تسريد التاريخ: من رواية التاريخ إلى التاريخ الرواية
The narration of history : form history narration to history novelizing
د. إسحق علي محمد – جامعة المغتربين
Ishag Ali Mohamed (AlMughtraibeen University).
ورقة منشورة في : كتاب أعمال مؤتمر العلوم الاجتماعية ودورها في بناء الأمم ونهضتها 2022 الصفحة 15.
Abstract
The paper envisage discussing the question of chronicling and rechronicling history and suggests that the scientific burden of history writing should switch from traditional style which concentrate only on the chronological manner of relating events and describing characters in their known image , to a new pattern of literal narration ,moreover ,it could overlap and intermingle with the historic concepts like the practices of criticism which originate from exploring the relationship between the literal version and the socio-political influence and its relation to power and governance.
Question under consideration and approximating
The paper also raises the following question for discussion
- Could the historical version as a literal text clarify the ambiguity and rigidity in historical texts and make them clearer and more understandable?
- Could it become more effective than just being a literal form hovering over errant ideas and rich fiction, and move towards research and investigation to present a knowledgeful
Alternative of historical version?
- To what extent are writers and critic of historical events successful in presenting a new model in history reception?
- Is there a Scientifics for literal necessity to change history from just relating events to story as a literal form?
The paper’s intention is:
To uncover the impurities that smeared history writing, through novelizing history and handle some unseen contents that include some hidden dates or events and expose the ideological influence over communities’ life
The key wards: History, Novel, Deception, The narrator, Narration.
مستخلص:
ناقشت الدراسة إشكالية كتابة التاريخ أو إعادة كتابة التاريخ واقترحت نقل الهم العلمي من الكتابة النمطية لسرد التاريخ وفقا لتسلسل الأحداث والتركيز على الشخصيات في صورتها العلمية المعروفة إلى مربع السرد الأدبي. وتداخلت مع مفهوم التاريخانية بوصفها ممارسات نقدية تنبع أساسا من استكشاف علاقة النص الأدبي بالمؤثرات الاجتماعية والسياسية الأبرز وعلاقته أيضا بالسلطة والقوّة. هذا يفتح الباب لإعادة النظر في كثير من الأحداث التاريخية بوصفها سردا ويؤمن مخرجا للتأويل وفقا لسياقات الأحداث ووفقا للغة الكتابة التي تبصّر بقراءة صراع الأفكار الدينية والسياسية من خلال أثر القوى والأفكار المهيمنة في أي عصر.
حاولت الورقة مقاربة عديد الأسئلة: هل يستطيع الانتقال من رواية التاريخ إلى التاريخ الرواية كنصّ أدبي رفع الالتباس والجمود في النصوص التاريخية ويجعلها أكثر وضوحا ومفهومية (مربع جديد للتلقي)؟. وهل تستطيع الرواية أن تصبح فاعلة أكثر من مجرد جنس أدبي يحوم حول الأفكار الشاردة والخيال الخصب إلى التوجه نحو البحث والتقصّي، وتقدم بديلا معرفيا للتاريخ؟ والى أي مدى وفِّق الروائيون والنقاد في كتابة التاريخ الرواية ونقده وتقديم أنموذج تاريخانيّ في تلقي التاريخ. وهل ثمة ضرورة (علمية أو أدبية) لنقل التاريخ من الرواية كفعل حكي إلى الرواية كجنس أدبي؟
هدفت الورقة الى إزاحة الستار ورفع الحجب عن كتابة التاريخ، عبر كتابته رواية تعالج مفاصل لم تكن مرئية من قبل، وذلك بالتطرق إلى تواريخ مستترة أو أحداث غير مكشوف عنها. وكذلك تقريب المسافة لنقل التاريخ الى الخيال عبر بوابة الصورة (علامة العولمة الرئيسة)، لتمكين النقل إلى الشاشات المرئية وضمان التواصل الثقافي للإسهام في الحضارة الإنسانية. وقد اتبعت منهجا وصفيا تحليليا معضّدا بالنماذج التي تخدم الفكرة. وكذا تعتمد الدراسات السابقة معيناً على اختبار تلك الفروض يسهم في حل المشكل.
الكلمات المفتاحية: التاريخ . الرواية. التخييل. الراوي. السرد/التسريد
مقدمة:
ظل التاريخ بوصفه ماضي الحياة الإنسانية حاضرا في واقع حياته، ومفسرا لكثير من سلوكه، وأنماط القيم التي تحكم ثقافته وتواصله مع الوجود، واستشرافه لمستقبله. فهو “سيرورة الإنسان كإنسان، ككائن عاقل وحر وخلاق”.([1])
وتسريد التاريخ هو فعل قصدي إبداعي جمالي، يضخ الحياة في ركام الأحداث الماضية، ويؤكد قيمة التاريخ الحقيقية؛ التاريخ الذي هو مجال الحرية البشرية إذ الوعي بالقدرة على الترجيح والاختيار ملازم للملاحظة والاستنباط.([2]) ومن ثم “تفكيك التاريخ بطريقة ميتاسرد تاريخية يتحرر فيها التاريخ من حقائقه الصارمة ثم يعاد إنتاجه بشفرات متخيّلة”([3]). وهذا دور الراوي الجديد في التاريخ بوصفه رواية. وهنا تكمن أهمية هذه الدراسة في كونها تفتح الباب لتناول التاريخ بكل حرية، بعيدا عن قيود الايديولوجيا، وبعيدا عن المسكوت عنه طوعا، أو قهرا، والتحرر من ثقل المقدس الإنساني، ومن ثم التبصير بالأداور الحقيقية للإنسان الفاعل في التاريخ، وإبراز دور المرأة، وتكريس قيم حضارة العصر التي تخدم الإنسان.
