثوبُ البقاءِ بثـــــــــــــــــــــوبِ عــــــــــــــــزٍّ | فَيُطْوى عــــــن أخى الخــــــــــنع الــــــــــــيراع |
سبيلُ الموتِ غايةُ كـــــــــــــــلَّ حـــــــــــــــــــــــىٍّ | فــــــــــــداعيه لأهــلِ الأرضِ داعـــــــــــــــــــــــى |
ومن ْ لا يُعْتَبَط يَسْـــــــــأم و يـــهــــــــــــرم | وتسلمه المنــــــــــــــــــــونُ إلى انقطـــــــــــــــــــــاع |
وما للمــــــــــــــرءِ خــــــــــــــــــــــيرٌ فى حــــــــــــــياةٍ | إذا مــــــــــــا عُدَّ من سقــــــــــــــــــــــط ِ المتاعِ |
فى الأبيات السابقة ييدأ قطرى بحوار مع نفسه،فهو يبث العزيمة فى نفس خائفة مترددة،فيعنفها تارة،ويرغبها تارة أخرى،ليصل بها إلى النهاية المحتومة ،إذ لا سبيل إلى الخلود،وهذه الحياة ليست بثوب عز،ولا خير فيها عندما تكون بغير مجد،ويؤكد أن الموت هو نهاية المطاف لحياة الإنسان،والإنسان يصارع فى نفسه رغبة الخلود والخوف من الموت،وسر جمال المقطوعة السابقة هو ذلك الحوار بين قطرى وبين نفسه،فهو يقوى من عزيمته ويشجع نفسه،ولا يدعها فريسة سهلة للخذلان والخوف،بل أخذ يقويها بالإرادة والعزيمة،ويدفعها إلى الصبر والثبات،فالموت قادم لا محالة،ولكنه يريد أن يموت بعز وشرف،لا بذل وخنوع .
وقال أيضا ([29]): [ الطويل ]
إلى كم تُغارينى السيــــــــــوفُ ولا أرى | مُغاراتِها تدعــــــــــــــــــــو إلىِّ حـــــــــــــــمامــيا |
أُقارع عن دار ِالخلـــــــــــــــــودِ ولا أرى | بقاءً على حالٍ لمن ليــــــــــــــــــس باقــيا |
ولو قرَّبَ الموتَ القراعُ لقـــــــــــد أَنَى | لموتى أنْ يدنو لطـــــــــولِ قــــــــــــــــــــراعـيا |
أُغادى جــــلادَ المعلمينَ كأنــنــــــــــــى | على العسلِ الماذى أُصبحُ غـــــــــــاديا ([30]) |
وأدعو الكماةَ للنـــــــــــــــــزالِ إذا القـــــنا | تحطَّـــــــــــــــــــم فيما بيننا مـــــن طعــــــــــانيا |
ولست أرى نفساً تموت وإن دنت | من الموتِ حتى يبعثَ اللهُ داعــــــــــيا |
إذا استلب الخوفُ الرجالَ قلوبهم | حبسنا على الموتِ النفوسَ الغواليا |
حذار الأحاديث التـــــــــى لوم غَّيها | عَقَدْنَ بأعناقِ الرجالِ المــخــــــــــــــازيــــــــا |
يؤكد قطرى فى الأبيات السابقة أن السيوف تقوم بإغرائه على القتال،وإن كثرة الحروب والنزال ليس دليلا على قرب الموت،ولو كان الأمر كذلك لكان هو من أوائل المقاتلين الذين لقوا حتفهم لكثرة الحروب التى خاضها،فهو يحارب الفرسان المشهورين وكأنه ذاهب ليرتشف بعض قطرات من العسل الأبيض،ويحذر أصحابه من الاستماع إلى الأحاديث التى تضعف من عزيمتهم عند القتال وتحذرهم من الموت؛لأنه يرى أن الموت إذا جاء لن يخطىء صاحبه أبدا، فلكل إنسان موعد مع الموت،واستخدام الشاعر للفعل المضارع( تغارينى- أقارع – أغادى – أدعو – أرى ) يحدث إيقاعا حركيا متتابعا ومناسبا لوصفه للحروب .
وقال كذلك([31]) : [ الكامل ]
لا يَرْكَنْنَ أحـــــــــــــــــــــــــــــــدٌ إلى الإحجـــــــــــــــامِ | يوم الوغــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــى متخوفاً لحمامِ |
فقـــلد أرانـــــــــــــــــــــــــى للرماحِ دَرِيــــــــــــــــئةً([32]) | من عن يمينى مرةً وعــــــــــــــــــــن أمـــــــــــــامى |
حتى خَضبت بما تحــــــــــــدَّر من دمــــــــــى | أكنافَ ســــــــرجى أو عنانَ لجـــــــــــــــــــامى |
ثم انصرفت وقـــــــــد أَصبت ولم أُصبْ | جَذَعَ البصيرة قـــــــــــــــــــــــــارحَ الإقــــــــــــــــــــــدام |
متـــعـــــــــــــــرضا للموت أضـــــــــــــرب معلما | بَهْمَ الحـــــــــــــــــــــــــروبِ مشهَّر الأَعـــــــــــلام |
أدعو الكمــــــــــــــــــاةَ إلى النزالِ ولا أرى | نحـــــــــــــــــــــــرَ الكريـــــــــــــم على القنا بحـــــــــــرامِ |
ينصح قطرى أصحابه فى تلك الأبيات بألا يحجموا عن القتال تخوفا من الموت،ويشجعهم قطرى دائما على القتال،ويقوم بتقريع الجبناء منهم،و يوضح لهم أن تجنب ميادين القتال لا ينفى شبح الموت أو يؤجله إلى حين،ويصف نفسه بالحلقة التى يُتَعلمُ عليها الطعن من شدة القتال،حتى تتخضب نواحى سرجه ولجام فرسه من دمه،ويصف نفسه بالشجاعة والإقدام،إلا أنه يرى أن بصيرته كانت محدثة؛لأنه كان فيما سلف لا يرى رأى الخوارج،ثم تبصر فى آخر الأمر وعلم أنهم على الحق فانضم إليهم،ويدعو الأبطال الشجعان إلى القتال،ولا يرى القتل فى ميادين الحروب بعيب أو حرام،فالموت لابد منه،طال العمر أو قصر .
