مقال نشر بالعدد الأول من مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية، ص 73 بقلم الأستاذ عيسى ماروك، قسم الماستر أدب عربي حديث/ جامعة المسيلة الجزائر، للاطلاع على كل العدد اضغط على لوجو المجلة:
ملخَّص للدراسة:
يعدّ العنوان أول ما يشدّ المتلقي للغوص في الكتاب ، وبالتالي فعتبة العنوان مهمة في نسج تلك العلاقة الناشئة بين المؤلف والمتلقي ، ولقد كانت أعمال جيرار جينات -خاصة كتاب “عتبات ـ seuils “- الممهد الأول لظهور علم العنوان الذي يضطلع بدراسة العنوان ، و إلى هذا التوجه ذهب ليوهوك ، فكانت أعمالهما البدايات التأسيسية لعلم ترسمت ملامحه في الأفق هو : علم العنوان (la titrologie) .
وعلى صعيد العالم العربي لقيت سيمائية العنوان اهتماما كبيرا من الدارسين منهم : الدكتور بسام قطوس (سيمياء العنوان)، و الدكتور محمد الهادي المطوي : “شعرية عنوان كتاب الساق على الساق فيما هو الفرياق”.
فالعنوان -كنص صغير-هو أول لقاء يحصل بين القارئ والكاتب ، وكثيرا ما يجلب الشهرة أو الكساد للمؤلَّف (بفتح اللام) ، فمنهم من يشذّ و يختار عنوانه بعد أن يتم تصوره لعمله و قبل إنجازه، و منهم من ينجز عمله وتطول به متاهات اختيار العنوان ، لما يتطلبه ذلك من مهارة و ذكاء , وهذا ما يكون سببا لهيمنة الغرابة والدهشة تارة ، و طغيان اللغة المسجوعة تارة أخرى، و هناك من يصبغ عناوينه وفق تأثره بالبعد التاريخي أو الجانب الوعظي و الإرشادي، أو توظيف الأسطورة الضاربة في عمق التاريخ، فكلما كان في العنوان إبداع وتجديد كلما كان له الحظ الأوفر في المقروئية ، و على العكس من ذلك.
إنّ العنوان هو المحدد لهوية النّص ، يختزل معانيه ودلالته المختلفة ، ومرجعياته وإيديولوجيته ، ويبرز قدرة المؤلف على حسن الصياغة والاختيار ، وعلى هذا الأساس تعتبر دراسة العنوان معلما بارزا من معالم المنهج السيميائي، ذلك أنّ السيميائية لا تبحث عن الدلالة فحسب بل أيضا عن طرق تشكيلها،وتأتي هذه الدراسة لتكشف سمات العنونة عند القاص الجزائري محمد عبد اللهموم.
ج – الكلمات المفتاحية: سيمياء – سيميائية – دلالة – دلائلية – العنوان – السرد – القصة – البنية – النص
دلائلية العنوان في ” كاترين والرصاص” للقاص الجزائري محمد عبد اللهوم:
تنبثق أهمية العنوان بشكل خاص من كونه مكونا نصيا لا يقل أهمية عن المكونات النصية الأخرى، فالعنوان يشكل سلطة النص وواجهته الإعلامية، وهذه السلطة تمارس على المتلقي إكراها أدبيا ، كما أنه – أي العنوان – الجزء الدال من النص ، و هذا ما يؤهــله للكشف عن طبيعة النص والمساهمة في فك غموضه، وتعيين مجموعه إظهار معناه، فالعنوان مرآة النسيج النصي، و الدافع للقراءة، و الشرك الذي ينصبه الكاتب لاقتناص المتلقي، و من ثمة فإن الأهمية التي يحظى بها العنوان نابعة من اعتباره مفتاحا في التعامل مع النص في بعديه الدلالي و الرمزي، بحيث لا يمكن لأي قارئ أن يلج عوالم النص و يفكك بنياته التركيبية والدلاليـة ويستكشف مدلولاته و مقاصده التداولية، دون امتلاك المفتاح الأول وهوالعنوان([1])