وهنا لا أتحدث عن أجناس الأدب، ولا أبحث عن ردم ثنائية التاريخ/العلم والرواية/الأدب، وإنما ينصبّ جهدي في تناول موضوعة كتابة التاريخ بوصف رواية وذلك بنقل الحدث التاريخي الموثق إلى فضاء التخييل –من التوثيق إلى التخييل- ورهان تقنيات الكتابة الروائية لتقريب المسافة إلى عالم الأفلام في خطوة باتجاه كتابة (السيناريو)، ومن ثم عرضه على الشاشة البلورية. “فالرواية رواية والتاريخ تاريخ ولا يمكن إلا أن تقام بينهما علاقات متعددة الأبعاد والأشكال.([4])
الدراسات السابقة:
وأقرب الدارسات التي تناولت هذا الموضوع دراسة عبدالله إبراهيم (التخيّل التاريخي)([5])، الذي يقرر: “ويمكن القول بأن التخيّل التاريخي هو المادة التاريخية المتشكلة بواسطة السرد، وقد انقطعت عن وظيفتها التوثيقية والوصفية، وأصبحت تؤدي وظيفة جمالية ورمزية”([6]). وأمّا في رواية التاريخ بوصفه رواية فإن أحداث التاريخ تكون المرجعية الأساس في الكتابة، فقط يقوم السارد هنا بكشف المسكوت عنه وإبرازه، ومواجهة الايديولوجيا في كتابة التاريخ بهدف تحرير الثقافة من هذا التراكم الذي قولب السلوك. فهنا اختلاف مع عبدالله إبراهيم الذي يقول: “فالتخيّل التاريخي لا يحيل على حقائق الماضي ولا يقررها ولا يروّج لها، إنما يستوحيها بوصفها ركائز مفسرة لأحداثه”([7]). ودلل على ذلك بشخصية الحسن وزّان في رواية (ليون الأفريقي) لأمين معلوف التي تم نقلها من مستوى الواقع التاريخي (القرن الخامس والسادس عشر الميلادي) الى الخطاب السردي في نهاية القرن العشرين. فذلك التخيّل التاريخي. “في مدونة أمين معلوف السردية تم نقل الشخصيات التاريخية من منطقة التاريخ الرسمي الى منطقة السرد التاريخي حيث تم استدراجها الى العالم التخيّلي للسرد بأفكار جديدة”([8]). والفرق كبير بين التخيّل الذي هو فعل الكاتب أو السارد الفرد في تعامله مع الحدث أو الصورة. وبين التخييل الذي هو فعل الكتابة التسريد في حضور المتلقي في العلمية الإبداعية.
تفترض هذه الدراسة أن الفعل السردي (التسريد) للتاريخ في فرضية التاريخ بوصفه رواية يستطيع أن يقدم المادة التاريخية من خلال رؤية تربطه بالواقع وتفسر كثيرا من مظاهره، وتدفع بالتنبؤ استشرافا للمستقبل يعمّق معرفتنا بالتاريخ، ويبصّرنا بالواقع.
مشكلة الدراسة:
وإذن فإن المشكلة التي تطرحها هذه الدراسة تتلخّص في أنّ التاريخ الوثائقي ماعاد قادرا ملاحقة تطوّر الإنسان، ولا قادرا على تفسير حاضره، وضعيفا في تبصيره بالمستقبل؛ وذلك بسبب تطور العقل البشري، وبسبب اتاحة المعلومة. فالحاجة ماسّة إلى إعادة قراءته، وكتابته في سياق ثقافة العصر وإمكاناته، استجابة لاتساع مدارك الإنسان ومعارفه ومناهجه في مقاربة الحقيقة.
منهج الدراسة:
وقد اتبعت الدراسة منهجا وصفيا تحليليا في جمع المادة وتحليلها بما يناسب الفرضية، ويوجه بوصلة حل المشكل المفترض، مستعينة ببعض الدراسات التي عمقت الفكرة وهدت وبصّرت.
هيكل الدراسة:
جاءت الدراسة في مقدمة وأربعة عنوانات أساسية بجانب عنوانات فرعية؛ إطار نظري كان العنوان الأول وقد قاربت فيه مصطلحات الدارسة، وتناول العلاقة بين التاريخ والرواية من زاوية الإشكال والفرضية. وفي العنوان الثاني تناولت التاريخ والرواية؛ محطات زمنية سردت فيه تاريخ هذه العلاقة استنادا إلى تقسيم جميل حمداوي. ثم تناولت عنوان الدراسة؛ من رواية التاريخ إلى التاريخ الرواية، وتعرضت للرواي العالم ودوره المزدوج، وكذا وقفت على باب الحداثة لا التجنيس. وأخيرا عنوان: التاريخ الرواية جدل الموضوعية والتخييل. ثم خاتمة ونتائج وتوصيات ثم قائمة بالمصادر والمراجع.
إطار نظري
“إن القسم الأكبر من التاريخ المكتوب تدوين قديم لرواية شفوية” العروي. ص107. |
أولاً: مقاربة المصطلح:
ما يقلق الدارس في مجال الأدب والنقد هو كثرة المصطلحات([9])، وغموضها مما يربك أحيانا في إيضاح الفكرة ويشوش الرؤية. لهذا رأيت الوقوف عند مصطلحات الدراسة لتوضيحها وضبطها.
- تسريد: مصدر للفعل الرباعي (سرّد) وهو فعل مزيد بالتضعيف، ولم أجده في معاجم العربية الكبيرة. وجاء في اللسان([10]) الفعل (سرد) الثلاثي بمعنى التتابع في الحديث، وفي القاموس المحيط([11]) جاء بمعنى (النسج): نسيج الدرع. وقد ذكرها القرآن([12]) . في النقد الأدبي كان المصطلح محل تجاذبات في الترجمة وفي المفهوم([13])، وإجمالا دلّ السرد على نقل الحادثة من صورتها الواقعية إلى صورتها اللغوية، والمعنى نفسه تدل عليه مفردة (تسريد)، التي أكسبتها الزيادة معنى إضافيا خاصا بالعناية وبذل الجهد في العمل. وهو مصطلح حديث بنيوي يعمل على نقل التجربة الفردية المحددة في الزمن وإدراجها ضمن ذاكرة إنسانية أشمل تؤسس للمرجعية الاجتماعية والثقافية في فهم التجربة وتؤمن صدقها.([14]) وتسريد التاريخ يكون بإدراج الوقائع التاريخية بوصفها تجارب إنسانية ضمن الذاكرة البشرية واستحضارها في الواقع تخييلا لاستشراف أفق الإنسانية المؤسس على ماضيها الموضوعي. ويبقى السؤال: ما التاريخ إذن؟
- التاريخ: “اسم يدل على حدث ما، وهو دراسة حقائق الماضي والسياقات التاريخية وفق منهج يعتمد على التتبع الدقيق والتفسير المنطقي للوصول إلى الحقيقة مع ضرورة ربط النص التاريخي بالسياق الذي كتب فيه”([15]) . التاريخ إذن يسجل الوقائع ويفسرها ويعللها منذذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا فهو متحرك في الزمن، ولهذا يحفل بكل ما له علاقة بحياة الكائن البشري ويستحضر كل ما له دور في بناء هذه الأحداث والوقائع التاريخية. لهذا لا بجب أن تنحضر كتابة التاريخ ولا دراسته في معرفة الماضي وحسب، وإنما لابد من أن تسهم في فهم الحاضر والإنسان بكل تعقيداته ومشاكله وتستشرف مستقبلا أفضل للبشرية. ([16])
ثانياً: التاريخ والرواية: الإشكال والفرضية:
لما كان السرد يتأسس على فعل الإنسان، وهنا الراوي، ويقوم فنيا على الحكي والقصص لإثراء الواقع، فإنه يصنّف منصة ينطلق منها راوي التاريخ، والسارد الراوي. رواي التاريخ منشغل دائما مع روايته بالإجابة عن سؤال ما، وهو ما يعطي التاريخ صبغة العلمية –البحث عن العلة- بينما راوي الرواية/السارد نجده غير مقيّد بالإجابة عن سؤال، لأنه ينطلق من حقيقة تاريخية، ولكنه يراها بزاوية خاصة، هو فقط من يضيء ما تم التعتيم عليه، وتجاهله في بنية الحكاية التاريخية، يساعده في ذلك تخييل يستحضر المتلقي ويشاركه في النظرة من خلال تقنيات الرواية.
