
المنهجية الفردانية في سوسيولوجيا ريمون بودون Methodological individualism in Boudon,s sociology
د.عبد الصبور لكرمات/جامعة القاضي عياض، مراكش ، المغرب
مقال نشر في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 51 الصفحة 17.
ملخص :
تهدف المنهجية الفردانية كتوجه إلى بناء واقع اجتماعي وثقافي، يستطيع فيه الناس اختيار طريقة حياتهم وسلوكهم ومعتقداتهم، واقع يضمن للفرد خاصية الاستقلالية والتميز. لهذا يمكن القول بأن إرساء براديغم الفردانية على مستوى التحليل السوسيولوجي، وتحديدا مع ريمون بودون، كانت الغاية منه تحليل الظواهر الاجتماعية في إطارها الميكروسوسيولوجي، وذلك بالتركيز على مقولة ” المفرد “. هذا الموقف في التفسير يتجاوز منطق التحليل الكلياني. ويعيد ترتيب وحدات التحليل السوسيولوجي. إنه طرح منهجي يعطي الأولية للأفراد في تحليل النظام. ويقوم على الارتقاء بالمفاهيم التحليلية، إلى مستوى يسمح بإقامة علاقة ربط ما بين الظواهر ومتغير الأفراد، بحيث تتغير المعطيات والنتائج بتغير الأفراد. لقد فتحت المقاربة الفردانية الآفاق لإيلاء الفرد المكانة الأهم في التحليل السوسيولوجي. وهذا الاعتبار النظري – المنهجي جعل بودون يستلهم مفاهيم “الفعل” “أثر التجميع” و”أثر التشكل” و”الآثار الشاذة” و”الصدفة” و”أثر الانبثاق”… وهي كلها مفاهيم تتكامل فيما بينها لتنتج مقاربة جدّ مخصوصة في حقل علم الاجتماع.
الكلمات المفتاحية: الفردانية، الكليانية، المفرد، القصدية، الفعلانية، العقلانية الإدراكية.
Abstract: The individual methodology aims at building a social and cultural reality in which people can choose their way of life, behavior and beliefs, a reality that guarantees individual autonomy and excellence. It is therefore possible to say that the establishment of the individuality paradigm at the level of sociological analysis, specifically with Raymond Bodon, was intended to analyze social phenomena within its microcosiological framework by focusing on the singular. It is a systematic approach that gives the primary to individuals in system analysis. And is based on the upgrading of analytical concepts, to a level that allows the establishment of a link between the phenomena and the variable of individuals, so that the data and results change according the change of individuals.
Keywords:individualism, totalitarianism, singular, intentional, actuality, cognitive rationality.
مقدمة :تعتبر النزعة الفردانية[1] توجه فكري فرض نفسه داخل الحضارة الغربية على وجه الخصوص، بدءا من عصر التنوير وحتى مرحلة ما بعد الحداثة. لقد شكل هذا التوجه الفكري واحدا من التوجهات الكبرى التي أطلقت حرية الفرد ومكنته من المشاركة الايجابية في بناء الحضارة الإنسانية. لقد ارتبطت كتوجه فكري، بالدعوة إلى حق الفرد في أن يمتلك نفسه وأن يصوغ وجوده بإرادته ورغبته وأن يقرر بذاته حدود أفعاله الإنسانية وكيفية مواجهة أشكال التسلط والإكراه التي قد تحد من الصيرورة الإنسانية. الفردانية كتوجه تؤكد على الخصائص الذاتية للفرد وعلى سماته ومميزاته الخاصة. أي التركيز على كل ما هو خاص وشخصي ومتفرد وهذا يعني أن الإنسان يمتلك وحدته الداخلية ويؤدي وظيفته كنسق ونظام متكامل، كما يمتلك استقلالية في الوسط الذي ينتمي إليه، فهو يتميز عن الجماعة والآخرين بطرق تفكيره وعمله ونظرته للوجود. وهي حالة من حالات شخصنة الفرد وإعطائه سمات وخصائص شخصية يتفرد بها، ويكتسب عبرها هويته المميزة. لذلك فغاية التوجه الفرداني الوصول إلى بناء واقع اجتماعي وثقافي، يستطيع فيه الناس اختيار طريقة حياتهم وسلوكهم ومعتقداتهم، واقع يضمن حقوق الأفراد، بوصفهم أفرادا غير مكرهين على التضحية أو التنازل على شيء هم يعتقدون به[2] . انطلاقا من هدا النمط الخاص من التفكير والذي يمكن اعتباره نتيجة عملية لسياق التطور التاريخي، الذي عرفته المجتمعات الحديثة والذي أعطى للفرد نوعا من التميز والفرادة. سنتوقف إذن مع ريمون بودون لنفكك مجموع الأسس النظرية والإبستمولوجية، التي تقوم عليها المنهجية الفردانية، بالبحث أولا عن الجذور الفكرية لهذا التوجه، لنتقل بعد ذلك إلى تفكيك المفاهيم التحليلية التي تقوم عليها وحضورها على مستوى تحليل القضايا السوسيولوجية.
الجذور المعرفية للمنهجية الفردانية
هناك سؤال يطرح نفسه، سؤال يرتبط بجذور هذا التوجه الفرداني. وتجدر الاشارة في هذا الإطار إلى أنه من المفكرين الأوائل الذين تناولوا هذا التوجه نذكر كل من هوبز ولوك وآدم سميت، بحيث كانوا ينظرون للإنسان في دائرة تفرده ويقابلون بينه وبين الدولة. بعد ذلك وفي مجرى القرن التاسع عشر، و ما واكبه من تطور فكري، بدأت الفردانية تزدهر وتتوسع لتشمل مختلف مناحي الحياة وبخاصة المنحى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، مع الانتصار المتنامي للرأسمالية والطبقة البورجوازية. لقد شكلت هذه المرحلة النواة الحقيقية، لبداية التطور الحقيقي لمفاهيم الفردانية وحقوق الإنسان والعمل على تحرير الإنسان عقلا وفكرا وممارسة وانتماءا. وبالإنتقال إلى المجال السوسيولوجي يمكن القول بأن إرساء براديغم الفردانية على مستوى التحليل السوسيولوجي يرجع بالأساس إلى عالم الاجتماع الفرنسي ريمون بودون، الذي يعتبر من أول مؤسسي ما عرف في السوسيولوجيا الفرنسية بتيار الفردانية المنهجيةL’individualisme méthodologique. عندما وظف المنهج الفرداني في تفسير وفهم الظواهر السوسيولوجية والتي عمل على تحليلها في إطارها الميكروسوسيولوجي، إيمانا منه بأهمية المقاربة الميكروسوسيولوجية في تحليل المجتمعات المعاصرة. وهو موقف في التفسير يتجاوز منطق التحليل الكلياني الذي دأبت المقاربة الكليانية holistique[3] على توظيفه. هذه المقاربة عملت دائما على معالجة الظواهر والسياقات المجتمعية كظواهر مفارقة لسلوكات الفرد ومؤثرة في سلوكه ومحددة لأهدافه ومقاصده.