وقال أيضا([33]) : [ الطويل ]
ورُبَّ مصاليت نشـــــــــــــــــاطٍ إلى الوغى([34]) | سراعٍ إلى الداعى كرامِ المقــــــــــــــــــــــادمِ |
أَخَضْــــــــــــــــــــتُهُم بَحرَ الحــــــــمامِ وخُضْتــــُهُ | رجاءَ الثوابِ لا رجاءَ المغــــــــــــــــــــــــــــانمِ |
فأُبنا وقد حُزنا الثـــــــــــــــــــــــــــــوابَ ولم نُـــــــــــرد | ســـــــــــــــوى ذاك غمنا وابتناء المكارمِ |
ويصف لنا قطرى فى هذه الأبيات أنه يسرع فى الحروب ويضرب الوجوه والنواصى رجاءً فى ثواب الله،لا رجاء المغانم والمسالب التى يحصل عليها المنتصرون فى الحروب،ولكنه يفعل ذلك ابتغاء رضوان الله وبناءً للمكارم،واستخدم قطرى التشخيص فى تلك الأبيات، فشبه الموت بالبحر،والمكارم تبنى ابتناء،والثواب يحاز،وهذا التجسيم أعطى خياليا خصبا للمادة الشعرية .
رابعا: شعر الفخر
استحوذ الفخر على نسبة غير قليلة من شعر قطرى،حيث كان كثير الفخر بنفسه،بسبب شجاعته فى الحروب، واستبساله فى القتال دون خوف من الموت ودون تردد.
ومن أبياته فى الفخر([35]) :
[ الطويل ]
ألا أيهـــــــــــــــــــــا الباغـــــــــــــــى البرازَ تقــــــــــــــرَّبنْ | أُساقكَ بالموتِ الذُّعافَ المقشَّبا ([36]) |
فما فى تساقى المـــــــــوتِ فى الحربِ سُبَّةٌ | على شاربيه فاسقنى منه واشربـــــا |
ورسم الشاعر فى البيتين السابقين صورة رائعة فصور الموت بأنه سم يقتل عدوه،ثم يفخر قطرى بنفسه،ويدعو الذى يريد مبارزته قائلا له :” تعال أسقك السم الذعاف” ويقصد به الموت،فهو واثق من نفسه ومن قدراته ومن أنه سوف يهزمه ويقتله،ويرى أن الموت فى الحرب ليس عيبا ولا سُبَّة.
وقال كذلك([37]): [ الرجز ]
إن يلقنى بحـــــــــــــــــدّه المهلــــــــــــــــــــــب |
أصبر وإلا لم يضرنى المهـــــــــــربُ |
شيخٌ بشيــــــــــــــخ، ذا وذا مُجَرَّبُ |
رمحــــــــاهما كـــــــــــــــلاهـــما مخَّضــــــــب |
يشيد قطرى ويفتخر بنفسه،فهو ثابت وصامد غير فرار فى الحروب،وخاصة تلك التى خاضها أمام الأمويين،بالرغم من شدة القتال بينهما،فيقول:إنه صابر ولم يحاول الهرب،ويضع نفسه على درجة واحدة فى الشجاعة مع المهلب فيقول : (شيخ بشيخ – ذا وذا – رمحاهما كلاهما مخضب ).
وقال أيضا مفتخرا بنفسه([38]): [ الرجز ]
أنا أبــــــــــــــــــو نعــــامة الشيخ الهِبَــــــل |
أنا الذى وُلِدتُ فى أخرى الإبل |
قال قطرى هذه الأبيات فى اليوم الذى قُتل فيه،والمقصود بالهبل هو الإنسان العظيم الخلقة،وولدت فى أخرى الإبل أى إنه أعرابى شجاع لا يخاف القتل فى ميادين القتال .
وكتب قطرى هذه الأبيات إلى أحد أصدقائه ويُدعى ” سميرة بن الجعد “، حين فارقه وأصبح جليسًا للحجاج بن يوسف ([39]): [ الطويل ]
لشتــــان ما بين ابــــــــنِ جعــــــــــــدٍ وبيــــــننا | إذا نحنُ رُحْنا فى الحديدِ المظاهَـــــــــــــــــــــــــرِ |
نجـــــــــــــــــالد فرســــــــــــــــــــــــان المهلبِ كلنـــــــــا | صبورٌ على وقعِ السيوفِ البـــــواتـــــــــــرِ |
وراح ابن جعدِ الخـــــــــــــــيرِ نحو أمــــــــــــــيره | أميـــــــر بتقـــــــــــــــوى ربِّـــــــــــه غيــــــــرِ آمـــــــــــر |
أبا الجعــــــــــــد أين العلمُ والحلمُ والنهى | وميــــراث آبــــــــــاء كــــــــــــرام العــــــــــناصــــــــر |
ألـــــــــــــــــــم تر أن الموتَ لا شــــــــك نازلٌ | ولا بعثَ إلا للأُلـــــــى فى المــــــــــــــــــــقابـــــــــــر |
حفاة عراة والثــــــــــــــــــــــــوابُ لربــــــــــــــــــــــــــهم | فمـــــــــــــن بيـــــــــن ذى ربحٍ وآخر خاسرِ |
فإن الذى قد نلت يفنى وإنــــمـــــــــــــــــــــــــــا | حيــــــــــــاتك فــــــــى الدنيا كـــــــــوقعة طائـــــــــــر |
فراجع أبا جعدٍ ولا تكُ مغضــــــــــــــــــــــــبا | على ظلــــــــــمة أعشت جميع النواظـــــــــــــــــــرِ |
وتب توبة تُهدى إليك شهــــــــــــــــــــــــــــــــــادة | فإنــــــــك ذو ذنـــبٍ ولســــــــــت بكـــــــــــــــــــــافرِ |
وسرْ نحونا تلق الجهــــــــــــــــــــادَ غنيمــــــــــــــــــةً | تُفِدْك ابـــــــــتياعًا رابــــــــــــحًا غــــــير خاســــــــــرِ |
هى الغاية القصوى الرغيب ثوابهــــــــــــا | إذا نال فى الدنيا الغنــــــى كـــــــلُّ تاجـــــــــــــــرِ |
فى الأبيات السابقة يفخر قطرى بن الفجاءة بنفسه فى حين يُنكر على صديقه ” سميرة بن الجعد” فراره إلى الحجاج فى حين أنه – أى قطرى – يقوم بقتال فرسان المهلب وسيوفهم البواتر،ويدعوه إلى العودة إلى صفوف الخوارج مرة أخرى،والتوبة من هذا الذنب،والعودة إلى الجهاد معهم؛لأن ذلك هو الربح فى الدنيا،والغاية القصوى المرغوب ثوابها فى الآخرة.