فالسرد إذن منطلق التاريخ والرواية، ولكن المآل مختلف مع تقاطعات متفرقة بينهما. كلاهما سرد، وكلاهما حكي مع حدود معروفة. في رأينا اصطبغ التاريخ بصبغة الجمود في زمن الحركة الفاعلة. وتوارى في أضابير المكتبات القديمة. وإذ نفترض هذا ونلاحظه في تواري كليات التاريخ في طي الماضي وارتباطها بالجمود، فعزف عنها الطلاب وتوجهوا بالكلية -في معظم الدول العربية- إلى الدراسات التطبيقية، أو الإنسانية التي واكبت تطور العصر كالإعلام، واللغات والعلوم الاجتماعية.
ربما هذا سبّب مأزقا لراوي التاريخ في ظل مزاحمة الرواية التي تتناول أحداثا تاريخية وانفتاحها على ثقافة العصر –الصورة- وهي تتأسس على إنجازه العلمي. فهل حان الوقت لأن نتكتب التاريخ كما تكتب الرواية –ليس حرفيا- وهل بالإمكان نقل رواية التاريخ –قصة وحبكة- إلى فضاء الرواية بكتابة التاريخ رواية تستند إلى التخييل وتفعّل تقنيات الكتابة الروائية؛ فيكون التاريخ رواية تستجيب لرهان العولمة وتنفتح على عالم السينما والأفلام. وقبل ذلك تتناسب مع عقل العصر الناقد بامتياز فتحصل المتعة مع الفائدة العلمية والمعرفية المرجوّة؟.
التاريخ جرّب ذلك ولكنه بقي خجولا؛ فالجاجظ، وابن قتيبة، والعماد الكاتب، وابن المستوفي، وهيرودوتس، كتبوا التاريخ كأنهم يروون قصة([17]). وفي عصرنا الحديث نجد كتابا حداثيين يكتبون روايات تنهض على التاريخ، ويبذلون جهدا كبيرا في تقصي الحقائق التاريخية، ويقدمون التاريخ رواية، مثل الحسن بكري من السودان في رواية قصة مدينة واحدة، ورواية أحوال المحارب القديم، وإبراهيم عيسي من مصر، في رواية رحلة الدم، وعبد الوهاب عيساوي من الجزائر في رواية الديوان الإسبرطي.وغيرهم.
هناك فرق جوهري ومهم بين راوي التاريخ، وراوي الرواية، وهو بالأساس ينحصر في غرض كلٍّ منهما من روايته. راوي التاريخ يضع نفسه محل ثقة الناس كونه يقدّم معرفة بماضيهم تعينهم على تفسير الحاضر وتفتح أفقهم إلى عوالم قادمة. فهو مؤتمن على ذلك وهذا هو عهده مع المتلقي. ولهذا فهو يبذل جهدا كبيرا في تثبيت معلوماته وتوثيقها بالتحقق من وثائقه، ويعالج لغته بما يتناسب مع غرضه، ويقف ما استطاع إلى ذلك سبيلا موقف الحياد، كأنما التاريخ شأن موضوعي مستقل عن ذات الفرد.([18])
وراوي الرواية مبدع يتأسس مشروعه على التخييل، وإن انبنى على مشروع راوي التاريخ. يبحث عن المتواري في رواية رواي التاريخ، والمهمل منها ويبرزه ليرى من خلاله ما تغافل عنه راوي التاريخ، أو تجاهله، أو فاته. فعل ذلك إبراهيم عيسى في رواية (رحلة الدم: القتلة الأوائل) ([19])، وقد روى فيها قصة الفتنة الكبرى ليس كما رواها المؤرخون، ولا الأدباء مثل طه حسين، والعقاد، فأنت تجد في (رحلة الدم) شخصيات مغمورة وقد تصدرت المشهد لأنها بالفعل لعبت دورا محورايا في الفتنة تجاهله غيره، مع تخييل ممتع لمجتمع ذلك الزمان، غيّر فيه كثيرا من صورة ذلك المجتمع في ذاكرة العربي والمسلم على السواء؛ رأينا اليهودي (نعثل) الذي لقب به عثمان بن عفان وكيف قام بدفنه لما انشغل أقرباؤه والمسلمون بالسلطة في اجترار لذاكرة جسمان النبي (ص) وقصة خلافة أبي بكر. “وقف نعثل مفجوعا بما رأى يمنع عن نفسه التأثر… حين قلب نعثل جسد قتيلهم”([20]). ورأينا (حُبّي) الجارية “معلمة النساء الحب”([21]). ورأينا “طويس مخضب اليدين ومكحّل العينين… فتحسر طويس على حال المدينة. (يقول): لما سألتُ الوليد بن عثمان لماذا تعجّ الدروب والشوارع عند قصر أبيه، قال لي: إن عرفتَ فلتعرفني. (سألته حُبي): وأين رأيتَ ابن عثمان؟ (أجابها طويس): كان معنا ليل أمس في جلسة غناء”([22]).