إن الفرد في سوسيولوجيا ريمون بودون يعتبر من الأسباب الأساسية في حدوث الظواهر الاجتماعية. لذلك، نجده يسير في اتجاه دحض النظريات الماكرو-سوسيولوجية التي تجعل الفرد نتيجة للظواهر الاجتماعية. فهو يولي الأهمية القصوى للفرد وكل ما يقوم به من سلوكيات على أنها المؤثرة في الظواهر الاجتماعية، ومن ثمة في التغير الاجتماعي. يقول في هذا الإطار: «شرح ظاهرة اجتماعية يعني الأخذ بعين الاعتبار دائما على أنها نتيجة للأعمال الفردية»[4]. ويصرح ريمون بودون بأنه إذا كان من البديهي القول بأن النظريات الكلاسيكية في علم الاجتماع قد تأسست على مناهج ومقولات تحليلية كليانية فإن اللافت للانتباه هو أن هذه النظريات الكلاسيكية لا تخلو بدورها من مقولة الفردانية، ذلك أن هذه المسألة تبقى متجدرة في علم الاجتماع ومند بواكيره الأولى، وهو ما نجده واضحا في مؤلفات بودون، بحيث بين كيف أن أصول المقاربة الفردانية تعود أساسا إلى أعمال كل من ماكس فيبر وفلفريدو باريتو، فيبر الذي ميز على مستوى الأفعال الإنسانية ما بين الفعل البدائي والفعل الوجداني والفعل العقلاني. كما تمتد كذلك إلى علماء الاجتماع المعروفين بنزعتهم الكليانية على غرار كارل ماركس وإميل دوركايم وغيرهم. وقد أشار ريمون بودون إلى أن الفردانية كانت موضوع تعريفات متعددة فهي لدى دي توكفيل (A. De. Tocqueville) نتاج اتساع المجال الخاص بحيث يميز في إطار حديثه ما بين الخاص والعام أو بعبارة أخرى الجماعة والفرد، ولدى دوركايم انعكاس لتدعيم استقلالية الفرد معياريا وأخلاقيا، وهي لدى جورج زمل G. Simmel وتالكوت بارسونز T. Parsons نتيجة لتطور العلاقات الاجتماعية، أما لدى ماركس فهي نتاج المنافسة في السوق التي تدعم انعزال الأفراد[5]
لذلك فقد انتهى بودون إلى أن كل التحاليل السوسيولوجية تحمل في طياتها بشكل أو بآخر مبدأ الفردانية. ويبين في هذا الإطار كيف أن مختلف أعمال المقاربة الماكروسوسيولوجية، كمقاربة شمولية في دراسة المجتمعات، تحتوي بشكل ظاهر أو خفي على مبدأ الفردانية والتي لا شيء ،يوضح ريمون بودون، يتبت نفيهم لها أو إنكارهم للبعد الفردي. إن الإنسان بالنسبة لدوركايم يعتبر كائن اجتماعي بطبعه ولا يمكنه أن يكون خلاف ذلك. وهذا يعني أن الجانب الفردي في الجماعة لا يتعارض أبدا مع الجانب الاجتماعي، الشيء الذي عبر عنه دوركايم بقوله بأنه داخل كل كائن ، هناك كائن فردي يعبر عن منظومة الميول الفردانية ، وكائن اجتماعي يمثل جميع المواقف والاتجاهات والقيم التي يشترك فيها مع الجماعة التي ينتمي إليها[6]. لذلك فعالم الاجتماع مدعو إلى تحليل أثر البيئة وتغيرات المحيط على الفعل الفردي. وبأكثر دقة فهو يعتبر المحيط كمساهم في تحديد عنصرين مهمين في الحقل الذي يتموقع فيه العون الاجتماعي l’agent social هما عامل الاختيارات المقدمة له وقيمة الأهداف التي يقدمها[7]. لذلك فآُثار البيئة والمحيط لا تقع في فراغ بل يستجيب لها الأفراد الذين يتموقعون بدورهم داخل البيئة والمحيط. وهو ما يشير إلى وجود علاقة جدلية بين الفرد والمحيط. ذلك أن الفرد وإن كان لا يقدر على تحقيق فكرة الاندماج الاجتماعي إلا من خلال القبول بإملاءات المجتمع، فذلك لا يلغي أن دوركايم قد ترك مجالا يتحرك فيه الفرد أسماه بالوعي الفردي. يتحرك بالموازاة للوعي الجماعي وكلاهما مطالب بالتجاوب مع الآخر. وهكذا فإن دوركايم قد أعطى بعض الأهمية للفرد في التحليل السوسيولوجي للظواهر الاجتماعية، عبر ما يحمله في مرحلة التضامن العضوي من كفاءة وقدرة على التحرر من الجماعة العضوية التي ينتمي إليها. و الملفت للانتباه هنا هو أن المقاربة الدوركايمية لم تجعل من الفرد عنصرا قادرا على الفعل والتأثير، إلا في إطار المجتمع المعقد حيث يسود التضامن العضوي. وهكذا فمن الممكن أن نجد لدى دوركايم بعض الوعي بأهمية هذا الفرد في التحليل السوسيولوجي للظواهر الاجتماعية.
لقد حاول ريمون بودون من خلال هذا التوضيح تبيان عمق وتجدر المقاربة الفردانية في الفكر السوسيولوجي الكلاسيكي. وتجدر الإشارة إلى أن ذلك لم يمنعه من توجيه النقد للمقاربات الكليانية، التي تنظر للفرد باعتباره نقطة عبور لمجموع الأفكار الجماعية، حيث تحدد طموحاته ورغباته عبر محيطه الاجتماعي[8]. وهو اعتبار دفع ريمون بودون إلى أن يعيد ترتيب وحدات التحليل السوسيولوجي من جديد، بشكل يقطع مع المسلمات الكلاسيكية في علم الاجتماع، تلك التي تغالي من شأن البنى والأنظمة والوظائف وتجعل الفرد أسير ما تمليه عليه الوحدات المشكلة للمجتمع. لذلك فالفردانية المنهجية كما يبدو من خلال جلّ مؤلفات Boudon تقوم في عمقها على نقد هذه النظريات التي يرى فيها غلوّا ومبالغة في هذا الجانب، بل هو يجعل مقاربته على طرفي نقيض مع ما يسمّيه بالوظيفية المغالية(Hyperfonctionnalisme) والثقافوية المغالية (Hyperculturalisme) والواقعية الكلية le réalisme totalitaire) )
المنهجية الفردية ومبادئ التحليل السوسيولوجي:
إن الفردانية المنهجية هي طريقة تهدف إلى تفسير الظواهر الاجتماعية على مرحلتين عضويتين:
- مرحلة تفسير نثبت من خلالها أن هذه الظواهر الاجتماعية هي محصلة تجميع أو إدماج مجموعة من الأفعال الفردية.