العنوان إذن هو الذي يضيء فضاء النص، و يساعد على استكشاف أغواره، ليكون بكل ذلك ضرورة كتابية تساعد على اقتحام عوالمه؛ لأن المتلقي يدخل إلى” العمل ” من بوابة ” العنوان ” متأولا لــه، و موظفا خلفيته المعرفية في استنطاق دواله الفقيرة عددا، وقواعد تركيبه و سياقه، و كثيرا ما كانت دلالية العمل وفهمه هي ناتج تأويل عنوانه، أو يمكن اعتبارها كذلك دون إطلاق، كما يأخذ العنوان أهميته من كونه علامة كاملة تحمل دالا و مدلولا.([1])
وتأتي هذه الدراسة محاولة للإجابة عن التساؤلات التالية:
* هل تمكنت العناوين في المجموعة القصصية الموسومة بـــــ” كاترين والرصاص ” من تولي عبء الحمولة الدلالية ؟
* وعلى أيّ أساس تم اختيار العنوان ؟ أبفعل البنية أم لإشراك المتلقي في العملية الحكائية؟
* إلى أي مدى خدمت هذه العناوين القضايا المعالجة ، وما مدى تعالقها بالقصص ؟
يمثل العنوان أعلى اقتصاد لغوي ممكن، و هذه الصفة على قدر كبير من الأهمية، إذ أنها – في المقابل – ستفرض أعلى فعالية تلق ممكن، مما يجعل المتلقي فعالا بشكل كبير في عملية تلقيه للعنوان، وهي فعالية تتضح من خلال البحث عن دلالات العنوان من خارج العمل، وعن تفاصيل كامنة داخله، و حين يلج المتلقي العمل تتحدد تلك الدلالات التي استقاها من خارج العمل. وعلى الرغم من أن العنوان نص مختصر مقلص فإنه يلعب دورا هاما وحاسما في الأعمال الأدبية.
إذن هو جزء لا يتجزأ من عملية إبداع الكاتب، كما أنه يلعب دورا مركزيا في عملية إنتاج القارئ لمعنى العمل ودلالاته ،ومن هنا فهو يقوم بوظائف متعددة ومتنوعة، وتبرز أهمية العنوان في الأدب الحديث كونه لم يعد مجرد مرشد للعمل يمر عليه القارئ مرورا سريعا متوجها إلى النص، وإنما أصبح جزءً من المبنى الاستراتيجي للنص بقصد تأويله ، و تفكيكه من أجل إعادة تركيبه، عبر استكناه بنياته الدلالية و الرمزية.
أولا: بنى العنوان في ” كاترين والرصاص ” للقاص محمد عبد اللهوم .
- · البنية الحرفية:
العنوان جملة لها خصوصيتها، ولابد أن نقف عند كلماتها و لعل الحرف سيكون بداية البحث فيه، إذ هناك ميزة خاصة تتميز بها الجملة في المجموعة القصصية ” كاترين والرصاص” لأنها نابعة من نفس عميقة لا تفهم إلا بعد تذوقها، فالكاتب يختار ألفاظه ويضعها في سياق لتتحرك وتنبض بروحه، فتنتج بذلك عنوانا راقيا، واللفظة هي إشارة موسيقية قد أحسن انتقاءها ، تتسم بقوة التأثير لما لها من وقع في نفس القارئ، وبالتالي كان لها موقعها في النص وفي العنوان وفق السياق الذي أنتجها، فهذه الكلمة عبارة عن حروف، وللحروف مخارج صوتية و صفات متنوعة تتعاون على تشكيل الدلالات اللغوية و الإيحائية. والآن سنضع مقاربة لأصوات الحروف من الكلمات التي تشكل عناوين المجموعة القصصية: ” كاترين والرصاص، شيء ما مفقود، اليوم الأخير، الحوت، لن تشرق الشمس اليوم، فاتورة لم تكتمل، حكاية في السر، قراصنة الزمن، المتهم، طارق الليل، الطريق، لحظات الانتظار، كلمات في جوف الليل ، المدينة المحرمة”([1]) ، و اختيار الحرف في الكلمة له ميزة معينة، ذلك أنه يساهم في غرس انطباع معين في وعي القارئ .