فلما قرأ ” سميرة بن الجعد ” هذه الأبيات ركب فرسه وعاد إلى الخوارج وكتب إلى الحجاج قائلا ([40]):
فَمَنْ مُبَلِّغ الحجــــــــــــــاج أنَّ سمــــــــــــــــــــــــــيرة | قَلَىَ كلَّ دينٍ غير دينِ الخوارجِ |
رأى النـــــــــــــاس إلا من رأى مثــــــــل رأيه | ملاعين تراكين قصد المناهــــــجِ |
فأى امرىء أى امرىء يا ابن يوسف | ظفرت به لم يأت غيرَ الولائـــــجِ([41]) |
يقول سميرة فى الأبيات السابقة أنه ترك كل دين عدا دين الخوارج،وأى إنسان يرى غير ذلك فهو من المخطئين الغافلين،وإن أى امرىء لم يدخل فى بطانتك – أى الحجاج- ولم يصانعك فهو مخالف لك لما يراه من الحق.
وكتب قطرى إلى ” بشر بن مروان “([42]): [ الطويل ]
ألا قل لبــــــشر إن بــــــــــــشرًا مُصَبَّـــــــــــــحٌ | بخيلٍ كأمثال الســـــــــــراحين شُـــــــــــــزَّبِ([43]) |
يُقْحِمُـــــــــــها عـــــــــــــمرو القنا وعــــــبيدةٌ | مفدى خلال النقـــــــــــع بالأمِ والأبِ |
هنالك لا تبكى عجوزٌ على ابنها | فأبشر بجدعٍ للأنـــــــــوفِ موعَّـــــــــــــــــــبِ |
ألــــــــــــم ترنـــــــــــا والله بـــــــــــــــالغُ أمـــــــــــــــــره | ومن غالب الأقدار بالشرِّ يغلــــــــــب |
رجعنا إلى الأهواز والخيل عُكَّـــــــفٌ | على الخير ما لم ترمـــــــــــــــــــنا بالمهلب |
يفتخر قطرى فى هذه الأبيات بانتصاره على بشر بن مروان ، ويتشفى بهزيمته هزيمة ساحقة،وكان بشر بن مروان قد عزل المهلب بن أبى صفرة عن قتال الخوارج،مخالفا بذلك ما كان أمره به عبد الملك بن مروان،فطمع الأزارقة بقيادة قطرى فى الرجوع مرة أخرى من سابور إلى الأهواز التى نفاهم عنها المهلب من قبل وأخرجهم منها،وبالفعل انتصر قطرى وجيشه على جيوش الأمويين،ورجعوا من سابور ودخلوا الأهواز مرة أخرى، وكأن المهلب هو الوحيد القادر على هزيمة الخوارج،وربما يرجع السبب فى ذلك إلى خبرته الطويلة فى قتالهم،فعرف نقاط ضعفهم،ومتى يهجم؟ومتى يحجم ويسكن؟كما استطاع المهلب أن يبث الخلاف بينهم و يفرق جمعهم .
خامسا:شعر المدح
من اللافت للنظر هذه الإشادة التى ذكرها ” قطرى بن الفجاءة ” فى خصومه وأعدائه،وهى إشادة قد تصل إلى درجة المدح بشجاعتهم وبقدراتهم القتالية والعسكرية الفائقة، وكان المهلب لا يقاتل الخوارج إلا إذا تعرض لهجوم،أو أحس أن الفرصة سانحة لتحقيق النصر عليهم،أما فى عدا ذلك فهو متحصن فى مركزه،وقد قال قطرى فى حنكة المهلب:”إذا أخذتم بطرف الثوب أخذ بطرفه الآخر،يمده إذا أرسلتموه،ويرسله إذا مددتموه،لا يبدؤكم إلا أن تبدؤوه،إلا أن يرى الفرصة فينتهزها”([44])،وقد قال فىى مدح المهلب بن أبى صفرة “([45]) : [ الطويل ]
لعمرى لئن كُنّا أُصــــــــــــــبنا بنافــــــــــــــــــــــــــــعٍ | وأمسى ابن ماحـــوز قتيلا ملحــــــــــــبـــا |
لقد عظمــــــــــــــــت تلك المصـــــــيبة فيهما | و أعظم من هاتين خوفى المـــــــــــــــهلبا |
رُميـــــــــــــــــنا بشيخ يفلق الصخـــــــــــر رأيه | يراه رجــــــــــــــال حــــــــــــــول رايتـــــــــــه أبــــــا |
نفاكـــــــــــــــم عن الجـــــــسر المهلب عُنوة | وعن صحصح الأهواز نفيا مشذبا |
وأنحـــــــــى عليـــــــــــــكم يـــــــــــــوم أربل نابه | وكان من الأيام يومــــــــــا عصــــبصبـــــــا |
فلن تهزموه بالمنى فاصـــــــــــــــــبروا لــــــــــــــــه | وقولوا لأمــــــــــــــــــر اللهِ أهـــــــــلاً ومرحبــا |
فما الدين كالدنيا ولا الطعنُ كالمنى | ولا الضــــرُّ كالسُرا ولا اللـــــــيثُ ثعلبا |
يصف ” قطرى بن الفجاءة ” فى الأبيات السابقة ما فعله المهلب بهم فى الحروب،ويذكر فجيعته فى قتل صاحبيه نافع بن الأزرق وابن ماحوز،وأعظم من تلك المصائب خوفه من المهلب،فقطرى البطل الشجاع يعطى الرجال حقها،فلا ضير أن امتدح خصمه بصواب الرأى والقدرة على قيادة الجيوش وتطويعها،ويعتبره جنوده بمثابة الأب لهم،ثم لا يجد ما يمنعه من الاعتراف بهزيمته أمام هذا القائد الفذ الذى قهرهم ونفاهم عن الأهواز،ثم يعود مرة أخرى مخاطبا جيشه ليزرع الثقة فيهم مرة أخرى،ويرسم لهم طريق المستقبل الذى لا يرى تحقيق النصر بالسير وراء الآمال العريضة والسراب الخادع،بل الجهاد والصبر وطلب الاستشهاد.
وقال كذلك فى المهلب([46]): [ الرجز ]
إنَّا شجانا فى الوغى المهلبُ |
ذاك الذى سنانُهُ مخضَّـــــــــــبُ |
يشيد قطرى فى تلك الأبيات بعزيمة وجلد المهلب فى الحروب، وأنه أنهكهم وأتعبهم،فيقول إن رمحه دائما مخضب من كثرة الدماء التى أراقها من دماء الخوارج .