2- مرحلة فهم تتلخص في إدراك معنى هذه الأفعال وبعبارة أدق إيجاد الأسباب الوجيهة التي دفعت الفاعلين إلى القيام بذلك. ومع حساب الدور الرئيسي الذي يلعبه هنا مفهوم الفعل، يمكن أيضا تسمية هذه الطريقة بالتحليل الفعلاني annalyse actionniste أو بكلمة واحدة الفعلانية actionnisme[9]. ولهذه الطريقة تطبيقات عديدة تبدأ من تفسير ظواهر التفاعلات الأولية، بين بضعة فاعلين وحتى تفسير الظواهر العيانية التي تحدث على صعيد المجتمعات. فهي منهجية تحليل تعمل على تجاوز التحليل السببي الذي يقوم على الوصف واكتشاف العلاقات السببية الإحصائية بين أحداث اجتماعية، كما فعل دوركايم في إطار دراسته للانتحار. إن خصوصية التحليل السوسيولوجي عند ريمون بودون وخلافا للتوجه الكلاسيكي هو أنه ركز في المقام الأول على” دراسة حالات فردية في نظام من التفاعل حيث تنمو داخله الحالات التي ستفسر”[10] لذلك فالخاصية المميزة للتحليل السوسيولوجي، كما تقره المنهجية الفردانية، تكمن في أنه يهدف إلى دراسة حالات فردية ، لا من خلال براديغم استخراج المفرد (Le singulier) من المفرد ، بل من خلال نمط ممثل لبنية نظام التفاعل الذي تنمو داخله مجموع الحالات موضوع التفسير[11] . فالنظام قد يمارس قوة على الأفراد ضغوطات واكراهات، غير أن ذلك لا يعني إلغاء فاعلية الأفراد، فهؤلاء بدورهم لهم من القوة ما يجعلهم قادرين على ممارسة تأثير تام على هذه الكلية ونسق التفاعلات، الشيء الذي يتطلب مقاربة منهجية تعطي الأولوية للفرد على الكل أو المجموع في تفسير هذا النسق. فالأفراد المكونين للنظام وفي إطار تفاعلهم يمارسون التأثير لامتلاكهم القدرة على الفعل وإحداث التغيير في النظام، ومن تم فقد عمل ريمون بودون على جعل الفرد أداة التحليل المركزية في أعماله، كما جعل منه المرجع الأساسي، الذي يمكن الرجوع إليه لفهم مجموع الظواهر الاجتماعية. وهو الأمر الذي دفع بريمون بودون إلى التأكيد على ضرورة تبني طرح منهجي جديد يعطي الأولية للأفراد في تحليل النظام موضوع الاشتغال. طرح يقوم على الارتقاء بالتحليل السوسيولوجي إلى مستوى من الذكاء، الذي يسمح بتجاوز التحليلات الماكروسيولوجية إلى مستوى آخر من التحليل، يسمح بإقامة علاقة ربط ما بين هذه الظواهر ومتغير الأفراد بحيث تتغير المعطيات والنتائج بتغير الأفراد[12].
لذلك فهي قضية مركبة يحكمها منطق معقد يختلف عن اتجاه البنى كما في سوسيولوجيا ماركس، أو المؤسسات كما في سوسيولوجيا دوركايم مثلا. منطق ينتجه الأفراد ومن تم وجب إيلاء هؤلاء المكانة التي يستحقونها. انطلاقا من ذلك يرى بودون أن مبدأ الفردانية يفرض على عالم الاجتماع أن يقيم قاعدة منهجية، تقوم على اعتبار الأفراد أو الفاعلين الفرديين المنتمين إلى نظام تفاعل واحد كذرات منطقية في تحليله. وهي قاعدة منهجية تقوم في عمقها على أساس اعتبار أن الفرد يعتبر المسؤول المباشر، عما يحدث من ظواهر اجتماعية داخل الأنظمة وهو اعتبار منهجي يقطع مع المسلمات الكلاسيكية التي كانت تهمش دور الفرد في التحليل، الشيء الذي يستدعي معاودة ترتيب عملية التحليل السوسيولوجي بشكل يسمح بربط وحدات التحليل، في مختلف أجزائه، بالفرد الذي أصبح ينظر إليه على أنه ذات فاعلة بعدما كان يتعامل معه على أنه مجرد أسير البنى والأنظمة الاجتماعية. لقد سار بودون في الاتجاه الذي رسمه باريتو والذي ميز على مستوى الأفعال الفردية ما بين الفعل المنطقي والفعل اللامنطقي. فشكل بذلك الفعل الفردي الدعامة المنهجية في المنهج الفرداني البودوني، إذ سيصبح الفرد بذلك الفاعل الرئيسي في حدوث التغير الاجتماعي في سياق نسق التفاعلات الاجتماعية. وهو الأمر الذي دفع به إلى إدراج مقولة الفردانية المنهجية في إطار الفعلانية (l’actionnalisme) فالظاهرة الاجتماعية كيفما كانت هي نتاج لأفعال ومواقف ومعتقدات وسلوكات الأفراد[13] ويعتبر ذلك الأساس الأول الذي يقوم عليه براديغم علم اجتماع الفعل. أما الأساس الثاني فيرتبط بالبحث عن معنى السلوكات الفردية التي تشكل أساس الظاهرة الاجتماعية، وذلك من خلال الجواب عن السؤال الفيبيري لماذا؟ وهو ما أسماه فيبر بالفهم[14]. وتجدر الإشارة هنا إلى أن بودون قد اشتغل على الفهم في إطار مقاربته الفردانية، وذلك من خلال التركيز على مقولتي التفسير والفهم ضمن مجال تحليل السلوكات الفردية.
