
الإعلام الجديد في عصر التكنولوجيا الرقمية، مداخلة الباحثة آمال الدريدي، كلية العلوم الإنسانية والإجتماعية جامعة تونس ، بالمؤتمر الدولي الحادي عشر مركز جيل البحث العلمي حول التعلم بعصر التكنولوجيا الرقمية والذي نظمه الاتحاد العالمي للمؤسسات العلمية بالتعاون مع جامعة تيبازة في طرابلس لبنان أيام 22 و23 و24 أبريل 2016، ولقد نشرت هذه المداخلة بسلسلة أعمال المؤتمرات الصادرة عن مركز جيل البحث العلمي بشهر أبريل 2016 بالصفحة 205.
(إضغط هنا لتحميل كل كتاب المؤتمر).
الملخّص:
نسعى في ورقتنا إلى الإستجابة إلى نقطتين إثنتين، لهما صلة وثيقة بتحدد النظر والتمعن أكثر، في الحقل الإعلامي، على ضوء مناهج العلوم الإنسانية والإجتماعية المعاصرة.
تتمثل النقطة الأولى، في ضرورة الإهتمام بتكنولوجيات الإتصال الحديثة، على إعتبار أن الإعلام بشقيه التقليدي والرقمي، قد إنخرط في المشروع التحديثي، كفاعل ومؤثر في تشكيل نسق قيمي ورمزي جديد للأفراد وللمجتمع ككل.
أما النقطة الثانية، تتمثل في الملامح الجديدة للإعلام، من منظور التكنولوجيا الرقمية، والتي جعلت، “المعلومة” تتجاوز مجرّد أن تكون فكرة أو معطى إعلامي، بل أبعد من ذلك، بمثابة “سلعة” أو “بضاعة”، خاضعة لقانون السوق، قانون العرض والطلب.
وعلى ما نقترح، يستجيب تحليلنا لرهانات الإعلام الجديد في عصر التكنولوجيا الرقمية، على تحديد الملامح العامة للمشهد الإتصالي، من خلال قراءة سوسيولوجية وثقافية، للتكنولوجيا الرقمية، التي ساهمت في بلورة مجال من حرية التعبير ومزيد الإنفتاح على الآخر خاصة في الجانب المعرفي.
المقدمة:
نعتمد في هذا العمل على جملة من الملاحظات الميدانية التي قمنا بها في بعض القنوات الفضائيات والإذاعات، وشبكات التواصل الإجتماعي، في المجتمع التونسي، طوال أربع سنوات، وتحديدا منذ شتاء 2011 إلى خريف 2015.
محتوى الملاحظة تعلق بالحقل الإعلامي التونسي، وما شمله من تغيير على مستوى المؤسسة والخطاب والتقنية، في ظل التكنولوجيا الرقمية… لذلك سنولي أهمية للدور التكنولوجي والإيديولوجي، في سياق إتصالي تتميّز وسائله بالكثافة والتعدّد والتنوع والسرعة والإنتشار… ولكن وفي سياق ذلك وقفنا على أنه من العسير، منهجيّا، وضع اليد على ما يسمح بتحليل متأنّ، ما لم نلتزم بحصر الملاحظة، والتوصيف والتحليل بأدقّ ما أمكن.
على ذلك إرتأينا، التركيز في ملاحظاتنا على الإعلام بشقيه التقليدي والرّقمي، وما رافقه من تغيير وتحولات إجتماعية وثقافية، وفكرية وإيديولوجية، بدت لنا بصدد التأسيس لمفهوم مجتمعي جديد، يطلق عليه اليوم، “مجتمع المعلومات “.
ولم يخفى علينا في سياق الملاحظة الراهنة، أن الإعلام في تونس، شهد بعض التحولات، فمنذ إستقلال تونس سنة 1956، سيطرت الدولة على قطاع الإعلام، فكانت الإذاعة والتلفزة التونسية، صوت النظام منذ تلك الفترة، وصولاً إلى أحداث جانفي/ كانون الثاني 2011، حيث دخلت تونس في مسار إصلاحي وإنتقال ديمقراطي شمل عدّة ميادين من بينها قطاع الإعلام.
لذلك إرتأينا الإهتمام بتكنولوجيات الإتصال الحديثة على إعتبار أن الإتصال بشقيه التقليدي والرقمي، أو الإفتراضي، هو خاضع لموازين قوى مجتمعية، إرتبكت في هذه الظرفية التاريخية فإضطربت المعايير وتبدل إدراك الناس للزمان والمكان.
وعلى هذا الأساس، نركز عملنا على التحولات الإجتماعية التي إخترنا منها تلك التي تمسّ وسائط الإتصال لننجز فيها ورقة بحثية، بمقاييس منهجية واضحة. وبالعودة إلى مجمل المناقشات الدائرة حول تكنولوجيات الإتصال الحديثة، بأبعادها التقنية والتكنولوجية والإجتماعية، خاصة في مجتمعات العالم الثالث، نلاحظ قدرا من الإهتمام بالموضوع بإعتباره جزءًا من المعيش اليومي في مجتمعات كثيرة، منها المجتمعات العربية عامة، والمجتمع التونسي خاصة، الذي إعتمدناه كنموذج لدراسة الإعلام الجديد في عصر التكنولوجيا الرقمية.
وتزامنا مع ما يشهده العالم العربي خلال العشرية المنقضية من تحولات إجتماعية وسياسية، بدت لنا الملامح العامة للإعلام “الجديد”، تزداد وضوحا، من خلال مجموعة من الرموز والممارسات الجديدة داخل أنساق من العلاقات الإجتماعية، خضعت في الآونة الأخيرة إلى نفوذ “الصورة”، كوسيلة فنية للتعبير، وآلية ثقافية وإجتماعية للتواصل… إلى جانب غزارة “المعلومة” التي لعبت دورا هاما في صناعة وإنتاج مجموعة من القيم والرموز الثقافية، داخل نسق تغلب عليه العولمة وتنميط السلوك العام، وهو ما عبّر عنه “دينيس ماكويل” (Denis McQuail ) بـ « الحاجة إلى التكيف مع الأفكار والممارسات والتقنيات الجديدة» [1]، وهو ما يفسر طبيعة مجتمع المعرفة والمعلومات، الذي يقوم على رأس مال رمزي ومعرفي، تلعب فيه تكنولوجيات الإتصال الحديثة دورا فاعلا، في تكريس ثقافة العولمة والشراكة والممارسات الإفتراضية بأنواعها المختلفة…
إننا نسعى في هذا العمل إلى مزيد فهم رهانات الإعلام الجديد، في ظلّ التكنولوجيا الرقمية، التي تقوم على منطق إستهلاكي معولم، بعبارة أخرى، هي محاولة لتمحيص، مدى أحقية القول، بأننا نعيش عصر الإعلام الجديد، الذي حدّدت ملامحه الرأسمالية العالمية… وهو ما جعل “فرنسيس بال” (Francis Balle ) يعتبر أن « وسائل الإتصال هي تقنيات فقط، وأن كيفية إستخدام هذه التقنيات تحددها السوق.»[2]، على هذا الأساس، إعتمدنا مفهوم “التسليع” الثقافي لـ “تيودور أدورنو” ( Théodore Adorno)، الذي يعتبرها من مخلفات الرأسمالية، التي جعلت من صناعة الثقافة، خطابا موجها إلى مشاعر وأحاسيس المتقبل، لا عقله وفكره الناقد، وبالتالي ضبابية « صدق المحتوى » [3]. ومنه إرتأينا الإنطلاق من إشكالية تٌعنى بعلاقة التقاطع بين التكنولوجي والإيديولوجي في عصر الإعلام الرقمي، أي الرهانات والإستراتيجيات التي إعتمدها هذا الإعلام الجديد، داخل نسق ثقافي وقيمي ورمزي، عرفه المجتمع التونسي في السنوات الأخيرة (بعد أحداث جانفي/ كانون الثاني 2011).