وقال فى المغيرة بن المهلب بن أبى صفرة ([47]): [ الطويل ]
لعمرى لئن كان المزونى فـــــــــــــــــــــارســـــــــــاً | لقد لقى القرمُ المزونى فارســــــــــــــــــــــــــــــــاً |
تناولتُهُ بالسيـــفِ والخـــــــــــيلُ دونَـــــــــــــــــــــــهُ | فبادرنى بالجُزْرِ ضــــــــــربا مخـــــــــــالســـــــــــاً |
فوليتُ عنه خوفَ عـــــــــــــــــــــــــــودة جُزره | وولَّى كما ولَّيتُ يخشــــــــــى الدهارسا |
كلانا يقول الناس فــــــــــــــــــــارس جَمْعِهِ | صبرتُ فلم أحبس ولم يكن حابسا |
فدونكما يا ابنَ المــــــــهلبِ ضـــــــــــــــــربةً | جدعـت بها من شانئيك المعاطسا |
وأقســــــــــــــــــــم لو أنى عـــــــــــرفتك مـا نجا | بك المــــهرُ أو تجلو علينا العوابســــــــــــا |
فتعــــــــــــــــلم إذ لاقيتنـــــــى أن شــــــــــــــــدتى | تخافُ فَسَــــلْ عنى الرجال الأكايسا |
يقـــــــــــــــــــــولوا بــــَـــــلاَ منه المغيرة ضربةً | فأَصبحتَ منـــــــــها للغضاضة لابسا |
فقلت بلى ما من إذا قيل : مَنْ له | تسمَّ له لم أَغْضُـــض الطرفَ ناكسا |
فتى لا يزال الدهـــــــــــــــــــر سُنَّةُ رمــــــحهِ | إذا قيل هل مــــِـن فارسٍ أن يداعسا |
استطاع المغيرة أن يسير على نهج أبيه المهلب بن أبى صفرة فى قتال الخوارج،ويبدو أنه أحرز النصر عليهم بعدما أنهكهم من كثرة القتال،حتى قالوا لقطرى:إنه بُلى بالمغيرة،فرَّد عليهم قطرى:بنعم،وقد ذكرت المصادر أن الخوارج عندما سمعوا هذه الأبيات قالوا لقطرى:” لقد مدحت الرجل يا أمير المؤمنين” !!فقال:”ما أثنيت عليه بشىء فى دينه،ولكننى ذكرت ما فيه”،ويمكن أن تعد هذه القصيدة من ” المنصفات” .
سادسا: شعر الزهد
كان شعر الزهد منتشرا بين الخوارج لكثرة ما أصابهم من تسلط سياسى وقهر اجتماعى على يد الأمويين،لذلك تحفل حياتهم بالكثير من المواقف والمشاهد التى يتجلى فيها الخوارج متعبدين متضرعين إلى الله،ليرحمهم من هذه الحياة.
والزهد يمثل حالة الرفض والاغتراب التى يعانون منها،فعدم الشعور بالانتماء والأمان أدى بهم إلى انعدام الشعور بمغزى الحياة والتلذذ بنعيمها،ومن لا يستطيع الاستمتاع بالدنيا يستعجل الخلاص منها([48])،ومن شعر قطرى فى الزهد قوله ([49]): [ الطويل ]
أقولُ لنفسى حينَ طال حصارُها | وفارقها للـــــــــــحادثاتِ نصـــــــيرهــــا |
لك الخيرُ موتى إن فى الخيرِ راحةً | فيأتى عليها حينُها ما يضيــــــــرها |
فلو أنهــــــــا ترجـــــــو الحياةَ عــــــــــذرتها | ولكنها للموت يُحدى بعـــــــــــــيرهـــــا |
وقد كنت أُفى للمهــــــــــــلب صاعه | ويشجى بنا والخيلُ تُثْنَى نحورهـــــا |
إذا ما أتت خـــــــــــــيلٌ لخيلٍ لقيتها | بأقرانهــــــــــــــا أُسْداً تدانى زئيـــــــــــــرهـــــــــــا |
ولا يبتغــــــــــــى الهندىُّ إلا رؤوسها | ولا يلتقى الخطىَّ إلا صـــــدورهـــــــــــا |
ففرّق أمرى عـــــــــــــبدُ ربٍ وَصَحْبُهُ | أدار رحى موتٍ عليه مــــــــديرهــــــــا |
فقدماً رأى منا المــــــهــــــــلب فرصةً | فها تلك أعدائى طويلٌ ســــرورها |
وأعظم من هذا علىّ مصـــــــــــــــيبة | إذا ذكرتها النفــــــس طال زفيــــــــــــرها |
فراقُ رجالٍ لم يكــــــــــــــــــــــــــونوا أذلةً | وقتلُ رجالٍ جاش منها ضميرها |
لقونى بالأمر الذى فى نفوسهم | ولا يقتل الفجار إلا فجورها |
غبرنا زمانا والشــــــــــــــــــــــراة بغبــــــــــطةٍ | يُسرُّ بها مأمورها وأمـــــــــــــــيرهـــــا |
قال قطرى هذه الأبيات مناجيا ومحدثا نفسه بعدما قام بقتل أحد أصدقائه من الخوارج ويدعى ” عمرو بن عامر السعدى”،حيث تجرأ الأخير واتهمه بالهرب من وجه المهلب،ففارقه على أثر ذلك جماعه من أصحابه،وبقى مهموما مغموما وضاق به الأمر ،ولم يدر ما يصنع، فأنشأ يقول هذه الأبيات المليئة بالأسى والاحباط والإحساس بالوحدة بعد فقدان النصير والأصحاب، فقد شعر باليأس من الحياة وكل ما فيها .
وقال أيضا فى شعر الزهد ([50]) : [ المنسرح ]
يا نفـــــــــس لا يُلْهِيَنَّكِ الأمــــــــلُ | فربما أكـــــــــــــــــــذب َ المــــــــــنى الأجلُ |
فقطرى يلهى النفس عن الركون والخنوع والاغترار بطول الأمل ، لأن الأجل قريب ويأتى بغتة .
وقال كذلك ([51]) : [ الرجز ]
سبحان ربى باعث العباد |
سبحان ربى حاكم المعاد |
وقال قطرى وقد سمع من يحرضه بقوله :” حتى متى يتبعنا المهلب؟ “([52]) [ الرجز ]
حتى متى تُخطِئُنى الشــــــــــــهادَة |
والموت فى أعناقنــــــــــا قــــــــــلادة |
ليس الفرارُ فى الوغى بعادة |
يا رب زدنى فى التقى عبادة |
وفى الحـــــــــــياة بعـــــــدها زَهَــــــــادة |
فى تلك الأبيات تظهر المفارقة بين الحياتين – الحياة الدنيا والآخرة – وقد تأثر قطرى كثيرا بمضامين الإسلام ونظرته إلى الحياة الدنيا باحتقار وازدراء وعدم الأسف عليها،وينظر لما بعدها من خلود ونعيم فى الآخرة،لذلك يرى الشاعر أن الشهادة أفضل ما يتمناه المرء المؤمن،فهى تخفف عنه فجيعته بمن فقد من أصحابه ،فقد أصبحوا فى جنات الخلد .