فجوهر التحليل إذن هو الفهم الذي يسمح بادراك خفايا الظاهرة والآليات المتحكمة فيها، وهي عملية لا تتم بشكل منفصل عن الظروف المحيطة التي يتحرك في إطارها الأفراد، والتي تمارس عليهم ضغوطا واكراهات. هذا الأمر يبين كيف أن الفردانية المنهجية تقتضي أن لا يكون هناك أي تعامل اختزالي أو تجزيئي مع الظواهر والسلوكات. فهي لا تقصي أي شكل من أشكال الظواهر العلائقية مثل التأثير والنفوذ، وتؤكد بذلك على ضرورة أن يفهم سلوك الفاعل بالنظر إلى وضعية ما تحدد هي نفسها جزئيا بمتغيرات ماكروسوسيولوجية[15]
إن المقاربة الفردانية لا تلغي دورالبنى في التأثير على الفعل الفردي غير أن درجة التأثير هذه تبقى محدودة على اعتبار أن الفعل الفردي لا يتحدد وفقها، على الرغم من مساهمتها الجزئية في تحديد اختيارات الفاعل يقول بودون في هذا الإطار بأن الذرة المنطقية (l’atome logique) للتحليل السوسيولوجي هي إذن الفاعل الفردي والذي لا يتحرك في فراغ مؤسساتي واجتماعي، كما أن فعله واقع في سياق من الضغوط، أي من الوحدات التي يجب أن يقبلها كمعطيات مفروضة عليه، ومع ذلك فالفعل الفردي للفاعل لا يمكن أن يكون النتيجة الحتمية لتلك الضغوط [16] .فالبنى الاجتماعية موجودة لها أدوار ووظائف، وتشتغل وفق أطر ومرجعيات مؤسساتية، لكن ومع كل ذلك فهذه الأنظمة لا يمكنها بأي حال من الأحوال الحد من قدرة الفرد على ممارسة فعل الاختيار. لذلك فالارتقاء بالتحليل السوسيولوجي والوصول به إلى درجة العلمية أمر يتطلب من عالم الاجتماع أن يرتبط في تحليله بجوهر الظاهرة، وأن لا يتوقف عند حدود المظهر الخارجي، وذلك بالبحث عن الدوافع والخلفيات التي تحكم سلوكات الأفراد وكذلك المنطق الذي يحكم اختيارهم لسلوك معين دون غيره من السلوكات المتاحة. وهو إجراء سيمكن الملاحظ من إمكانية حرق المسافة الفاصلة زمانيا ومكانيا بينه وبين الذات الملاحظة، ومن تم إمكانية فهم سلوك الفاعل، مستعينين في ذلك بمجموع المعلومات التي يتم تحصيلها وبشكل كافي حول الظروف المميزة للمحيط الاجتماعي للفاعل [17] .
المنهجية الفردانية، المفاهيم التحليلية:
يستدعي الحديث عن المنهجية الفردانية الحديث عن أهم المفاهيم التي وظفها ريمون بودون لفهم سلوكات وأفعال الأفراد وأثر ذلك على التغير الاجتماعي. إن الميزة الأساسية للإضافات المفهومية لريمون بودون تكمن في متانة العلاقة بين المنهج والمضمون، وبين الفرضية والمفهوم. هذه الميزة التي جعلته ينفرد بجملة من المفاهيم تتوالد فيما بينها عبر حوار دقيق ووثيق. فالمقاربة الفردانية فتحت الآفاق لإيلاء الفرد المكانة الأهم في التحليل السوسيولوجي. وهذا الاعتبار النظري – المنهجي جعل بودون يستلهم مفاهيم “الفعل” “أثر التجميع” و”أثر التشكل” و”الآثار الشاذة” و”الصدفة” و”أثر الانبثاق”… وهي كلها مفاهيم تتكامل فيما بينها لتنتج مقاربة جدّ مخصوصة في حقل علم الاجتماع ،على اعتبار أنها فتحث الباب أمام الباحثين لطرق أبواب أخرى على مستوى التحليل العلمي الاجتماعي. إن هده الموضوعات قد استوجبتها المستجدات المتعاقبة على مختلف أوجه الحياة الاجتماعية، والتي بقيت مهملة على مستوى التحليل السوسيولوجي المعاصر، والذي أصبح يبدو في بعض الحالات وكأنه يفتقد موضوعا كما بين ذلك بودون . إن الفرد يعتبر أداة التحليل الرئيسية في سوسيولوجيا بودون باعتباره ذات فاعلة لذلك فالفردانية المنهجية تعتبر الظواهر سواء أكانت انتظامات إحصائية أم علاقات عامة أم حقائق مفردة حاصل تجميع أفعال agrégation d’ Actions ويتم في هذا الإطار ربط هذه الظواهر بمفهوم الفعل والتجميع وكل منهما تقابله مرحلة من مراحل التفسير بحسب الفردانية المنهجية، أي مرحلة فهم الأفعال من جهة والتي توفر أساسا للتفسير بإعطاء معنى لسلوكيات الأفراد الفاعلين، ومرحلة تجميع الأفعال من جهة أخرى والتي تشكل بنية التفسير، وذلك بتبيان أن الظواهر المراد تفسيرها ليست سوى نتيجة لدمج لهذه الأفعال في ما بينها. فالفعل بحسب هذا التصور يعتبر تصرفا قصديا، أي أنه سلوك يرمي بشكل واع ومتعمد إلى بلوغ غاية معينة، بيد أن بعض التصرفات البشرية ليست أفعالا، ويكفي أن نذكر مثال الحركات الانعكاسية. إن مفهوم الفعل يفترض مسبقا بأن يتمتع الفاعل بدرجة ما من الحرية في خياراته وألا تكون تصرفاته محددة بشكل وثيق بقوى نفسية أو اجتماعية لا قدرة له عليها[18]. وقد عمل بودون في إطار بحثه السوسيولوجي على ربط هذا المفهوم بمفهوم أثر التجميع والآثار غير المتوقعة اللذان يعتبران من المفاهيم الأساسية التي تشتغل عليها سوسيولوجيا ريمون بودون، كما أنها مفاهيم تعتبر إضافة نوعية في مجال التحليل السوسيولوجي المعاصر. وبخصوص مفهوم “التجميع” فهو يشير ببساطة إلى عملية جمع بين الأفعال الفردية، بيد أنه توجد أفعال فردية تعتبر غاية في التركيب على اعتبار أنها تعتبر استجابة لأفعال فاعلين آخرين قد جرت أو قد تجري لاحقا. وتكشف هذه العملية عن إمكانية لحدوث خلاف أو تباين على مستوى غايات الفاعلين ونتائج أفعالهم المجمعة . ويمكن لهذه الأفعال في حالة اندماجها أن تؤدي إلى تأثيرات سوسيولوجية كلية لا تمثل جزءا من غايات الفاعلين ونواياهم[19] لذلك فمن أهم المكاسب العلمية التي تحسب للفردانية المنهجية أنها عملت على دراسة الظواهر الاجتماعية، التي هي النتيجة المجمعة لا القصدية للأفعال البشرية. وتجدر الإشارة إلى أنه يمكن أن يؤدي الدمج بين الأفعال الفردية إلى تأثيرات تجميع من أنواع مختلفة تسمى بتأثيرات التجميع المركبة، فهناك التأثيرات التركيبية و التأثيرات المنحرفة (غير المرغوبة)، تأثيرات تكميلية، تأثيرات ردود الفعل التسلسلية، التأثيرات الجمعية، وتأثيرات إعادة الإنتاج والتأثيرات التناقضية. أما بخصوص الآثار الغير المتوقعة les effets prevers فيعرفها ريمون بودون بقوله «…نستطيع القول إن هناك آثارا غير متوقعة عندما يخلق شخصان(أو أكثر) خلال سعيهم وراء هدف معين، واقعا لا يبتغونه وقد يكون غير مرغوب فيه من وجهة نظر كل واحد منهما، أو من وجهة نظر أحدهما.”