الحرف |
عدد مرات تكراره |
الصــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــفات |
||||
الجهر |
الهمس |
الشدة |
الاعتدال |
الانفتاح |
||
اللام |
23 |
|
|
|
|
|
الميم |
13 |
|
|
|
|
|
التاء |
13 |
|
|
|
|
|
الراء |
11 |
|
|
|
|
|
الياء |
10 |
|
|
|
|
|
النون |
06 |
|
|
|
|
|
ما نستنتجه من الجدول أن الأصوات المجهورة هيمنت على الأصوات المهموسة، حيث أن أصوات الحروف تعبر عن مجاهرة الكاتب بآرائه لما تحمله نصوصه من دلالات، و لما تتميز به الحالة النفسية لشخصياته ،كما أنها تتسم بصفة الانفتاح ، وبالتالي فهي تعكس تطلعه للمستقبل، أما الصفة الأخرى فهي الاعتدال – بين الشدة والرخاوة – كأنما يريد الكاتب أن يبين لنا منهجه في الحياة .
يمكننا أن نلمس الفرق بين الأصوات المهموسة (غير المسموعة) و الأصوات المجهورة (المسموعة)، أي الصراع القائم بين من يجاهر برأيه وبين من يتخفى ولا يعلن عن رأيه . والفرق بين الأصوات المتصفة بالاعتدال وغيرها ، هو الصراع بين متشدّد في رأيه وبين مفرط ، فشعار الكاتب لا إفراط ولا تفريط . أما الفرق بين صفتي الانفتاح والإطباق في الأصوات فيكشف عن نظرته للحياة المتسمة بالانفتاح على الآخر ووقوفه ضد الانغلاق على الذات .
2) البنية الدلالية :
لم تقف الكلمة في جمل العناوين عند حدود المعاني المعجمية بل تجاوزتها لقدرتها على التفاعل ، وتوليد دلالات أخرى بتعدد السياقات التي وردت فيها ، ففتحت مجال التأويل واسعا أمام المتلقي وسمحت بتعدد القراءات . ونأخذ مثالا على ذلك كلمتي :”مفقود “و ” قراصنة ” من العنوانين ” شيء ما مفقود ” و” قراصنة الزمن ” ، ويمكن أن نلاحظ ما تعطيه كل كلمة من دلالات ومعان:
كلمة ” مفقود ” في ” شيء ما مفقود ” :
العدم لأنها تقترن بالنقصان
البحث عن الكمال والسعي إلى بلوغه
كلمة ” قراصنة ” في ” قراصنة الزمن ” :
تقترن بمعاني السلب و النهب
تبعث على الرعب والقتل والتعدي على الغير
القسوة التي تعكسها أخلاق القراصنة و ملامح وجوههم
كل عنوان يحاول أن يلم شتات النص المعبر عنه ، ويلخص ما ورد فيه من وقائع وأحداث ، وما تفاعل فيه من شخوص وأبطال في نطاق الزمان والمكان ،داخل فضاء معين أو فضاءات مختلفة؛ فإننا نكاد نجزم أن المؤلف أفلح في اختيار العناوين المعبرة و الدالة على ما أراد قوله . غير أن هذا لا يمنع أن كل قصة أو كل نص أدبي قابل لأن يحمل عنوانا مغايرا أو تسمية أخرى غير التي اختارها المؤلف. من هنا نؤكد أن ثمة عناوين مخادعة ومضللة للقارئ، لا تعبّر عن المتن الحكائي ولا تصور الدلالة الحقيقية التي ينطق بها النص، مثل: ” اليوم الأخير”، و” الطريق” و ” لحظات الانتظار ” حيث يصير العنوان مجرد تسمية من تسميات كثيرة ممكنة ، و من حقه أن يقترح للقصة عنوانا بديلا أو تسمية جديدة، قد يتوصل إليه من خلال قراءته .
