
الاستعمار ثيمة سردية في الخطاب الروائي العربي المعاصر
قراءة سوسيو ثقافية لرواية (موسم الهجرة إلى الشمال أنموذجا) للطيب صالح·
أ.د محمد جواد حبيب البدراني د. علي إبراهيم الشريفي
جامعة البصرة جامعة الموصل
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 35 الصفحة 9.
الملخّصيهدف هذا البحث إلى قراءة ثيمة الاستعمار في الخطاب النقدي العربي متخذا من رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) انموذجا فقد كان ذلك الموضوعات الحضارية، وهي تنفتح على تحليلات نقديّة متنوّعة ومتعدّدة تنهض في كثير من وجوهها التحليليّة على تأمّل الخبرة الذاتية لأصحابها الذين هم أيضا أبطال روائيون قد تعتمل في نفوسهم تجربة التمزّق ذاته الذي انتاب المثقف العربي إبّان صراعه المرير والطويل مع الغرب الاستعماري فكريّاً وثقافياً وحضارياً، ومن منظور خطاب الاستعمار وما بعده عالجت الرواية بوعي فكرة المهمّة الحضاريّة المزعومة التي جاء بها المستعمِر التي تعطيه الحق في استعمار الشعوب الأخرى ناقدة ذلك عبر البنية السردية.
Abstract:
The novel “Migration Season to the North” is one of the most prominent novels in respect of the deep and the presentation for the subject of colonialism in the deep studies depending on novelistic art powers and discovering the conscious and non conscious effects for western colonialism movement claiming that it is the humanity teacher and civilization carrier under address has been distorted and restrained historically, and in the cultural texts have been red by Westerners not the Easterners in order to produce what they are calling it of knowledge and to formulate the fact by their way that has been framed according to colonialist view and under speech structure making the east under protection of western knowledge.
المقدمــــــــــة
تسعى هذه القراءة للبحث في ثيمة الاستعمار وخطابهُ في روايةِ (موسم الهجرة إلى الشمال) ومن خلالِ الدراساتِ النقديةِ التي عَرضتْ لهذا المفهوم وتحديداً في ضوءِ النظرية الكولونياليّة وما بعدَها في مقاربة الخطاب النقدي العربي وأسئلة المواجهة مع الغرب وبما أفرزته من قلقٍ منهجي طَبعَ الخطاب النقدي العربي بمفهوم الاختلاف الفكري والقومي وكذلك العقائدي، فضلاً عن الصراع الذي أكسبه رؤىً متقطّعة تباينت بين ناقدٍ وآخر بما يعكس طبيعة النظرة إليه، يضاف إلى ذلك أنَ الخطابَ النقديَ العربي إذ استظلَ بالنظريّةِ الكولونياليّة وما بعدَها حاولَ تعريةَ الخطابِ الاستعماري وحَمولتهُ الثقافيّة، في مقابل إبراز الثقافة المحليّة والقوميّة المهمّشة ومحاولة كشفِها بآليات وأدوات الخطاب الغربي ذاته، وهو في ضوء ذلك يُمارس نقداً قاسياً محاولاً خلقَ فضاءٍ هجينٍ تتعايشُ داخلهُ مجموعة من الثقافاتِ الإنسانيّةِ بديلاً للخطاب الكولونيالي القائم على العنف والتغريب واللاعدالة وهو يتّضح في المجال الفكري والثقافي والمعرفي والنقدي.
وفق هذه الرؤية تأتي رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للروائي السوداني الطيّب صالح واحدةً من أبرز الروايات عمقاً وطرحاً لموضوع الاستعمار ضمن دراساتٍ عميقةٍ اعتمدت طاقاتِ الفن الروائي واستكشاف الآثار الواعية وغير الواعية التي تركتها حركة الاستعمار الغربي في نفسيّاتِ الشعوب المستعمَرة والمستعمِرة على حدٍ سواء من جهة، وتفكيك أسطورة الغرب الاستعماري الذي يزْعُم أنهُ مُعلِمُ البشرية وناقلُ الحضارة ضمن خطابٍ تم تشويهَهُ وقمعَه تاريخياً من جهة أخرى، وقد تمّ ذلك بما نجده في نصوصٍ ثقافيّةٍ يقرؤُها أبناءُ الغرب لا أبناء الشرقِ لكي يُنْتِجوا ما أسموه بـ (المعرفة)، لكي يُصيغوا الحقيقةَ بطرقٍ سلبيةٍ تمت هيكلتُها وفقاً لمنظورِ الاستعمار ووفقَ بنيةٍ خطابيّةٍ جعلت الشرق تحت حماية المعرفة الغربية ([1])، لكنّ الوجود الحضاري العربي وبما يمتلكه من إرثٍ حضاريٍ عميق، وبما يغتني به من إمكانات ومن خلال ما أبرزته الدراسات النقدية بخصوص الموضوع بدأ يمارسُ نوعاً من المقاومة المشروعة والمُسلَمة بالفكر الناقد الذي يستطيع التعامل مع الذات والآخر الاستعماري بوعيٍ وموضوعيةٍ، محاولاً التحرّر من التبعيّة للاستعمار والتسليم له، ومتجاوزا لتبعيّةِ المركزيّة الغربيّة التي تعمل على (الإطاحة بالحضارات المغايرة ومحاولة استيعابها ومحاصرتِها والعمل على إفنائِها وتبديدها إنْ أمكن)[2].
هذا ما ستكشف عنهُ الدراساتُ النقديةُ وفقَ منظورِ النقدِ الكولونيالي وما بعدَه في عرضٍ لموضوع ِالاستعمار بدلالاتهِ واتجاهاتهِ في خطابات النقّاد المتنوّعة التي تعمل على تصنيف النصوص ضمن حقبٍ زمنيةٍ مختلفةٍ، وبحسب اشتراكها في الاشتغال على قضايا ثيمة الاستعمار القائم على مفهوم الصراع بين الغرب والشرق، وبما ينطوي عليه من دلالاتٍ مغايرةٍ تؤْثِرُ الشكل والمحتوى الذي يجعلها أبولونيّة المنزع والتي لا تعرف إلا الهجرة والانتقال إلى أقانيم الوعي واللاوعي والتحوّلات المحمومة في عوالم الالتباس والغموض، كما وتتضمّن صوراً شديدة التعقيد تتقاطع فيها التصوّرات والرؤى بين واعٍ للانغلاق وآخر قائم على الانفتاح وثالث للتبعية الغربيّة ورابع يحذّر من الاستعمار وتبعيّته مؤكّداً على حتمية الصراع وصِدام الحضارات، ووفق هذه التنوّعات من نجده يدعو لعالميّة الفكر والأدب وضرورة التنوّع ضمن سياق الموضوع ذاته، وهو ينتقل من حقلٍ إلى آخر من السياسة والاقتصاد إلى الفلسفة والحضارة ، إلى التاريخ والجغرافيا والأدب والنقد الأدبي، وجميعها تتنقل ضمن علاقات نجدها بديهيّة وواضحة ونكاد نلحظها من العنوان (عنوان الرواية، وعنوان الحركة الثقافية الاستعمارية القائم عليها الموضوع)، والعلاقة بينهما- والتي سنحاول رصدها هنا- وهي علاقةً متبادلةً على الرغمِ من وجود مسافةٍ من الزمن وعنوان الرواية، ومن خلال هذه العلاقة يبدو الموضوع توصيفاً حقيقياً للحالة الإشكاليّة التي تمثّلها الحركة الثقافيّة الاستعمارية القائمة في تلك المرحلة والتي عملت على طمْسِ ثقافات الشعوب الأصيلة وهي تأخذُ وضعيةً قلقةً وممزقةً، وتسْتَشْعِرُ ومن منظورٍ مخالفٍ الخطاب الذي صاغ الوجود الحقيقي والمتخيّل لشعوب الشرق صورة خاصة متخيّلة فانتازيّة إلى حدٍّ بعيدٍ، وبطريقة غامضة يمكن أنْ نعدها جزءاً من سياسةِ الاستعمار الأوربي لبلاد الشرق قد تدعَمُهُ مؤسّساتٍ وهيئاتٍ وبيروقراطيّاتٍ وأساليب استعمارية ([3]).
إنَ قصةَ الاستعمار في الرواية والتي تعكسها تحليلات النقّاد إنّما نجدها تعبّر عن التجربة الفاعلة لشخصيّة (مصطفى سعيد)على وفق المنظور الاستعماري لقراءة الموضوع والتي تنطلق من رؤيةٍ قوامها الانتقام من الغرب وأداتها المكرُ والجنس، وهي رؤية متعددةِ الأبعاد تستثمر قضايا الاستعمار والصراع في مجال ما بعد الاستعمار تتّخذ طريقاً إلى تصورِ الذات الغربية، تشتغِلُ عليه مجموعةً من القراءاتِ النقديةِ نجدها معياريّة تتم على أساس الرؤية (التناول) وأسلوب المعالجة الفنيّة للفكرة والموضوع، وهذا هو شغل النقد الأدبي لا القراءات الإيديولوجيّة، وهذه القراءات نجدها تستند إلى فرضيّة يبرّرها وجود نصٍ يتحدّى الصمت المفروض على الشرق موضوعا يرتكز على تصوّراتٍ تخصّ شروط إنتاجه وطريقة تداولهِ كما يمكن النظر إليها بوصفها ترتيباتٍ تحليليّة تَفيدُ من تصوّراتٍ نظريّة خطاب الاستعمار وما بعدَه وهي تتّضح في مقاربةٍ نقديّةٍ تنظر إلى النقد بوصفه (إنتاجاً لمعرفةٍ وإمساكاً بطاقةٍ جماليةٍ لا توصيفاً خارجيّاً)([4])، وبغض النظر عن المردودية الحقيقية والتي تحقّقت ضمن مقترحات التصوّرات النقديّة التي تتّضح عندنا بوصفها نتائج، وبغض النظر عن درجة استيعابها المعرفي الذي وفّرته الحضارة الإنسانيّة المعاصرة، فان هذه القراءات اسهمت بهذا الشكل أو ذاك في زعزعة الكثير من القناعات الراسخة التي كانت تنظر إلى النص بوصفه مستودعاً لمعانٍ جاهزةٍ بالإمكان التعرّف عليها كليّاً أو جزئيّاً استنادا إلى قدرة المحلّل في الكشف عن العوالم الدلاليّة التي يبنيها النص، سواء تمّ ذلك من خلال البحث عن العِلل الدفينة للدلالات في ذات المؤلف أو في محيطاتهِ البعيدة أو القريبة([5]).
إن هذه الرؤية نجدها وبحسب (باختين)([6]) تؤثّر في بناء الرواية ومن خلال
شكلين إثنين هما:
- انعدام الانسجام بين السريرة وجوهرها في مجال الفعل.
– عجز العالم الغريب عن المثل الأعلى عن الاكتمال فعليّا وعن إدراك الكليّة والالتحام.
هذه الرؤية تستمد وجودها من كون الأفكار عاجزة عن الولوج إلى داخل الواقع نفسه والذي يدفعه إلى إقامة علاقة مع نسق الأفكار المكوّنة لمعنى الموضوع في الرواية وهو ممتد في كلّ الاتجاهات، ما يمنحنا القدرة على التمييز والتصنيف وعزل الظواهر بعضها عن بعض.