[20] وقد قدم ريمون بودون مجموعة من الأمثلة لإزالة اللبس الذي قد يعتري هذا المفهوم في إطار التوصيف العلمي له. فالآثار الغير المتوقعة تعتبر من الظواهر غير المتوقعة التي تحدث بشكل تلقائي نتيجة تعقد العلاقات الاجتماعية، فهي إذن نتاج مضاعف لهذه العلاقات، التي لا تقف عند حدود التعقيد بل تتجاوز ذلك إلى التعارض مع مصالح الفاعلين الاجتماعيين. وتنتج هذه الآثار عن الأفعال والسلوكيات الفردية غير المرادة حيث حصولها لم يكن نتيجة المساهمة القصدية للفاعلين . كما وظف كذلك مفهوم البروز وأثر التجميع، والمقصود بظاهرة البروز تلك الآثار التي لم يسعى الفاعل الاجتماعي إلى حدوثها ولكنها تعبر في عمقها عن كونها نتيجة لعملية الإدماج، التي تتعرض لها سلوكياتهم وأفعالهم وقد قدم بودون في هذا الإطار مثال الإشاعة في الحقل المالي وما تخلقه من آثار، مثلا، فكلما انتشرت إشاعة حول إفلاس ممكن لمؤسسة بنكية إلا ويسرع المودعون لسحب ودائعهم، ليعلن بالفعل عن إفلاس البنك، وهو أمر يعد نتيجة عملية لفعل تجميع سلوكيات فردية للمودعين[21]. وحتى يكون لإدماج وتجميع الأفعال الفرديةeffets d’agrégation أثر على المستوى الماكرسوسيولوجي في نشوء الظواهر الاجتماعية، فذلك يستدعي تركيز الاهتمام على هذه الأفعال الفردية بتحليلها وفهمها بدلا عن الظواهر الكلية. وقد عبر بودون عن ظاهرة البروز، بروز الآثار الغير المتوقعة بالمعادلة التالية : M=M(m) ويشير الرمز M(m) إلى حاصل تجميع أو إدماج السلوكات الفردية،M يشير إلى أثر التجميع وm يشير إلى الفعل الفردي. ومثلما هو ملاحظ من خلال هذه القاعدة، لا يعني أثر التجميع مجرّد عملية جمع بسيطة (addition) من نوع(A+B+C=X) بل تتشكل القاعدة على أساس نوع من تفاعل الأفعال الفرديّة الذي ينتج أثرا معيّنا تتم قراءته على أساس عملية ضرب (multiplication) من نوع ((AxB) x (AxC) x (BxC) = X) وهو ما حدا ببودون إلى استعمال مفهوم أثر التكوّن (effet de composition) أحيانا كمرادف لمفهوم أثر التجميع. ومثلما يفيد مفهوم أثر التكوّن نفسه، فإننا نجد أن مجرّد تغير أيّ عنصر من العناصر المساهمة في نشوئه، يغير بالضرورة هذا الأثر على النحو الذي رسم عليه بودون مفهوم أثر التجميع، حيث لاشك أن غياب أو تغير أي فعل فردي مساهم في نشوء ظاهرة معينة، يؤدي إلى تغير هذه الأخيرة أي نتيجة تجميع أفعال فردية مغايرة للأولى. وحتى تتضح أكثر معالم الآثار الغير المتوقعة فيمكن الاستناد في هذا الإطار على اشتغال ريمون بودون على الأزمة التربوية بفرنسا خلال ستينيات القرن الماضي وما واكب هذه الأزمة من اضطرابات مجتمعية وهي أزمة كانت نتيجة للآثار الغير المتوقعة، والتي كانت بدورها نتيجة لصراع المصالح فقطاع التربية والتعليم حسب بودون هو قطاع يشبه قطاع السياسة. إنه مسرح لظهور الأزمات والصراعات الاجتماعية الناتجة عن الآثار الغير المتوقعة التي تبرزها علاقات الترابط بين الفاعلين الاجتماعين، القائمة على سلوكياتهم وأفعالهم وليس نتيجة لعلاقات السيطرة .
وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أنه إذا كان الفرد والفعل كمفهومين قد أتاحا إمكانية الولوج إلى عمق السلوك الإنساني، فإن مفهومي أثر التجميع والآثار الغير المتوقعة هما اللذان يمكنان من المرور إلى جوهر الظواهر الاجتماعية كظواهر تعبر في عمقها عن الفعل الذي يقوم به أفراد متعددون. وبما أن الظاهرة وليس السلوك الفردي هي ما يتشكل أمام الباحث ويثير قريحة البحث لديه، فإن المقاربة الفردانية تنظر إلى أثر التجميع على أنه المفهوم الذي يمنح الأداة الناجحة، التي يمكن بواسطتها تبين حجم الظواهر وظروف تشكلها، ومن تمة يسهل فهمها على اعتبار أنها في الأصل أفعال فردية تتجمع معا ومحصلة ذلك أنها تنتج أثرا ماكرسوسيولوجيا قابلا للملاحظة والفهم، على أن ذلك لا يعني أن الأفراد يتصرفون عن قصد وبشكل معين لإنتاج ظاهرة ما. فمن البديهي أن الظواهر تنشأ لذاتها ولا يمكن القول أن الأفراد يتصرفون عن قصد لإنتاج ظاهرة ما[22]. لذلك فريمون بودون يعرض هذه الأفعال على أنها حاصل تجميع أفعال متعددة لمجموعة من الفاعلين، الذين يتفاعلون في ما بينهم ومع النظام فينتجون آثارا معينة. كما أنه بين بأن عملية التجميع لا تعبر في عمقها عن عملية جمع آلية لمجموعة من الأفعال، ولكن الأمر يتعلق بعملية مركبة تستدعي ضرورة الوقوف عند كيفية تشكل الظواهر انطلاقا من التوقف عند مجموع التفاعلات القائمة بين مجموع الأفراد. هذه التفاعلات التي ينتج عنها أثرا يتم التعامل معه وفق قاعدة الضرب[23] وهو الأمر الذي سيدفع ريمون بودون إلى توظيف مفهوم أثر التكون effet de composition كمرادف لمفهوم أثر التجميع. ويشير في هذا الإطار إلى أنه بمجرد تغير أي عنصر من العناصر المساهمة في نشوئه يتغير بالضرورة الأثر ، حيث لا شك أن غياب أو تغير أي فعل فردي مساهم في تشكل ظاهرة معينة يؤدي إلى تغير هذه الأخيرة كنتيجة عملية لحاصل تجميع أفعال فردية مختلفة عن الأولى. كما أن الأفعال الفردية نفسها لا تؤدي بالضرورة إلى الظاهرة الاجتماعية نفسها. الشيء الذي يستدعي أن نأخذ بعين الاعتبار ضرورة طرق النتائج الغير المتوقعة للأفعال الإنسانية أي ضرورة فك رموز ما يسمى بآثار التشكل. فموقع الأفراد لا يحدد دائما السلوك الفردي كما بين ذلك ماركس، كما أنه لا يمكن توقع مدى تأثير البنية الاجتماعية في النظام التفاعلي بين الأفراد .