منذ البداية يجب أن نقرر أن دور الراوي يختلف في التاريخ عنه في الرواية. لكن يظل راوياً يحكي حدثا، أو أحداثا إنسانية تتعلق بالماضي حال التاريخ، مفتوحةً في الزمن حال الرواية. وملحوظة أخرى؛ قد يهتم راوي التاريخ بالأحداث بدءا ومن ثم يسرد حكاية الشخوص تثبيتا للحكي وإكتمال القص، بينما الرواي في الرواية ينطلق غالبا من النظر إلى الشخوص باتجاه الأحداث التي تنبى عليها، ولهذا نجد البطل في التاريخ يكون مرات كثيرة الحدث نفسه، بينما في الرواية يكون شخصا ما ، ولا يمنع أن يكون حدثا، أو مكانا، أو زمانا…. الخ.
ثمة رؤية ومنهج في معالجة تسريد التاريخ، حيث تقوم الرواية على وضع الأدبية بين التاريخ والفلسفة إذ طالما ارتبط التاريخ بالفلسفة التي نحت به نحو التجريد والبحث عن المصير الإنساني، وكل الأسئلة الكبرى. تبع ذلك لغة هدفها الدقّة والموضوعية والتثبت في البحث عن الحقيقة في إحكام تام للعقل. ولكن نرى أن الأوان قد حان لتدخل الأدبية طرفا مهما في كتابة التاريخ، وفي روايته، وهي ما يقرّبه إلى الحياة بنبضها الحيّ حيث الوجدان عامر بالمعنى، وقادر على معرفة الحقيقة، وهو ما ندعوه تسريد التاريخ؛ بأن تقدّم الحقيقة التاريخية في تخييل يستند إلى تقنيات الرواية، وهو منهج نراه يصلح لمجاراة العصر؛ عصر الصورة، فضلا عن التداخل المهم بين المنهج والخطاب، وهي المساحة التي تشتغل عليها الرواية من الكتابة التاريخية إلى الكلام/الحكي/الشفوي، من ثم إلى الصورة. وميزة التاريخ الكبرى أنه يتكلم بلسان المؤرخ، وهو ما يمكن من القفز من روايته إلى الفلسفة([23])؛ الأفكار الكلية التي تبني عليها الرواية مشروعها وشخصياتها.
التاريخ والرواية: محطات زمنية
غلب المنحى التاريخي على نشأة الرواية العربية، وكانت مساراته أربعة –بحسب جميل حمداوي- وكما لخّصها أحمد لكبيد([24]):
- رواية التوثيق التاريخي ( وزير غرناطة لعبدالهادي بوطالب أنموذجا).
- رواية التشويق الفني للتاريخ. (روايات جورجي زيدان).
- رواية التخييل التاريخي (الزيني بركات، جمال الغيطاني، رضوى عاشور؛ ثلاثية غرناطة).
- الرواية ذات البعد التاريخي، وتكون مرجعيتها تاريخية. (روايات نجيب محفوظ، وراواية دفنا الماضي لعبدالكريم غلاب).
في كل مسار حافظت الرواية على جنسها الأدبي، وعلى وظيفتها الجمالية والرمزية بالأساس، فضلا عن فائض وظيفة معرفية أو تعليمية. ومنذ أن حدث أول تماس بين التاريخ والرواية حافظ راوي التاريخ على دوره في الحكي بوصفه الراوي العالم الذي يؤكد معلوماته ويثبتها بواسطة الوثائق. ظهر ذلك في كتاب (من أبا إلى تسلهاي: حروب حياة الإمام المهدي)([25])، فهو مع طابع الحكي الواضح فيه فإن الكاتب/الراوي يثبت الواقعة بالوثائق. ولو عبرنا إلى رواية التشويق الفني للتاريخ يطلّ الجانب التعليمي والتربوي، وينفرد البطل بكل رمزيات العمل وجمالياته، بل كل الشخصيات في خدمته، وحتى الوقائع تنسج لتناسب الشخصية. ومؤلفات العقاد وطه حسين عن التاريخ الإسلامي أنموذج على ذلك.
والروايات ذات البعد التاريخي، هي روايات يشكل التاريخ/الوقائع مرجعية لها، فهي تؤسس مشروعها السردي على منجز حاضر فيه المتلقي، وهو الميثاق/العهد بينهما. وتيسطر أحداث التاريخ بصورة فاعلة في الرواية، مثل روايات منصور الصويم (حروب السلطان علي دينار على تخوم مدافن السلاطين) ([26])، ورواية حمور زيادة (شوق الدرويش)([27])، وراية (الديوان الاسبرطي) لعبدالوهاب عيساوي وهي تتناول الفترة الزمنية الممتدة (1818م إلى 1833م) من تاريخ الجزائر حيث العثمانيون والفرنسيون والعرب. “هؤلاء الفرنسيون أتوا إلينا بذهنيات مشوشة عن المكلية في الشرق لايفهمون أن نظام الأوقاف كان يسيّر حياتنا من آلاف السنين”([28]). “بالأمس كان المغاربة مثل عبيد عند الأتراك، ولم تنجبوا إلا عبيدا آخرين والآن سيولد أطفال عبيد للأوربيين”([29]). ويتساءل عن كتابة التاريخ: “لا أدري لماذ لايذكر ابن ميار كل الأشياء وقد كان شاهدا عليها”([30]).
في كل هذه الروايات وغيرها من الروايات التي على شاكلتها تجد النص التاريخي الوثائقي حاضرا، فقط تقنيات الكتابة الروائية هي ما يعطيه صفة رواية. تجدر الإشارة إلى أن معظم تلك الروايات نالت جوائز محلية أو اقليمية مما يدلل على قيمتها، ومناسبتها لقضايا عصرها في تعاملها مع التاريخ.
وأمّا رواية التخييل التاريخي فهي روايات منحازة للجمالي وللرمزي وقد انفصلت من سياقاتها الحقيقية عندما تشكلت بواسطة السرد([31])، وخير مثال على ذلك روايات الحسن بكري قصة مدينة واحدة، وأحوال المحارب القديم). يقرر الحسن بكري: “وكما هو الحال دائما يضفي كتبة التاريخ والرواة والمخرجون مسحة شخصية تناسب أغراضهم، فيتم التلفيق في كل المستويات”([32]). وفي نصوصه يفتح الحسن بكري شراع الخيال لينسج صورا من مخيلته للتاريخ/الوثائقي، ولكنها بعين جديدة تدفع المتلقي إلى خوض تجربة جديدة مع معارفه، تحرك الثابت، وتهز أركان القيم، والمقدس وتختبرها، بإضاءة ما كان معتما، وإقرار ما كان محتملا، واستحضار ما غيّب في مشاهد وصور تقف بين الحقيقة والخيال، فقط المتلقي من يقرر خوض هذه التجربة للظفر بمعنى ربما. ويطرح سؤال التاربخ وكتابته، ولكن في سجال الحقيقة والخيال دائما، وفي مستوى المتعة والمعرفة. الجمال والحقيقة، وانثالت أسئلة تعلقت بالتاريخ والهوية، والثقافة والجغرافيا في ظل عالم متحول، وهذه صفته الكبرى؛ تحول في الأفكار والقيم وفي الجغرافيا، تحول أكسبها مضامين جديدة، ودلالات مرتبطة بالتكنولوجيا، تنفتح على الآخر الباث، أو المتلقي للثقافة الكونية المسيطرة، حيث تصبح الذات أساس الوجود الحضاري. بتولا: “توسلت للرواة لرفدها بأحاجي اليوزباشي، أوحت إشارتي للعجوز بسيل من ألون الحكي التي عكفتُ على نتقيحها بغرض سردها”([33]). “وخولت بتولا سلطة تعديل الأحداث وتنقيح التفاصيل”([34]). والكاتب يكافح من أجل إبراز التاريخ الشفوي/الكلام/الخطاب، في مقابل التاريخ/الوثيقة/الكتابة.