نبني الإجابة على ما نورد أوّلا من المناقشات المفهومية والنظرية التي تتعلق بثنائية الإعلام والتكنولوجيا، ومنظور علم إجتماع الإتصال، ملتزمين بمتطلبات التحليل العلمي السوسيولوجي، لطبيعة الحقل الإعلامي والإتصالي، في سياق التحولات التاريخية والإجتماعية، التي عاشتها المجتمعات العربية عامة في الآونة الأخيرة، والمجتمع التونسي تحديدا.
وبعد هذه المراجعة المفهومية والنظرية، وإنطلاقا من الملاحظات الميدانية التي قمنا بها، مستندين على فرضيتين، الأولى مفادها أن الرّهان الإجتماعي للإعلام الجديد في عصر التكنولوجيا الرقمية، هو تكريس نسق قيمي ورمزي جديد داخل المجتمع… أما الفرضية الثانية، جاءت في علاقة الإعلام الجديد أو الرقمي بالهوية الثقافية للمجتمعات الإنتقالية، خاصة إذا ما أشرنا تلميحا إلى أن “المعلومة”، ليست مجرد معطى إعلامي، بل أنها قد تحولت في الوقت الراهن إلى “سلعة” خاضعة لقانون السوق…
ولعلّ إهتمامنا، بالمقاربات النظرية حول الإعلام الجديد وتكنولوجيات الإتصال، إنما هي محاولة للإثارة الإشكاليات النظرية الكبرى التي إهتمت بالإستخدامات الإعلامية والتكنولوجية، بهدف مزيد فهم تحولات المجتمع والثقافة.
- في أسس بناء إشكالية الدراسة:
- التفكير النظري في الإعلام الجديد:
إستنادا إلى التعريفات اللغوية، فإن مصطلح “الإعلام الجديد” نجده يوافق المصطلح الفرنسي (Nouveau médias )، وبالأنكليزية ( New media ، والمعنى ذاته، مع إختلاف بسيط في مستوى السياقات المعرفية والثقافية المتنوعة… فقد جاء في معجم ( Petit Robert)، كلمة “الإعلام” الموافقة للفرنسية لكلمة (Information )، ويعني فعل “الإخبار” بمجموعة من المعلومات، بين باث ومتقبل، بالإعتماد على تقنيات متعددة منها الصحافة، والإذاعة والسينما والتلفزيون وهو ما يحيل إلى كلمة (Média ). [4] وفي هذا الإتجاه تحديدا، “إرتبط مصطلح الإعلام بما يسمى “الوسائل الإعلامية”، أي التلفزيون والإذاعة والصحافة، في حين يشير مصطلح “التكنولوجيات الحديثة”، إلى الوسائل التقنية الرقمية، كالهواتف الذكية، ولكمبيوتر… فالإعلام في المخيال العام مرتبط بمؤسسات تتمثل وظيفتها في إنتاج مضامين مخصوصة موجهة إلى الجمهور” [5]… مفهوميا، هي ممارسات إجتماعية للقيام بإرسال أو إيصال معلومات، سواء كانت مرئية أو مسموعة، أو إشارات أو رموز أو صور أو نصوص أو تعابير… إلخ. من هنا، وإنطلاقا من فكرة كلية النسق وإضطلاع الجزء بوظيفة داخل الكل، فالملاحظ أن وسائل الإعلام هي عبارة عن مجموعة من النظم الإجتماعية، وهي جزء من نسق عام يؤدي وظائف إجتماعية بهدف تحقيق التوازن والإستقرار داخل المجتمع [6].
وبعيدا عن هذا التصور الوظيفي الذي إعتمدته العديد من الدراسات ذات التوجّه الأنتروبولوجي[7] ، يمكننا تصنيف “الإعلام” كحاجة إجتماعية ونفسية “للتحرر من ضغوط الضبط الإجتماعي [8] ، بعبارة أخرى، إذا ما تساءلنا عن معنى “الممارسة الإتصالية”، فقد تقودنا الإجابة إلى طبيعة المجتمعات نفسها. فنحن نعيش في داخل جماعات “لا يمكن إلاّ أن تتواصل” على حدّ العبارة المركزية في تحاليل مدرسة “باولو آلتو” ( Palo Alto )، التي إعتبرت الإتصال مسارا متعددا ودائما، وهو ما يتفق عليه كلّ من “إرفيغ غوفمان” (Erving Goffman ) و”إدوارد هال” ( Edward T.Hall).
وعلى هذا النحو، فالمجتمع يعيش كل لحظة تحت ضغط من المعلومات، وكل معلومة تصله، تحمل في ثناياها رموزا ثقافية خفية، يستهلكها بوعي أو بدون وعي…
وفي إتجاه آخر، ومن منظور التقدّم التكنولوجي والرقمي، وبرؤية إيديولوجية متطوّرة للتكنولوجيا كعامل للتقدم الإجتماعي، فقد ساعدت “التقنية” أو حسب تعبير المفكر الفرنسي “رجيس دوبري” (Régis Debray)، “الوسيط” أو “الوسائطية”، التي لا يصنفها في ماهو سمعي بصري فحسب، بل يعتبرها عملية بحث في كل أشكال الوساطات التي تتكفل بإرسال وتناقل وتواتر المعلومات والحالات الذهنية والمادية، كما لا يعتبرها تصورا فكريّا، في التواصل اللغوي فحسب، بل نظرية وحقل للتفكير، تتقاطع فيه عدّة مناهج… [9]
وهو ما عبّرت عنه الباحثتان “ليففروو” ( Leah. A. Lievrouw) و”ليفينغستون” (Sonia Livingston)، في تعريفهما “للإعلام الجديد” بأنه “تكنولوجيات المعلومات والإتصال والعوالم الإجتماعية المرتبطة بها” [10]… يبدو أن البحوث والدراسات التي إهتمت بمسألة تكنولوجيات الإتصال والإعلام، ركزت في أغلبها، إمّا على سرد التأثيرات “الإيجابية” للإعلام الجديد وذلك بتلاشي الحدود الجغرافية، وتحويل العالم إلى “قرية صغيرة” بفضل مجتمع المعلومات… أو التركيز على خطاب معرفي، ذو رؤية سوسيولوجية نقدية وقيمية… وفي كلتا الحالتين، هي مناقشات معرفية لمسألة الإعلام الجديد وتكنولوجيا الإتصال، للوقوف على مقاربات وإشكاليات نظرية بهدف فهم التحولات المجتمعية وتمفصلات الظواهر الإعلامية والتكنولوجية في عصر جديد، يحمل إسمها.
