ترجمة نشرت في العدد الأول من مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية، ص 79 بقلم الدكتور رضوان ضاوي أستاذ اللغة الألمانية بمعهد جوته، المملكة المغربية، للاطلاع على كل العدد اضغط على لوجو المجلة:
مقدمة: **
بعد أن ترجمت فصل “نموذجية العلوم الإنسانية في حوار التخصصات” لعالم الأدب الألماني هانس روبيرت ياوس***، أقدّم هنا للقارئ الكريم ترجمة من نفس الكتاب”العلوم الإنسانية اليوم “لفصل” العلوم الإنسانية في نظام العلم” للفيلسوف الألماني يورغين ميتلشتغاسJürgen Mittelstraβ الذي ولد سنة 1936 بمدينة ديسلدورف بألمانيا. تخصَّص ميتلشتغاس في نظرية العلوم وفي الفلسفة وشغل منصب مدير”مركز الفلسفة ونظرية العلم” منذ سنة 1990 بجامعة كونستانس. ويعتبر هذا الفيلسوف من أهم ممثّلي مدرسة كونستانس التي ينتمي إليها أيضًا هانس روبيرت ياوس، ويعتبر ميتلشتغاس من أهّم الداعين إلى تحديد دور وازن للعلوم الإنسانية في العالم الحديث.
وقد احتفظت في هذه الترجمة بالعنوان الأصلي للنص كما وضعه المؤلف، كما احتفظت بالهوامش الأصلية التي وضعها أيضًا المؤلف دون تغيير. أما بالنسبة للهوامش التي وضعتها فقد أشرت إليها بعلامة نجمة * وكتبتها في نهاية الترجمة.
و يطرح ميتلشتغاس، الفيلسوف الألماني، في هذا الفصل الأول من هذا الكتاب “العلوم الإنسانية في نظام العلم”****، تساؤلاً عاماً عن نظام العلم الذي تستطيع فيه العلوم الإنسانية إيجاد مكانتها كتخصص، ليخلص الكاتب إلى أن مفهوم النظام أو مفهوم الوحدة، والذي تحيل عليه العلوم اليوم، يكون ذا معنى فقط كمفهوم تنظيمي، ففي شكله التنظيمي، يستطيع أن يبني توجهه نحو خصوصية الفروع والتخصصات العلمية بشكل نقدي بنَّاء. كما يخلص الفيلسوف وعالم الأدب الألماني ميتلشتغاس إلى قُبُوع العلوم الإنسانية في هامش النظام العلمي، بينما تُعتبر العلوم الطبيعية علوماً نموذجية، متبوعة بالعلوم الهندسية لأنها ترمز إلى تقدم العالم الحديث وإلى نتائج هذا التقدم.
العلوم الإنسانية في نظام العلم
يبدو أن العلوم الإنسانية تقع اليوم على هامش النظام العلمي في وعي العامّة التي تعتبِر العلوم الطبيعية علومًا نموذجية كلّما تعلّق الأمر بمسألة العلوم، وتليها في ذلك العلوم الهندسية، ويرجع هذا إلى كون الإعلام العام والعالم الحديث عموما يرتبطان بنجاحات العلوم الطبيعية واكتشافاتها، وتكفي الإشارة هنا إلى قطاع الطاقة، وقطاع التغذية وقطاع الطب؛ لكي يكون هذا الأمر واضحا.
غير أن المخاوف والانشغالات تزداد عندما يتعلّق الأمر بنتائج هذه الاكتشافات والنجاحات كالنفايات وتلوث الغلاف الجوي، ذلك أن العلوم الطبيعية والعلوم الهندسية ترمز إلى تقدم العالم الحديث وإلى النتائج التي ينتهي إليها هذا التقدم في نفس الوقت. وتتعلّق الحداثة – باعتبارها شعار عصرنا هذا الذي يشكّك في حداثته البعض –بما تنتجه العلوم الطبيعية والعلوم الهندسية، وبما تقدمه العلوم الاجتماعية أكثر من اهتمامها بما تنتجه العلوم الإنسانية، التي تتمتع حاليًّا، في الوعي الجمعي، باهتمام جوهري لكن باعتراف غير كاف في الوقت ذاته. وهكذا يُتَّفق أن توجد العلوم الإنسانية على خلفية كل حداثة مثيرة للغاية، وهو حكم ظالم ينبع من تجربة مضللة ومن كثير من الشك النسقي العلمي، ومن الشك التاريخي العلمي، وهو ما سنوضحه ونفسره ونصوغه على شكل أطروحة، على النحو التالي:
1.إن المفاهيم التي تشكّل في مجموعها النظام العلمي أو نظام وحدة علمية ما – والتي تجد فيها العلوم الإنسانية مجالها البيداغوجي أيضا- هي مجرّد مفاهيم تنظيمية فحسب؛ ففي مقابل التجزيء والانفصال الفعلي للتخصصات والفروع العلمية، فإن هذه المفاهيم تشكّل وسيلة لبناء النسق بطريقة منظمة وصحيحة .