وهكذا نرى أن قطرى بن الفجاءة قد تطرق لكثير من أغراض الشعر مثل الفخر، والمدح، والزهد، والحماسة، والاستنفار، وغيرها من الأغراض، وظهرت فيه بعض السمات الأسلوبية للشاعر وهى :
أ- كان شعره عبارة عن أبيات مبتورة لم تصل فى عدد أبياتها إلى القصائد الكاملة،ولعل السبب فى ذلك أن قطرى كان يرتجز هذا الشعر فى مناسبات معينة،أومواقف وقتية.
ب- جاءت معظم الأبيات وأغلبها على وزن بحر الطويل وهذا الوزن يتفق مع الشجن والحنين،والسرد القصصى،والحوار والجدل،والتعمق الفلسفى.
جـ- لم يتحدث فى شعره عن فرقته التى ينتمى إليها- وهى فرقة الأزارقة-،أو أهم ما تدعو إليه هذه الفرقة من أفكار.
دـ – اعتمد فى شعره بصفة عامة على غرض ” الحماسة “، ويرجع السبب فى ذلك إلى كثرة الحروب التى خاضها،فكان يحمس من نفسه وعزيمته تارة ، وتارة أخرى يحمس من عزيمة أصدقائه .
ثانيا: نثر قطرى بن الفجاءة ينقسم نثر قطرى بن الفجاءة إلى خطب ورسائل .
أولا : الخطب ، قال قطرى فى التحذير من الدنيا:
صعِد قَطَريُّ بن الفُجاءة مِنبر الأزارقة ،فحمد اللَّه وأثنى عليه وصلّى على نبيه ثم قال([53]): أمّا بعدُ فإني أُحَذِّركم الدُّنيا فإنَّها حُلوةٌ خَضِرة حُفّتْ بالشّهوات،وراقت بالقليل،وتحبّبت بالعاجلة،وحُلِّيت بالآمال،وتَزَيَّنت بالغُرور،لا تدوم حَبْرتُها([54])،ولا تُؤمَن فجْعتُها،غَرّارة،ضَرّارة،خوّانةٌ،غدّارة،حائلة،زائلة نافدة،بائدة،أكّالة،غوّالة،بدلةٌ،نَقَّالة،لا تعدو إذا هي تناهت إلى أمنيَّةِ أهل الرّغبة فيها والرّضا عنها أن تكون كما قال اللَّه: ” كَمَاءٍ أنْزَلْنَاه مِنَ السّماءِ فَاخْتَلَطَ به نَبَاتُ الأَرْضِ فَأصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوه الرّياحُ وَكَانَ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيءٍ مُقْتَدِراً ”([55])،مع أنّ امرأً لم يكن منها في حَبْرة إلاّ أعقبتْه بعدهَا عَبْرة،ولم يَلَقَ من سَرّائها بطناً إلاّ منحته من ضَرَّائها ظهراً،ولم تَطُلَّه غَبْيَةُ([56])رخَاءٍ إلاّ هَطَلَتْ عليه مُزنة بَلاء،وحَرى إذا أضْحت له منتصرةً أن تُمْسِيَ له خاذلة متنكّرة،وإنْ جانبٌ منها اعذَوذَب واحلَوْلَى، أمَرَّ عليه منها جانب وأوبَى([57])، وإن آتت امرأً من غَضَارتها ورفاهَتها نِعَماً،أرهقته من نوائبها نِقَماً،ولم يُمْس امرؤٌ منها في جَناحِ أمنٍ إلاّ أصبح منه على قوادِم خَوف،غرَّارة غَرورٌ ما فيها فانيةٌ فانٍ مَن عليها،لا خير في شيءٍ من زادها إلاّ التّقوى،مَن أقلَّ منها استكثر مما يؤمِنُه، ومَن استكثر منها استكثر مما يُوبِقهُ ويطيل حَزَنَه ويُبكي عينَه،كم واثقٍ بها قد فجعَتْه،وذي طُمَأنينةٍ إليها قد صرعتْه،وذي اختيالٍ فيها قد خدَعته،وكم من ذي أُبَّهةٍ فيها قد صَّرته حقيراً، وذي نخوةٍ قد ردَّتْه ذليلاً،وكم مِن ذي تاج قد كبَّته لليدين والفم،سلطانُها دُوَل،وعيشُها رَنَقٌ([58])، وعذبُها أُجَاجٌ([59])،وحُلوها صَبِرْ،وغذاؤها سِمام،وأسبابُها رِمام([60])،وقِطافها سَلَعٌ،حيُّها بعَرَض موتٍ،وصحيحها بغَرَض سُقْم،ومَنِيعها بعَرَضِ اهتضام،مليكها مسلوب،وعزيزُها مغلوب،وسليمها منكوب، وجامعها محروب([61])،مع أَنّ وراءَ ذلك سَكرات الموت،وهَولَ المُطَّلَع،والوقوفَ بين يَدي الحكَمِ العَدْل ” ليَجْزِيَ الذين أَساءوا بما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الّذينَ أَحْسَنُوا بالحُسْنَى ” ([62])،أَلَستمْ في مساكِنِ مَن كان أطولَ منكم أعمارًا،وأوضَح آثارًا،وأعَدّ عديدا، وأكثَفَ جنوداً،وأعند عُنُوداً([63])،تعبَّدُوا الدُّنيا أيَّ تعبُّد،وآثروها أيَّ إيثار،وظَعَنوا عنها بالكَرْهِ والصَّغار،فهل بَلَغكم أنَّ الدنيا سمحت لهم نَفْساً بفِدْية،أو أغنَتْ عنهم فيما قد أهلكتهم بخَطْب،بل قد أرهَقَتْهم بالفَوادح،وضعضعتهم بالنّوائب،وعَقَرتهم بالمصائب،وقد رأيتم تنكُّرَها لمن دان لها وآثَرَها،وأخلد إليها،حين ظَعَنوا عنها لفراق الأبد إلى آخر المُسنَد([64])، هل زوّدتْهم إلاّ الشقاء،وأحلّتْهم إلاّ الضّنْك،أو نوَّرَت لهم إلاّ الظُّلمة،أو أعقبتهم إلاّ الندامة،فهذه تُؤْثرون أم عليها تَحرصون،أم إليها تطمئنون يقول اللَّه: ” مَنْ كَانَ يُريدُ الحَيَاةَ الدنيا وَزينَتها نُوَفِّ إلَيْهِمْ أعمالهم فِيها وهم فيها لا يُبْخَسُون أولئِك الّذين لَيْسَ لهم في الآخِرَة إلاّ النّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فيها وباطلٌ ما كانُوا يَعْلَمون “([65])،فبئست الدارُ لمن أقامَ فيها،فاعلمُوا وأنتم تعلمون أنكم تاركوها لا بُدَّ،فإنما هي كما وصفها