ولكم تجاوزا لهذه الثنائية، يرى عالم الإجتماع الإسباني “منويل كستلس” (Manuel Castells)، أنه من الضروري قراءة العلاقات المتبادلة والديناميكية القائمة بين تكنولوجيا المعلومات الجديدة من جهة، والعولمة من جهة ثانية، ومتحاشيا في الآن نفسه إستعمال مفهوم ” مجتمع المعلومات”، إذ يقول: ” إن ما يشكل خاصية محورية في المجتمع الشبكي، ليس الدور المركزي للمعرفة والمعلومات، ذلك أن المعرفة والمعلومات، كانتا دائما حاضرتين وأساسيتين في أي مجتمع. لذلك يجب أن نتخلى عن فكرة “مجتمع المعلومات” التي إستخدمتها، أنا نفسي لبعض الوقت، بإعتبارها غير دقيقة… إن الجديد في عصرنا، يكمن في مجموع التكنولوجيات المعلوماتية” [11].
وفي حديثه عن براديغم تكنولوجي جديد، أشار إلى التدخل بين الحقيقي والإفتراضي في عين الأفراد، إذ أصبح إدراك الواقع، مرتبط بوسائل الإعلام، بعبارة أخرى، ساهم الإعلام الجديد في ولادة عالم إفتراضي، تأسس من واقع الأفراد… فالفكرة المحورية لـ « Castells » هنا، هي “الإفتراضي الحقيقي”… بل أبعد من ذلك إعتبر أن التلفزيون والإعلام الجديد، هو حقل يقوم على مركزية التنوع في الإتجاهات، ومتجاوزا بذلك مقولة “القرية العالمية”، إذ يقول: “بيمنا أصبح الإعلام مترابطا ومتشابكا بطريقة كلية فيقع تبادل البرامج والرسائل، ضمن الشبكة المعولمة، إلاّ أننا مع ذلك لا نعيش في قرية عالمية، بل في بيوت صغيرة تخضع للنمط الإنتاجي المعولم من ناحية، وموزعة على البيئات المحلية المختلفة من ناحية أخرى” [12].
كما إعتبر « Castells »، أن الممارسات الإجتماعية للإعلام الجديد، هي نوع من الهروب من أنساق الوجود الإجتماعي الواقعي، “والتمثل الإنتقائي لمجموعة من القيم التي يمكن أن يوفرها نسق ما، للعيش في زمن حاضر أبديّ” [13]، داخل المجتمع الشبكي الذي تسوده مجموعة من العلاقات الإجتماعية، التي يعتبرها (« Castells ») خاضعة لشبكات الإنتاج والقوة، والتجربة المكوّنة لثقافة إفتراضية، تتجاوز حدود المكان والزمان… نتبيّن ذلك بوضوح عندما يصف لنا “التضاد القطبي بين الذات والأنترنت” [14]، وإنعكاساته على التجارب والهويات الشخصية. وهو ما يفسر طبيعة العديد من المجتمعات اليوم، التي تقوم على التبادلات النفعية، في ظرفية تاريخية تبدّل فيها إدراك الأفراد للمكان والزمان… وهو ما يدعونا في هذه الورقة إلى إعادة طرح إستكشاف إشكالية الهوية والإعلام الجديد في عصر التكنولوجيا الرقمية، وذلك بالنظر إلى التحولات التي شهدها المشهد الإتصالي، وتفسير بياناته، بهدف الوقوف على الإستراتيجيات العامة، وأهم الرهانات، متخذين من المجتمع التونسي نموذجا للدراسة.
- في ضرورة إعادة النظر في مفهوم “الإعلام”: الحالة التونسية نموذجا:
تتقاطع إشكاليات الإتصال والإعلام في السياق التونسي والعربي عامة، مع إشكاليات بناء الهوية، وهو ما يشكل صعوبة منهجية خاصة في مقاربة أنماط الخطاب الإعلامي/ التكنولوجي، وأشكال التعبير والعلاقات الإجتماعية التي تتكوّن داخل هذا الحقل، بعبارة أخرى، هي محاولة لإثارة النقاش والجدل حول الرهانات الإجتماعية لفضاء معولم يشكله الإعلام وتحدد ملامحه التكنولوجيا الرقمية.
- – الإعلام “التقليدي” وثقافة التكنولوجيا الرقمية:
بعد إستقلال البلاد التونسية سنة 1956، ومع الشروع في بناء الدولة الحديثة، ساهم الإعلام (تلفزيون وإذاعة وصحافة)، في إنتاج مضامين قيمية ذات طابع إجتماعي وثقافي وتربوي في بعض الأحيان، “كما إشتغل الإعلام وفق نموذج عمودي وسلطوي غير تفاعلي وتربوي، يقوم على إستعراض السلطة وإبراز نفوذها وقوّتها، وعلى البحث عن الإستقامة الفكرية والولاء السياسي، وعلى حجب تنوّع المجتمع والأفكار والأراء والأحداث السياسية والإجتماعية” [15]، فكانت وظيفة الإعلام في تلك الفترة، تقوم على تكريس قيم الحداثة والتنمية الإجتماعية في مشهد عام، رسمت ملامحه الدولة، فكانت الإذاعة والتلفزة التونسية صوت السلطة والنخب المسطرة… فبمقتضى أمر رئاسي مؤرّخ في 25 جويلية 1975، تمّ إنشاء قطاع الإرسال الإذاعي والتلفزي بتونس كقطاع يتبع الدولة. وتخصّ المادة الثانية من هذا الأمر وظيفة الإرسال الإذاعي والتلفزي (كقطاع يتبع الدولة) فيما تتعلق المادة الثالثة منه بالإنتاج (كمهنة حرّة). [16]
ثم في مطلع التسعينات، ومع ظهور شبكة الأنترنت والقنوات الفضائية، تقلّص هذا الدور السلطوي، وهو ما أضعف من منظومة السيطرة والهيمنة، بعد أن تمّ تجاوز البث التناظري والأرضي (الذي كان في أواخر التسعينات وبداية الألفية الثانية، ويتمّ ذلك بترخيص من السلطة، مع دفع رسومات مقابل السماح ببعض الترددات، وبرقابة مشددة)، إلى التناظر الرقمي، الذي فسح المجال لترويج مادة ثقافية ، بأبعاد تكنولوجية متطورة، ولعبت التقنية دور الأسد في ذلك، خاصة مع إنتاج الصورة ثلاثية الأبعاد، بجودة عالية تقنيا وفنيا، وهو ما ساهم بقصد أو بدونه في إنتاج نسق رمزيّ وإجتماعي مشترك بنموذج معولم، جعل من “الصورة” السلطة المنافسة للنص المكتوب في وظائفه التواصلية والتعبيرية، وهو ما ولّد واقعا تربويا جديدا خاصة (لدى الناشئة) إتسم بتراجع ثقافة الكتاب لصالح الصورة.