2.إن الحديث عن ثقافتين منفصلتين لكل من العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية يقود إلى أسطورة تنبع من العجز عن فهم مختلف التطورات العلمية كتعبير عن ثقافة علمية واحدة.
3. تنشأ العلوم الإنسانية من ارث مثالي مُتواصل، و بغضّ النظر عن الظروف يعبّر هذا الإرث عن مروره عبر التاريخانية في فهمها النظري للذات وفي تاريخ نظريتها.
4 تثبث نظرية التعويضKompensationstheorie التي تشكل إثقالا للعلوم الإنسانية)العلوم الإنسانية كعلوم تواصلية( أسطورة الثقافتين، وتقود بالتالي إلى تهميش العلوم الإنسانية، والتأكيد على شكل علوم موجهة Orientierungswissenschaftenافتراضية.
5 تعتمد العلوم الإنسانية على الثقافة كجوهر لكل الأعمال البشرية ولكل أشكال الحياة البشرية )إضافة إلى العلوم الطبيعية(، وهذا يعني أن العلوم الإنسانية تعتمد على فهم وتفسير الشكل الثقافي للعالم، إضافة إلى الشكل التنويري والشكل التحرري.
1.هل يوجد نظام للعلم؟
على ضوء إحصاء أكثر من 4000 تخصص علمي أمكن ضبطها ضمن كشَّاف رابطة المدارس العليا*****، ظهر أنّه من الصعب الحديث عن نظام علمي أو ترتيب بيداغوجي لتخصصات لمثل هذا النظام. والواقع أنّه لا يوجد نظام للعلم إلّا في خيال الفلاسفة ومنظّري العلم، وليس في حقيقة الفروع والتخصصات ذاتها والتي تفتقد إلى ترتيب محدد نسقياً وعلمياً يقبله العالم بشكل عام. وقد أدَّى ذلك إلى ظهور الدعوة إلى تعدُّدية الاختصاصات Interdisziplinarität من جديد، والتي يتوجب عليها تثمين التفكير في مسألتي التخصُّص والاحترافية المميزة) وهو تفكير ما يزال غير مؤكد(.
وإذا كان من الضروري وجود نظام علمي، فإنّ هذا المطلب سيقودنا إلى البحث عنه بين الفروع والتخصصات العلمية مجتمعة لا متفرقة.
ويكتسب مفهوم النظام اليوم تاريخاً فلسفياً و علمياً وبذلك فهو لم يفقد أهميته بعد؛ وكما أنّ التاريخ الفلسفي يقود إلى الفلسفة المثالية، فإنّ التاريخ العلمي يقود إلى علم الفلك[1]. وبحسب القول المأثور والمعروف لهيكل[1]Hegel، فانه لا يمكننا إطلاق صفة الحقيقي إلا على ما يكون في الأصل نظاما فحسب، ففي علم الفلك مثلا وتحت وصف” نظام عالمي” Systema mundi” تعني كلمة “نظام” قسمًا من عالم فيزيائي على نحو محدَّد ومنظَّم)وفي الغالب افتراضي(حاليا هو الكون. وهو الأمر الذي لا ينطبق على الفلسفة -التي تضم هنا ما يسمى لاحقًا بالعلوم الإنسانية أيضا- فهي ” نظام لازال في سيرورة التطور”[1].