يسود بعض العناوين الإحساس بالغربة عن الذات والمكان، يؤكد احتشاد الانكسار الفادح الذي كان يتخفى تحت إهاب الكلمات وتعكسه العناوين، فجاءت على وتيرة واحدة لتخلق مستويات متعددة المعاني ، تفيض بآلام الذات التي اختارت هذا المجال كوسيلة للتعبير عن الأسى والرعب الذي استجمع قواه لرؤية انهيار العديد من القيم ، في حين أن العنوان يشكل إستراتيجية خاصة لها خصوصيات ، ومكونات تدخل في إطار التجريب ففي قصة ” قراصنة الزمن ” يصور الكاتب واقع فلسطين والأمة العربية ، أما في “طارق الليل ” فيصور ما آل إليه المجتمع الجزائري من تفشي ظواهر كانت إلى زمن قريب غريبة عنه .
3 ) البنية التركيبية :
يرى “جيرار جينيت” أن بنية العنوان ودلالته لا تنفصل عن خصوصية العمل؛ فهو يتضمن العمل، مثلما أن العمل يتضمن العنوان([1]). أما “جان كوهين” في كتابه “قضايا الشعرية” فقد اعتبر العنوان جزءً من التشكيل اللغوي للنص([1]). وتأسيساً على ما تقدم تعد البنية التركيبية للعنوان هي أول ما يعالجه الناقد السيميائي، وبما أن المدونة التي تتعرض لها الدِّراسة (( مجموعة قصصيّة )) «لها خصائصها التركيبية الخاصة بها والتي تتفاعل داخلها وعلينا أن ننتبه لهذه الخصائص(…) لمحاولة فهمها على المستوى التركيبي» ([1]).
الرقم |
الأنماط التركيبية |
نماذج |
العدد |
1 |
مبتدأ + خبر |
شيء ما مفقود |
1 |
2 |
مبتدأ + خبر محذوف |
الطرق – المتهم – الحوت |
3 |
3 |
مبتدأ محذوف + خبر |
كاترين والرصاص – حكاية في السر |
3 |
4 |
مبتدأ + صفة |
المدينة المحرمة |
1 |
5 |
مبتدأ + مضاف إليه |
قراصنة الزمن – طارق الليل |
3 |
6 |
مبتدأ محذوف + خبر + صفة |
اليوم الأخير |
2 |
7 |
جملة فعلية |
لن تشرق الشمس اليوم |
1 |
من خلال ما سبق يتبين أن للجملة الاسمية النصيب الأوفر في جمل العناوين، فكلها جمل اسمية إلا عنوانا واحدا جاء جملة فعلية، وبذلك تصدرت مجموع الجمل النحوية ، فالجملة الاسمية “تدل على الثبوت والاستمرارية”، وبالنظر إلى بنيتها التركيبية النحوية واللغوية نجد تداخلاً في مستوياتها المختلفة، فمنها ما تؤلفه كلمة واحدة، مثل: “الحوت”، “الطريق”، ومنها ما تجاوز المفردة الدالة الواحدة إلى بنية المفردتين أو الدالين: “المدينة المحرمة” و”قراصنة الزمن”، ومنها ما تجاوز ذلك كله إلى بنية الجملة، كما في “شيء ما مفقود”. وجميع هذه العناوين لا تخرج عن كونها اسماً أو مركباً وصفياً أو مركباً إضافياً.
غير أن ما يلفت الانتباه في البنية النحوية لعناوين المجموعة القصصية هو اشتغالها على آلية الحذف النحوي، وبالذات حذف الخبر؛ هذا الحذف يترك ثغرة في العنوان تصدم المتلقي وتخلق لديه تساؤلات، مما يحثه على ردم الثغرة أو الفجوة التي سببها الحذف. و «النقص الدلالي الذي يجتاح العناوين بحذف الخبر من شأنه أن يحقق الوظيفة الإستراتيجية للعنوان، باستقطاب اهتمام المتلقي وإثارته؛ ولذلك يعد الحذف خاصية مكونة للعنوان»([1]). كما أن الحذف يؤدي وظيفة الإغواء والإغراء التي تجذب المتلقي «نحو اقتناء الكتاب وقراءته، وهذا لا يتحقق إلا بتفخيخ خطاب العنوان بالإثارة، تركيباً ودلالة ومجازا»([1]).