من هنا يأخذنا الناقد(جورج طرابيشي) وتحديداً في كتابه (شرق وغرب، رجولة وأنوثة/1977م)([7]) إلى الدراما العبثية التي ينتهجها المثقف الكولونيالي، وإلى اختيار حلّ يجده غير صحي قائم على الوهم والعداء يوحي باستمرارية السلوك الاستعماري للنخبة الجديدة التي تعلّمت في حاضنة المدن المتروبوليّة، وتحت وطأة هذا الإحساس الذي لا يطاق ذلّه يميل أو يلوذ مثقف المستعمرة أوّل ما يلوذ بماضيه الحضاري الذي يفترض فيه أنْ يَنُم هو الآخر عن رجولةٍ، لكنّه لم يكتسب معناه الذي نعرفه من خلال إبراز التوتّر مع القوّة الإمبرياليّة على ما يميزها عن فرضيات المركز الإمبريالي، كونها تجربة صِدام عنيف دامٍ لم ينتهِ، وتجربة اقتحام وغزو كان تأثيرها في اتجاه واحد، ولمصلحة طرفٍ ضد طرفٍ آخر، وهي قسمة نجدها من جانبنا لا سبيل إلى إصلاحها تقوم على مبدأ الصوت الواحد وجزءاً من حركة غير محدّدة لا تخضع لتنظيم ما ويمارس فيها أشكال متنوّعةً من الاستعمار الجديد الذي يتناقض تماماً مع مزاعم التحرّر التي تنبع من المركزيّة الأوربيّة، وهي المزاعم ذاتها التي تنهض عليها نظريّة ما بعد الاستعمار التي تتحوّل فيها إلى تدعيم مواقف المركزيّة الأوربيّة وهم يواجهون وضعيتهم الذاتية الممزقة تلك إما بمحاولة تفكيك مفاهيم يرونها مختلقة وبائدة، أو بتطوير مفاهيم بديلة يرونها واقعيّة ومبشّرة، أو يواجهونها أحياناً بمزيد من التأمّل لوضعيّتهم المأزومة.
إنّ تصوير الناقد لتلك الحالة لا نجد فيها إلّا إشارة فنيّة لنوعيّة العلاقة بين أوربا المادية الاستغلالية وإفريقيا المستعمَرَة، وهذا يقودنا إلى أنّ التجنيس في العلاقة تلك وبحسب ما نتّفق فيه مع الناقد قد دفع ببعض الباحثين إلى القول بأنّ خطايا المثقف الكولونيالي (الشرقي) تبدو لا متناهيّة، ويأتي في رأس هذه القائمة قبوله بمنطق الغزوة المتروبوليّة وتسليمه بأنّ العلاقات بين الأمم والحضارات كالعلاقة القائمة واقعاً بين الرجل والمرأة (علاقة قوّة وتحكّم وسيطرة)، وبالتالي رضوخ واستسلام ومعاناة([8]).
إنّ التحليل الدقيق لما طرحه الناقد يكشف عن الخطاب الدقيق لمفهوم الاستعمار في الرواية، والذي يريد ألاّ يتحوّل إلى مجرد حقلٍ معرفي جديد يضاف إلى حقول أخرى، إنّه يريد- بدلا ًمن ذلك- أنْ يكوَن عمليّة تقوم على التمحيص والنقد الدائم للموضوع نقيضاً لعملية تنبني على نزعة شكيّة عميقة تطارد كل أساليب المعرفة القديمة والتي وصلت إلى طريق مسدود، وبغرض تفجير فاعلية النص يسعى الناقد – وبحسب ما نرى- إلى إخضاع الموضوع للتحليل الفاعلي الذي يكشف عن نسيج تلك العلاقة القائمة بين المستعمِر والمستعمَر وحصرها في الصراع الثقافي وتحويل قضيته الخاصة إلى قضية آخر؛ لتتلاشى التعارضات المربكة بين المركز والهامش، ويتدفق المجالان العام والخاص بلا توقّف وبلا تحديد كلاهما في اتجاه الآخر تترشّح كموجات في مجرى عملية الحياة نفسها، وهو مجرى لا نهاية له يحاول أن يتحايل أو يتمرّد على السلطة الداعمة له بكلّ ما أوتيَ من طاقات معارضة مُعلناً عن رغبتهِ العارمة في ابتكار أساليبه الخاصّة ودون أنْ يتكلّم دائماً إلى الغرب لسان حاله قائلاً (إنني جئتكم غازيا في عقر داركم)؛ ليمنح فعل الغزو طابعاً مختلفاً مأساويّاً وتدميريّاً دون لقاء الأعداء وجها لوجه، ممّا يدفع إلى أنْ يكون النص غنيّاً بتشكيلاتهِ الدلاليّة، واستقلال بنيته الفاعلية (اللغويّة والتخييليّة) والتي تنزع وبحسب ما نجد إلى استنطاق ذاتيّة الإنسان العربي ضاربة في أعماقهِ الفرديّة والجماعيّة نافذة إلى عمقهِ، وناقلة مجاهل تلك الروح الممزّقة بين عالمين ظلاّ يصطرعان في رحلة طويلة أحدهما ينظر إلى الآخر في ظلامٍ مشحونٍ بالمقاومة من طرف المستعمَر ومأساته الدامية حيث منبع الداء.
وعليه فإنّ ما يتم التعبير عنه ومن وجهة نظرنا تجاه ما طرحه الناقد يُفصح عن بناءٍ دلاليٍ مزدوج يدعونا إلى التساؤل عن خصوصيّة الموضوع وأزمته التي تعايشها شخصيّة البطل (مصطفى سعيد) والتي ستكشف لاحقاً عن تفاصيل حياتهِ وصراعهِ ضد المستعمِر من خلال الإمساك بناحية الحدث والذات القصصيّة، من حيث أنّ (الأزمة والارتجاج الذي تعيشه الشخصيّة المركزيّة يحدّد التمكّن من القصّة الحدثيّة وتحريكها، لتغدو وهي تمتزج بذلك التحريك نمطاً لتنظيم الأحداث من منظور ثنائي(سردي وتوليدي))([9])، يتجاوز وبكثير من مدلولاته النفسانية ويظل محدّداً بمقصده فيما يخص بالمواجهة الذاتيّة مع المستعمِر، تتكاتف فيها البنية الواقعيّة والرمزيّة لتبدأ المواجهة ولتنهار الفواصل والإيقاعات وتتعرّى من كلّ ثوبٍ حضاري كما تبدو خارج أيّة نمذجةٍ مسبقةٍ تظل بعيدة عن الخطاب الجاد الذي يفضي بنا إلى خطاب المواجهة، لتنتصب عوالم خرساء خالية من الفكر تنبعث منها آهات الألم والحقد والانتقام، كلّها ممزوجة بعوالم نجدها وهميّة تقوم على فكرة العلاقة الوهميّة بين عالمنا العربي و الحضارة الغربيّة الأوربيّة على وجه التحديد، وهذه العلاقة تبدو لنا علاقة قائمة على أوهام من جانبنا وجانبهم، إذ الوهم هنا يتعلّق بمفهومنا عن أنفسنا أولا، ثم ما نظن في علاقتنا بهم، ثم نظرتهم إلينا أيضا من ناحية وهمية، وهنا وضمن هذا الجانب فرضت أوربّا الغربيّة حضارتها على الشرق مدة طويلة وأصبحت جزءاً من تكويننا السيكولوجي والثقافي سواء أردنا ذلك أم لم نرد، ولو أنّ مصطفى سعيد حاول أنْ يلعب هذه اللعبة فإنّه لن ينجح إذ الأوهام بدأت تتحطم من جانبه، والشرق والبخور والعطور مجرد أوهام…[10] .
ونسجل هنا أن المأزَق الذي يعيشه مثقفو ما بعد الاستعمار، سواء أولئك الذين طلبوا الهجرة إلى الشمال وخاضوا معركتهم المستحيلة هناك، لأنّهم تعيَشوا على الأوهام واستغلوها واستمرؤوها كمصطفى سعيد، أو أولئك الذين عادوا وظلّوا يطلبون الصفاء والعدل، يطلبون لؤلؤة المستحيل الفريدة ويقاومون طُوفاناً يكتسحهم يوماً بعد يومٍ وسنةً بعد أخرى، إنّهم واقفون على مسرحٍ هزلي عبثًا يطلبون النجدة تماماً كما فعل الراوي (الشخصية الثانية في الرواية) إذ هم ملوثون بالعدوى، عدوى الرحيل، سواء الرحيل بالجسد أو العقل، وهو مأزق نجده يتكرّر ويتعمّق في عالمنا يوماً بعد آخر تُستعمَر فيه البلاد وتُقتّل العباد، وباسم الحضارة يتم الاستيلاء على السلطة ويُقمع الناس ويُقتّلون، وباسمها كذلك يتم قهر قوميّات وتدميرها وربما إبادتها في آخر المطاف ، ومن قلب هذه السياقات ينقلنا الناقد طرابيشي إلى حقيقة واضحة وثابتة تُمكّننا من استعادة وتشخيص مجموعة من الصور نجدها تربط بين واقعٍ نحياه في غفلةٍ من قوانينه، وعوالمٍ ممكنةٍ تصفّي التجربة تلك وترفعها إلى مصافي المخيال الذي يغذّي العقل ببعده الثقافي والقومي والفكري القائم على مفهوم الصراع بين المستعمِر والمستعمَر، وضمن تراتبيّة تشكيل الأحداث وخلق حالةٍ من التوتر تدفع بها إلى تأسيس معرفةٍ جديدةٍ تَتَبنّى الموضوع، توجّه ولا تضلّل وتوحي بما سيأتي على شكل فعلٍ أو إحالةٍ رمزيةٍ، وتدعو إلى تقويم علاقةِ الذات بماضيها وحاضرها، ولتكشف عن بنية الموضوع ضمن نسقه الثقافي والحضاري الذي يظل في الأعم مفتوح النهايات ومتشابك الخطوط، وهنا نرى أنّه (كلّما ازدادت النهايات المفتوحة وتكاثرت ازدادت استثنائيتها)([11])، وبمنظورٍ نقدي بعيدٍ عن دوغمائيّة الخطاب الإيديولوجي يسعى الناقد ليقول المسكوت عنه لِيبــرز مأساة العنف والدمار والقمع والقهر الواقعة من طرف المستعمِر على المستعمَر المسلوب الإرادة والحريّة، نسمع أصداءَ أصواته تتعدّد وتتناسل لتصل أجيال أخرى، وعليه تتشكّل بنية الخطاب الثقافي والتي تتمثل في إشكاليّة العلاقة ومفهوم الصراع بين الشرق والغرب لتكشف عن بنية التعبير النموذجي المقصود التي تظل- وكما مر سابقا- مفتوحة النهايات، غير أنّ ذلك لا يُعدّ كافياً فيما يحتاج إليه مثقف المستعمَرة الكولونياليّة، والقدرة على الإمساك بحاضره لا ماضيه، وقد يدفعه إلى ذلك رؤية تتخلّلها معرفة وجوديّة، وأخرى تُحدّد انتمائه الثقافي وهويّتهِ الحضاريّة، وأبْعادِ هذه الرؤية موجودة في أيّ خطابٍ مهما بلغ الحياديّة أو التجريديّة أو السطحيّة والمباشرة، وهذا يدفعنا إلى أنَ الحديث عن أزلية الصراع وبما يطرحه الناقد من رؤية تتخلّق أزليّة الصراع مع الآخر، تحاول أنْ تلغي تاريخيّتهُ وتجعل من الاستعمار حدثاً طارئاً في عملية المثاقفة، بوصفها علاقة تحدٍ وسيطرةٍ وعنفٍ وحتى اغتصاب، والناقدُ إذ يتعامل مع أزليّة الصراع وبهذه الصيغة نجده يستنطق المصموت عنه لا المجهور به، ومنطق الرواية لا منطوقها، ويفترض- ضمناً- وبما يترتّب عليه من تمويه وجود طرفين متصارعين يتمثّلان كلّ من جانبه قوّة الدهاء والمكر والخديعة.