ولازال هذا المعنى يبدي مقاومة حتى اليوم في لغة العلوم وفي صفة “النظام الليني”)نظام النباتات المنظم حسب مواصفات الأعضاء التناسلية( أو في خطاب الأنظمة الفيزيائية )الأنظمة الحرارية( والأنظمة الاجتماعية التي تظهر في سياق منظم. كذلك فان مفهوم نظام للعلوم هو من هذا النوع، فالفكرة هنا تدور حول العلوم نفسها، أي في الحقيقة، حول وجهات نظر تخُصُّ هذا النوع، موضوعاته، نظرياته، منهجياته، وبناؤه، و ليس حول الكيانات الغير فيزيائية، أو الغير اجتماعية. ومثل هذا السياق ليس معروفًا اليوم بشكل كبير بالرغم من أنه سياق مدهش كما يصفه مفهوم النظام الفلكي الأصلي، ولم يعد موجودًا بين العلوم وبالتالي فقدَ مكانه “الطبيعي”، و هو ما أثّر في سمعة العلوم نفسها.
وقد أفصح النظام الهندسي العلمي عن نفسه في الماضي في التصنيف العلمي أكثر من أي نظام آخر )بالمعنى الضيق(. فقد حدَّد في حينها شريعة التكوينBildungskanon “للفنون السبعة”القديمة التي رافقت التكوين الأوروبي وتطور العلوم الأوروبية حتى العصر الحديث. وقد فازت هذه التصنيفات بتحوّلها إلى كتاب مدرسي في الأدب الموسوعي.[1] و في هذا الإطار، حدثت توسيعات في الفنون الحرة بشكل جامع عند ايزيدورفون سيفيلاIsidor von Sevilla، بينما مثلا، وتحت التأثير الأرسطي، بلغ هيكوفون فيكتورHugo von Viktor التقليد الموسوعي في”Didascalicon de studio legendi******عبر كاسيودور Cassiodorوبوتيوس Boethiusوبورفيريوس Porphyrios، كما ميز بين الفلسفة النظرية، والفلسفة التطبيقية، والفلسفة الشعرية أو)”الميكانيكية” (:وتضم أقسام الفلسفة النظرية علم اللاهوت، والفيزياء، والرياضيات، أما أقسام الفلسفة التطبيقية فتضمّ علم الأخلاق، والسياسة، وتضم أقسام الفلسفة الشعرية عند مارتيانوس كابيلا الفنون الميكانيكية،)”زواج الفيلولوجيا وماركير”- الفنون السبعة الحرة هي هدية عروس ماركير (، ويضم المنطق في هذا التصنيف أساسا تخصصات الترفيوم )النحو، والبلاغة، والجدل(*******.
وقد تحدث لفينزنز فون بوفيVinzenz von Beauvaiفي “مرآة كبيرة”Speculum maius”، وهي أكبر موسوعة شاملة وجامعة للعصر الوسيط عن أكثر من عشرين تخصصا، من حوالي ألفي مصدر.
وحتى الموسوعة الفرنسية الكبيرة التي ألفها ديدرو دالمبارت[1] تنتهج وجهات نظر تصنيفية، وتُلحَق كل التخصصات المعاصرة بالملكات الثلاثة: الذاكرة”Gedächtnis” والعقل “Vernunft” والخيال “Einbildungskraft”، كما جاء في كتاب لامبارت “Discours préliminaire”[1] تحت عنوان”العقل”، فقد قُدمت وحدة العلم هنا على وحدة الفلسفة من حيث التصنيف.
وتضم”العلوم الإنسانية”*****(science de l’homme) تخصصات المنطق، وعلم الأخلاق، وعلم النفس )الفلسفي(، وفي مقابل التصنيفات الكلاسيكية، تم الاعتراف في الوقت ذاته بالانشطار المتزايد للعلوم البحتة في إبدال العلوم الطبيعية. وتؤكّد الأقواس التصنيفية الموجودة بين الميتافيزيقيا وعلم الدين و”العلوم الإنسانية” و”العلوم الطبيعية” على وجود النظام القديم دون أن تتمكّن فعليّا من البرهنة عليه نسقياً. وأحيل نظام المعرفة في القرن18 على عناصر منفصلة و مجزّأة أكثر فأكثر، ويوافق ذلك أيضا المجهودات الحديثة من أجل تحصيل نظام للعلم، وهي مجهودات يُنظر إليها على أنها تتمة للمجهودات القديمة. ومن أمثلة ذلك: التصنيف الرباعي[1] الذي يميز بين العلوم التجريبية الشكلية، العلوم الطبيعية، العلوم الأنثربولوجية والعلوم الثقافية، والتصنيف الثلاثي[1] الذي يميز بين العلوم التأويلية التاريخية، وعلوم السلوك النسقية. ويميز التصنيف الأول، ذو التوجه التناقضي، بين المواضيع والحقول العلمية، والتصنيف الثاني هو تصنيف ذو توجه معرفي، ويميز العلوم حسب الاهتمامات المعرفية وما انبثق عنها من وجهات نظر تحليلية، وانطلاقًا من هذه المنظورات التصنيفية المختارة يتغير أيضاً “نظام” العلوم.