إن تجاوز زمن القناة الواحدة، ذات الخطاب المرجعي والثقافي والإصلاحي وحتى التربوي، تضع الطفل أمام مرجعيات ثقافية مختلفة ومتباينة، إذ هي تمثل من حيث الدلالة القيمية والتربوية مصدرا موازيا للتنشئة الأسرية والمدرسية… ولعلنا في هذا السياق، أمام مقاربة قيمية معرفية فيها محاولة لإعادة إنتاج رؤية سوسيوثقافية وإيديولوجية للإعلام الجديد وللمجتمع المستهلك لمضامينه على إختلافها وتعددها.
- – ثقافة الإعلام الجديد:
بعد التحولات التي شهدها المجتمع التونسي، بعد 14 جانفي/كانون الثاني 2011، وفي سياق المرحلة الانتقالية التي يمر بها المجتمع التونسي، ارتأينا الاهتمام بتكنولوجيات الاتصال الحديثة، والإعلام الجديد على اعتبار الاتصال بشقيه التقليدي والافتراضي خاضع لموازين قوى مجتمعية، وهي الموازين التي ارتبكت في هذه الظرفية التاريخية فاضطربت المعايير وتبدل إدراك الناس للزمان وللمكان. فبعد أن تجاوزنا عصر القناة الواحدة والخطاب الأوحد، إستطاع الإعلام الجديد أن ينفلت من بوتقة الرقيب، لينفتح على فضاء واسع فيه التنوع والتعدد الثقافي واللغوي والفكري والإيديولوجي، فضاء تغلب عليه الديناميكية وحرية التعبير عن الهويات الفردية والجماعية… تعزز ذلك مع شبكة النترنت والمواقع الإجتماعية على تنوعها، كمساحة حرة لإبداء الآراء والمواقف والتعليقات وحتى نشر معلومات أو أحداث أو صور، في بعض الأحيان تعجز كاميرات الإعلام “التقليدي”، عن بلوغها في موقع الحدث… وهو ما نعبّر عنه اليوم بـ ” صحافة المواطن”… وحسب آخر الأرقام التي تمّ رصدها، فإن أكثر المواقع إستعمالا من قبل التونسيين على شبكة الأنترنت، هو موقع الفايسبوك، الذي بلغ عدد الناشطين فيه أو مستعمليه، إلى 3,8 مليون تونسي، سنة 2015، أي أكثر من ثلث المجتمع التونسي الذي يعدّ 11 مليون نسمة، و75% من مستعمليه، هم شباب تتراوح أعمارهم بين 18 و 34 سنة… [17] في المقابل، كان عدد مستعملي موقع الفايسبوك سنة 2011 ، لا يتجاوز 2 مليون تونسي تقريبا…
يبدو لنا أن موقع الفايسبوك، يمثل متنفّسا ومساحة حرة لفئات عديدة داخل المجتمع التونسي، للتعبير بكل حرية عن أذواقهم وآرائهم وميولاتهم، وأيضا هو فضاء إفتراضي لبناء علاقات إجتماعية مع الآخر على إختلافه، والتفاعل معه… وقد مثل بشكل أو بآخر المرآة العاكسة للتنوع والتعددية الإجتماعية.
ومن هذه الزاوية، يمكننا التلميح إلى إشكاليات جديدة، قد يثيرها الإعلام الجديد، منها ما يتعلّق بالعلاقات “البين- ذاتية”، والواقع الإجتماعي للأفراد، أي الهوية الثقافية لفرد ينتمي إلى مجتمع بعينه، مقابل ثقافة الإعلام الجديد التي تلغي في بعض الأحيان الحدود الحميمة لأفراد، وكمثال على ذلك ما يعرف “بتلفزيون الواقع” (والأمثلة عديدة في هذا المجال)، وغيرها من البرامج، أو المنتديات المتنوعة على النترنت…
فالمشهد الإعلامي، في العالم العربي عامة، والمجتمع التونسي تحديدا، فيه إنعكاس لواقع هذه المجتمعات، وهو ما دعى إليه عالم الإجتماع الفرنسي “بيار بوديو” (Pierre Bourdieu) “بضرورة التأمل والتفكير فيما هو أبعد من ذلك وتحديدا طبيعة المجتمع، الذي نعيش فيه في الوقت الراهن”. [18]
إن إنتشار التقنيات التكنولوجية الحديثة بأنواعها، من هواتف ذكية وشاشات مسطحة وكاميرات متطورة وغيرها من البنيات التحتية، وفي ظل الحريات المشرّعة، في التعبير أو كل أشكال الإنتاجات الثقافية الأخرى، في إعتقادنا، هي عملية تشكيل أنماط إجتماعية جديدة بصياغة معولمة، داخل حقل عام، رسم ملامحه “الإعلام الجديد”.
- الإعلام الجديد وثقافة أرباب السوق:
بدا “الإعلام الجديد” في عصر التكنولوجيا الرقمية، ذا طابع تواصلي تؤسسه مجموعة من العلاقات والممارسات الإجتماعية، إستطاعت بدورها أن تشكل أنموذجا ديمقراطيا ولكنه خاضع في نفس الوقت إلى النظام الرأسمالي الحديث… بعبارة أخرى، إستطاع الإعلام الجديد، أن يؤسس لمفاهيم جديدة، تقوم على حرية التعبير، والحريات الفردية، ومجتمع المعرفة، والتكنولوجيات الرقمية، وصحافة المواطن، و”مجتمع المعلومات”… جميعها تُختزل في معنى “التحرر من القيود” وتذليل الحدود بكل أنواعها، ولعلّنا أما الوصف الدقيق الذي قدمه “بيار لوفي” (Pierre Lévy) عندما إعتبر أن الواب يؤسس “لوجهات نظر متعددة ومنفتحة، ويتخذ هذا التنظيم شكلا شبكياّ شاملا دون رؤية قدسية وبلا وحدة متعالية”[19] بهذا المعنى، يبدو أنه لا يمكن الفصل بين تكنولوجيات الإتصال والإعلام.