ومن أبرز القصص التي اعتمد فيها على الحذف دلالةً ورمزيةً قصة “الطريق “، وهي مفردة تحتل موقع المبتدأ ولا خبر لها؛ هذا من الناحية النحوية، أما من الناحية البلاغية فإنها مفردة تمتاز بالفقر اللغوي والتكثيف الشديد الذي يوازي التكثيف في السرد وفي المنظور القصصي؛ فهذا العنوان استطاع أن يشكل معادلاً رمزياً مع النص، وهو على الرغم من أنه اسم دال على المكان إلا أنه يكشف عن المعنى الرمزي الذي يحيل إليه؛ فاستحضار مفردة “الطريق” عنواناً للنص يعبر عن وعي القاص بواقع الصراعات الاجتماعية والطبقية، وعن رؤيته الخاصة تجاه الآثار التي ولّدتها الحدود الفاصلة بين طبقتين متباينتين في كل شيء ، حتى في العلاقات السائدة بين أفرادها؛ فجاء السرد مشحوناً بشعور التمييز والتعسف والحقد من جهة ، والنظرة الدونية من جهة أخرى ؛ مما يكرس في ذهن السارد أن الطريق هو تلك المسافة الفاصلة بين الغني البخيل المتعجرف ، وبين الفقير السمح المتواضع ، الأمر الذي جعل العنوان يعمل على خرق أفق التوقع لدى المتلقي الذي استقبل كلمة العنوان كما وقر في الوعي الجمعي “مسلكا يوصل للغاية المنشودة” وهكذا تصبح مفردة “الطريق” بمثابة “النواة التي خاط المؤلف عليها نسيج النص”([1]).
وفي ” كلمات في جوف الليل ” أورد الكاتب العنوان على شكل جملة اسمية أيضا. أين تتوارى الحركة الفعلية لتعبر عن ذلك السكون والهدوء الذي حاولت لفظة الليل توضيحه، فـ “كلمات” جاءت في بداية الجملة للتعبير عن حالة البوح الذي يكلل بالغموض، أو بارتهانه للحظة الليل التي هي في مجملها تعبير واضح عن تنافي البوح واصطدامه بسر الكتمان، وقد جاءت لفظة “كلمات” نكرة فأي الكلمات هي؟ إنها كلمات هاربة من حدود التحديد، وكأنها تروم البحث عن هويتها في جوف الليل لتظل غائبة حتى يستحضرها النص أو المتن الحكائي.
” لن تشرق الشمس اليوم ” هو العنوان الوحيد الذي جاء جملة فعلية، والتي تدل على الحدوث والتغير والتجدد . فأداة النفي التي التجأ إليها الكاتب تعبر عن حالة القنوط واليأس التي يعيشها السارد وهو واقع ناتج عن سطوة الظلام والظلم لكننا نلمس شعاع الأمل المنبثق من بين حروف كلمة الشمس التي تختزن مدلولات الحرية والانعتاق، فيكون بذلك الظرف الواقع بعده ” اليوم ” يوما موعودا لأنه يرمز إلى حتمية انجلاء الظلم والتعسف، فالكاتب عارف بحاله ومدرك لما يحيط به في هذه الفترة الزمانية المحددة، إلا أنه يأمل في غد مشرق تنزاح عنه سحب العنف الذي كبل البلاد عشرية كاملة، إذ هو متيقن من « موعد جديد لشروق الشمس »[1]
سيميائية العنوان الرئيس “كاترين والرصاص”
بنية الدال:
إن هذا العنوان -بوصفه عنصرا بنيويا سيميائيا- يقوم بوظيفة الإشارة إلى الشخصية المحورية في النص، بصورة مكثفة، مختزلة، موحية بدلالات مقتضبة، ومشوشة، لا تتضح معالمها الكلية إلا بتتبع آثارها في النص اللاحق، تبرز الشخصية محور النص “كاترين “, وهو اسم أجنبي معناه العذراء الطاهرة العفيفة. والعنوان يحمل ضمنيا وصفا دقيقا وصورة عن الشخصية وتقريرا لحالتها، أي أنه يمثل وضعية افتتاحية صغرى تقدم حالة امرأة غربية جميلة ، تقتحم عالم رجل شرقي يعيش وطنه ذل الاستعمار .