ومع ذلك فإنّه لا يمكن اعتبار التصنيفات بالمعنى الدقيق عرضاً للنظام العلمي، ولا حتى وسيلة مُثلى لحماية أو لإنتاج دائم لما يسمى وحدة العلم المرتبطة دائماً بمفهوم النظام، بل على العكس من ذلك فإنه يمكن للتصنيفات أن تسير جنباً إلى جنب مع الاعتراف المهم للتنوع الرئيسي للمجالات العلمية المصنَّفة كما في حالة التصنيفات الثلاثية عند هابرماس. فحتى في الموسوعة الفرنسية، عبرت فكرة الوحدة العلمية عن نفسها، ليس فقط في تصور لنظام علمي )تصنيفي(، بل أيضا في إطار تصور لسياق )نسقي(للمعرفة الإنسانية. يقول دالامبيرتD’Alambert في مقدمته:”لابد من أن تعرض الموسوعة ترتيب المعارف الإنسانية و تسلسلها”[1]********. فالتصنيف يجب أن يجعلنا ندرك وجهة النظر الوحدوية والنسقية بشكل أكبر، بدل رصّها إلى جانب بعضها البعض بشكل متباين بكل بساطة وبتعبير آخر فإن أي تصنيف لكي يصبح تعبيرًا عن نظام علمي أو عن وحدة علمية ما، يتوجب عليه أن يقدم نظاماً. وفي هذا المعنى يقول “كانت” على سبيل المثال: “تحت قيادة العقل، يتوجب على معارفنا أن لا تكون موسيقىRhapsodie فقط، بل عليها صنع نظام، حيث تستطيع مساندة وتشجيع أهداف هذا النظام الجوهرية، ولكنني أفهم من مفهوم “نظام وحدة” المعارف المتنوعة تحت فكرة ما”[1].
إن ما يُعرّف بشكل كاف العلوم لذاتها في مقابل علوم أخرى،هو فهم الذوات العلمية الموجَّهة والمحقّقة في العمل العلمي)بجانب التصنيفات الموجَّهة معرفياً( و ليست المواضيع والنظريات والمناهج. انه)حسب كانط(، ذلك الاهتمام العقلي، والذي أوجد شكله المنهجي في العلوم. وبذلك يختلف مفهوم النظام في كتاب كانط، اعتماداً على الحديث عن النظام العلمي. فبدل مفهوم هيكل والمفهوم الفلكي، يظهر مفهوم تنظيمي. وقد توجد مجموعة من الأسباب البسيطة الأخرى، التي تجعل هذا المفهوم مناسبا أكثر و بشكل جوهري، لكي تصبح التطورات التاريخية العلمية و الأوضاع النسقية العلمية عادلة. أحد هذه العوامل هو أن التخصصات العلمية لا تتبع بسهولة نظاماً للطبيعة، وهي بهذا المعنى ليست طبيعية، فقد نشأت أكثر عبر ومن خلال تاريخ العلم، وارتبطت أيضا في المستقبل بالتطورات العلمية، وحدودها وفقًا لهذا ليست حدودًا نظرية، بل هي حدود تاريخية، وهي تتعلق بمسار العلوم، وليس بحالة معينة للعالم، والتي يمكن أن يتبعها تنظيم العلوم، أي نظامها.
ويعني ذلك أنه لا يمكننا الإجابة عن السؤال عن مكانة العلوم الإنسانية في نظام العلم، وأن الإجابة هنا لا تتم بالإشارة إلى حالة معينة للعالم وعلى نظام جاهز للعلوم يوافق هذه الحالة. إضافة إلى أن اهتمامات العقل أو اهتمامات المعرفة تحدد دينامية تطور العلوم إلى جانب ما يسمى “حالة العلم” وزوايا مشاكله في الوقت نفسه.