لا تنحصر ملامح الإعلام الجديد داخل التنظيم الشبكي فحسب، بل يمكن ملاحظة ذلك في القطاع السمعي البصري التونسي، الذي شهد إرتفاعا ملحوظا لعدد القنوات التلفزيونية والإذاعات الخاصة، التي بعثت في الخمس سنوات الماضية… فبعد أن تجاوزنا زمن” القناة الواحدة”، (كما سبق وأشرنا إلى ذلك) وبالتوازي مع الأحداث التي شهدها المجتمع التونسي في هذه الفترة، فقد خاض مجموعة من رجال الأعمال التونسيين، التجربة الإعلامية من خلال بعث مجموعة من القنوات التلفزية الخاصة، التي بلغ عدد – حسب آخر الأرقام – إلى 50 قناة، تتراوح بين إنطلاق البث التجريبي والبث على الأنترنات في مرحلة أولى، وأخرى بدأت البث على الأقمار الإصطناعية…
فعلى مستوى القنوات التلفزيونية الإخبارية، فقد شهدت سنة 2013 ميلاد ثلاث قنوات تلفزيونية إخبارية… نذكر منها قناة “الحرة التونسية” (إنطلقت في شهر مارس 2013)، وقناة “المتوسط” (بث تجريبي بداية من شهر جانفي 2013) و”شبكة تونس الإخبارية”… والقائمة طويلة.. ولعلّ أبرز المجالات حضورا في هذا العدد، هو مجال المنوعاتي، والإجتماعي، والرياضي، من ذلك أن فريق العاصمة لكرة القدم “الترجي الرياضي التونسي”، بصدد الإعداد لبعث قناة خاصة به تدعى “ترجي TV”… أما المجال الديني فقد بلغ عدد القنوات الجديدة إلى خمس قنوات دينية… وقد ذهب هذا التنوع بعيدا حتى أن إحدى القنوات تنوي أن تكون ناطقة بالأقلية الأمازيغية أو البربرية في البلد… في حين إختارت أخرى إسم قناة “الثورة”…[20]
إن نسق المجتمع الإستهلاكي الحديث، إعتبر وسائل الإعلام على تنوعها وإختلافها، نظما إجتماعية، تساند وظيفيا أهداف ومصالح النظم الماسكة بالسلطة والثروة… أي أنها وسائل في خدمة الأطراف المهيمنة في الحقل السياسي أو الحقل الإقتصادي… كما أن لها القدرة على نقل رموزها وإيديولوجيتها وثقافتها، إلى الرأي العام من خلال نسق تواصلي معولم… وهو ما يفسّر التقارب بين النظريات النقدية (مدرسة فرانكفورت) والمقاربة الماركسية، في مسألة السيطرة على الثروة وعلى الرموز… أي جدلية البنى الفوقية والتحتية.
وفي الحقيقة يقوم منطق هذا النظام على تفضيل مصالح فئات إجتماعية معينة، وهيمنتها ضد مصالح فئات إجتماعية أخرى ( في جميع الأحوال هي الغالبية الساحقة من أفراد المجتمع)… وهو ما عبّر عنه عالم الإجتماع الفرنسي “بيار بورديو” (Pierre Bourdieu ) بـ “الإيديولوجيا السائدة “، أو بعبارة أخرى هو أراد الإشارة إلى العلاقة بين تكنولوجيا الإتصال والمعلومات في توظيفها للمضمون الإيديولوجي، ويجد أوضح مثال له في الدور الذي يلعبه التلفزيون في التأثير على المشاهدين، وحتى على مجالات الإنتاج الثقافي الأخرى… [21]
ولذلك يرى أن القنوات الفضائية في عصر الإعلام الرقمي، لم تعد مجرد قنوات تقدم برامج للتسلية وللتثقيف، إنما هو يؤكد على أنها أدوات للضبط والتحكم السياسي والإجتماعي في المجتمعات الراهنة، أو هي، عبارة عن أدوات ” للعنف الرمزي” (حسب تعبيره) الذي تمارسه الطبقات الإجتماعية التي تهيمن وتسيّر هذه الأدوات.
قد نتساءل في هذا المستوى، عن أحقية الحديث عن الهوية الثقافية للمجتمع، داخل نسق عام يحكمه منطق العرض والطلب، خاصة إذا أشرنا تلميحا، إلى نوع من أنواع الإعلام الجديد، الذي يقوم على الربح الرخيص و التجريح والإثارة بكل أنواعها… وما تأثير ذلك على الناشئة والشباب؟
تتنافس المؤسسات الإعلامية في الوصول المبكر إلى المعلومات، إلا أنها في بعض الأحيان لا تراعي حسب بعض المختصين والمفكرين، أخلاقيات المهنة من حيث التثبت في مصادر الخبر، واحترام أعراض الناس والحرمات الشخصية للأفراد… وفي هذه النقطة بالذات لا ينفي “بيار بورديو” (Pierre Bourdieu )، دور الأفراد في المشاركة والخضوع في التلاعب والتأثير بقدر ما يمارسون هم أنفسهم عملية التلاعب والتأثير، وبشكل لا واعي… إذ يقول:” إنني لا أعتقد أن الإعلان عن الفضائح، وعن الأحداث وعن إساءات هذا المذيع أو ذاك، أو المرتبات الخيالية المفرطة والمبالغ فيها لبعض المنتجين، يمكن أن تؤدي إلى تحويل الأنظار عما هو أساسي بإعتبار أن فساد الأفراد هو قناع لهذا النوع من “الفساد البنيوي”، الذي يمارس على مجمل اللعبة من خلال آليات مثل التنافس على كسب جزء من السوق…” [22]
فالمتقبل يتفاعل مع مضمون الرسالة الإعلامية أو “المعلومة”، بالرفض أو القبول أو اللامبالاة أحيانا… ويمكن أن نذكر في هذا السياق مثالا تطرقنا إليه آنفا، وهو موقع الفايسبوك، حيث يمكن ملاحظة ردّات فعل متفاوتة، وقد تكون عنيفة في بعض الأحيان… تجاه أحداث أو مواقف أو تصريحات… أو غيرها من الرسائل الإعلامية الموجهة للرأي العام… ونعتقد أن مقاربة علاقة الأفراد بالإعلام الجديد، من منظور التفاعلية الرمزية (l’interactionnisme Symbolique )، قد يكون أكثر مواكبة للتغيرات التي عرفتها هذه العلاقة داخل المجتمع التونسي… كما نعتقد أنه من الضروري دراسة مفهوم “التبادل” ( L’échange) للنظر إلى التفاعلات الإجتماعية بوصفها صيرورة وليست معطى جاهزا [23]… كما أن مفهوم “التواصل” مع الآخرين ومع باقي المؤسسات الإجتماعية، بإمكانه أن يحدد طبيعة الثقافة الإجتماعية السائدة والمحددة بدورها للأدوار الإجتماعية…
والملاحظ أيضا أن الدوار الإجتماعية للشباب في هذا الفضاء المعولم، لا تنحصر في التعليق على الإنتاج التلفزي، فحسب، بل إبداء الرأي وإثارة النقاشات التي تبدو في بعض الأحيان جريئة، وبالتالي هي علاقة معقدة نوعا ما ، إذا ما تحدثنا عن هذا الثلوث أي الإعلام والأنترنات والشباب…
قد لا يكون المجتمع التونسي مجتمعا متقدما إلى حد كبير في ذلك ولكنه مجتمع به بعض ملامح المجتمع الإفتراضي الجديد الذي يشهد طفرة كبيرة من حيث تكثف إستعمال الإعلامية والأنترنات والمبادلات الإلكترونية، وإنتشار الأقمار الإصطناعية والقنوات الفضائية التلفزيونية… [24] .