اللَّه باللعب واللّهو وقد قال اللَّه ” أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيع آيَةً تَعْبَثُون وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِع لَعَلَّكُمْ تَخْلُدون ”([66])، وذكر الذين قالوا مَن أشدُّ منا قوّة ثم قال: حُمِلوا إلى قبورهم فلا يُدعَون رُكبانا،ًوأُنزلوا فيها فلا يُدعَون ضِيفاناً،وجُعِل لهم من الضَّريح أجنانٌ([67])،ومن التُّراب أكفان،ومن الرُّفات جيران،فهم جيرةٌ لا يجيبون داعياً،ولا يمنعون ضَيماً،إن أخصبوا لم يَفرحوا،وإن أقحَطوا لم يَقنَطوا،جميعٌ وهم آحادَ،وجيرةٌ وهم أبعاد،متناءون لا يُزارون ولا يَزُورون،حلماءُ قد ذهبت أضغانُهم،وجُهَلاء قد ماتت أحقَادهم،لا يُخشى فَجْعُهم،إلا يُرجَى دفعُهم وكما قال جَلَّ وعَزّ: ” فَتِلْكَ مَساكنُهمْ لم تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهم إلاّ قليلاً وكُنّا نحنُ الوارثين ” ([68])، استبدَلُوا بظهور الأرض بطناً،وبالسَّعةِ ضيقا،ًوبالأهل غُربة،وبالنُّور ظلمة،فجاءوها كما فارقوها: حُفاة عُراةً فُرادَى،غير أنّهم ظعنوا بأعمالهم إلى الحياة الدائمة وإلى خلود الأبد يقول اللَّه: ” كَمَا بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعيدُه وَعْداً عَلَيْنَا إنَّا كُنّا فاعِلِين ” ([69])،فاحذروا ما حذّركم اللَّه،وانتفِعوا بمواعظه،واعتصموا بحبله،عَصَمنا اللَّه وإياكم بطاعته،ورزقَنا وإياكم أداء حَقِّه .
فى الخطبة السابقة يحذر لقطرى بن الفجاءة من الاغترار بالحياة الدنيا،فهى دار فناء ولعب ولهو،مليئة بالشهوات التى تُلهى العباد عن ذكر الله،فهو يحث أصحابه على تذكر الآخرة والإعداد لها؛لأنها دار البقاء والنعيم،ثم يبدأ فى وصف أصحاب الملذات والغافلين عن الآخرة وما ينتظرهم من عذاب الله.
وتظهر براعة قطرى الفائقة فى جذب الاستماع إليه،وتنوعه فى الأساليب، وحسن استخدام الألفاظ فى موضعها ، ومن أهم خصائص خطبته:
1- التناص من القرآن الكريم ، فنرى أنه استشهد بالكثير من الآيات القرآنية فى خطبته .
2- سهولة الألفاظ ، حيث لم يستخدم قطرى أى ألفاظ معجمة أو صعبة على مستمعيه .
3- اعتماده إلى حد كبير على المحسنات البديعية غير المتكلفة،فقد استعان بالكثير من الألوان البديعية سواء المعنوية كالطباق والمقابلة ، أو اللفظية كالسجع والجناس وغيرها .
4- التنوع بين الأساليب الإنشائية والخبرية معا .
5- تأثره الواضح بخطب الإمام ” على بن أبى طالب ” ، فإذا نظرنا إلى الخطبة السابقة نرى مدى ثأثره بخطبة للإمام علىّ التى قال فيها:
“يا دنيا إليك عنى!غُرِّى غيرى،إلىّ تعرضت أم إلىّ تشوفت؟،هيهات! قد باينتك ثلاثا،لا رجعة لى عليك فيها،فعمرك قصير،وخطرك قليل،آه من قلة الزاد،وبُعْد السفر،ووحشة الطريق([70])”.
وفى خطبة أخرى للإمام علىّ قال فيها :”الدنيا دار صدق لمن صدقها،ودار نجاة لمن فهم عنها،ودار عناء لمن تزود منها،مهبط وحى الله،ومصلى ملائكته،ومهد أنبيائه،ومتجر أوليائه،….،فيا أيها الذام لها،المعلل نفسه بغرورها،متى خدعتك الدنيا؟بمضجع آبائك فى الثرى؟أم بمضجع أمهاتك فى البلى؟كم مرضت ببدنك؟وكم عللت بكفيك؟ تطلب الشفاء ،وتستوصف له الأطباء،غداة لا ينفعك بكاؤك ولا يغنى عنك ندمك”([71]).
ثانيا الرسائل : كتب الحجاج بن يوسف الثقفى إلى قطرى بن الفجاءة رسالة قال فيها ([72]):
” سلامٌ عليك،أما بعد فإنك مَرَقْتَ من الدينِ مروقَ السهمِ من الرميّةِ،وقد علمت أنك عاصٍ لله و لولاة أمره،غير أنَّك أعرابىُّ جلفٌ أُمِّىٌّ، تستطعم الكسرةَ،ووتستشفى بالتمرة،والأمور عليك حسرة؛ثم خرجت تحاول ما ليس لك بحقٍّ،واعترضت على كتاب الله،ومرقت من سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فارجع عما أنت عليه “
فرد عليه قطرى برسالة قال فيها :
” بسم الله الرحمن الرحيم ، من قطرى بن الفجاءة إلى الحجاج بن يوسف سلام على من اتبع الهدى من الولاة،الذين يرعون حريم الله ويرهبون نقمه،فالحمد لله الذى أظهر دينه،ذكرت فى كتابك أنى كنت بدويا أستطعم بالكسرة،وأستشفى بالتمرة،وبالله لقد قلت زوراً،ولعمرى يا بن أم الحجاج([73])،إنك لَمُتَيَهٌ فى جِبِلَتك([74])،مُطلخمُّ فى طريقتك([75])،واهٍ فى وثيقتك([76])، لا تعرف الله، ولا تجزع من خطيئتك،يئست واستيأست من ربك،فالشيطان قرينك،لا تجاذبه وثاقك، ولا تنازعه خناقك([77])،فالحمد لله الذى لو شاء أبرز لى صفحتك،وأوضح لى صلعتك([78])،فو الذى نفس قطرى بيده، لعرفت أن مقارعة الأبطال، ليست كتصدير المقال،مع أنَّى أرجو أن يدحض الله حجتُك، وأن يمنحنى مهجتك”([79]) .