وضمن الموضوع ذاته ينبثق مفهوم المثقف العربي في رؤية الناقدة (فوزيّة الصفار) في كتابها(أزمة الأجيال العربية المعاصرة- دراسة في موسم الهجرة إلى الشمال-1980م)([12])، لوضع المثقف العربي وضياعه بين الشرق الروحي، والغرب المادي وأوجه التأزّم بين حضارة كلّ منهما، يتجلّى ذلك سياسيّاً في علاقة المستعمِر والمستعمَر وما يتكشَفْ عن تلك العلاقة من صراعٍ دائمٍ، وثقافياً في الحكم على الطالب الإفريقي وبشكلٍ عام خطأ، وعليه تتساءل الناقدة ومن هذا المنظور مستفهمة في أنّه هل يمكننا أنْ نرى في الرواية تحليلاً وافياً لذلك الوضع المتأزم؟ وما الحل الذي يمكن الخروج به من ذلك الوضع المتأزّم؟
إنّ ما تطرحه الناقدة من رؤية نجدها تتمثّل توصيفاً حقيقيّاً للحالة الإشكاليّة التي يمثّلها مثقفو ما بعد الاستعمار والتي في بساطتها لا نجدها إلا عنيفة وعميقة، لكنّها واضحة ضمن دراسة تقوم بتسليط الضوء على ردّ المقموع وما يتّصل بذلك من معضلات الهويّة بما يتضمّنه من نظرة تنطلق من الإيمان بوجود عالمين مختلفين يقع كلّ منهما في جهة (مجازاً وفعلاً) بكلّ ما في الموضوع من معنى في مقابل الإشكاليّة التي طرحتها الرواية حول علاقة المستعمِر بالمستعمَر، وهذه العلاقة نجدها بالإتّفاق مع الناقدة أنّها لم تحظَ بما فيه الكفاية من الدرس؛ إما لأن الرواية تثير موضوعات أخرى لها أهميتها وصداها(مثل ثيمة الجنس)، أو لأن النظرية التي تبلورت فيما بعد بدت أكثر تركيبا وغموضا فيما يتعلق بالإشكاليات التي طرحتها والعلاقات المركبة التي دخلت فيها مع نظريات أخرى، ومثل هذه القراءة نجدها مبنية على ثنائية يفترض صانعوها أنها غير قابلة للتغيير تشهد على ما حدث من وجهتي نظر مختلفتين، وبالمثل فهي ليست ردة فعل لحدث ولا سجلاً لردة الفعل، بل هي تجربة نجدها دينامية تسمو على حدث معين وفي ا زمانٍ مختلفةٍ لا في زمنٍ محدد، ينقلها إلينا الكاتب(الطيب صالح) من خلال النقد الأدبي إلى نص تحاججه الناقدة مستعينة بفكر النظرية وفلسفتها في قراءة الموضوع وتشكله من جديد وتجعله في حالة ديمومة مستمرة، محاولة هدم ونقض مفهوم النظرية وتجاوزها وبيان عبثيتها ولا جدواها، وهذا ما أعطاها من ناحية وضعية قلقة وممزقة، ومن ناحية أخرى زخما نظريا استمدته من التفاعل مع الأفكار التي طرحها الكاتب، وما يتكشف عنها من أنظمة ثقافية، وحسب مفهوم الدراسات الثقافية أن النص ليس سوى (مادة خام يُستخدم لاستكشاف أنماطٍ معينةٍ من مثل الأنظمة السردية والإشكاليات الإيديولوجية، وانساق التمثيل، وكل ما يمكن تجريده من النص)[13] .
ومن منظور آخر وتحت مفهوم نظرية مقاومة الاستعمار، وممارسة هذه المقاومة في ظل الخطاب النقدي تتبنى الناقدة موقفا مضطرة لاختياره- نجده حلا غير صحي- حلا صراعيا قائما على الوهم والعداء، ضمن موقف تتعالى فيه على الدراما العبثية التي ينتهجها المستعمِر للوصول إلى غاياته ومعتقداته، وهذا يوحي بنوع من الخطاب يركز على العنف الضروري المصاحب لعملية تفكيك الاستعمار ومقاومته، والخطاب الذي طرحته الناقدة نجده يوافق ما طرحه (فرانز فانون)* في مجال النظرية الاستعمارية وما بعدها ومقاومة الاستعمار وإبراز التوتر مع القوة الامبريالية، يركز فيه على مقاومة الاستعمار كونه ظاهرة عنيفة على الدوام،إذ يرى (أن تفكيك الاستعمار ليس عصاً سحرية، ولا صدمةً من صدماتِ الطبيعة، ليس تفاهماً اخوياً، انه كما نعرف عملية تاريخية، انه لقاء قوتين متعارضتين أصلا وبطبيعتهما، لقاؤُهما الأول اقترن بالعنف، ووجودهُما معاً ظل مقترِناً بالعنفِ على الدوام)([14]) ، وبهذا المعنى تَتَمثل التجربة تلك على انها تجربة صدام عنيف دامٍ لم ينتهِ، في حين يراها البعض الآخر تجربة تاريخية تركت آثارها على المستعمِر تماما كما تركت آثارها على المستعمَر، لقد أدت هذه التجربة وبحسب ما نراه من سياقات الموضوع وبما صاحبها من صدمة اللقاء العنيف إلى آثار هائلة على المجتمعات المستعمَرة، مما قسم هويتها ودفعها إلى الدخول في عملية بحثٍ عن هويتها التي تشظّت، وذاتِها المتوهمة، والانسراب إلى العالم من دون قيود أو حدود، يتخللها روح الانخلاع من نقطةٍ ثابتةٍ وانتماءٍ واحدٍ متحجر، وتاريخٍ يُتصور له الكمال يرحل في تناقضات العالم ولا تجانسيات الثقافات والمجتمعات المختلفة، ويتلمس تبرعُم الطاقات والقوى الجديدة التي تَعِد بثقافاتٍ مغايرةٍ، وأخيرا تتلمس الناقدة بعض الحلول التوفيقية والتي تأبى من خلالها التوقف أو الرجوع إلى الوراء وانه لا بد من النظر إلى الأمام لأرخنة المستقبل، بهدف إحداث تحول جذري في المحيط الذي نعيش، إذ الصراع- وبحسب الناقدة- امتد بين الشرق والغرب وعلى مستوياتٍ مختلفةٍ ينزع من ذلك إلى الإطاحة بمركزية الذات وزعزعة استقرارها ويقينها من هويتها، والعمل على إعادة صياغة كيانها بشكلٍ يتسمُ بالتحول والتبدل والصيرورة، كما كان يتسم بالتفتت والتشظي والتفكك في لحظة ضياع تَدركُ من خلالها الذات أن الوقتَ قد حان للخروج من سُباتها الطويل، وضرورة تلقيح الشخصية حتى لا تذوب وهي تواجه المستعمِر أو تتحللَ فيه ضمن صراعها مع الآخر الغربي، والذي قد تحول هو الآخر ليتنصل من تصور كل من الذات والآخر بوصفهما( كيانات ثابتة تتفاعل مع بعضها بعضاً إلى تصور الذات جزءاً من عملية حوارية مستمرة مع الآخر، وهو حوارٌ بين صيرورتين متحولتين ومفتوحتين على مجموعةٍ لا متناهيةٍ من الاحتمالات)[15] تتخطى العلاقة التقليدية بينهما لتكون أكثر موضوعية، وهنا نرى أن الذات ومن خلال ما توصلت إليه الناقدة، وفي ظل صراعها مع الغرب بدت متحركة ومتحولة وفق المتغيرات الخارجية، والتي وصلت بها وبما نستنتجه إلى التشظي والانكسار والعجز مثلما تدل عليه نهاية مصطفى سعيد في صراعه مع الغرب المستعمِر، وبذلك وجدنا أنفسنا أمامَ حالةٍ من الفهمِ لا تتكون من خلال إخضاع النص للنظرية، بل من خلال إخضاع النظرية للنص،لا تُحل لا على المستوى الفردي ولا على المستوى الجماعي ولتبقى عالقة ما بين الواقع وارتهاناته، والخيال ورمزيته، يحتم الظرف إعادة النظر فيها كما في امتداداتها، يجد فيها المثقف العربي نفسه ضائعاً بين متاهةِ أنظمةٍ سياسيةٍ غير قادرةٍ على البناءِ والإصلاحِ.
ومهما يكن من أمرٍ فان الروايةَ(موسم الهجرة إلى الشمال) وبما تحتلهُ من مكانةٍ لا يمكن أنْ تتحول إلى مجرد إثباتٍ لمطلوبٍ أو فرضيةٍ، إنها شأنُ كلِ عملٍ فنيٍ كبيرٍ تعكُس واقعاً محدداً وتجيبُ عن أسئلةٍ في الوقت الذي تحافظُ فيه على غموضها مُنْتَجَاً، وعلى أسئلتِها مُعلَقةً مفتوحةً، ووفق هذه الرؤية تطرح الناقدة(يمنى العيد) في كتابها(في معرفة النص/ 1983م )([16]) وتحت عنوان (زمن السرد الروائي في إنتاجه دلالات التملك للوطن في رواية موسم الهجرة إلى الشمال)،تطرح ووفق منظور (الشخصية التاريخية المأزَقية) الاتجاه الثقافي الرافض للغرب الاستعماري، وكيف يمكن أن تكون الثقافة عنصراً مساعداً في تحقيق هذا الاتجاه، مبدءاً تنظيمياً اختارته الناقدة في قراءتها لموضوع الاستعمار ووقوعه في خطاب سياق الاستعمار وما بعده، جاءت وفق مرحلةٍ تاريخيةٍ طويلةٍ بَدأت مع دخولِ الغربِ الاستعماري وما زالت عند الكثيرين ومستمرة حتى أيامنا هذه، إذ رحبت بلداننا- وبحسب الناقدة- بالغرب عند بدايات دخوله محررا، حاملا حضارة وثقافة، مساعدا، ولما تكشَف الوجهُ الاستعماري لها رفضتهُ ووقفت ضدهُ، ومع ذلك لم تتحرر ولم تمتلك أوطانها، ووفق مجموعة من الأسئلة تطرحها الرواية والتي تتمثل شخصية المثقف العربي، نرى أن الناقدة تكشف ومما سبق عن الرؤية الإيديولوجية للكاتب في طرحه للموضوع معتمدةً العلم والثقافة في الكشف عن تلك الإيديولوجية والوصول إلى حقيقةِ الصراعِ بين المستعمِر الذي يعمل على استبدال العلاقة الاستعمارية بالعلاقة التحضيرية، وتغييب السياسي بالحضاري الذي يتقدم إلى الواجهة، والذي يكشف السياسي الحاكم من موقع سياسي آخر وفقاً للمنظور الاستعماري أو وفقاً لما يُنجِح المهمة الحضارية المزعومة ، والمستعمَر الذي تعبر عنه تلك الإيديولوجية لا بشكل مباشر بل بتمثيل حضور الصراع فيها وعلى المستوى الثقافي نفسه، بما يدفعه لإعادة إنتاجِ موقفٍ يتلاءم وحاجاتهِ المحدَدَة بموقعه طرفاً في الصراع، مشحونٌ بطاقاتٍ ومشدودٌ برغبةِ الاستمرارِ في الصراع، ومن هذا المنطق تكشف الناقدة وبما نراه الواجهة الثقافية لمنطق بعض الدارسين من النقاد والباحثين من أن الغرب جاء بمهمة حضارية لا استعمارية، مفندةً ذلك المنطق الذي ترى فيه واجهةً ثقافيةً تُخفي من ورائهِ السياسي الذي يتقدم الخطابَ الاستعماريَ فعلاً تحضيرياً تنْفتحُ على أبوابهِ المعرفةَ التي هي طريق مصطفى سعيد للدخول في عالم الغرب الاستعماري والنيل منه حتى في نسائِهِ، والتي تُغيِر وبحسب الناقدة زمن رؤْياهُ ونظرته لتلك الواجهة التي جاء عبرها المستعمِر جزءاً من البنيةِ القائمةِ على الهيمنةِ، ومن هنا تسعى الناقدة إلى الكشف عن حقيقة الغرب وإعادة المعادلة وضمن الوضعية التاريخية لمفهوم الصراع بين الغرب والشرق وفضح الالتباس فيه.