من رواية التاريخ إلى التاريخ الرواية
أولاً: الرواي العالم: دور مزدوج:
كاتب التاريخ راوٍ يروي أحداثا شاهدها، أو حُكيت له، فيقوم بنقلها عبر وسيط هو اللغة التي هي حمالة أوجه؛ “بقصد الراوي أو بغير قصده، بقصده حين يدخل تعديلا لغويا على الحدث، وبغير قصده حين تعجز لغته عن تصوير الحدث وإبرازه”([35]). ولما كان الراوي إنسانا يتعرض للنسيان فإن كثيرا من الأحداث قد يسقط، أو يختل ترتيبها فلا يجد راوي الأحداث/الوقائع من بدّ في معالجتها إلا بالتأليف ليسدّ الخلل.
وأمّا الراوي في الرواية فإنّه يقدّم أحداثا/وقائع ويسردها عبر اللغة، ويشترط فيها أن تكون حقيقية، فهو لا يستند في روايته إلى حقيقة أو واقعة حقيقة دائما. هو يمتلك المعلومة ويختار الطريقة التي تناسبه لكي يوصلها إلى المتلقي، ولهذا فقط هو الراوي العالم. لا يستطيع المتلقي أن يحاكمه فيما يروي، ومتى يروي، وكيفة يروي، وعلى العكس تماما عند راوي التاريخ فهو مسؤول عما يروي ومساءل، هذه المسؤولية تضعه أمام التزام الحقيقة التي يجاهد ما وسعه الجهاد في ايصالها كما يعرفها، أو كما وصلت إليه.
فالراوي العالم يلعب دورا مزدوجا؛ فهو يستطيع أن يقف في دور المؤرخ فيروي الأحداث والوقائع مستندا إلى وثائق تثيت ما يقول، ويمكن أن يقف في الجانب الآخر من تقديم الحقيقة –راوي الرواية العالم- ويقدّم الحقيقة تخييلا وهو يهدف من وراء ذلك الى بعد جمالي، أو بعد معرفي، ويظلّ واقفا خلف الحقيقة، فهو وحده من يعرف.
تمثل رواية (رحلة الدم) أنموذجا واضحا لذلك. فهنا الراوي هو الكاتب، وهو يقدّم لنا أحداثا تاريخية حقيقية؛ هي ما عرف بالفتنة الكبرى في التاريخ الإسلامي. ولكنه يقف في محطات كثيرة اهملها راوي التاريخ الرسمي/الوثائقي. فقد ركّز على المهمشين وأبرز دورهم الفاعل في الفتنة –أعني حفظة القرآن: وخاصة عبدالرحمن بن ملجم. ([36]) وقد مر بنا كيف أنّه صوّر واقعا اجتماعيا محجوبا، بل انظر كيف قدّم مشهد مقتل عثمان: ” بينما يقف كنانة في مواجهة عثمان الذي تجاهل اندفاع كنانة وصراخه ووضع رأسه في المصحف يكمل تلاوته… قفز كنانة وهوى به يضرب كتف عثمان فترقوته فعنقه فيفجر الدم منثورا في وجه عثمان ويغرق لحيته وينكفئ على جنبه مرميا على صفحات المصحف التي تقطر دماء عثمان عليها وتفترش الآيات وتلون الحروف وتتشرّبها مسام جلد الصفحات وتنزف حوافها إلى الأرض”([37]).
يركز الراوي على مشهد القتل ولا ينسى أن يضع بؤرة السرد على المصحف؛ المصحف الذي أمر عثمان بإحراقه واعتماد مصحف واحد في ترميز واضح، وهنا تتضح ازدواجية دور الراوي، فقد أمّن نقل الحقيقة التاريخية وهي مقتل عثمان في داره وهو يتلو مصحفه. ولكنه سرّب من خلال ذلك معلومة نجهلها في توصيف الضرب، وكيف سقط عثمان، ثم التلميح الى المصحف وهو ما جعل القراء أكثر حنقا عليه، بل كان دافعهم للثورة –مع أسباب أخرى- وكيف لعبوا دورا مهما في ذلك.
ولابد من الوقوف في دلالة العنوان ورمزيته الكاشفة، في تقاطع مع دلالة الأحداث التاريخي (الفتنة الكبرى)، وهي -بطبيعة الحال- ضمن المسكوت عنه في الثقافة العربية الإسلامية لأسباب تلعب فيها الأيدويلوجيا والتقديس دورا واضحا. رحلة الدم هي انطلاق لدماء لم تتوقف (رحلة)، ارتبط ذلك بشخصيات القراء (دواعش ذلك العصر؛ القتلة الأوائل) في تفسير وإشارة إلى جذور الدواعش في الفكر الإسلامي وفي الثقافة الإسلامية.
في رواية (رحلة الدم) نقف أمام التاريخ الرواية، وقد تمثل ذلك في حكي التاريخ الوثائقي، ولكن بتقنيات سردية الرواية، خاصة في استحدام الحوار (ص593 – 599). وفي إبراز الصورة بتفاصيلها (تقنية الوصف). في تبئير واضح لأهمية المصحف في هذه الفتنة الكبرى.