إن هذا العنوان بهيئته هاته يمثل علامة إغراء هائلة ، ونقطة تحد أيضا من حيث أنه يفصح ولا يكشف، يفصح عن بعض الصفات ولا يكشف عن أسبابها وكيفياتها، إنه يجمل ولا يفصل ويطرح أمام المتلقي جملة من التساؤلات، لا يستطيع الإجابة عنها إلا من خلال العودة إلى النص الذي يفسر غموض العنوان ويقدم صورة واضحة لما أجمل فيه. يتشكّل هذا العنوان من ثلاثة دوال محورية هي:
كاترين + و + الرصاص.
إن هذه الدوالّ تعتمد على الغياب الصياغي، أي أن ثمة محذوفا في بدايتها، مما يجعلها مكثّفة تركيبيّا، تعتمد الاقتصاد والتركيز على ما يُهتَم به، فالمفترض أن تكون الجملة هنا: هذه حكاية كاترين والرصاص . هذه الدوال إذن تشكل جملة اسمية «يغيب عنها الفعل كبنية دالة على شرط الزمان وهو ما يجعل العنوان متجها صوب الاستمرارية والانسياب وبالتالي الإمساك بجوهر المدلول دون العرض الذي يشي به الفعل»([1])، وأول دال ظاهر من دوال العنوان، هاته الواو التي تتوسط الاسمين، والتي هي في عرف النحويين عاطفة أي أنها تربط بين شيئين يكون بينهما علاقة تعالق، أو يشتركان في حكم ما، أي أن وظيفة هذه الواو هي الوصل بين طرفين وهو ما يخدع القارئ إذا استقر على هذا الحكم، لأن البنية العميقة لهذه الجملة قد حققت انفصالا بالتضاد، وهذا الدال الذي يتوسط دالين آخرين، أحدهما هو اسم امرأة مما يجعل الدلالة لهذا المدلول تنفسح لتشمل عينات شتى من النساء وكأنه يقول هذه حكاية نساء شتى، فقد انتفى عنها التحديد إلى الإيحاء «فاتسعت الدلالة وأمكن تعددها»([1])؛ و أما الدال الثاني من العنوان هو الرصاص بما يحمله من رمزية الثورة والانعتاق والتحرر من جهة، ومن جهة ثانية يكتنفه معنى الدمار والخراب والقتل، ومن هنا ينبثق السؤال التالي: هل الرصاص المقصود هو رصاص الثورة الجزائرية المنتفضة في وجه الطغيان الفرنسي أم هو رصاص الاحتلال الموجه صوب الصدور العارية فيحصدها ؟
والمرأة بماهيتها الرامزة إلى النماء والخصب والاستمرار، والأنوثة تشي بالرقة والضعف، وإضافتها إلى الدال السابق لها (الرصاص) يخلق مفارقة دلالية صارخة من خلال انتهاك نواميس الإسناد التركيبي المعهود، كون الرصاص يرمز إلى القتل والفناء والخراب وهو ما يجعله ينفي عن المرأة سمة النماء والخصب والاستمرار والأنوثة .
بنية المدلول:
إن هذا العنوان كدال لا يظهر في النص بصورة جلية، إلا أنه كمدلول يمتد من بداية النص حتى آخر ملفوظاته، وينهض في زواياه بأشكال متعددة، ليغدو هو الموضوعة المهيمنة، المختزلة للنص. إن الموضوعة المكثفة، التي يختزلها العنوان، هي الصراع الخفي الذي يحتدم في نفس مسعود – البطل- بين وفائه لوطنه متمثلا في أمه ، وصراعه لأجل الحب الذي نما في صدره اتجاه كاترين، وهي الموضوعة التي تتخفى وراء العنوان، وتبرز جلية في النص عبر ملفوظات عديدة، مثل: « خفق قلبه خفقات لم يعهدها عند نهاية كل رسالة مؤلمة » وقوله :« اهتز قبله المفعم بالحب طربا»([1]). إن هذه الملفوظات وغيرها تركّز كما يركّز العنوان على الموضوعة التي تختزل الصراع النفسي عند مسعود، مما يجعل هذه الثيمة هي البؤرة المركزية للعنوان والمتن معا، وهو ما يتأتى بوضوح في المسار السردي للوضعيتين الافتتاحية والختامية كما سنرى.