انطلاقا من هذا التصور يخلص ريمون بودون إلى إبراز الحيز الهام الذي تحتله الآثار الغير المتوقعة في حقل الواقع، الذي لا ينضبط لمختلف التوقعات ويرتبط في تشكله بما ينتج عن أفعال الأفراد الذين يتحركون وبشكل مستمر بطريقة منعزلة عن بعضهم البعض. من خلال ذلك يمكن القول بأن الظواهر الاجتماعية ووفقا للمقاربة الميتودولوجية لا تكون بالضرورة متوقعة، على اعتبار أنها نتاج أفعال فردية وجماعية غير محددة مسبقا، كما أن إمكانية التحكم فيها تبقى ضئيلة. وهو الأمر الذي يبين الحاجة لتوظيف مجموعة من المفاهيم من قبيل “الشاذ” (l’effet prevers) والمصادفة (le hasard) و أثر الانبثاق (effet émergent) في إطار التحليل السوسيولوجي، ومرد ذلك بالأساس إلى الدور الذي تلعبه في تشكل الظواهر الاجتماعية. لذلك يركز بودون في إطار طرحه السوسيولوجي على ضرورة أن تأخذ هذه المفاهيم مكانها في التحليل السوسيولوجي، الذي تعامل معها بنوع من الغموض والضبابية يقول بودون في هذا الإطار” يتم اعتبار المصادفة في العلوم الاجتماعية عموما كمآل غير محبد، موجود في كل مكان ولكننا نتعسف في الغالب لإزاحته وتناسيه… إنه فقط لأننا لم نتناول كل المتغيرات المحددة لظاهرة ما نرى أنها غير محددة جزئيا. ولكن إذا كانت المواقف حول نمط وجود المصادفة متغيرة فإن هناك نقطة يمكن أن نلاحظ نوعا من شبه الاتفاق حولها في العلوم الاجتماعية، وهو أن ” المصادفة لا تمثل أي أهمية من زاوية نظر المعرفة “ [24] . إن هذا الأمر يجعلنا نتحرك ضمن مجال التناقض، بحيث نقر بوجود هذا المتغير وفي الآن ذاته لا نقر بأهميته المعرفية العلمية. فالإقرار بوجودها إذن يقتضي منا الاعتراف بقيمتها وعدم نكران أهميتها المعرفية. وعلى هذا الأساس يعتبرها بودون بحسب قوله بأنها “ مادة أو متغير أو مجموعة من المتغيرات، تعبر عن بنية خصائصية structure caractéristique لمجموعة من الحلقات السببية مثلما تظهر للملاحظ “[25] وهو ما يفيد بأن لها مكانة مركزية في التحليل السوسيولوجي، لذلك فهذا المتغير ينبغي إذن أن نأخذه بعين الاعتبار متجاوزين بذلك فكرة أنه لا يعدو أن يكون مجرد مفهوم فارغ سلبي.
الفردانية الميتودولوجية والعقلانية الادراكية
لقد انتهى الباحث ريمون بودون إلى ضرورة ربط منطق التحليل الفرداني بما أسماه “العقلانية الإدراكية”، باعتبارها أحد مراكز الاهتمام في علم الاجتماع، نظرا للدور الذي تمارسه حيال الأفعال. إن العقلانية الإدراكية نظرية تهتم بالمعتقدات وذلك من أجل إتمام الفردانية المنهجية، فلما كانت الأفعال تستند إلى معتقدات ، كان ضروريا صوغ هذه النظرية .إن العقلانية الإدراكية تقوم على مسلمة الفهم بالمعنى الفيبيري للكلمة ، أي إيجاد الأسباب التي من شأنها تفسير هذه المعتقدات. ففي نظر ماكس فيبر يجب تقويم نوعية الأسباب ليس من وجهة نظر عالم الاجتماع أو الباحث ’ بل من وجهة نظر الأفراد أنفسهم. من هنا يمكن القول بأن النتائج المهمة للعقلانية الإدراكية هي إمكان أن تكون لنا أسباب وجيهة للإيمان بأفكار خاطئة . لذلك فمسلمة الإدراك و الأسباب الوجيهة تسمحان بتوسيع مجال العقلانية.
إن المعتقدات بأنواعها المختلفة العادية والإيديولوجية والأخلاقية والعلمية من المواضيع، التي تحضا باهتمام علم الاجتماع، وذلك نظرا للدور الذي تلعبه في الحياة الاجتماعية، وعلاقة ذلك بالفعل الاجتماعي الذي يستند إلى المعتقدات. لذلك نجد أن الفردانية المنهجية قد ركزت في دراستها على إفراد نظرية خاصة بالمعتقدات تحت مسمى العقلانية الإدراكية (بالفرنسية cognitive وهي صفة جاءت من الفعل الفرنسي connaitre الذي يعني عرف وأدرك) وهي طريقة تقوم على مسلمة الفهم. فتفسير قاعدة ما يعني فهمها أي البحث عن الأسباب الخارجية أو الضمنية التي دفعت الفاعل إلى اعتناقها، وبالتالي العمل على إعادة بناء وصياغة الدوافع التي استطاعت إقناع فرد ما بتبني المعتقد الذي هو موضوع الحديث. وقد ميز بودون وفيول في هذا الإطار بين المعتقدات الإيجابية والمعتقدات المعيارية. فيما يخص المعتقدات الإيجابية فهي تخص نصوصا حديثة، أي تلك التي تتعلق بمعيار الصحيح والخطأ، والأفراد الذين يتبنون هذا النوع من المعتقدات إنما يفعلون ذلك استنادا إلى محاكمات عقلية مفهومة. وتجدر الإشارة إلى أنه، ووفقا لنموذج سيميل، قد يؤدي استدلال أو محاكمة عقلية غير مناسبة إلى اعتناق معتقدات خاطئة، كما يمكن أن توصلنا إلى ذلك محاكمة عقلية صحيحة لكنها تستند إلى معطيات خاطئة، الشيء الذي ينتج عنه أن الأفراد قد يعتقدون بأفكار خاطئة ولكن لأسباب وجيهة. إن مصدر المعتقدات الخاطئة وفقا لنموذج سيميل يقع في قبليات ما وراء الشعور، أما بخصوص المعتقدات المعيارية، فهي أحكام تقويمية تطلق على مؤسسات أو تصرفات أو مواقف. ويصدر الفاعل الاجتماعي هذه الأحكام التقويمية في ظروف مختلفة من حياتهم اليومية، وهم مستعدون للدفاع عنها بحجج مختلفة. وتتلخص الطريقة العقلانية في إيجاد الأسباب التي دعت الأفراد إلى اعتناق هذا النوع من المعتقدات، وبيان الأسباب المفسرة لوجهات نظرهم. وقد ميز بودون في هذا الإطار ما بين التفسير الذي يقوم على عقلانية أخلاقية وهو تفسير يعنى بمقاربة موضوعية القيم والمعرفة في ضوء العرض المجمل للعواطف الأخلاقية، وما يرافقها من استدلال أخلاقي، وتفسير نفعي بحيث يلجأ إليه الفاعلون الاجتماعيون لتبرير معتقداتهم المعيارية، بناءا على أسباب ذات طبيعة نفعية، كالحكم على مؤسسة بأنها جيدة إذا كانت تسهم في تشغيل النظام الاجتماعي، وبأنها سيئة إذا كانت تسبب الضرر له[26]