وسيكون غاية في السوء أن نتمنى أن تصبح الأمور على غير هذا الحال، بحيث يمتلك العالم أي العالم الفيزيائي والاجتماعي والروحي، “بناءًا ثابتًا” يعترف دون إبطاء بالبحث العلمي وتصبح العلوم بذلك مجرّد رسم لهذا البناء، وتقع العلوم على نحو ما “في نهاية العالم”، ولا يصبح للعلوم أي مستقبل بعد ذلك، فكل ما يمكن معرفته يصبح معلوماً، وكل ما يمكن اكتشافه يصبح مكتشفاً وهو أمر يصعب تصوره.
إن العلم هو جزء تكميلي من مجهوداتنا التوجيهية والتي بنهايتها نتمنى أن نحصل على ثقافة عقلانية في آخر الأمر. وفي اصطلاح هيجل، لا يتعلق الأمر باللامحدودية “السيئة”، بل بلامحدودية العقل”الحقيقية”[1]. تحت اهتمام العقل والمعرفة”اللانهائي”، سقطت ليس فقط وجهة النظر لفهم الذات الواقعية للعلوم، بل أيضاً وجهات النظر عن تطورها العقلي- في إطار الإجابة عن السؤال عن كيفية فهم العلوم لنفسها-.
وتتسامى الوحدة النسقية المتوخاة لتخصصات العلوم الإنسانية فيما بينها وفي مقابل العلوم الأخرى على التعريف التقليدي للعلوم الإنسانية كتخصصات لها علاقة أساسًا بمواضيع و تطورات لغوية وتاريخية وفنية، كما في حالة العلوم الاجتماعية على مجموعة من الظواهر الاجتماعية والتي تمتلكها كمواضيع للبحث العلمي.
وتبقى مثل هذه التأكيدات سطحية تماما مثل قولنا إن العلوم الطبيعية هي تخصصات تبحث في الطبيعة، فهو قول قد يكون سطحيا،-كما لو أن لنا علاقة على سبيل المثال مع الطبيعة في حالة جبهة الهواء البارد، التي تبحث الظواهر الجوية وفي حالة مدار النيوتون، الذي يبحث في فيزياء المعلومات الأساسية-. فهذه الطريقة الاعتيادية في حديثنا عن العلوم تعكس نظاماً لا يوجد في الحقيقة.
وتتموقع العلوم الإنسانية بشكل موهوم على حافة الحديث عن نظام للعلوم، أو عن وحدة العلم، التي تنتمي إليها أيضاً العلوم الإنسانية بشكل ما، وهو أمر يجلب معه من المشاكل أكثر مما يجلب معه من الوضوح.
ويبقى مفهوم النظام، أو مفهوم الوحدة باعتباره مفهومًا تنظيميًا يمكن تطبيقه على العلوم مفهوماً ذا معنى، لطابعه النقدي والبنّاء فحسب على هذا النحو في مقابل الفوضى الحقيقية في التخصصات، ومقابل أورام مثل هذا الاضطراب الذي يعبّر عنه التفتيت والتحلل المتزايد للفروع والانشطار الحاصل في التخصصات العلمية.
2. الثقافتان:
يتجلى التهميش المزعوم اليوم للعلوم الإنسانية، وقبل كل شئ في الحديث عن ثقافتين، فمن خلالها نبَّه شارل بيرسي سناو Charles Percy Snow، الفيزيائي، الروائي والموظف السامي البريطاني سنة 1959، إلى الثنائية العلمية الحقيقية للعلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية. فحسب سناو Snow، فان علاقة الثقافتين -ثقافة العلوم الطبيعية وثقافة العلوم الإنسانية – فيما بينهما تتّسم بالتجاهل المتبادل وبالفقر المتبادل. وفي هذا الإطار يزداد مستقبل العلوم الإنسانية سوءاً مقارنةً مع العلوم الطبيعية.