وبالفعل لقد سجلنا ارتفاع نسب المشاركين في شبكة الأنترنات وفي مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة منها الفيسبوك، إذ بلغ عدد المنخرطين في هذا الموقع خلال شهر مارس 2012، 3.856.984 مشترك بعد أن كان في مارس 2011، 2.955.260 مشترك… كما تشير الأرقام أيضا إلى أن ما يقارب 30 % من أفراد المجتمع التونسي لهم إشتراكات على شبكة الأنترنات… وفي تقديرات إستعمال الشبكة، فإن أكثر المستخدمين هم الفئة الشابة… فخلال سنة 2011، كان 39 % من المشاركين في شبكة التواصل الاجتماعي الفيسبوك شبابا تراوح أعمارهم بين 18 و 24 سنة، تليها الفئة العمرية 25 و 34 سنة بنسبة 29 % ، وأخيرا فئة المراهقين الذين تراوح أعمارهم بين 13 و 17 سنة… والجديد هذه السنة (2012) أن 13% من مستخدمي الفيسبوك فئة تراوح أعمارهم بين 35 و 45 سنة، و3 % ممن تناهز أعمارهم 55 سنة وما فوق بقليل…
وفي اتجاه آخر يبدو من خلال إحصائيات سنة 2011 أن 93% من التونسيين يعتمدون نشرة الأخبار التي تقدمها الفضائية التونسية “الوطنية 1″، المصدر الأول للمعلومة، في حين أن 30,5% يعتمدون على الأنترنات للحصول على المعلومة، ومن بينهم 92,2 % يستخدمون الفيسبوك لهذا الغرض. بينما 19,6 % من التونسيين اتخذوا من الإذاعة مصدرهم الرئيس للمعلومة في مقابل 13,3 % لهم اهتمام بالصحافة المكتوبة … [25]
وعلى هدي ما تقدم، يمكن القول أن هنالك عدة عوامل (تقنية، سياسية، إقتصادية، ثقافية…) ساهمت في إحداث تحولات إجتماعية في بنية وأداء تكنولوجيات الإتصال في تونس، وخاصة في الآونة الأخيرة… لا تتعلق المسألة الأساسية، حسب عديد المختصين في الدراسات الإستشرافية، بتطورات تكنولوجيات الإتصال ومنظومة الإعلام الجديدة فحسب وإنما بثورة حقيقية باعتبار مدى تأثيرها في مختلف الأنشطة الإنسانية وفي العلاقات الاجتماعية التي تؤسس لها. لذلك حاولنا في هذا البحث أن نرسم الملامح الأساسية للمشهد الاتصالي التونسي الناشئ بعد 14 جانفي 2011 بشقيه الرقمي والتقليدي من خلال تقديم أهم ما يميز انتشار استعمال شبكة الفايسبوك إضافة إلى الأقمار الاصطناعية والقنوات الفضائية التلفزيونية المحلية والعالمية.
وقد يكون تفكيرنا متجها إلى اعتبار أن انتشار استخدام شبكة الأنترنات مثلا قد ينم عن رغبة التونسي في الحصول على المعلومة بشتى أنواعها وفي كل المجالات… ولعله أيضا يفسر وجها من انتشار التكنولوجيا الرقمية في حياتنا اليومية، مختزلة المعلومات في نصوص وصور وأصوات، وفي ترميز ثنائي يتكون من صفر وواحد… وأمام هذا الشغف، لإمتلاك المعلومة، لم يتوارى أرباب السوق الإعلامية، في إستقطاب أكبر نسب من المشاهدة، حتى وإن كان ذلك على حساب ثقافة المجتمع وإنتمائاته الإيديولوجية…
ولذلك ينبني عملنا هذا على التركيز على ما أنتجه الفضاء الإعلامي الجديد داخل المجتمع التونسي من نسيج اجتماعي وثقافي جديد وما تولد فيه من رموز وعلامات ومعان، بحيث نرى بعض ملامح المنظومات الثقافية والإيديولوجية السارية فيه.
خاتمة:
يتوخى علم اجتماع الاتصال تحليله على أنه رهان مجتمعي وحضاري متجدد. وهذا هو منطلق هذه الورقة البحثية، أي الإهتمام بما هو “اتصالي” وتحديدا ما يعرف “بالإعلام الجديد” في مرحلة انتقالية يعيشها المجتمع التونسي تعتبر شديدة التعقيد… وقد يبدو الاتصال عامة وتحديدا الإعلام، موازيا أو يكاد إلى جانب السلطة السياسية والاقتصادية في صنع القرار لدى الدول الصناعية وما بعد الصناعية الكبرى، ولكنه يظل رهانًا أوليًا في المجتمعات الانتقالية ذات الحالة الحضارية المتذبذبة… ولذلك فإن موضوع الاهتمام هنا، ليس “الاتصال” في المطلق، بل نحن نتحسس الملامح الجديدة الطارئة عليه في مجتمع ما بعد 14 جانفي جراء التحولات السياسية من جهة والتغييرات الاجتماعية من جهة ثانية وتطورات تكنولوجيا المعلومات والإعلام من جهة ثالثة ، وتأثيراتها في الحياة الاجتماعية والثقافية والتربوية… ولئن كان الإعلام التقليدي “واضح” المعالم سوسيولوجيا، فإن الإعلام الجديد وبالرغم من محركه التكنولوجي، يتطلب معالجته على أنه ظاهرة اجتماعية، سياسية، اقتصادية، ثقافية في المقام الأول.
إذن، إستنادا لما تقدم يمكنا القول، أن المجتمع يعيش كل لحظة تحت ضغط هائل من المعلومات، وكل معلومة تصله تحمل في ثناياها رموز ثقافية خفية، يستهلكها بوعي أو بدون وعي في بعض الأحيان… مما جعل المجتمع المعاصر، مجتمعا مشهديا تصوغه الصورة والمعلومة في فضاء اتصالي معولم.
وليس المجتمع التونسي اليوم بعيدا عن ذلك فهو فضاء تتداخل فيه الأبعاد الإيديولوجية والاجتماعية والثقافية والسياسية في العملية الاتصالية التي تجري داخله والتي يمكن أن تضعنا أمام ما قال عنه ” آرمان وميشال ماتلار” (A. et M. MATTELART (” لم يعد هناك تاريخ، ولا واقع ولا حقيقة، إن عالم الاتصال ينفجر تحت ضغط تعددية العقلانية المحلية والعرقية والدينية”[26].
حيث أصبحنا أمام نموذج اتصالي اجتماعي، فيه الاتصال الجماهيري الذي ” يتمّ بواسطة وسائل تكنولوجية، ومن خلال مؤسسات متخصصة وعبر حرّاس بوابات مكلّفين بتنظيمه”[27]… هذا إذا أخدنا بعين الاعتبار أن “المعلومات ليست اختراعا عصريا، وإنما هي أهمّ سلاح استخدمه الإنسان في مواجهة تحديات الحياة على مرّ العصور”[28].