لقد انقلبت المعادلة والمثقف العربي فيها بل وفي الزمن الوقائعي- وبحسب الناقدة- يعيش عملية إعادتها مُمَثلاً بـ (مصطفى سعيد) الذي ترى فيه أنَهُ لا يمكن له أن يعيد تلك المعادلة أو أن يلغي فعله الثقافي؛ لأنه لا يمكن أن يكون إلا زمنه، إذ كيف يمكن له أن يلغي حضور الغرب الذي هو حضور تاريخي، كيف يمكن له أن يلغي هجرتَهُ التي تُغيِر زمَنَهُ الداخلي، وتتابع الناقدة حديثَها عن تلك المعادلة لنجد التباساً في ذلك، إذ ترى أن إعادة المعادلة تلك من حيث الرؤيا والتشكيل وفي ظل التاريخي منها لم تكن عملية سهلة لا بسبب التاريخي فيها؛ إذ انقلاب المعادلة كان فعلاً ملتبساً أيضاً، فعلٌ يتقدم إلى الواجهةِ على غير حقيقتهِ، فعلٌ ثقافيٌ يُخفي السياسي من ورائِهِ، يتقدم فعلا تحضيريا، ومن هنا سعت الناقدة قُدُماً إلى كشف حقيقة هذا الخطاب وفضح الالتباس فيه وتفنيد حقيقته، وتفنيد المقولة القائلة أن الغرب جاء بمهمة حضارية لا استعمارية، وكذلك محاولتها قلب الإطار الزمني لفعل الإقصاء الذي يعمل على تفكيك خطاب المستعمِر، والذي يعبر عن وضعية ممزقة مؤلمة هي ذاتها النتاج الحقيقي لفترة الاستعمار وفلسفته وتمزقاته، حكاية يبدؤها مصطفى سعيد، هي المشكلة وهي السر، وعلى حد هذه المغايرة ينهض الصراع وهماً حيادياً غيرَ متوهجٍ بالمعرفة يتخذها الغرب طريقاً لتغييب مفهومه الاستعماري، ومن هذا المنطق يكشف موقعه وحقيقته طرفاً في الصراع أساسي يحاول ومن ذلك تغييب السياسي في الحضاري، أقامَهُ وهماً حيادياً فاتراً غيرَ متوهجٍ بالمعرفةِ مُعْتَمِداً العلم والثقافة في أيديولوجيته التي تمنح وبحسب ما يرى شرعية تملك هذا البلد وأُناسِهِ.
بهذا المعنى الميتافيزيقي الذي يُبرِزْ التحليل الدرامي للسياسة الاستعمارية وعنفها، وآثارها الغائرة وعلى المدى البعيد، تحاول الناقدة ومن رؤية نقدية استخلاص ذلك المُنْجَزِ الغامضِ في خطاب الاستعمار وما بعده والذي صاغ من الوجود الحقيقي والمتخيل لشعوب الشرق صورة خاصة أشبه بالفانتازية إلى حدٍ بعيد، غير أن التحليلَ الدقيق يكشفُ ومن خلال تلك الصورة ما رصده الناقد الفلسطيني(ادوارد سعيد)([17]) وضمن خطاب الاستشراق وبطريقةٍ ما جزءاً غامضاً ومراوغاً من سياسةِ الاستعمارِ الأوربي لبلاد الشرق، مما دفعها إلى الدخول في مواجهةٍ تركت آثارها على الطرفين على المستعمِر والمستعمَر وعلى حدٍ سواء، ولكن- تتساءل الناقدة- هل يكفي أن تنكشف هذه المستويات للوعي حتى يصيرَ قادراً على التحرُرِ من أسْرِ العلاقة بالاستعمار ومن منطقه أو أيديولوجيته؟ هل يكفي أنْ نعِي أن الغربَ يستعِمِرُنا كي نتحرَرَ من أيديولوجيته؟
إن ما نراه ومن هذه الأسئلة التي تطرحها الناقدة أن عملية فكفكة الاستعمار ومقاومة الامبريالية تظلانِ إلى حدٍ ما فعلاً غيرَ مُنْجَزٍ، يُبْرِزُ محاولةً لتوصيفِ الحالةِ التي يتمثلها المثقف العربي وهو منتم إلى ثقافتين في الوقت نفسه، وهذا يوضح من جانبنا مدى ما يعتري مثل هذه الحالات من غموضٍ وإشكالٍ يتزايد مع مرور الزمن ويتداخل في مجتمعاتِ ما بعد الاستعمار،التي جاءت كفكرة تاريخية يكمُن تعنُتَها الثقافي في موقفِ الغربِ الرافضِ لهذا الاتجاه، وهو تناقض محدد ناتج عن فكرة نجدها مؤقتة تعني واقعاً اجتماعياً انتقالياً يُوجِهُ سِهامَهُ المُمِيتة إلى المزاعم التي جاءت بها الحضارة الغربية، وبين الرفض والقبول ومن منطلق المعادلة المقلوبة يتكشف لنا السياسي عن مستويات العلاقة التي يقيمها الغرب مع الشرق على وفق(مجموعة الانطباعات والتأثيرات المُوجَهَةِ من الثقافة إلى الفرد، ورد فعلهِ بوصفهِ مشكِلاً وُمُحوِلاً لِمجراها)[18]، وضمنَ سُبُلٍ تَحُدُها وتُحَدِدُها سياقاتِ المُؤَسَسَةِ الثقافيةِ التي تنطلق من موقع المعارضة والاختلاف على أساس ثنائية المواقع والقوى، ثنائية تجدها الناقدة تُشكل- وبما تمتَلِكُهُ من مصطلحاتٍ ومفاهيمٍ- مُرْتكزاً لهذا الفكر الذي يَتَخِذُ أنماطاً وأشكالاً مُغايرة في بنية السرد التي تجعل العلاقة تلك تتحرك من الامتلاك إلى الفقد دون أن تنتهي إلى تسوية.
والحق أن شخصية المثقف الوطني المستعمَر ليست سوى تنويع لتلك العلاقة التي تجمع بين المستعمِر، والمستعمَر الذي أتقن لغة الأوربي المستعمِر ثم أخذته شهوة المعرفة في رحلة طويلة إلى جنة المنبع في الشمال ليعود منها مثقلا بالتمزق بين عالمين في تاريخه ونزوعين في نفسه، نجده وإزاء ذلك يعاني هناك ولا يزال يعاني هنا من صراع لا آخر له(قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ)([19])، غير أن التجريد والغموض في هذا الصراع سيصلان بنا إلى نقطة تحول مدهشة، لكنها لا تتضمن ختاما ولا تحديدا للمصاعب بل نهاية مفتوحة على كل التأويلات الرمزية القصيرة والمكثفة(العالم انقلب فجأة رأساً على عقب)[20] ، ومن هنا استطاعت الناقدة أن تكشف ومن خلال تلك العلاقة عن عقدة النقص التي يعاني منها وبشكل خاص المثقف العربي الذي تربطه بالغرب علاقة لا تجد حلها في سلوك انتقامي منطلقه ردة الفعل، والتي لم تعد وبحسب الناقدة علاقة مستعمِر بمستعمَر بل علاقة غرب بشرق، متقدم ومتخلف، مكانان وحضارتان، مؤشر تجده الناقدة ونراه معها وطيلة المسار الروائي للموضوع يوحي بالعجز والغربة وعلى أكثر من صعيد، وهو إزاء ذلك يمارس فعله في إطار المعادلة السابقة بين الحضارة والجنس، أو بين ما يكشف عجزا أو ضعفا في طرف الجنس في الغرب والذي يخفي ضعفا في الطرف الثاني(الحضارة في الشرق)، وعليه نتوصل مع الناقدة إلى أن الكاتب الطيب صالح يعبر عن رؤية لامتلاك الوطن تحرره من الاستعمار الأوربي عبر طابع صراعي ينهض على محور تملك الوطن، لكنه وعلى مستوى الثقافة صراع يُتوصل به إلى الانتقام من المستعمِر والنيل منه في عقر داره، مما يجعل منه صراع مثقف محكوم بعقدة الدونية التي لا يتحرر منها إلا بواحد من اثنين:
- الوقوف في الجانب الغربي أو التمثل بالثقافة الغربية.
- الوصول بالوطن إلى الحضارة الغربية أي التماثل به أيضا.
والواقع أن مصطفى سعيد الذي يمثل شخصية المثقف العربي في الرواية وبعد عودته لا يعاني من عقدة الدونية في وطنه، الذي لم يصل وبحسب الناقدة بعد إلى مستوى الحضارة وهو غير متماثل بثقافة الغرب، بل هو مرتبط (بالجد/ الماضي)[21] ، وهنا يتشكل الصراع ضمن محورين تتبناهما الناقدة ينهض الأول على المستوى الثقافي، والثاني ينهض على المستوى السياسي، يتماثلان ليغيب احدهما في الآخر، ومثل هذا الصراع نجده قائما في الرواية يتبناه الكاتب وترصده الناقدة محورا ثانويا يكشفه محور الصراع الرئيس ويحدد دلالاته الوظيفية، وتجعل منه صراع مثقف محكوم بعقدة الدونية ضرورة لاستمرار الغرب في مهمته، وترسيخ علاقة التبعية وفقا للمنظور الاستعماري ومن منطلقات الفكر الاستعماري.