جاء رد قطرى على الحجاج فى الرسالة السابقة فى غاية الحزم والثقة والقوة،فاتهمه بالكذب والزور والضلال بل والخروج من الدين حتى أصبح قرينا للشيطان،وفى نهاية الرسالة هدده وتوعده بالقتل .
وبالنظر إلى الرسالة السابقة يتضح لنا خصائص أسلوب قطرى فى كتابة الرسائل وهى كالتالى :
1- وضوح الفكرة .
2- قصر العبارات والجمل.
3- الاعتماد على المحسنات البديعية خاصة السجع .
4- جزالة الألفاظ .
5- التأثر بألفاظ القرآن الكريم .
أهم نتائج البحث :
أولا : تميز أسلوب قطرى بن الفجاءة بالبساطة والسهولة،مع عدم استخدام ألفاظ معجمة،سواء فى الشعر أو النثر.
ثانيا: لم يتكسب قطرى بشعره لذلك جاء شعره صورة صادقة لشجاعته وبطولته وقد ظهر ذلك فى معظم أغراضه كالمدح،والحماسة والفخر.
ثالثا: جاء شعره ونثره يخاطب المشاعر والوجدان،وذلك لاستمالة قلوب مستمعيه،واستثارة حماسة الناس بالكلمات .
رابعا:قام بالتعبير عن ” الأنا ” فى شعره ،وخاصة فى أغراض الفخر والحماسة والزهد،موضحا ما كان يعانيه ويكابده من شدة الحروب وقسوتها .
خامسا: اتصف شعره بقوة التعبير، وخلوه من العصبية القبلية، كما ظهر تأثره الواضح بالألفاظ القرآن الكريم وخاصة فى النثر.
سادسا: شعر قطرى بن الفجاءة يستعذب الموت غير آبهٍ بالحياة الدنيا،حماسيا فى جملته،لا تحركه النزعات القبلية،بل العصبية الدينية السياسية.
سابعا:معظم أغراض شعره كانت تدور حول الجهاد،والحماسة،ووصف المعارك والحروب،والإشادة بالبطولات والانتصارات.
ثامنا: لم يلتزم قطرى بن الفجاءة فى قصائده بقوانين القصيدة الجاهلية، من حيث البدء بالمقدمة الطللية أو الغزلية، بل انطلق فى شعره على السجية، أو على حسب الموقف الذى يعيشه.
المصادر والمراجع :
1- ابن الأثير : الكامل فى التاريخ،تحقيق أبى صهيب الكرمى ،طبعة بيت الأفكار الدولية .
2- ابن عبد ربه:العقد الفريد،مكتبة مصر،ط،2008 م .
3- ابن قتيبة:الإمامة والسياسة،تحقيق د. خليل منصور،دار الكتب العلمية،بيروت،ط1،2009م.
4- ابن قتيبة:المعارف،دار الكتب العلمية ،بيروت،ط1 ،1987م.
5-ابن كثير: البداية والنهاية،تحقيق محمد ناصر الدين الألبانى،دار العقيدة،ط1، 2007م.
6- ابن الكردبوس:الاكتفاء فى أخبار الخلفاء،تحقيق د.عبد القادر بوباية،دار الكتب العلمية،بيروت،ط1، 2009م.
7- ابن منظور:مختصر تاريخ دمشق،تحقيقروحية النحاس ورياض عبد الحميد،دار الفكر،ط1، 1984م.
8- الأصفهانى:الأغانى،تحقيق إبراهيم الإبيارى،طبعة عز الدين للطباعة والنشر،1992م.
9-البغدادى:الفَرق بين الفِرق،تحقيق محييى الدين عبد الحميد،مكتبة التراث،2007م.
10- التبريزى:شرح ديوان الحماسة لأبى تمام،دار الكتب العلمية،ط1، 2007م.
11- الجاحظ:البيان والتبيين،دار الكتب العلمية بيروت،ط2، 2009م.
12- الحصرى:زهر الآداب وثمر الألباب،دار الفكر العربى،ط2 .
13-الدينورى:الأخبار الطوال،تحقيق عبد المنعم عامر،وزارة الثقافة والإرشاد،1959م.
14-الذهبى:سير أعلام النبلاء،تحقيق محمد بن عيادى،مكتبة الصفا،ط1، 2003م.
15-الذهبى:وفيات سير أعلام النبلاء،تحقيق خليل بن مأمون شيحا،دار المعرفة،بيروت،2007م.
16- الزركلى:الأعلام،دار العلم للملايين،بيروت،ط17، 2007م.
17- الشهرستانى:الملل والنحل،دار الكتب العلمية ،بيروت.
18- الطبرى: تاريخ الأمم والملوك،تحقيق د. نواف الجراح،دار صادر،بيروت،1990م.
19 – عارف تامر: معجم الفرق الإسلامية،دار الميسرة،1990م.
20- عبد المنعم ماجد:الأدب العربى وتاريخه فى العصر الأموى والعباسى،دار الجيل ،بيروت،1990م.
21- فاطمة السويدى،الاغتراب فى الشعر الأموى،مكتبة مدبولى، القاهرة ،1997م .
22- القرطبى:بهجة المجالس وأنس المجالس وشحذ الذاهن والهاجن، تحقيق محمد مرسى الخولى،الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1962 م.
23- المبرد:الكامل فى اللغة والأدب،تحقيق حنا الفاخورى،دار الجيل،بيروت،2005م.
24- محمد عبد القادر أحمد: دراسات ونصوص فى أدب العصر الأموى،نهضة مصر ،1982م.
25- محمود نايف: الخوارج فى العصر الأموى،دار الطليعة،بيروت،1994م.
26-المدائنى:شرح نهج البلاغة،دار الثقافة ،بيروت،1990م.
27- المقدسى:البدء والتاريخ،الهيئة العامة المصرية للكتاب،ط2، 2010م .
[1] – شعر الخوارج : 9 ، الخوارج فى الشعر الأموى : 86
[2] – معركة صفين : نشبت هذه المعركة بين الإمام علىّ بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان – رضى الله عنهما- بسبب الاختلاف حول الخلافة.