إلا ّأن المعلومة ليست مجرّد فكرة أو معطى إعلامي، بل يبدو أنها تحوّلت في الوقت الرّاهن إلى سلعة خاضعة لقانون السوق، قانون العرض والطلب… فالاستعمال الاجتماعي للمعلومة، هو في الحقيقة، اتصال تفاعلي لغاية نفعية واعية، من أجل إشباع حاجات معرفية معينة عبر الاستعمالات التقنية والتكنولوجيا الرقمية… فالاتصال كما يعرفه المنصف وناس، هو ” التفاعل والتواصل والجدل وتبادل المعلومات والأفكار والآراء” [29]. ولذلك فإن التفكير في الاتصال يمكن أن يضعنا في صلب محاولة تحليل مستويات الإرتباط بين البنيات الذهنية والإجتماعية والثقافية وبين السلوكيات سواء الفردية أو الجماعية.
البيبلوغرافيا
- الكتب:
- باللغة العربية:
- أرمان وميشال ماتلار، تاريخ نظريات الإتصال، ترجمة نصر الدين العياضي والصادق رابح، المنظمة العربية للترجمة، بيروت
- بن عثمان (حاتم ) ، بؤس العولمة، مركز النشر الجامعي، تونس،
- جموسي (جوهر)، المجتمع الإفتراضي، نوفا برنت، تونس، أوت
- جموسي (جوهر)، فعاليات المنتدى الدولي الأول، الشباب في الفضاء السيبرني: الحماية القانونية والحدود الأخلاقية، الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم، تونس
- جموسي (جوهر)، الثقافة الإفتراضية، الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم، تونس
- جبارة (عطية جبارة) ، علم اجتماع الإعلام، دار عالم الكتب للنشر والتوزيع، الرياض،
- حميدة (مخلوف)، سلطة الصورة: بحث في إيديولوجيا الصورة وصورة الإيديولوجيا، دار سحر للنشر، تونس،.
- خوري (نزها)، أثر التلفزيون في تربية المراهقين، دار الفكر اللبناني، بيروت،
- ديلو (فياض)، الإتصال مفاهيمه، نظرياته، وسائله، دار الفجر للنشر والتوزيع، القاهرة
- صادق الحمامي، الميديا الجديدة: الإيبستيمولوجيا والإشكاليات والسياقات، منشورات الجامعية بمنوبة، تونس
- عمر محمد بن يونس، المجتمع المعلوماتي والحكومة الإلكترونية: مقدمة إلى العالم الإفتراضي وقانونه، دار النهضة العربية، القاهرة
- علي (نبيل)، العرب وعصر المعلومات، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1994
- فيليب بريتون، يوتوبيا الإتصال، ترجمة إلياس حسن، دار الينابيع، دمشق
لوكلرك (جيرار)، سوسيولوجيا المثقفين، ترجمة جورج كتورة، دار الكتب الجديدة المتحدة ، بيروت، 2008.
- مخلوف (حميدة)، مجتمع الصورة: بين ثقافة الفراغ وفراغ الثقافة، الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم، تونس
- مخلوف (حميدة)، سلطة الصورة: بحث في إيديولوجيا الصورة وصورة الإيديولوجيا، دار سحر للنشر، تونس
- المنصف وناس، الشخصية التونسية: محاولة في فهم الشخصية العربية، الدار المتوسطية للنشر، تونس 2011
- هنتنغتون (صامويل) ، صدام الحضارات، إعادة صنع النظام العالمي ، ترجمة طلعت الشايب، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 1998 .
باللغة الفرنسية:
- Accardo Alain, «Journalistes au quotidien », Ed Le Masacret, Bourdeau, 1995.
- Aurélie Aubert, « Quand le téléspectateur réagit à l’actualité internationale : de la prise de parole critique à la revendication citoyenne», Thèse de Doctorat sous la direction de Michael Palmer, Université Paris 3, 2006.
- Muhammad, « American- Style journalism and television in the Arab Word : An Exploratory Study of News selection et six Arab Satellite Televion channels», In Kai Hafez Ed, Media Ethics in the Dialogue of cultures, Hamburg, Deutsches Orient – Institut, 2003.
- Beaud Paul, « La société de connivence», Ed Aubier, Paris, 1984
- Belkacem Mostefaoui, « La télévision française au Maghreb, Structures, Stratégies et Enjeux», Ed. L’Harmattan, Paris, 1995
- Berger Peter et Luckman Thomas, « La Construction sociale de la réalité», Ed :Méridiens Klincksieck, Paris, 1996.
- Boullier Dominique, « La Conversation télé», Ed. Lares, Rennes, 1987.
- Bourdieu Pierre, « Ce que parler veut dire», Ed. Fayard, Paris, 1982
- Bourdieu Pierre, « Raisons Pratiques», Ed. Seuil, Paris, 1994
- Bourdieu Pierre, « Sur la télévision», Ed. Liber, Paris, 1996
- Bourdieu Pierre, « Science de la science et réflexivité», Ed. Raisons d’agir, Paris, 2001
- Boyer Henri et Lochard Guy, « Scènes de télévision en banlieue», Ed. L’Harmattan, Paris,1998.
- Castells Manuel, « La société en Réseaux», Ed. Fayard, Paris, 1998
- Charaudeau Patrick, « Le discours Médiatique d’information», Ed. Nathan, Paris, 1997
- Charaudeau Patrick, « La Télévision de la guerre : Déformation ou construction de la réalité», Ed. INA/ de Boeck, Paris, Bruxelles, 2001.
- Chauveau Agnés, « L’Audiovisuel en liberté? », Ed. Presse de Science Po, Paris, 1997
- Cluzel Jean, « Presse et Démocratie », Ed. LGDJ, Paris
- Cluzel Jean, « L’audio Visuel à l’heure du numérique», Ed. LGDJ, Paris, 1998 .
- Colomb Dominique, « L’essor de la communication en Chine : Publicité et télévision au service de l’économie sociale de marché», Ed L’Harmattan, Paris, 1997.
- Caron André. H et Letizia Caronia, « Parler de télévision, parler de soi : La mise en discours des pratiques médiatiques au foyer», Ed. Guglielmelli, Paris 2000.
- Dayan Daniel, « Les mystères de la réception», Ed. Le Débat 71, Paris, 1992.
- Dayan Daniel, « Télévision le presque- Public», Ed. Hermès Sciences Publication, Paris , 2000.
- Debray Régis, « Cours de médiologie générale», Ed. Gallimard, Paris, 1987.
- Debray Régis, « Introduction à la médiologie», Ed. PUF, Paris , 2000.
- Esquenazi Jean Pierre, « Télévision et démocratie», Ed. PUF, Paris, 1999
- Esquenazi Jean Pierre, « L’écriture de l’actualité pour une sociologie du discours médiatique», Ed. PUF, Paris, 2001
- Fandy Mamoun, « Civil War of Word : Media and Politics in the arab World», Ed. Praeger, 2007
- Franck Mermier, « Mondialisation et nouveaux medias dans l’espace arabe », Ed. Maisonneuve et Larose, Paris, 2003.
- Gras Alain, Bernward Joerges et Victor Scardigli, « Sociologie des techniques de la vie quotidienne », Ed. L’Harmattan, Paris, 1992.