إن الصورة الكامنة في العلاقة التي يتخذها المثقف العربي يمكن أن نصفها بالعلاقة المتعدية التي تتخذ الصراع صوره الثقافية والرمزية ممرا نحو الانتقام من الذات والخصم، بؤرة للنيل من كل ما يمت بالمستعمِر من صلة تفسره الصيرورة التاريخية التي تبلورت من خلال مفهوم خطاب الاستعمار وما بعده، وفق زاوية النظر تلك يتبنى الناقد(محمد عزام) في كتابه(البطل الإشكالي في الرواية العربية المعاصرة/ 1992م)([22]) مفهوم البطل الإشكالي في الرواية وعلاقته بالمستعمِر، يتمثل في شخصية مصطفى سعيد التي يرى فيها الناقد تمثيلا للبرجوازية المحلية الكولونيالية وهي تخرج من رحم الغرب الاستعماري الامبريالي، وهذا نوع من السخرية في الشخصية انه ابن البلد ولكنه (عاد إليها كمستعمِر، ونظر إليها كشيء وهمي أيضا)([23]) انه الوهم الذي ينبغي تحطيمه وتجاوزه والإفاقة من سكرته.
ربما نرى ومما سبق تحول لمرحلة تاريخية محددة تفضي بالمثقف العربي وفي ظل خطاب الاستعمار إلى مأزق ذاتي ووجودي لا سبيل للهرب من تناقضاته ليس له حل بسيط أو حاسم، حينما تطابق الشخصية وبسلوكها العملي جوهر البرجوازية المحلية باعتبارها ومن وجهة نظر الناقد خادمة للمشروع الغربي الاستعماري الامبريالي، وهو بحصوله على جواز سفر انكليزي يصبح انكليزيا فيلقبه بعضهم بالإنكليزي الأسود ، وكونه من المثقفين المتخرجين من المدارس الكولونيالية، فهو النموذج للمثقف البطل في مجتمع الاستعمار عاش تجربته، وتشربها في لغته وسلوكه واستوعبها كاملة وأدرك قِواها الفاعلة روحيا وجسديا، تلوث به وانغمس في نسائه، سلوك نجده يتسم بالذاتية والفردية ونتاج لمواجهة سبقته ولاحقته بطريقة غير مباشرة منحته كل أسباب التفوق على أقرانه، وهذا ما يتركنا أمام توقع روائي يكشف عن الأوراق المخبوءة لتلك العلاقة التي شابها الغموض والشك والريبة بالمستعمِر الأوربي تتكاثر وتهيمن على الساحة الثقافية وتنتقل من حقل إلى آخر من حقول الثقافة، من السياسة إلى الاقتصاد إلى الفلسفة والتاريخ، وهذا يبدو توصيفا حقيقيا للحالة الإشكالية التي مر بها مثقفنا العربي وهو في تلك المواجهة التي تبدو أكثر تركيبا وغموضا فيما يتعلق بالإشكاليات التي طرحها الناقد حول علاقة المستعمِر بالمستعمَر، ومصطفى سعيد هنا لم يكن عقلا خالصا على مقاعد مدرسة الحضارة، إنما عقلا تخيل أن الحضارة قابلة لان تضغط وتكثف في أقراص تبتلع ابتلاعا،إذ نداءاتها غامضة ورموزها توحي بانعكاس للوضع المأزوم الذي تعيشه البلاد، وعن أزمة ومأساة ومسار المثقف بين التمسك بالقديم والانفتاح على الجديد ، وللخلاص من ذلك انه يجب على الشعوب المقهورة والمسلوبة الإرادة والتاريخ والتي كشفت لها الصدمة الاستعمارية عن تخلفها أن تستيقظ وتحرق المسافات الحضارية للخلاص من ذلك المستعمِر، وهذا وبما نراه مع الناقد انهٍ يفتح أفق تأويل النص ويعيد قراءة التاريخ الذي تفوح منه رائحة الموت، تدرك به الذات المستعمَرة الخلاص من الحرية المدعاة(أن أكون حرا غير موجود)[24] من منظور ارتباط الموضوع بخطاب الاستعمار وما بعده، مما يفتح لنا نحن السادة القراء أبعادا وزوايا وتفاصيل تُغري بقراءة الموضوع وتعكس واقعيته، وفي الوقت ذاته تحافظ على غموضه مُنْنتجا، وعلى أسئلته مُعلَقا مفتوحاً.
وتستمر الدراسة موصولة بما طرحه الناقد(محمد شاهين) الذي يبدأ في دراسته الرائدة(تحولات الشوق في موسم الهجرة إلى الشمال/ 1993م)([25]) بالإشارة إلى أفق الأدب المقارن الذي سوف يتناول به الرواية من منظور نقد الهندسة الكولونيالية، موضوعا له صبغة عالمية وإنسانية مثل تلك التي كتبت بها الرحلة اذ طرق من خلالها فكرة ان الاستعمار، جاء بوصفه مشروع مقاومة سردية بدرجة وعي عالٍ بالسرد رد بالكتابة على عنف الهندسة الاستعمارية وتحليلا بالسرد أيضا للبنية النفسية للذات المثقفة المتشظية، والبنية الداخلية لصيغة السرد التي تظل نصا مفتوحا لتفسيرات متنوعة ربما نجدها من جانبنا ومما طرحته من متغيرات أنها سعت إلى نسف تجليات الكولونيالي في فضاءات جغرافيا سياسية أنهكها عنف الاستعمار بمستويات مختلفة من هيمنة لسانية وعرقية وثقافية.
إن ما تناقشه هذه القراءة وبما يطرحه الناقد يبدو ومن منظور خطاب الاستعمار توصيفا حقيقيا للحالة الإشكالية التي طرحتها الرواية حول علاقة المستعمِر بالمستعمَر، ووضع حد للصراع القائم بين حضارتين شرقية وغربية، يعالج ومن خلالها الكاتب قضايا الاستعمار والاستغلال والهيمنة والقمع، وهنا يبقى السؤال مطروحا حول استيعاب شخصية المثقف العربي- والتي يمثلها مصطفى سعيد في الرواية- للغرب ومجابهته بعد إحساسه بالعنصرية التي واجهها هناك، مدعوما بغزو بالغ التعقيد يندمج فيه الهيام والإعجاب بالحقد والانتقام، حيث يمثل البطل الضحية والسفاح والعاشق معا، علاقة تماه بين غالب ومغلوب مبنية على الصراع الجدلي والعدوان والكراهية، والمثقف العربي الراحل إلى الغرب قد تفوته أو تغيب عنه هذه الحقيقة وقد يدركها بعد أن تهد هذه الحضارة قِواه، قد يتماسك أو ينهار ويتردى في هاوية اليأس، وهنا يرى الناقد ومن منظور المجابهة مع المستعمِر انه إذا كان مفهوم الخطاب الاستعماري وما بعده قائم على فلسفة رواية ما بعد الاستعمار التي تأثرت بالسياق الامبريالي على نحو يحيل إلى سياق معقد ومتداخل ضمن إطار علاقة المواجهة بين المركز من جهة والهامش من جهة أخرى، بطريقة مجردة تخضع لمقدمات ونهايات استوعبها مصطفى سعيد في مواجهته مع المستعمِر من خلال تمثله وتمثيله لقصة الاستعمار، لكن هذا لا يعني ومن وجهة نظر الناقد انه استطاع أن يصل إلى الوجه الحقيقي للغرب الاستعماري الذي تستر وراءه بوجوه مختلفة، إذ بعد إن كان الغرب عنده مكانا رفيعا للحضارة والثورة الصناعية أصبح قطبا استعماريا وعدوانيا، وانبنت علاقته بالغرب الاستعماري على قاعدة غالب ومغلوب، لذا كان لا بد له من مجابهة الموقف بمثله، ووجد نفسه يكيل لهم الصاع بصاعٍ على الأقل، وان يقابل سوء الفهم عندهم بسوء فهم مصطنع عنده، وهذا في نظره يحيل إلى مواجهة أصبحت جزءا من تكوينه الثقافي والسيكولوجي، تفرض عليه انتمائه لبلده المستعمَر، واستبعاد الانتماءات الأخرى، وهنا يتجلى خطاب الشخصية المثقفة في انه يجسد حضور الذات الشرقية المستعمَرة إلي هي ذات تاريخية سواء كانت منجزة لفاعلية تاريخية ما، أم ناسخة للخطاب التاريخي الغربي المستعمِر، متقمصة له أو منفعلة به، أو ما تتطلع إليه من انجاز فاعلية مغايرة للمشروع الاستعماري مستقلة عنه ومتجاوزة له.
هكذا يبدو الغرب المستعمِر وكما وجدناه في عيني الناقد حمالا لأوجه متعددة ضمن سياقه النقدي، فمن الوجه الحضاري الفني والفكري إلى الوجه الاستعماري الامبريالي القبيح، والوجه التقني المتعصب الاثنوغرافي الذي يعكس إيديولوجية المستعمِر ونظرته السياسية تجاه الآخر المستعمَر، ومن هنا نرى مع الناقد أن شخصية المثقف العربي ممثلة بمصطفى سعيد في الرواية قد تمثلت المواجهة في رعب القصة من أولها إلى آخرها، وليصبح ذلك التمثل أشبه بجرثومة المصل المضاد الذي نزع الخوف من قلبه وغرس فيه رغبة المواجهة والتحدي، وعليه كان استيعابه للغرب من خلال الدخول معه في مواجهة لا مجادلة، وما يؤكد ذلك مشهد المحاكمة التي عقدها الكاتب لإبراز حقيقة الصراع مجازا بين المستعمِر والمستعمَر والذي يعبر- أي المشهد- عن نمط من سلوك المستعمِر يتوهم فيها أن الجناية هي في الجاني الماثل أمامه وفي محكمته التي يريد لها أن تكون مصطنعة حيث هوية الجاني وجنايته والمحكمة كلها من صنع الحاكم الذي تكمن الجناية أصلا في عدوانيته، وهذا يوحي من جانبنا بتكريس وهم تعويضي ناجم عن عجزه في الفعل وإحداث مفارقة سردية تتجه إلى الأمام والتنبؤ بما سيكون عليه الصراع ومنح فرصة للذاكرة كي تستحضر ما فاتها من الماضي وتمنحه الحضور والاستمرارية في الحكي، والجانب الفكري فيه يكشف عن أهداف الغرب الاستغلالية والاستعمارية ينطلق من نظرة نجدها استقطابية تزعم ومن وجهة نظر الناقد أن هناك ذهنية شرقية وأخرى غربية، ومنطق شرقي وآخر غربي متفوق بحكم تكوينه، والشرقي عصي على التطور يختزن مورثات تشده دائما إلى الوراء، من هنا بدأت صرخة المثقف العربي – حركة رمزية متعمدة من الكاتب- جرى تمثيلها سرديا في الرواية بأبعادها الموضوعية المتصلة بمشهد المحاكمة، وأبعادها الذاتية المتصلة بشخصية مصطفى سعيد الذي أطلق صيحته وأثناء محاكمته من قبل المستعمِر لتقول أن الاستعمار قضى تاريخه الطويل وهو يبحث عن الجاني دون أن يصل إلى نتيجة وكأنه لا يعترف بمنظوره المقلوب وازدواجيته التي يحكم بها على الأمور،جزءا من البنية القائمة على الهيمنة تستند ومن وجهة نظر الناقد جميل حمداوي إلى رؤية عدوانية تحاول تغريب الذات المستعمَرة وإقصائها وتهميشها([26]) .