وإذا كانت أهم صفات هذه المرأة الجميلة والغربية الطباع والثقافة ارتباطها بالثورة من خلال رمزية الرصاص الذي هو أداتها كما يبرزه العنوان، فالسؤال مشروع عن سبب هذا الارتباط .
والإجابة عن سؤال كهذا لا تتأتّى من خلال بنية العنوان فقط، بل لابد من البحث عنه في البنى العميقة للنص، من خلال ملفوظات محددة تتضافر فيما بينها لتكشف عن ذلك بصورة أو بأخرى، وهو ما سنعاينه من خلال الملفوظات التالية، وما يقابلها من صفات تتضافر فيما بينها :
” دمعت لها عينا كاترين …” = الرّقة الخادعة
” فتحت كاترين الباب ” = مغريات الاندماج
” ففي يوم الاحتفال بعيد الثورة الفرنسية ..بدأ الجنود يطلقون الرصاص عشوائيا “=الوجه الخفي للمحتل .
“هاله منظر القرية …وقنابل الحقد الاستعماري جعلت منها أطلالا ” = الواقع الصادم .
” تاه مسعود بين أسئلته لتبدأ …قصة بحث جديدة ” = الحيرة التي تقود إلى إدراك الحقيقة
إن هذا التناقض في مشاعر مسعود يكشف عن أسباب حيرته التي أضمرها العنوان، وبالتالي عن سبب تردده في البقاء قرب من يحب « سأكون مسرورة جدا أن تتشرف إلى بيتنا .. »([1]) وبين واجب الوقوف إلى جنب أمه المريضة التي أشرفت على الهلاك « وتدعوك أن تكون بيننا وفي أقرب وقت »([1]).
إن هذه النتائج تكشف أنه غادر البلاد مع انطلاق الثورة بدافع العمل الذي ضيق المستعمر مجالاته، لكنه على الرغم من محاولته الاندماج في المجتمع الفرنسي ممثلا في هذه العلاقة التي نشأت بينه وبين كاترين، إلا أنه لم يستطع نسيان وطنه الواقع تحت نير المستعمر وهجر عائلته، فالوطن لازال يشده الحنين إليه وفي الأخير تتغلب روح المقاومة أمام مغريات المستعمر .
خاتمة:
ومن النتائج التي يمكن استخلاصها مما سبق:
يعتبر العنوان نقطة التلاقي بين الكاتب والنص والمتلقي، تفصح عن المتن ويفصح عنها المتن.
من خلال استقرائ عناوين المجموعة القصصية “كاترين والرصاص ” نجد من المتعة الأدبية والجمالية الشيء الكثير كما أن روح الكاتب التواقة والحالمة من جهة، والمتألمة لواقع المجتمع الجزائري من جهة أخرى تتجسد واضحة من خلال عناوين قصصه .
تعدد الموضوعات التي عالجها الكاتب في مجموعته، وتعدد تقنيات السرد المستخدمة والتنويع في العناوين : من كلمة مفردة إلى مفردتين إلى جملة تامة.
من خلال استنطاق عناوين ” كاترين والرصاص ” نلامس تلك البراعة في صوغ الجمل العنوانية واستظمار المضمون فيها معتمدا على خاصيتي الحذف والاقتصاد اللغوي .
اعتماد الكاتب على الجملة الاسمية كمكون عنواني يبرز دلالة واضحة تتمثل في الاستمرارية والثبوت على الموقف الداعي لإصلاح المجتمع مما علق به من شوائب
اختار الكاتب عناوين قصصه بعناية فائقة، جعلت منها مدخلا للولوج إلى النصوص وسبر أغوارها لا من خلال أفق التوقع التي تفتحها فحسب، و إنما جعلها ترافق المتلقي والقارئ كنصوص موازية تتقاطع مع المتن الحكائي .