ثانياً: التاريخ الرواية: منظور حداثي لا إجناسي:
لست بصدد تجنيس جديد في الأدب، وإنما ينصبّ اهتمامي في مقاربة الكتابة؛ كتابة التاريخ بوصفه رواية في نقلة من الشكل الراتب العلمي والوثائقي إلى فضاء الحكي باستحضار الشفوية جنبا إلى جنب مع الوثائقي. هنا يحضر التاريخ/النص في تخييل يعيد صياغته في سياق شفرات الكتابة واستراتيجية الحكي([38]). التاريخ الرواية مشروع حداثي بامتياز يتناول مفاهم قارّة في الذاكرة ويضعها موضع الشك، يقوم بخلخلة الذاكرة ومن ثم إعادة ترتيبها وفقا لشروط الكتابة فتغدوا الواقعة التاريخية حدثا قابلا للكتابة من جديد، من زاوية مختلفة تفتح أفق النص لتأويل مفتوح عن المسكوت عنه، ويسمح بتقديم شخصيات تمّ تجاهلها، خاصة العنصر النسائي، ومفاهيم الجسد الذي انتقل من ركن اللذة وتصدير الشهوة إلى إشكال يحتمل كل التناقضات، فهو تحدٍ ومقاومة، وهو حياة وموت، واعتلاء وذواء في انقلاب نسوي على نسق الذكورة رغبة في تعريته([39]).
التركيز على الحدث في التاريخ بوصفه رواية يعطي السارد إمكانية تخييل الزمن في بناء الرواية مستفيداً من طاقة الأسطورة في الحكي الذي يوهم بالواقع ويتداخل الزمان مع المكان في توجيه للمتلقي لكشف كثر من التاريخ الوثائقي، وفضح الأيدولوجيا التي لبست لباس التاريخ، وهو تشكيك في علمية التاريخ، وفتحه على أفق الحكي والتخييل.
يقف الحسن بكري مثالا حيّا لكتابة التاريخ بوصفه رواية. في نصوصه يجد القارئ أنه داخل لعبة الحكي، لكنه يدرك مسارات الحكي وأحداثه في صورة حلم لذيذ لا يريد انقطاعه. في قصة مدينة واحدة يتناول تاريخ السودان الوسيط مبرزا دور التاريخ الشفوي –المغيّب- في التاريخ الوثائقي الرسمي من خلال شخصية (بتولا)، وهو اعتراف بدور المرأة؛ “انطلقت شرارة الحكي بفضل هذه المرأة العجوز وأدت الطريقة الني ابتكرتها في نسج القصص إلى إلهام المؤلفين الآخرين”([40]). وهناك امرأة أخرى احتفى بها الحسن بكري وهي شاهندا البطلة والمحاربة التي لا يشق لها غبار، وهي من قوّض سوبا على رؤوس البربر. بل هناك حشد من النساء قام عليهن الحكي. ومرر عبرهن أسطورة (عجوبة الخربت سوبا).
(قصة مدينة واحدة) عنوان يحيل إلى مدينة سوبا في تاريخ السودان الوسيط وهو مركز حضارة مملكة علوة التي تعايش في داخلها أقوام من أعراق شتى، عرب وأفارقة وصحراويين، وكانت محل صراع دموي كبير أفنى بعض تلك الأعراق (العنج) الذين حار المؤرخون في تبيين أصولهم ليأتي الحسن بكري ويقرر أصولهم البربرية وهذا هو المرجّح. وقد رسم طبيعة تشكيل المجتمع السوداني من قوميات متنوعة، وهو ما يعطيه هويته الحالية، وينبهه إلى أهمية التعايش السلمي فقد أدت الحروب على طول التاريخ إلى عدم الاستقرار.
الزمن ملك للراوي، وكذلك المكان الذي يستطيع أن يتحول إلى أنثى([41])، وقد تتحول المرأة الى رجل (زينة تحولت الى رجل) ([42])، وقد يقف الزمن بفعل العقاقير “سعيتُ الى تجريب عقاقير توصف لتأجيل الزمن”([43]).
استخدم الكاتب الجنس ثمة رئيسة في الرواية، وقد جاء في سياق تخييلي يتجاوز اللذة والشهوة الى مضامين وجودية وثقافية مخبوءة تمظهرت لتعبر عن هوية أو حقيقة. ([44])
التاريخ الرواية: جدل الموضوعية والتخييل:
كتابة التاريخ الموضوعي تنهض على غاية أساسية هي البحث عن الحقيقة؛ حقيقة ماضي الإنسان، وتقديمه في لغة تستحضره في حاضره؛ ليفهم الحاضر الممتد في ماضيه، ويستشرف مستقبله ببصيرة ناقدة. وثمة عهد بين المؤرخ راوي التاريخ والمتلقي أساسه ثقة معترف بها، ويحترمها راوي التاريخ. ولهذا تظهر التقريرية في لغته في ايصال الفكرة أو المعلومة، وهنا تتجلى الموضوعية التي نعنيها.
وأما التخييل فهو آلية استحضار الصورة في لغة تفترض متلقيا محددا، يلعب فيها الخيال دورا رئيسا، في معالجة النص التاريخي معالجة سردية([45]). وفي التاريخ بوصفه رواية يلعب التخييل دورا مهما في ردم المسافة بين القصص والتاريخ باستعادة تصوير الزمان([46])، وليس واسطة استعارية يتبادل فيها طرفا التشبيه (التاريخ والحاضر) الحضور والغياب، تلك أداة الشعر بامتياز.
القصص هو مرتكز الكتابة في التاريخ، وفي الرواية، ولكنه في التاريخ يتوخى الموضوعية ليؤكد مصداقية هي العهد المصون بينه وبين المتلقي، مع ذلك يمرر المؤرخ أفكاره ورؤيته فيأتي التاريخ حاملا هذه الإشكالية (الأيويولوجيا) ويخضع لذاكرة المؤرخ وللغته… الخ. وبالجملة فوجهة المؤرخ هي غير وجهة الشاعر والقصاص([47])، وأسلوبه جامد لا حياة فيه.([48])
في كتابة التاريخ بوصفه رواية يلعب التخييل دورا رئيسا في بناء القصص إذ تحضر كل تقنيات كتابة الرواية، وهي نقلة كبيرة في كتابة التاريخ، ولكنها ضرورية –بحسب افتراض هذه الدراسة- جاءت الضرورة من تراجع دور التاريخ المكتوب، وتصدر المشهد التاريخ المحكي والمشاهد حسب مقتضيات العصر.