ومن موقع العاجز والمقهور تنقلب الأدوار بشيء من البلبلة في العالم السردي بين الدال والمدلول، بين السبب والمسبب لتنتقل المحاكمة من مستوى غير حقيقي يكشف زيف الحضارة الغربية، نجدها مع الناقد ليست سوى قناع حضاري يخفي من ورائه وجهه الحقيقي؛ لهذا يصرخ مصطفى سعيد دوما في سره ، ولأنه يعرف أنْ لا فائدة من الصراخ يوهم نفسه بإرادة تصبح قدرية بالنسبة إليه يسلك فيها طريقا ملتويا لعلاقة لا يوجد فيها ما يربطه بعطيل، إنه أكذوبة يجعل المستقبل متوقفا على عالم طوباوي يعبر عن نمط من التفكير يبوح ولا ينطق ، يشدنا وبحسب الناقد إلى سر يظل موضع استفهام يجعلنا مشدوهين إليه دون معرفة صريحة أو تمييز تجسده الشخصية وعلى نحو انتقامي يتداخل فيه راهن التاريخ بماضيه ليرجع وفي حاضر السياق الروائي إلى مآسيه التاريخية التي صنعها المستعمِر في مراحل حياة المثقف العربي المختلفة وهو راهن في ظل الاستعمار، وهذا ما يجعل العلاقة بينه وبين المستعمِر تأخذ طابعا انتقاميا وثأريا، يعاصره وينتقل بمؤثراته من الماضي الاستعاري إلى عتبات الراهن الذي نراه ومن وجهة نظر شخصية أنه لم يعد يتوقف عند حدود استعمار الأرض، بل تعداه إلى ما اسماه (بيتر وورسلي)([27]) باستعمار الشخصية، وهو ما وعته وانتبهت إليه الرواية ونسجت على أساسه مكونات حاضرها السردي ودوافع أبطالها التي رسمتها منظومة السياق الروائي الواقع تحت مفهوم (الرواية الحضارية).
وتحت مفهوم الرواية والنقد ما بعد الكولونيالي ينقلنا الناقد إلى قراءة نقدية مفصلة يحاول ومن خلالها استلهام مساحة من الرؤية يربط عبرها الرواية وموضوع الاستعمار بالروايات الحضارية الأخرى، وهي قراءة نجدها إيديولوجية انتقائية تسعى إلى كشف النزعة الامبريالية الاستعمارية ومقاربة ذلك في علاقة معكوسة مع تجربة الكاتب (جوزيف كونراد) في روايته(قلب الظلام)([28])، تنبع أهميتها وبحسب الناقد من أنها تشكك في المهمة الحضارية المزعومة التي تعطي بموجبها أوربا لنفسها الحق في استعمار الشعوب التي كانت تصفها بالبربرية والتوحش، فجاءت الرواية لتفضح زيف تلك المهمة الحضارية المزعومة، وتكشف ظلام الجشع والطمع الامبريالي، ولتمثيل ذلك يعرض الناقد رؤية (ادوارد سعيد) لتلك العلاقة المعكوسة في مقاربة ثيمة الاستعمار بين الرواية وقلب الظلام، الذي لم يقدم فيها قراءة مفصلة إنما اكتفى بإعطاء مؤشرات عريضة لتلك العلاقة ضمن مؤلفه الكبير(الثقافة والامبريالية)([29])
إن جوهر الوعي الروائي الذي يعرض ومن خلاله الناقد رؤيته للموضوع وعبر استخدام التقنية الأسلوبية يكشف عن علاقة معكوسة في مقاربة الاستعمار بين الروايتين بوجوهه الثقافية والسياسية، وحل الإشكالية الاستعمارية التي تتمثل في لعبة التطهير التي تقوم بها الشخصية وإعادة تمثيل الرحلة إلى الشمال رمزياً وتوظيفها معادلا فنيا في المفاضلة والمقارنة بين النصوص الأدبية التي لا تتم من خلال وحدة الفكر والموضوع فقط، إنما على أساس طريقة التناول(الرؤية) وأسلوب المعالجة الفنية للفكرة أو الموضوع وهذا هو شغل النقد لا القراءات الإيديولوجية؛ لذلك لا عجب أن وجدنا أصداء لبعض التعابير والتشبيهات والاستعارات التي ربما يكون الكاتب قد استلهمها من رواية قلب الظلام تأثراً بكاتبها، وهذا ما دفع ببعض النقاد إلى إطلاق أحكام نقدية تتعارض والرواية في علاقتها المعكوسة مع رواية قلب الظلام، مأخوذة إلى عمقها التراجيدي المتطرف والشديد التمثيل والذي يرى في حكاية مصطفى سعيد رداً عنيفاً ومتطرفاً على غزو الاستعمار لجسد القارة الإفريقية، فمنهم من يرى أن الرواية إعادة كتابة لقلب الظلام،إذ يعكس الطيب صالح مسار الرحلة من الجنوب إلى الشمال ويعيد تأويل رسالة كونراد،
وان الرواية مسكونة بالكتابة الكونرادية([30])
إن الزعم بان الرواية ومن منظور النقد ما بعد الكولونيالي إعادة كتابة لرواية قلب الظلام نجده والناقد استنتاج خاطئ ومتعجل، ولعل ما يؤكد ذلك أن الناقد ادوارد سعيد ذكر الرواية من بين أفضل ست روايات في معالجتها لموضوع الاستعمار، وبالطبع لا تستقيم هذه المكانة التي وضعها الناقد مع توهم البعض أن الرواية إعادة كتابة لقلب الظلام، إنما ما رآه علاقة معكوسة في مقاربة الاستعمار، ولو كان مجرد التشابه- فرضاً- في الموضوع يكفي لإثبات نفي الأصالة في الإبداع فالأولى أنْ نقول مثلا أن الرواية هي إعادة كتابة لمسرحية عطيل وليس لرواية قلب الظلام، إذ شبه مصطفى سعيد نفسه بعطيل ثم نفى ذلك أمام المحكمة، إن المشكل هنا وبحسب ما نراه ونتفق به مع الناقد يكمن في منظور ما عرف بالنقد ما بعد الكولونيالي، وهو منظور يكتفي بتصنيف النصوص الأدبية حسب التحقيب الزمني وحسب اشتراكها في الاشتغال على قضايا الاستعمار والصراع الثقافي[31]، وهذا تصنيف يمكن أن يصلح لتاريخ الأدب أو الدراسات الثقافية، لكنه وحسب الناقد لا يصلح في النقد الأدبي الذي يجب أن ينصرف إلى دراسة الخصائص الفردية للنص المعين، أما حشر كل النصوص في سلة واحدة لمجرد اتفاقها في معالجة موضوع الاستعمار مهما اختلفت طريقة المعالجة وزوايا النظر، فانه يقضي على فرادة وخصوصية النص ومحور التمايز الإبداعي فيه، وواضح مما تقدم أن كل شيء بين الروايتين مختلف(الشخصيات والأحداث والحبكة ومسرح الأحداث والبيئة والسياق التاريخي)، وان كان هناك ثمة رابط فهو مقاربة الروايتين لموضوع الاستعمار الأوربي لإفريقيا ولكن مقاربة من قاهر ومقهور، بطل قلب الظلام يخوض التجربة مستعمِرا، في حين ان بطل موسم الهجرة يخوضها مستعمَرا، وإذا كان كونراد نظر إلى الاستعمار على انه عمل بشع ولا إنساني وغير حضاري ولا بد من أن ينتهي متخذا من موت كيرتز دلالة على نهايته الطبيعية، فان فشل مصطفى سعيد في الانتقام من المستعمِر والثأر لكرامته بذلك الأسلوب الملتوي يمثل في رأينا إشارة من الكاتب على ضرورة تجاوز مرارات التجربة الاستعمارية والبدء بمعركة البناء.
ومن رؤية الناقد الواثق بنفسه في نظرته للمستعمِر يرى الناقد(د. عبد الله إبراهيم) في فصل عقده بعنوان(التمثيل السردي وتعدد المرجعيات الثقافية في موسم الهجرة إلى الشمال/ 2005م)[32] ومن منطق المقارنة بين الرواية وغيرها من الروايات الحضارية الأخرى يرى ثيمة الاستعمار على وفق فرض غاية الذات بقوة التفوق الحضاري لدى الغازي المستعمِر، يرى الناقد أن ادوارد سعيد قد قام بدور معاكس لما قام به كيرتز بطل رواية قلب الظلام،بل وذهب إلى أكثر من ذلك إذ شنع بكونراد إلى حد تحميله وزر النظرة الأوربية الاثنية للآخر الثقافي رافضا تقبل الدور الريادي لرواية قلب الظلام بالمقارنة مع موسم الهجرة إلى الشمال في ظل الخطاب الكولونيالي وزعزعة تلك النظرة متحججا بأن كونراد لم يناد صراحة بضرورة إنهاء الاستعمار الأوربي، غافلا أن في جنون كيرتز وموته رسالة رمزية بليغة على النهاية الحتمية للاستعمار وتوسعه الامبريالي، وتحت الوهم الخادع بالتغيير وبحسب الناقد يتم تطبيق السيطرة الاستعمارية بوجوهها الثقافية والسياسية، والذي يدفع الطرف الثاني طالبا بالثأر وفي عقر دار الغازي، وكيف كان يريد أن يرد على أولئك الذين أرادوا مسخه حينما علموه كيف يذعن لهم ليقول نعم بلغتهم، ليأخذ العمل فرادته وخصوصيته وبراعة تشكيله الفني، والناقد إذ يتبنى تلك النزعة الشكية نجده يتجاوز ذلك وبكل طاقاته المعارضة يحول الموضوع إلى قضية تتمثل الآخر وتقترب من موقفه، لكنها تتعارض ما بين المركز والهامش على النحو الذي نراه في حركة ما بعد الاستعمار، يجعل التقاء المتضادين (المستعمِر، المستعمَر) في(حالة نفور وتدمير يكمن في نية الطرف الغالب في فرض الذات على أنقاض ذات المغلوب، وأية محاولة لجمع طرفي هذه الثنائية تؤدي إلى إلغاء احد طرفيها فيختل التوازن وتحدث المأساة)([33])، هذا التضاد الظاهر في طرفي العلاقة نجده وبحسب الناقد قائما في تصوير التهديد الناجم عن تمثيل الآخر بصفته نقيضا للذات المركزية الغربية، وهنا نجد الكاتب قد تعمد ومن معطيات تلك العلاقة إلى تجاوز علاقات التمثيل من مجرد انعكاس للممارسات الكولونيالية إلى اشتباك جسدي ليحرر تلك العلاقة التاريخية بين النقيضين(المستعمِر والمستعمَر) وتحويلها إلى علاقة قائمة في الهاجس الإنساني، تتمثل في فحولة قاهرة وأنوثة مقهورة،إنه تمثيل استعاري للصراع القائم بين الغرب الكولونيالي المستعمِر، والشرق المستعمَر إذ نجد أن الرجل العربي ومن منطلق ذلك الصراع وبما يراه الناقد(فريدريك لاغرانج) وضمن النصية الاستعمارية وهو (مجروح رمزيا وجسديا على يد الغرب، وإذا كان خاضعا من الناحية العسكرية فانه سيكون مهيمنا من الناحية الجنسية ردا على ذلك..)