إن هذا من النمط من التحليل العقلاني بحسب التصور البودوني يجب ألا ينظر إليه كإقرار انطولوجي بل كمبدأ منهجي، يسمح لنا بمقاربة سلوك الفاعل وتحديدا النخبة السياسية والإدارية. فالبحث في العقلانية التي تحكم سلوك النخبة المحلية، إنما يعني البحث في الأسباب التي تحكم السلوك، ومن تم إدراكه في كل الحالات التي بإمكاننا وفقها إقامة تفسير على النحو الآتي: ” إذا قام الفاعل (x) بسلوك معين بالطريقة (y) ويكون هذا السلوك قابلا للفهم (compréhensible) فإن هذا الفاعل (x) كانت له في وضعيته تلك، أسباب معقولة للقيام بالفعل (Y) . وتجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من الأهمية المسندة لمقولة العقلانية في هذا الطرح، فإن بودون لم يجعلها خاصية أساسية للفاعل، بل إن القسم الأكبر من الأفعال إنما تنبني على غير هذا الأساس، رغم ما يبدي أصحابها من عقلانية وتخطيط . إن احترام الفاعل للعادات مثلا من قبيل الاحترام غير المشروط أي الميكانيكي (كما في السوسيولوجيا الكليانية)، يرجع بالأساس إلى تطابق أو تعارض مع معطيات الوضعية تلك، أي لأنها عقلانية من وجهة نظر الفاعل.
فالفاعل كما بين ذلك بودون يعمل على بلوغ الغاية المختارة، أي تلك التي توفر له بحسب اعتقاده، أعلى مستوى من الرضا أو الفائدة باستخدام قدراته على أفضل وجه لتحقيق مصالحه الشخصية[27]. ونوضح في الإطار بأن هذه المصالح الشخصية لا تعني بالضرورة مصالح أنانية، إذ أن الفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي قد يختار أن يكرس وقته وقدراته لخدمة ومساعدة الآخرين ومن تم المشاركة الإيجابية. وهذا ما يسميه بودون وفيول بالعقلانية النفعية rationnalité instrumentale، وهي عقلانية لا يمكن أن نماثلها بالعقلانية الكاملة، وإنما هي بحسب ه سيمون[28] عقلانية محددة، على اعتبار أن المعلومات التي يمكن أن يستند عليها في اتخاد القرار يمكن أن تكون ناقصة أو مغلوطة أو الوقت المتاح للعمل قصير، مما يمنع الفاعل من أن ينظر في الأفعال الممكنة كافة وحتى في فحص النتائج المتوقعة، من وراء فعل ينوي القيام به[29]. ومن البديهي أن يكون كل فعل مستند إلى معتقدات خاطئة أو معلومات مغلوطة غير فعال ولا يمكنه أن يوصل صاحبه إلى الغاية المرجوة، لذلك فإذا أخطأ الفاعل هدفه فقد يرجع ذلك إلى حقيقة أن معتقداته بشأن العلاقات السببية مغلوطة. ولتبسيط أكثر للفكرة لقد عمل بودون على فصل نظرية الفعل عن نظرية المعتقدات. فالنظرية الأولى توفر لعالم الاجتماع التعليمات الضرورية لمقاربة مرحلة الفهم أو إدراك الفردانية المنهجية[30]. وتقوم هذه الطريقة الإدراكية على الفرضية القائلة بأن الأفعال مفهومة كليا وتدرك عقليا، بحيث يستطيع العالم من خلال حصوله على معلومات كافية أن يضع نفسه مكان الفاعل ليفهم أفعاله أيا كانت.
عموما نخلص من خلال كل ذلك إلى أن المنهجية الفردانية كموقف نظري تستند في عمقها على مبدأ التساؤل حول اختيارات الفاعلين أو الأفراد المعنيين، والتي تترجم من خلال سلوكات وقرارات قابلة للدراسة والتحليل السوسيولوجي. وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أن المنهجية الفردانية لا تقف عند حدود الوصف والتحليل السببي للظواهر، بل تعدت ذلك إلى حدود الموازنة الذكية ما بين الفهم والتفسير، وذلك لأجل الفهم العميق للظواهر وكذلك صياغة تفسيرات حقيقية للظواهر وذاك جوهر التحليل الفعلاني. ويبين في هذا الإطار كل من ريمون بودون ورينو فيول في كتابهما الطرائق في علم الاجتماع بأنه إذا كان الفاعل الاجتماعي يعتبر اللبنة الأساس في التحليل السوسيولوجي، فذلك لا يعني أن الفرد عبارة عن قطعة ذرية تتخذ قراراتها بمعزل عن الجماعة المنتمية لها، وإنما هو فاعل اجتماعي كباقي الفاعلين،كما أنه لا يتمتع بالاستقلالية عن الجماعة التي هو عضو فيها، بحيث يتفاعل ويتخذ قراراته داخلها. هذا الأمر يوضح كيف أن المنهجية الفردانية قد حصرت مجال اهتمامها في البحت عن الدوافع والأسباب الكامنة وراء اختيارات هؤلاء الفاعلين، انطلاقا من الحركية الاجتماعية والمواقع التي يحتلونها، وذلك لمعرفة مدى الأثر الذي تتركه الأفعال على البنية الاجتماعية والظواهر الاجتماعية، التي تنبني على هذه السلوكيات والأفعال الفردية.لذلك ففهم سلوكات الأفراد يعني قطعا فهم خفايا الظاهرة الإجتماعية والآليات المتحكمة فيها وذلك بالتركيز على خاصيات الأفراد التي تسمح بإمكانية تفسير هذه الظواهر. و لعل من بين المكاسب التي حققتها الفردانية المنهجية هو إسهامها في هذا الإطار في الربط ما بين الظواهر والأفعال الفردية على اعتبار أن هذه الظواهر هي النتيجة المجمعة لا القصدية للأفعال البشرية فردية كانت أو جماعية.