وبحسبه دائما فإنّ: “مستقبل العلوم الطبيعية يوجد في الدم”[1]، بينما يتشكل مستقبل العلوم الإنسانية فقط وبشكل عام من ماضيها، والعلوم الطبيعية هي علم، وزن وقياس، بينما العلوم الإنسانية “أدب”، تكوين وتذكُّر، و قد يكون لدى سناو بعض الحقيقة عن تطور العلوم الحديثة من خلال ذكره لهذه الفروقات السهلة ومن جانب واحد، ومن “جهة العداء للمثقفين” في تحليله للثقافة الأدبية، وبأن العلوم الإنسانية تتصرّف في حقيقة الأمر وفق عادات تفكيرها، “كما لو كانت ثقافة التبليغ هي “الثقافة كلها”، وكما لو لم يوجد أبدا عرش الطبيعة، كما لو أن البحث في نظامه غير مهم لذاته ولا لنتائجه، كما لو أن البناء العلمي للعالم الفزيائي في عمقه الروحي و تعقيداته وتصاميمه، ليست هي الخدمات المجتمعية الأجمل والأروع للروح البشرية”[1]. وبحسب مثال سنو المثير، وهو يقرأ شكسبير، فان الثقافة بشكل عام ليست هي معرفة الأساس الثاني لعلم الديناميكا الحرارية[1]. إن الحدود بين العلوم هي حدود ثقافية، فمن ناحية يقف المتخصصون في العلوم الإنسانية على طرف، وعلى الطرف الآخر يوجد المتخصصون في العلوم الطبيعية، وكلاهما ليس لديه ما يقوله. واختيار هذا المثال هو بالتأكيد اختيار جيد، على الأقل، لأنه يجلب معه سوء الفهم وأحكامًا ترتبط بمفهوم” العلوم الإنسانية”.
من الواضح انه في العالم الحديث، وهو بالمناسبة عالم يعتمد على العلم، فان العقلانيات، -وهنا عقلانيات العلوم الطبيعية وعقلانيات العلوم الإنسانية-، تتباعد عن بعضها البعض، وقد أصبحت حدود المهن، حدود النظريات، وحدود التجارب، وحدود الإدراك، حدودًا للعالم، ويبدو أن وحدته توجد تحت التصرف مثل وحدة أو نظام العلم. ويبدو أن سناو معه حق حين أصدر البيان التالي: “مجتمعنا (…)لا يزعم مرة أخرى أنه يمتلك ثقافة مشتركة”[1].
إن نتيجة حالة الهدوء الانهزامية هذه هي الحصول على الثقافة الجزئية التي تكون أجزاؤها العوالم الذاتية للعالم “الموضوعي”، عالم المتخصصين في العلوم الطبيعية، والعالم الأدبي للإنسيين[1]، وفي الوقت ذاته تعبّر هذه الثقافة الجزئية عن عدم القدرة أو عجز الإنسان الحديث عن العيش في عالم مشترك. وقد عبر سناو عنها بمثاله:”حين اعتبر أن الأمر لا يتعلق فقط بقراءة المتخصصين في العلوم الطبيعية لشكسبير ومعرفة المتخصصين في العلوم الإنسانية بقانون علم الديناميكا الحرارية، بل يتعلق الأمر بتحرك الطبيعيين في عالم شكسبير والإنسيين في عالم الفيزياء. ويتعلق الأمر أكثر أيضًا، بأن يتعلم الطبيعيون والإنسيّون كيفية فهم العالَمين كتعبير عن ثقافة ما”.
وفي أي مكان لم يُوَفَّق هذا الأمر فيه، أولم تتم المحاولة فيه بجدية، ينشأ خطر تشكيل أسطورة من القصور السيئ، أي عجز كلتا الثقافتين)بمعنى منظورين (، عن تبليغ نفس الثقافة.
والمقصود بهذا هو أسطورة الثقافتين التي يحققها الوعي العلمي وحده من أجل أن يفقد التبليغ فعَّاليته، وهذا يعني أيضا: من أجل إخفاء عجزه الذاتي تجاه هذا التبليغ. وقد أثبتت الكثير من النقاشات المعاصرة عن “الثقافتين” عجزًا مشابهًا، و هو عجز يشترك فيه بشكل جيد وعلى حد السواء كل من الطبيعيين والإنسيين. وليس الإنسيون وحدهم الذين يجدون صعوبات في استيعاب العلوم الطبيعية كتعبير عن ثقافة مشتركة، بل حتى الطبيعيون أنفسهم يخطئون، حين يحاولون تقديم ثقافة العلوم الإنسانية على أنها فقط استعراض ذهني تكويني وبحثي للثقافات القديمة.