([34])، انه عنف زرعه الأول في نفس الثاني وغرسه بممارساته وأفعاله الاستعمارية، ولم يجد وسيلة ليتخلص منه وبحسب الناقد سوى أن يرد العنف بالعنف، تجسيدا لتجربة قدم فيها الكاتب قراءة سردية ما بعد كولونيالية مبكرة للشرخ الذي أحدثته تجربة الاستعمار في ذات المثقف العربي وعلى المستوى الفردي والجماعي، ليسدل الستار على مرايا منكسرة نجدها (تارة يرى فيها الشرقي نفسه جميلا، وتارة أخرى قبيحا، وهي مرايا اشد انكسارا قد تتداخل وتتقاطع فيها الصور، فإذا بالحقيقة وهم، وإذا الوهم حقيقة) [35]، ومصطفى سعيد يتبنى ذلك الدور، لكن تبنيه لهذا الدور نجده وبما يراه الناقد مدفوعا بحقد تاريخي على عنفهم هم، انه هيج كوامن الداء حتى استفحل، وهنا تنبثق مفارقة تؤيد ما طرحناه من تقييم لتحليل الناقد على فق التحليل الحضاري الذي يتكشف ومن خلال الصراع الحضاري على طبقات مختلفة من التوجه والإرادة يتبنى معظمها مصطفى سعيد كونه أكثر احتكاكا بتلك الحضارة، والأخرى يتبناها الراوي الشخصية الثانية في الرواية والتي قامت بدور البطولة فيها، الأول يتبنى تصميما قدريا للوصول إلى هدف رمزي في تحقيق لذته الانتقامية من الغرب الكولونيالي ليرد ضررا لحق به من ذلك الغزو، في حين يختار الثاني- وقد حسم أمره- موقفا من المستعمِر ينظر إليه على انه مجرد حادثة تاريخية عادية تمضي كما جاءت دون أن تعني له توترا على الصعيد الشخصي دون الخضوع لعزاءات واهية، من الممكن أن تتلاشى في فترة من الزمن والذي هو بالنسبة إليه(زمن لا تاريخي، زمن اللاتغيير واللاسيرورة)[36] ، ليجد أن حل إشكالية الاستعمار-بالنسبة إليه- تتمثل في عملية التطهير التي يقوم بها وإعادة تمثيل الرحلة إلى الشمال رمزيا، وهو إذ يتبنى ذلك نجده وبحسب الناقد قد أوهم نفسه بإرادة قدرية تتمثل في خروج المستعمِر آجلا أم عاجلا، وهي نقضا لواقع وتعميقا لعلاقة أساسها معقد مأخوذة بعمق تراجيدي متطرف وشديد التعقيد، جوهر الوعي فيه يتمثل في تجنب أن يروي الراوي حكايته بعيدا عن مفهوم الاستعمار المتطرف (الاستعمار الحضاري الذي يخفي من وراءه السياسي) ، وهو امتداد يأخذ في نظرنا (بعدا شوفينيا من أبعاد المعنى، في إشارته ودلالته صورة مصطنعة يحكمها المستعمِر)[37] ، وهنا يتخذ الناقد موقفا من ذلك نجده معه وكأننا بالراوي يحقق انتصارا زائفا دون دخوله في الصراع، وكأننا به كذلك أن الثقافة التي استقاها من بلاد الغرب لم تفدْ في تغييره مثلما أفادت في تغيير مصطفى سعيد، انه انقلاب في الرؤية والفكر تبناه الراوي في لا مبالاته للصراع القائم بين مستعمِر غير مرغوب فيه، ومستعمَر يعاني الاستغلال والهيمنة والقمع والعنصرية، يعبر عن صورة نجدها مبهمة غير واضحة تكشف عن تأزم ذات الراوي وانشطارها وتشظي وعيه، لكن وقوعه تحت سلطة الرموز والصور المثقلة بالدلالات الغامضة التي أحاطت به من كل جانب جعلته يدرك أن الشفرة شديدة التعقيد، ولفرط إحساسه بالزمن والخوف من الآتي يحلق في عوالم غرائبية بعيدة عن الواقع يريد الاختباء منه وفيه حتى لا تدركه تجربة مصطفى سعيد المخيفة بالنسبة إليه والتي تتمثل خطابا مقصديا يحمل في طياته توجهات استعمارية إزاء الشعوب التي تقع خارج المنظومة الغربية، تتضمن نظرة استعمارية محضة تنطلق من الإيمان بوجود عالمين مختلفين يقع كل منهما في جهة مجازا وفعلا بكل ما في الموضوع من معنى.
إن المتأمل للملامح المرعبة التي تبدت فيها صورة المستعمِر والتي نجدها مرسومة بأنامل القهر التي تخنق المثقف العربي، ومن لغة استعلائية ينطق بها المستعمِر ليبرر عدوانيته واستعماره للشعوب المستعمَرة والمقهورة ، يتبين التوتر الدرامي للمرجعية التي تقربنا أكثر من فهم الازدواجية التي تصل إلى حد التناقض في الرؤية والفكر كما يشكلها الأفق العقلي الذي أوجدته فلسفة الصراع بين الشرق والغرب من منظور الرواية الحضارية، وعلى هذه الرؤية تتبنى الناقدة (ربيعة العربي) وفي بحثها الموسوم(الغيرية في الخطاب الروائي” التقابل بين المستعمِر والمستعمَر” / 2011م) [38]ومن منطق العلاقة بين المكونات التمثيلية الداخلية و المحركات أو المرجعيات الخارجية، تصوير التهديد الناجم عن تمثيل الذات المركزية الغربية لعلاقات القوة بين المستعمِر والمستعمَر، تتجاوز وبحسب الناقدة علاقات التمثيل من مجرد انعكاسات للممارسات الكولونيالية إلى اشتباك جسدي يلغي وفي لحظة ما تاريخية الصراع الأزلي ويجعل منه مجرد حدث طارئ، يوحي بغياب الإحساس بالقطبية المتروبولية – الكولونيالية ويجرد الصراع من طابعه المتوتر ويسبغ عليه المبارزة الارستقراطية وبرودتها، لتتجمع وفي لحظة اللقاء المأساة كرد عنيف لواقعة نجدها مع الناقدة أوسع من أن تكون فنية ووصولا إلى ما هو ابعد من حدود هذه الصور داخل العمل الروائي.
الناقدة ومن هذه المقاربات تحاول رمزيا قراءة الموضوع باعتباره سردا للصراع القائم بين مكونين، تتبين حالاته وأوضاعه واسترخائه في لحظة توهجه ولحظة انصهاره في فعل يمتص فعل الغزو بمجموع انفعالاته والزج به داخل سيرورة سردية تقود إلى فعل ينزع عن الموضوع رمزيته ويجعل منه عنصرا يدرك باعتباره حقيقة لا باعتبار بعده المجازي، وهذا ما يستدعي تداخلا في مستويات الحقول السردية التي انتهجتها الناقدة والتي تكشف عن قدرة الشخصية الفنية في أن تعبر عن تميزها، وفي الوقت نفسه تعبر عن موقعها من الصراع وقضيتها دون أن يختل توازنها وليمسك زمام التوجه، وتبدو هذه المقاربة من جانبنا والتي يمكن وصفها بالمعقدة في البنية السردية التي تنتهجها الناقدة تتشكل في أنسقة ثقافية مختلفة ومتشابكة تُنْجَز ضمن منظومة الصراع الحضاري بين ثقافة المستعمِر والمستعمَر وفق رؤية سردية تتبناها الناقدة وتتبين مناطق الاصطدام وتقوم على قاعدة غالب ومغلوب يعيش كل منهما وبحسب الناقد الطاهر لبيب (زمنا يشتبك فيه الماضي والمستقبل بحيث يصعب عليهما امتلاك الحاضر، الأول لا يكتفي بمصادرة تاريخ المغلوب والتكلم باسمه، بل يذهب إلى ما وراء التاريخ، فيما الثاني لا يجد ذودا عن نفسه سوى اللجوء إلى الماضي)([39])، وبهذه المقاربة تدفع الناقدة ومن منظور غالب ومغلوب، قاهر ومقهور بالصراع الذي يكشف فيه الفني عن طابع سياسي عميق ليكون الخطاب النقيض للقوى الثقافية المهيمنة فكريا وثقافيا، تتحول فيها ميتادراما النص إلى نوع من العلاقة الغامضة بين اسود من المستعمَرة وشقراء من المتربول، رد فيها الأول وبشكل عنيف ومتطرف على غزو الثاني الذي انتهج سلوك التعالي والإقصاء ضد خصومه .
ومن هنا يمكن أن نتوصل إلى أن الرؤى التي استقيناها من الموضوع وما تنفتح عليه الرواية من تحليلات لمثقفي ما بعد الاستعمار ومنهم الناقدة ، هي تحليلات تنهض في كثير من وجوهها على تأمل الخبرة الذاتية لأصحابها الذين هم أيضا أبطال روائيون بامتياز تعتمل في نفوسهم تجربة التمزق ذاته الذي عانى منه المثقف العربي في صراعه مع المستعمِر فكريا وثقافيا، والأحلام ذاتها والأوهام ذاتها أيضا، ومن منظور ارتباط الرواية بخطاب الاستعمار وما بعده نجد ثمة ترابط بين الرواية وغيرها من الروايات الحضارية التي عالجت الموضوع ذاته، تنبع أهميتها في أنها تشكك بالمهمة الحضارية المزعومة والتي تعطي بموجبها للمستعمِر الحق في استعمار الشعوب ، بما يعتقده من أن له رسالة ومهمة تبرر حكم تلك الشعوب واستعمارها، وهنا تنفتح الرواية وبما يتصل بها من موضوع الاستعمار وتتسع حين نرى بعدا عرقيا يتمثل ببطل الرواية كونه اسود البشرة مما يفتح اتصالا مع القراءة الكولونيالية التي تقوم وفي تحليلها للموضوع على الفارق العرقي، وتأخذ هذه القراءة بالاتساع وكأن الموضوع مكون من (طبقات جيولوجية من الأبعاد الثقافية تتعالق والبنية الثقافية للموضوع وتتفاعل معه بكل كيانه)[40] ، هذا التحول المركزي ومن سياقات الموضوع ستمتد آثاره إلى فضاءات الأحداث والى السرد نفسه، وعلى هذا يكون نظام العلاقات بين المستعمِر والمستعمَر متحولة ومتباينة إذ ليس ثمة وضعيات ثابتة بل هناك صيرورة تفتح أبعادا متنوعة للموضوع وزوايا وتفاصيل مثيرة تلفت النظر إلى الشبه بين بطل الرواية ومثقفي ما بعد الاستعمار، وتشابه فيما يطرحونه من أفكار تبدو براقة لكنها تنطوي وفي كثير من الأحيان على أكذوبة كأكذوبة مصطفى سعيد، وعليه نجد أن الكاتب الطيب صالح قد نفذ إلى عمق الحياة من خلال البنية الداخلية لصيغة السرد في الرواية ، والتي تبقى وبحسب ما لمسناه من قراءات نقدية للموضوع نصا مفتوحا لتفسيرات متنوعة ومختلفة لكنها منضبطة.
[1] (*) يمكن النظر إلى النظرية الكولونيالية وما بعدها إلى أنها نظرية تسلح بها كتاب العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية لمجابهة التمركز الغربي وتقويض مقولاته الفكرية الموجهة ضد الشرق العربي، بآليات منهجية متنوعة ومتداخلة، تفكيكية وثقافية وحضارية.