انظر المعرفة والتاريخ:1/323 ،الكامل:3/285 تاريخ ابن خلدون:ج1/953 -955 ، مروج الذهب:2/331-335 ،العقد الفريد:3/261-265 ، أخبار الدول:1/307-308، البدء والتاريخ :428 ،تاريخ اليعقوبى:2/131، تاريخ الخميس :2/277 ، التاريخ الإسلامى: 3/270 .
[3] – الآية 97 من سورة آل عمران .
[4] – الفَرق بين الفِرق : 82
[5] – معجم الفرق الإسلامية : 12
[6] – تاريخ المذاهب الإسلامية : 79
[7] – معجم الفرق الإسلامية : 14 – 15
[8] – الملل والنحل : 1/ 128
[9] – الفرق بين الفرق: 101
[10] – الملل والنحل : 1/131
[11] – معجم الفرق الإسلامية : 15-16
[12] – الفرق بين الفرق: 102
[13] – الملل والنحل : 1/130
[14] – المصدر السابق : 1/129
[15] – الفرق بين الفرق : 106-108
[16] – معجم الفرق الإسلامية : 18-19
[17] – تاريخ المذاهب الإسلامية : 83
[18] – الملل والنحل : 1/135
[19] – انظر ترجمته فى سير أعلام النبلاء: 4/80-81 ، المعارف : 233 ، المنتظم : 6/195 ، 2/617 ، معجم الشعراء:215 ، وفيات سير أعلام النبلاء:746، الأعلام : 5/201 .
[20] – الحجاج (40ه-95ه): قيل اسمه كليب، وقيل اسمه الحجاج بن يوسف الثقفى،عامل الأمويين على العراق .
انظر سير أعلام النبلاء:4/182،وفيات الأعيان: 2/29-54، الأعلام : 2/168،العقد الثمين:3/328-332 ، تهذيب السماء واللغات : 1/165، مختصر تاريخ دمشق : 6/200-233.
[21] – المهلب بن أبى صفرة : الأمير البطل قائد الكتائب أبو سعيد بن المهلب بن أبى صفرة ،غزا المهلب الهند،وحارب الخوارج ،وولى خراسان، وقال غيرُ واحدٍ: إن الحجاج بالغ فى احترام المهلب عندما دوَّخ الأزارقة،فقد قتل منهم فى ملحمة واحدة : أربعة آلاف وثمان مائة رجل.
انظر سير أعلام النبلاء : 4/ 205-206
[22] – شعر الخوارج :105-106
[23] – فى الشعر الإسلامى والأموى : 379
[24] – شعر الخوارج : 108 ، ونسب ياقوت الحموى أن اليبت الأول لعمرو القنا العنبرى .
[25] – أم حكيم : امرأة من الخوارج قتلت بين يدى المهلب .
[26] – معركة شهيرة دارت بين الأزارقة والمهلب بن أبى صفرة قائد جيوش الأمويين .
[27] – الكامل فى اللغة والأدب : 1/308 ، شعر الخوارج : 106
[28] – انظر الأبيات فى حماسة الخالديين : 1/116، بهجة المجالس: 1/470،عيون الأخبار:1/126
[29] – انظر الأبيات فى حماسة الخالديين : 1/117
[30] – المعلمين : الفرسان المشهورون فى القتال والحروب – العسل الماذى : العسل الأبيض .
[31] – انظرالأبيات فى : حماسة الخالديين :1/118، بهجة المجالس : 1/472،زهر الآداب: 4/163
[32] – الدرية : الحلقة التى يتعلم عليها الطعن ، جذع : شاب حدث .
[33] – انظر الأبيات فى حماسة الخالديين : 1/110
[34] – مصاليت جمع مصلت وهو الماضى فى الأمور ، المقادم : الوجوه والنواصى والجبهات .
[35] – شعر الخوارج : 113
[36] – الذعاف : سم ساعة ، المقشب : الذى خلطت به أدوية لتقويه .
[37] – شعر الخوارج :115
[38] – المرجع السابق: 121
[39] -شعر الخوارج : 120- 121
[40] – المرجع السابق:122
[41] – الولائج : جمع وليجة وهى البطانة .
[42] – شعر الخوارج : 114
[43] – السراحين : الذئاب ، شزب : ضوامر
[44] – الكامل فى اللغة والأدب: 2/154
[45] – شعر الخوارج : 116
[46] – شعر الخوارج : 114
[47] – المرجع السابق : 117
[48] – الاغتراب فى الشعر الأموى : 72
[49] – شعر الخوارج : 118-119
[50] – شعر الخوارج: 113
[51] – المرجع السابق: 115
[52] – المرجع السابق :116
[53] – انظر العقد الفريد : 4/1421 ، البيان والتبيين :2/ 82-84
[54] – حبرتها : الحبرة هى السرور وسعة العيش .
[55] – الآية 54 من سورة الكهف .
[56] – طل : المطر الخفيف ، الغبْية : الدفعة من المطر .
[57] – أوبى ( أوبأ): صار فيه الوباء والوخم .
[58] – رنق : كدر – القاموس : مادة رنق .
[59] – أجاج : مالح .
[60] – الأسباب جمع سبب وهو الحبل ، رمام : جمع رمة وهى القطع البالية .
[61] – محروب : مسلوب .
[62] – الآية 31 من سورة النجم .
[63] – عنودا: عتا وبغا وظلم وتجاوز الحد .
[64] – المسند : الدهر .
[65] – الآية 15 من سورة هود .
[66] – الآية 16 من سورة هود .
[67] – الأجنان : جمع جنن وهو القبر .
[68] – الآية 85 من سورة القصص .
[69] – الآية 104 من سورة الأنبياء .
[70]– نهج البلاغة:480-482، فى ظلال نهج البلاغة:4/258
[71] – زهر الآداب : 1/42 ، مروج الذهب:2/375 ، نهج البلاغة :493، التذكرة الحمدونية :1/73، مصادر نهج البلاغة:4/116-117، فى ظلال نهج البلاغة:4/300-301،البيان والتبيين:2/126.
[72] – البيان والتبيين : 2/ 203-204 ، الكامل فى اللغة والأدب : :1/308-309
[73] – نسبه لأمه طعنا فى نسبه .
[74] – المتيه : المضلل،الجبلة : الطبيعة أو السجية .
[75] – المطلخم : المظلم والمتكبر .
[76] – واه ٍ : ضعيف ، الوثيقة : الثقة .
[77] – الخناق : الحبل الذى يخنق به .
[78] – الصلعة : موضع الصلع فى الرأس.
[79] – المهجة : القلب، والمراد بالجملة: أى أقتلك .