وما يحتاجه التاريخ هو استخدام تقنيات كتابة الرواية ليؤمن الواقائع والأحداث التاريخية ويضعها في قلب الحداثة/العصر. منذ البداية التاريخ قصص ينهض على الحبكة وتسلسل الأحداث والوقائع. فقط يحتاج إلى تقنيات الكتابة السردية الحداثية، وأهمها طريقة المشاهد السينمائية، والاسترجاع والتقديم، والحوار. لك أن ترى كيف استخدم إبراهيم عيسى تقنية الحوار في رواية (رحلة الدم)([49]). وكذلك في (قصة مدينة واحدة) للحسن بكري.
قيمة استخدام تقنيات السرد في كتابة التاريخ بوصفه رواية أنها تعطي الكاتب/السارد معولا يحفر به طبقات الماضي ليبرز المغيّب والمخفي والمهمّش، يفكك المركزي الذي ظل سلطة في المجتمع، ويناقش المقدس بعقل مفتوح، ويسائل القيم ويختبرها بعد أن أضحت سلوكا ظل طي الثقافة زمنا ربما كان سببا وراء تخلف عديد البلدان، معولا يمكنه من فضح السلطوي باتجاه قيم الحرية والعدالة والسلام والاجتماعي والديمقراطية والجندرة والتسامح…. الخ.
التاريخ الرواية يفتح الباب لإعادة النظر في كثير من محطات التاريخ الوثائقي، ويفتح للأجيال نافذة لنقد تجارب الماضي ومقارنة الثقافات من خلال معطيات عصر العولمة. التاريخ الرواية يتيح للكاتب تناول المجتمع بالطريقة التي يراها مناسبة للتطوُّر المعرفي والثقافي، وهو ما نعنيه بالتسريد.
الخاتمة
تسريد التاريخ هو نقل الوقائع والأحداث الماضية إلى متن القصص والحكي الروائي اعتمادا على تلك الوقائع والأحداث بطريقة تستخدم تقنيات الكتابة؛ من اللعب بالزمن والحوار وتوظيف الأسطورة… الخ.
رواية التاريخ التي تعتمد القصص الناهض على الحبكة التي يسيطر عليه الراوي العالم وسمت التاريخ بنوع من الجمود ما عاد يحتمله زمن الحركة والعولمة. هنا برزت ضرورة تسريد التاريخ بوصفه رواية باعتماد التخييل الذي يفتح المجال واسعا لتناول الماضي وإعادة قراءته وتقديمه.
التاريخ الرواية مساحة جديدة لرؤية الماضي المنسي قصدا، وكاشف يضيء عتمة المخبوء والمبعد والمهمش، ويعزز دور الشخصيات المتوارية في الثقافة، ويعلي من قيم الحداثة (الحرية والتسامح وحقوق الإنسان، والجندرة).
النتائج والتوصيات
أولاً: النتائج:
- انشغل الأدب بالتاريخ وحضر بقوة في الأعمال الإبداعية وعلا سؤال كتاب التاريخ.
- ثمة جدل بين الموضوعي والتخييلي في العلاقة بين التاريخ والرواية، وقد ظهرت مصطلحات حاولت تأصيل هذه العلاقة: الرواية التاريخية، ورواية التاريخ، وتخيّل التاريخ، الميتاسرد التاريخي.
- مرّت العلاقة بين التاريخ والرواية بمحطات زمنية تناسبت مع سياقها الاجتماعي والثقافي. وكتبت روايات قاربت الأحداث التاريخية، وابتكرت طريقة جديدة في قول ما لم تقله روايات التاريخ، ومعظمها تصلح لكتابة التاريخ الرواية.
- هناك فرق بين رواي التاريخ/المؤرخ، وراوي الرواية/السارد؛ الأول يقف في حدود الوقائع والأحداث ويستخدم لغة تقريرية ويتوخى غالبا الموضوعية. بينما رواي الرواية يحلّق في فضاء مفتوح حين يتعامل مع الوقائع والأحداث.
- التاريخ بوصفه رواية هو طريقة حداثية في كتابة التاريخ؛ ميتاسرد تاريخية، وليست تجنيسا، وتخضع لشروط كتابة الرواية.
- التاريخ بوصفه رواية ينماز إلى التخييل كونه العملية التي تعالج بها النصوص الماضية التاريخية معالجة سردية تضع التاريخ في قلب العصر؛ عصر الصورة في خطوة مهمة باتجاه تحريره فلما.
ثانياً: التوصيات:
- نفض الغبار من كتب التاريخ الصفراء، وفتح الباب للقراءة، وإعادة القراءة لكثير من الوقائع والأحداث الماضية، ومحو الخطوط الحمراء، وكسر (تابو) المقدس الإنساني في النظرة إلى التاريخ.
- الاستفادة من إمكانات الرواية الحداثية وتقنياتها في كتابة التاريخ.
- الاستفادة من إمكانات العصر في نقل كتابة التاريخ إلى كتابة حبكه بواسطة التخييل تمهديدا لنقلها إلى (السيناريو) باتجاه عرضها فلما.
- اعتماد النقد الثقافي أساسا في الداراسات الاجتماعية، والانثربولوجية.
قائمة المصادر والمراجع:
أولاً: الكتب
- القرآن الكريم
- إبراهيم عيسى. رواية رحلة الدم: القتلة الأوائل. الكرمة للنشر. القاهرة،ط:1، 2016م.
- جبر الدين رانس. المصطلح السردي. عابدحزندار. المجلس الأعلى للثقافة. القاهرة، ط:1، 2003م.
- جمال الدين بن منظور. لسان العرب.
- الحسن بكري. رواية قصة مدينة واحدة. دار العين للنشر. القاهرة، ط:1، 2018م.
- حمور زيادة. رواية شوق الدرويش. دار العين للنشر. القاهرة، ط:1، 2014م.
- عباس عبد جاسم. سرد مابعد الحداثة. دار الشئون الثقافية العامة. بغداد، ط:1، 2013م.
- عبد الله إبراهيم التخّيل التاريخي: السرد والامبراطورية والتجربة الاستعمارية. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط:1، 2011م.
- عبد الله العروي. مفهوم التاريخ: 1/الألفاظ والمذاهب. 2/ المفاهيم والأصول. المركز الثقافي العربي، المغرب، ط:1، 2005م.
- عبدالمحمود أبو شامة. من أبا إلى تسلهاي: حروب حياة الإمام المهدي. لا مط. لات.
- عبدالوهاب عيساوي. رواية الديوان الإسبرطي. دار ميم للنشر. الجزائر، ط:1، 2018م.
- فاضل ثامر. اللغة الثانية: في إشكالية المنهج والنظرية والمصطلح في الخطاب العربي النقدي الديث. المركز الثقافي العربي، بيروت، ط:1، 1994م.