وهي حركة مضادة ظهرت كذلك للوقوف في وجه التغريب والتهميش والهيمنة الغربية، تستعرض ثنائية الشرق والغرب في إطار صراع عسكري وحضاري وقيمي وثقافي، وتعمل على استكشاف مواطن الاختلاف والتمايز ما بين الشرق والغرب من منظور فكري ومعرفي يطرح مجموعة من القضايا للدرس والمعالجة منها تجليات الخطاب الاستعماري وبما يحمل في طياته من توجهات استعمارية موجهة.
ينظر: دليل الناقد الأدبي، ميجان الرويلي وسعد البازغي، المركز الثقافي العربي ط3 بيروت 2002م/ 91،92، 158. كذلك: الإبداع والثقافة في العصر الكولونيالي ( مديح الانحراف عن المركز) ، أوليفيه مونجان، تر: جودت جالي، مجلة الثقافة الأجنبية، ع3 بغداد 2004م/ 120،121.
كذلك: الإمبراطورية ترد بالكتابة (آداب ما بعد الاستعمار) النظرية والتطبيق، بيل اشكروفت وآخرون، ترجمة وتقديم: خيري دومة، دار أزمنة للنشر والتوزيع ط1 الأردن 2005م/ 9-28.
كذلك: في نظرية الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبية، آنيا لومبا، تر: محمد عبد الغني غنوم، دار الحوار للطباعة والنشر ط1 سوريا 2007م/ 17.
(1) ينظر: تعقيبات على الاستشراق، ادوارد سعيد، تر: صبحي حديدي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط1 بيروت 1996م/ 108، كذلك: الثقافة والامبريالية، ادوارد سعيد، تر: كمال أبو ديب، دار الآداب، بيروت 1998م/ 123.
[2] . نحن والآخر(دراسة في بعض الثنائيات المتداولة في الفكر العربي الحديث والمعاصر)، محمد راتب الحلاق، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1997م/ 5.
[3] . ينظر: الوعي بالآخر، د. نضال محمد فتحي، مجلة حوليات التراث ع8 الأردن 2008م/ 95.
[4] . السرد الروائي وتجربة المعنى، سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي ط1 الدار البيضاء 2008م/ 8.
[5] .ينظر: م.ن/ 8-9.
[6] . الخطاب الروائي، ميخائيل باختين، تر: محمد برادة، دار الفكر للدراسات ط1 القاهرة 1987م/ 12-13.
[7] . شرق وغرب، رجولة وأنوثة، جورج طرابيشي، دار الطليعة ط1 بيروت 1977م.
[8] . ينظر: م. ن/ 37.
[9] . النص والجسد والتأويل، فريد الزاهي، إفريقيا الشرق، بيروت 2003م/ 146.
[10] . ينظر: الهوية الذاتية في المجتمع التقليدي وموسم الهجرة إلى الشمال، ناجي نجيب، مجلة فكر وفن ع 38، 1983م/ 64.
11.مكونات البنى السردية في رواية موسم الهجرة إلى الشمال، د. نصيرة احمد، مجلة الأقلام العراقية ع4 السنة 44 ، 2009م/ 186[11]
[12] . ينظر: أزمة الأجيال العربية المعاصرة(دراسة في موسم الهجرة إلى الشمال)، فوزية الصفار، مؤسسة عبد الكريم بن عبد الله، تونس 1980م/ 12- 75.
[13] . مدخل في نظرية النقد الثقافي المقارن، أ. د. حفناوي بعلي, منشورات الاختلاف ط1 الجزائر 2007م/ 21.
[14] . معذبوا الأرض ، فرانز فانون، تر: سامي الدروبي وجمال الاتاسي، دار الطليعة ط3 بيروت 1979م.
[15] . رقش الذات لا كتابتها- تحولات الاستراتيجيات النصية في السيرة الذاتية- ، صبري حافظ، مجلة ألف ع22، 2002م/ 17-18.
[16] . في معرفة النص(دراسات في النقد الأدبي)، يمنى العيد، دار الآفاق الجديدة ط1 بيروت 1983م/ 225- 263 .
[17] . ينظر: الاستشراق، المعرفة، السلطة، الإنشاء، ادوارد سعيد، تر: كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية ط2 بيروت 1998م.
(18) العالم والنص والناقد، ادوارد سعيد، تر: عبد الكريم محفوظ، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2000م/ 23.
[18] . العالم والنص والناقد، ادوارد سعيد، تر: عبد الكريم محفوظ، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2000م/ 23.
[19] . الرواية/ 98.
[20] . الرواية/ 135.
[21] . هنا ترى الناقدة أن الارتباط بالجد هو ارتباط بمرحلة ما قبل الاستعمار، والرواية تفصل بين مرحلة السيطرة الاستعمارية كماضٍ وبين ماضٍ ا سبق عليها، عاشها مصطفى سعيد مريضا تحكمه عقدة العجز وسلوك ردة الفعل عاشها ودونها وأقام المسافة مع وعيه وأسس إمكانية استشراف مستقبلي، وحين عاد إلى وطنه اظهر احتراما للجد(الماضي)، وهو في احترامه للجد لا يتماثل بماضيه الأسبق ولا بماضيه الأقرب:
زمن السرد الروائي في إنتاجه دلالات التملك للوطن في رواية(موسم الهجرة إلى الشمال)، يمنى العيد/ 258.
[22] . البطل الإشكالي في الرواية العربية المعاصرة، محمد عزام، الأهالي للطباعة والنشر ط1 دمشق 1992م/ 26- 35.
[23] . أسطورة سيزيف، ألبير كامو، تر: عبد المنعم ألحفني، مطابع الدار المصرية، القاهرة(د.ت)/ 64.
[24] . أسطورة سيزيف، ألبير كامو، تر: عبد المنعم ألحفني، مطابع الدار المصرية، القاهرة(د.ت)/ 64.
25) تحولات الشوق في موسم الهجرة إلى الشمال، محمد شاهين، مكتبة مدبولي ط1 القاهرة 1993م/ 25- 64، ينظر كذلك: موسم الهجرة إلى الشمال- دائرة السر الأسطوري وما بعدها، ضمن كتاب: آفاق الرواية(البنية والمؤثرات)، محمد شاهين، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2001م/ 84-90.
26) ينظر: صور جدلية الأنا والآخر في الخطاب الروائي العربي، د. جميل حمداوي، مطبعة التنوفي ط1 القاهرة 2010م/ 2(262.
[27] ينظر: الثقافة والامبريالية، ادوارد سعيد، تر: كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية ط5 بيروت 1995م/ 494.
[28] . قلب الظلام(رواية): جوزيف كونراد، دار البحار، بيروت 2009م.
[29] . يرى ادوارد سعيد أن الرحلة في الرواية تقلب إلى هجرة مقدسة من الريف السوداني إلى قلب أوربا حيث يطلق مصطفى سعيد- وهو صورة مرآوية لكيرتز- عنان عنف طقوسي ضد نفسه وضد النساء الأوربيات وضد فهم الراوي، وهو رأي لا يمكن أن يفهم منه بان الكاتب بنى روايته استنادا إلى رؤية كونراد، إذ البعض أساء فهم هذه القراءة واستنتج خطأً انه يقلل من أصالة الكاتب ومن القيمة الفنية والإبداعية للرواية، وراح يطالب الكاتب برد الدين لكونراد، بل ومنهم من ذهب إلى أن الرواية إعادة كتابة لقلب الظلام.
ينظر: الثقافة والامبريالية، ادوارد سعيد، تر: كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية ط5 بيروت 1995م/ 494.
30) هذا ما ذهب إليه الناقد د. فخري صالح في مقالته الموسومة (رواية عربية تحاور قلب الظلام لجوزيف كونراد)، تريد هذه المقالة ومن وجهة نظر الناقد أنْ تسلط الضوء على دين الطيب صالح للروائي جوزيف كونراد، وإنها بمثابة إعادة كتابة مبدعة لرواية قلب الظلام.
الطيب صالح يعيد كتابة قلب الظلام لجوزيف كونراد، فخري صالح، مجلة عمان ع 71 الأردن 2001م/ 48-49، ينظر كذلك: رواية عربية تحاور قلب الظلام-لجوزيف كونراد- فخري صالح، جريدة الحياة اللندنية 9/3/ 2005.
(31) من حيث التقييم الفني لرواية قلب الظلام وموسم الهجرة في النظر إليهما وموضوع الاستعمار، نرى أن الأولى لا يمكن أن تصمد أمام المقارنة مع موسم الهجرة إلى الشمال وتحديدا في ظل الخطاب الكولونيالي، لكننا إذا سلمنا أن الكاتب الطيب صالح قد أفاد من تقنية تعدد الأصوات من كونراد أي وجود أكثر من صوت، فإننا نجده ومن سياقات الموضوع قد طور ذلك التكنيك بشكل فتح للرواية العربية آفاقا مفتوحة، تتكشف لنا عن طبقات من المعاني والدلالات المتنوعة وتاركة مساحة من الالتباس بين الروايتين.
ينظر: رواية موسم الهجرة إلى الشمال والنقد ما بعد الكولونيالي، عبد المنعم عجب الفيا، مجلة شبكة سودانيل، الخرطوم 2009م، كذلك: الرواية العربية والحضارة الأوربية، شجاع مسلم العاني، الموسوعة الصغيرة ع 31 منشورات وزارة الثقافة والفنون، بغداد 11979م/ 72- 04.
33) التوظيف الد(32) التمثيل السردي وتعدد المرجعيات الثقافية ، د. عبد الله إبراهيم، ضمن كتاب: موسوعة السرد العربي، لالي للجريمة: دراسة مقارنة بين موسم الهجرة إلى الشمال لـ(ا لطيب صالح) والغريب لـ (ألبير كامو)، بو جمعة الوالي، مجلة فصول ع 76، 2009م/ 176
[32] . التمثيل السردي وتعدد المرجعيات الثقافية ، د. عبد الله إبراهيم، ضمن كتاب: موسوعة السرد العربي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط1 بيروت 2005م/ 561- 563.
[33] . التوظيف الدلالي للجريمة: دراسة مقارنة بين موسم الهجرة إلى الشمال لـ(ا لطيب صالح) والغريب لـ (ألبير كامو)، بو جمعة الوالي، مجلة فصول ع 76، 2009م/ 176.
[34] . المثلية الذكورية في الأدب العربي الحديث، فريدريك لاغرانج، مجلة أبواب ع 22 بيروت 1999م/ 102.
[35] . الأنا والآخر في الرواية العربية الحديثة، منصور قيسومة، دار سحر للنشر، تونس 1994م/ 54.
[36] . قراءة جديدة في روايات الطيب صالح، عبد الرحمن الخانجي، دار جامعة أم درمان الإسلامية ط1 السودان 1983م/ 19.
[37] . قراءة في الراهن الثقافي(الثقافة العربية والعولمة وصدام الحضارات)، عمر عبد الحميد زرناوي، دار قرطبة للنشر والتوزيع ط1 الجزائر 2006م/
[38] . الغيرية في الخطاب الروائي(الطيب صالح نموذجا)، ربيعة العربي، مجلة الحوار- محور الأدب والفن- ع 3587 ، 2011م.
(39) صورة الآخر العربي ناظرا ومنظورا إليه، الطاهر لبيب، مركز دراسات الوحدة العربية ط1 بيروت 1999م/ 106.
[40] . الهوية والتاريخ والآخر- قراءة في موسم الهجرة إلى الشمال، محمد فيصل يغان، مجلة الغلاف ع 71 الأردن 1998م.