وتفعل العلوم الإنسانية القليل من أجل تنوير هذا الخطأ اليوم، بينما تقتنع العلوم الطبيعية أكثر بقصور الإنسيين عن استيعاب موضوعها، من أجل جعل العلوم الإنسانية أكثر فهماً. وهكذا تثَبّت الأساطير الادراكات القائمة، حتى في حالة العلاقات أو بشكل أفضل اللاّعلاقات القائمة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية.
الهوامش العامة:
*النص الأصلي:
Die Geisteswissenschaften im System der Wissenschaft-The humanities in the system of science Mittelstraβ, Jürgen, 1991 Geisteswissenschaften heute :eine Denkschrift, Wolfgang Frühwald ; Hans Robert Jauβ ;Reinhart Koselleck ;Jürgen Mittelstraβ ;Burkhart Steinwachs(herausgeber) Berlin :Suhrkamp 1991, S.15-26العلوم الانسانية في نظام العلم، ميتيلشتغاسه، ييرغن، 1991
العلوم الانسانية اليوم: مذكرة، فولفجانج فريهفالد، هانس روبيرت ياوس، راينهارت كوزيليك، ييرغن ميتلشتغاسه، بوركاهارت شتاينفاكس،
برلين:زوركامب 1991، ص. 15-26
**المقدمة للمترجم.
*** رضوان ضاوي،) ترجمة عن الألمانية( ، نموذجية العلوم الإنسانية في حوار التخصصات، مجلة البحوث والدراسات الأدبية مبدأ، ع 1، ربيع 2012، ص.123-143. دار أمل للنشر والتوزيع، تونس.
وأيضًا رضوان ضاوي، )ترجمة عن الألمانية(، تجديد وظائف العلوم الإنسانية، مجلة البحوث والدراسات الأدبية مبدأ، ع 2، صيف 2012، ص.119-139. دار أمل للنشر و التوزيع، تونس
**** قدّمت قراءة لهذا الكتاب في مجلة رباط الكتب:
رضوان ضاوي، ثقافة العلوم الإنسانية، مجلة رباط الكتب، عدد 13، ربيع 2013
الرابط الالكتروني للمجلة: http://www.ribatalkoutoub.com
*****رابطة المدارس العليا الألمانيةder deutsche Hochschulverband(DHV): الممثل المهني للأساتذة الجامعيين بألمانيا، تأسست في 4 مارس 1850 بهانوفر. ينتمي الى هذه الرابطة أكثر من 28.000 عضو من مختلف التخصصات وهي بهذا تعدّ أكبر تجمُّع للعلماء في أوربا. من أهداف هذه الرابطة الدفاع عن حرية البحث العلمي والتدريس، تمثيل اهتمامات العلماء أمام الدولة والمجتمع والجامعة ووسائل الإعلام، وتدعم الباحثين الشباب وتنظم الندوات العلمية . وتصدر الرابطة مجلة شهرية وهي مجلة “البحث والتدريس”.
****** يمكن ترجمة عنوان الكتاب باللغة الألمانية على هذا النحو:”Anleitung zum Studium des lesens und des Auslegens”، و باللغة العربية: “مدخل الى دراسة القراءة و التفسير”، ويشكل الكتاب مقدمة أو مدخلاً إلى دراسة علم الدين، وفي الفصول1-3 يعالج الكتاب مسألة الفنون السبعة الحرة، و في الفصول6-4 يتطرق الكتاب إلى القراءة و الكتاب المقدس.
******* : Trivium تشير الكلمة اللاتينية تريفيوم إلى مكونات المسار التعليمي بجامعات العصر الوسيط، وهي النحو(مع الأدب)، البلاغة (مع المنطق) والجدل (مع الحقوق والأخلاقيات)، وهي التخصصات الثلاثة من بين الفنون السبعة الحرة. والتريفيوم يطلق اليوم على مجلة ألمانية فرنسية الكترونية تهتم بمواضيع العلوم الإنسانية وعلوم الاجتماع.
******** الاقتباس في النص الأصلي باللغة الفرنسية وهو:
“Die Enzyklopädie doit exposer (…) l’ordre et l’enchaïnement des connaissances humaines “.