- Goffman Erving, « Les Rites d’interaction», Ed de Minuit, Paris, 1974
- Goffman Erving, « Les cadres de l’expérience», Ed. de Minuit, Paris, 1991.
- Gonzalez- Quijano. Yves et Guaaybess Touraya, « Les Arabes parlent aux Arabes ; les Nouveaux médias dans le monde arabe », Ed. Actes Sud, Paris, 2010.
- Gonzalez- Quijano Yves et Guaaybess Touraya, « La réforme des télévisions arabes, ou en est- on ? Réflexions à partir du cas marocain», Ed. Horizons Maghrébins, Toulouse, 2010.
- Jost François, «Introduction à l’analyse de la télévision», Ed. Ellipses, Paris, 1999.
- Jean Philippe Bras et Larbi Chouikha, « Introduction du : « Médias et technologies de communication au Maghreb et en Méditerranée», Ed. IRMC, Tunis. 2002
- Karl Popper et J. Condry, « La télévision en danger», Ed. Anatolia,Paris, 1992.
- Kraidy Marwan, « Reality Television and Arabic Politic», Ed. Cambridge University Press, London, 2010.
- Latour Bruno, « Petites Leçons de sociologie des sciences», Ed. La Découverte, Paris, 1994.
- MacLuhan Marshall, « Pour comprendre les Médias», Ed. Seuil, Paris, 1968.
- Maryvonne Masselot- Girard, « Jeunes et médias : Ethique, socialisation et représentation», Ed. L’Harmattan, Paris, 2004
- Morley David, « Television, Audiences and Cultural Studies», Ed. Rutledge, London, 1992
- Neuveu Erick, « Sociologie du journalisme», Ed. La découverte, Paris, 2001.
- Pascal Boniface, « Les intellectuels Faussaires : Le triomphe médiatique des experts en mensonge», Ed ………, Paris, 2011.
- Patrick Champagne, « Faire l’opinion», Ed. Minuit, Paris, 1990
- Raymond Boudon, « Les méthodes en Sociologie», Ed, PUF, Paris, 2002
- Raymond Boudon, « L’idéologie, ou l’origine des idées reçues», Paris, Ed Seuil, Paris, 1992
- Raymond Boudon, « Le juste et le vrai : études sur l’objectivité des valeurs et de la connaissance», Paris, Ed. Fayard, Paris, 1995
- Récanati François, « La transparence et l’énonciation», Ed. Seuil, Paris, 1979.
- Tarde Gabriel, « L’opinion et la foule», Ed. PUF, Paris, 1989
- Vitalis André, « Média et nouvelles technologies, pour une socio- politique des usages », Ed. Apogée, Paris, 1994
- Wolton Dominique, Penser la communication, Ed Flammarien, Paris, 1997.
- Wolton Dominique, Il faut sauver la communication, Ed Ed Flammarien, Paris, 2005
———————————————————
[1] Denis McQuail, Communication, London et New york, Longman, 1978, p. 156.
[2] Francis Balle, Que sais-je, Les Médias, Ed PUF, Paris, 2004, P118.
[3] هاو (آلن)، النظرية النقدية: مدرسة فرانكفورت، ترجمة ثائر ديب،منشورات الثقافة السورية، دمشق 2005، ص 17.
[4] Le Nouveau Petit Robert de la langue française, Direction de Josette Rey- Debove et d’Alain Rey, Paris 1993, P382.
[5] الصادق الحمامي، الميديا الجديدة، الإبستيمولوجيا والإشكاليات والسياقات، سلسلة البحوث المنشورات الجامعية بمنوبة، تونس، 2010، ص 13.
[6] أنظر حسني إبراهيم عبد العظيم، النظرية السوسيولوجية وقضايا الإعلام والإتصال، الحوار المتمدن، العدد 3402، جوان 2011.
[7] On peut citer : A.R. Radcliffe- Brown, Structure et fonction dans la société primitive, Edition Minuit, Paris 1969.
Aussi : Bronislaw Malinowski, Une théorie scientifique de la culture et autres essais, Maspero, Paris, 1968.
[8] محمد عبد المجيد، نظريات الإعلام وإتجاهات التأثير، عالم الكتب، القاهرة، 2004، ص 272.
[9] Voir ; Régis Debray, Vie et Mort de l’image :Une histoire du regard en occident, Edition Gallimard, Paris, 1992.
[10] Lievrouw. A and Livingston.S, Handbook of new media: Social shaping and social consequences of ICTs, London: Sage. Ed, 2006, P 57.
[11] Castells Manuel, Materials for an exploratory theory of the Information Society, British journal of sociology, Vol.51:1, January/March, 5/24, 2000, P10.
[12] Castells Manuel, La société en réseaux, Edition Fayard, Paris, 2001, P341.
[14] Castells Manuel, The Rise of the Network Society. The Information Age, Vol I, Oxford: Blackwell, 1996, P22.
[15] الصادق الحمامي، المرجع السابق ، تونس، 2010، ص 264.
[16] القانون الجديد المنظم لقطاع الإتصال السمعي والبصري: المرسوم عدد 116 لسنة 2011 مؤرخ في 2نوفمبر 2011 يتعلق بحرية الإتصال السمعي والبصري وبإحداث هيئة عليا مستقلة للإتصال السمعي والبصري.
[18] بورديو (بيار)، التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول، ترجمة درويش الحلوجي، دار كنعان للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية، دمشق، ط1، 2004، ص 20.
[19] Voir : Lévy Pierre, L’intelligence collective, pour une anthropologie du cyberspace, Ed La découverte, Paris, 1997 .
[21] أنظر بيار بورديو، التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول، ترجمة درويش الحلوجي، دار كنعان للنشر والخدمات الإعلامية، دمشق 2004
[22] – بيار بورديو، التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول، ترجمة درويش الحلوجي، دار كنعان للنشر والخدمات الإعلامية، دمشق 2004، ص48
[23] Goffman (Erving), Les rites d’interaction, Edition de Minuit, Paris, 1974, P 21.
[24] جوهر الجموسي، المجتمع الإفتراضي، مطبعة نوفا برنت، تونس، أوت 2007
[25] Cleartag Statistics from Arab World, Facebook.http//www.facebook.com/topic.php?uid=68450559354 &topic=9240
[26] Armand et Michèle MATTELART, Histoire des théories de la communication, Ed La Découverte, Paris 2004.
[27] محمد حمدان، مدخل إلى قانون الإعلام والإتصال في تونس، معهد الصحافة وعلوم الإخبار بتونس، 1996
[28] سامي علي الخولاني، “المعلومات وأهميتها“، المركز الوطني للمعلومات، مصر مجلة المعلومات، العدد الثاني، مارس 2001، ص 1
[29] المنصف وناس، عناصر أساسية لبناء علم إجتماع الإتصال، محاولة فهم في ثنائية الإتصال والهيمنة، المجلة التونسية للإتصال، معهد الصحافة وعلوم الإخبار، عدد 47/48 جويلية 2006 – جوان 2007.