قائمة المراجع:
1-اميل دوركايم، التربية والمجتمع، ترجمة علي وطفة، دارمعد، 1990.
بيرأنصار، العلوم الاجتماعية المعاصرة، ت: نخلة فريفر، المركز الثقافي العربي، ط:1،1992.
2-ريمون بودون وفيول، الطرائق في علم الاجتماع، ترجمة مروان بطش، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 2010.
3-ل، فون ميزس،الفعل الإنساني دراسة في الاقتصاد ، باريس،مطبوعاتPUF،1985.
4-ماكس فيبر، الاقتصاد والمجتمع الجزء الأول: أنواع علم الاجتماع، باريس دار النشر (بولون) مجموعة أغورا،1995.
5-هربرت سيمون، نماذج من العقلانية المحددة، المجلد الثاني: سلوكيات الاقتصاد وتنظيم العمل كامبريدج،MIT Press،1982.
6-Charles Taylor , Les malaises de la modernité, C .E .R.F, Paris, 1999.
7-Rymond Boudon : Individualisme et holisme en sciences sociales. Dans : Pièrre Birnbaum et jean leca(S /D) : Sur Individualisme . Ed. Paris.1991.
8-Rymond Boudon : Traité de sociologie. PUF. Paris. 1992 . P22.
9-Rymond Boudon : La place du désordre. Quadridge , PUF.Paris.1984.P66.
10-Rymond Boudon La Logique du social : Introduction à l analyse sociologique . 3ème édition. Hachette /Pluriel. Paris 1997.
11-Rymond Boudon La Logique du social : Introduction à l analyse sociologique . 3ème édition. Hachette /Pluriel. Paris 1997.
12-Raymond Boudon et François Bourricaud : Dictionnaire critique de la sociologie. 2ème édition. PUF, 1986.
[1]-الفردانية، هذا اللفظ يعني الجزء الذي لا يتجزأ، وهذا يفيد بأن الفردانية كمفهوم يقوم في عمقه على مبدأ الكينونة التي تمتنع على التجزئة. يبين قاموس دوزات Dauzat أن هذه الكلمة قد ظهرت عام 1826 في جريدة Globe الباريسية كنقيض لكلمة اشتراكيةSocialisme ، لذلك فهو مفهوم يقابل “الجمعنة”، وفي هذا السياق نجد أن علماء الاجتماع اليوم يوظفون مفردة الفردانية كمقابل “للجمعنة” التي تقوم على فكرة أن الفرد نسخة متكررة عن الجماعة التي ينتمي إليها ومن هذا المنطلق يجري الحديث عن الفردانية بوصفها الحالة التي يكون فيها الفرد كيانا مستقلا ومتفردا عن الجماعات التي ينتمي إليها، وقادرا على اتخاذ قراراته استنادا إلى إمكانياته الخاصة وقدراته المستقلة عن أفراد الجماعة الآخرين الذين ينتمي إليهم الفرد.
[2] – Charles Taylor , Les malaises de la modernité, C .E .R.F, Paris, 1999, P15.
[3] – وهي ترجمة للكلمة الفرنسية Holisme والكلمة اليونانية Holos والتي تعني ” كلية. انظر: ريمون بودون وفيول، الطرائق في علم الاجتماع، ترجمة مروان بطش، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 2010، ص50
[4] – بيرأنصار، العلوم الاجتماعية المعاصرة، ت: نخلة فريفر، المركز الثقافي العربي، ط: 1،ص71،1992.
[5] – Raymond Boudon et François Bourricaud : Dictionnaire critique de la sociologie. 2ème édition. PUF .1986.P617.
[6] – اميل دوركايم، التربية والمجتمع، ترجمة علي وطفة، دار معد، 1990،ص 70.
[7] – Rymond Boudon La Logique du social : Introduction à l analyse sociologique . 3ème édition. Hachette /Pluriel. Paris 1997 .P270 .
[8]– Rymond Boudon : Individualisme et holisme en sciences sociales. Dans : Pièrre Birnbaum et jean leca(S /D) : Sur Individualisme . Ed. Paris.1991.P49.
[9] – بودون وفيول، الطرائق في علم الاجتماع ، مرجع سبق ذكره، ص55
[10] – بيرأنصار، العلوم الاجتماعية المعاصرة، مرجع سبق ذكره، ص79
[11]-Rymond Boudon La Logique du social : Introduction à l analyse sociologique . 3ème édition. Hachette /Pluriel. Paris 1997 .P80.
[12] -Rymond Boudon : Individualisme et holisme en sciences sociales. Dans : Pièrre Birnbaum et jean leca(S /D) : Sur Individualisme . Ed. Paris.1991,.P82.
[13] – Rymond Boudon : Traité de sociologie. PUF. Paris. 1992 . P22.
[14] – Ibid P30 .
[15] – Rymond Boudon : La place du désordre. Quadridge , PUF.Paris.1984.P66.
[16] – Rymond Boudon La Logique du social : Introduction à l analyse sociologique .op cit .P52.
[17] – Rymond Boudon: La place du désordre.0p cit.P65.
[18] – بودون وفيول، الطرائق في علم الاجتماع ، مرجع سبق ذكره ، ص72.
[19] – بودون وفيول، الطرائق في علم الاجتماع ، مرجع سبق ذكره، ص86
[20] – بيرأنصار، العلوم الاجتماعية المعاصرة، ت: نخلة فريفر، المركز الثقافي العربي، ط: 1 ،1992،ص83.
[21] – بيرأنصار، العلوم الاجتماعية المعاصرة، ت: نخلة فريفر، المركز الثقافي العربي، ط: ،1992، ص 82.
[22] – Rymond Boudon, La Logique du social : Introduction à l analyse sociologique . op cit .P119.
[23] – Rymond Boudon: La place du désordre.Op. Cit. P69.
[24] – Rymond Boudon: La place du désordre.Op. Cit. P184
[25] – Rymond Boudon: La place du désordre.Op. Cit. P119.
[26] – بودون وفيول، الطرائق في علم الاجتماع، مرجع سبق دكره، ص 145.
[27] – ل، فون ميزس،الفعل الإنساني دراسة في الاقتصاد ، باريس،مطبوعاتPUF،1985، ص13-33.
[28] – هربرت سيمون، نماذج من العقلانية المحددة، المجلد الثاني: سلوكيات الاقتصاد وتنظيم العمل كامبريدج،MIT Press،1982. ص103،
[29] – نفس المرجع ص 74.
[30] – ماكس فيبر، الاقتصاد والمجتمع الجزء الأول: أنواع علم الاجتماع، باريس دار النشر (بولون) مجموعة أغورا،1995، ص 28-52.