- محسن محمد حسين. طبيعة المعرفة التاريخية وفلسفة التاريخ. دار موكرياني، العراق، ط:1، 2012م.
- محمد بوعزة. سرديات ثقافية من سياسة الهوية إلى سياسة الاختلاف. دار الأمان، الرباط، ط:1، 2044م.
- منصور الصويم. رواية حروب السلطان علي دينار على تخوم مدافن السلاطين. أوراق للنشر، القاهرة، ط:1، 2014م.
الشبكة العنكبوتية:
- أحمد لكبيد محمدو. من تسريد التاريخ إلى تأريخ السرد. Afaisalmag.com/?.
- إبراهيم المطرودي. الرواية للتاريخ والراوي لغيره. com/1687024
- سهير السباعي. رواية التاريخ: المثابات الاصطلاحية والمناحي التمثيلية. …..
- عبدالحميد توفيق. al-ain.com/article/meaning/history
- عبدالعزيز العلوي الأمراني. من تاريخ السر إلى تاريخ النقد: نحو تطوير المعرفة التاريخية في الوطن العربي. aljabirabed.net
- مفيد نجم. حوار الرواية والتاريخ. co.uk
- رواية التاريخ ومواضعات التسريد. co.uk
[1] – عبد الله العروي. مفهوم التاريخ: 1/الألفاظ والمذاهب:2/المفاهيم والأصول. المركز الثقافي العربي. المغرب، 2005م. ط:4.ص363.
[2] – المصدر نفسه. ص39.
[3] عباس عبد جاسم. سرد مابعد الحداثة. دار الشئون الثقافية العامة. بغداد، 2013م. ط:1.ص111.
[4] – السرد التاريخي والرواية التاريخية. انترنيت. www. Alarab.co.uk
[5] – عبد الله إبراهيم التخّيل التاريخي: السرد والامبراطورية والتجربة الاستعمارية. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت، ط:1،2011م.
[6] – المصدر نفسه. ص5.
[7] – المصدر السابق. ص5.
[8] – المصدر نفسه. ص610-62.
[9] – فاضل ثامر. اللغة الثانية: في إشكالية المنهج والنظرية والمصطلح في الخطاب العربي النقدي الديث. المركز الثقافي العربي، بيروت، ط:1، 1994م. في عنوان كبير تعرض لهذه المشكلة وفصلها. انظر: ص169 – 180.
[10] – جمال الدين بن منظور. لسان العرب. مادة (سرد).
[11] – القاموس المحيط مادة (سرد).
[12] – سورة سبأ. الآية: 11.
[13] – “وأول مشكلة يواجهها المترجم او الناقد تتعلق بمصطلح السردية narratology وجذره اللغوي narrate وقد استطاعت ندوة السردية الادبية التي نظمها قسم اللغة العربية في كلية التربية بالجامعة المستنصرية عام 1992م لت تثير هذه الاشكالية سواء في ضبط المفهوم او على مستوى ترجمة الصطلح نفسه”. فاضل ثامر. مصدر نفسه. ص178.
[14] – جبرالدين برانس. المصطلح السردي. عابد حزندار. المجلس الأعلى للثقافة.العراق. ط:1. 2003م. ص5.
[15] – عبد الحميد توفيق. انترنيت: www.al-ain.com/article/meaning-history
[16] – عبدالعزيز العلوي الأمراني. من تاريخ السرد إلى تاريخ النقد: نحو تطوير المعرفة التاريخية في الوطن العربي. انترنيت: www.aljabieabed.net
[17] – محسن محمد حسين. طبيعة المعرفة التاريخية وفلسفة التاريخ. مؤسسة موكرياني. العراق، أربيل، ط:1، 2012م. ص33.
[18] – عبدالله العروي. مصدر سابق. ص379.
[19] – إبراهيم عيسى. رواية رحلة الدم: القتلة الأوائل. الكرمة للنشر. القاهر، ط:1، 2016م.
[20] – المصدر نفسه. ص688.
[21] – المصدر نفسه. ص590، وانظر الصفحات: 686، 678، 687.
[22] – المصدر نفسه. ص529.
[23] – عبد الله العروي. مصدر سابق. ص:233.
[24] – أحمد لكبيد محمدو. الرواية الحديثة: من تسريد التاريخ إلى تأريخ السرد: دراسة في الثالوث الروائي للموريتاني أحمدو بن عبد القادر. انترنيت: www.alfaisalmag
[25] – عبدالمحمود أبو شامة. من أبا إلى تسلهاي: حروب حياة الإمام المهدي. لامط. لات.
[26] – منصور الصويم: حروب السلطان علي دينار على تخوم مدافن السلاطين. أوراق للنشر، ط:1، القاهرة، 2044م.
[27] – حمور زيادة. شوق الدرويش. دار العين للنشر. القاهرة، ط:1، 2014م.
[28] – عبدالوهاب عيساوي. رواية الديوان الإسبرطي. دار ميم للنشر. الجزائر، ط:1، 2018م. ص50.
[29] – عبدالوهاب عيساوي. مصدر سابق. ص222.
[30] – المصدر نفسه. ص65.
[31] – مفيد نجم. حوار الرواية والتاريخ. انترنيت: www. Alarab.co.uk
[32] – الحسن بكري. مصدر سابق. ص123.
[33] – المصدر نفسه. ص56.
[34] – المصدر نفسه. ص115.
[35] – إبراهيم المطرودي. الراوي للتاريخ والراوي لغيره. انترنيت: www.alriyadh.com/1867024
[36] – عيسى إبراهيم. رحلة الدم. مصدر سابق. ص434.
[37] – المصدر نفسه. ص663.
[38] – محمد بو عزة. سرديات ثقافية من سياسة الهوية إلى سياسة الاختلاف. دار الأمان، الرباط، ط:1، 2014م. ص183.
[39] – رواية التاريخ ومواضعات التسريد. انترنيت: www.alquds.co.uk
[40] – الحسن بكري. مصدر سابق. ص 1963.
[41] – المصدر نفسه. ص107.
[42] – المصدر نفسه. ص110.
[43] – المصدر نفسه. ص201
[44] – المصدر نفسه. ص23، والصفحات: 35، 42، 55.
[45] – سهير السباعي. رواية التاريخ: المثابات الاصطلاحية والمناحي التمثيلية. انترنيت.
[46] – المصدر نفسه.
[47] – عبدالله العروي. مصدر سابق. ص48.
[48] – المصدر نفسه. ص45.
[49] – إبراهيم عيسى. مصدر سابق. ص593 – 599.