إشكالية الجسد: قراءة تاريخية في الخطاب الفلسفي
The problematic of the body: a historical reading in philosophical discourse
ط.د. ادريس الدعيفي/جامعة الحسن الثاني، المغرب
Driss DAIFI. PhD researcher, University of Hassan II , Morocco
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 84 الصفحة 9.
ملخص:تحتفظ الذاكرة البشرية بتصورات مختلفة حول الجسد، سواء في مسارها الأسطوري أو العقلاني الفلسفي، أو في تجليها اللاهوتي. وفي هذا السياق سنحاول في هذه الدراسة أن نقدم نظرة تاريخية حول مفهوم الجسد في التفكير الفلسفي، منذ المرحلة القديمة مع الفلسفة اليونانية وتحديدا أفكار سقراط، أفلاطون وأرسطو، مرورا بالفلسفة الإسلامية مع ابن سينا والغزالي وغيرهم، وصولا إلى الفلسفة الحديثة مع ديكارت، لنختم بالفلسفة المعاصرة مع تيارات فلسفية مختلفة، وفي هذا السياق فقد قادتني هذه القراءات الأولية لتاريخ الاهتمام الفلسفي بالجسد، إلى استنتاج هام مفاده أن الجسد هو حقيقة متغيرة من مرحلة فلسفية لأخرى ومن فكر لآخر، ليبقى الجسد حقلا لا ينضب من الدلالات والمعاني إلى ما لا نهاية.
الكلمات المفتاحية: الجسد، فلسفة الجسد، دراسة تاريخية، الفلسفة اليونانية، الفلسفة الإسلامية، الفلسفة الحديثة، الفلسفة المعاصرة.
Abstarct:
Human memory maintains various conceptions of the body, whether in its mythological or rational-philosophical trajectory, or in its theological manifestation. In this context, this study attempts to present a historical look at the concept of the body in philosophical thought, from the ancient period with Greek philosophy, particularly the ideas of Socrates, Plato and Aristotle, through the Islamic philosophy with Ibn Sina, Al-Ghazali and others, and up to modern philosophy with Descartes and finally conclude with contemporary philosophy with different philosophical currents. In this context, these first readings of the history of philosophical interest in the body led me to an important conclusion: The body is a reality that changes from one philosophical period to another, and from one thought to another, so c the body remains an inexhaustible field of endless connotations and meanings.
Keywords: the body, the philosophy of the body, a historical study, Greek philosophy, Islamic philosophy, modern philosophy, contemporary philosophy.
مقدمة:
إن الاهتمام الفلسفي بموضوع الجسد لم يكن حديثا بل يرجع إلى مراحل قديمة، فالمتأمل في تاريخ الفكر الإنساني يلاحظ أن موضوع الجسد استأثر باهتمام الفلاسفة والمفكرين منذ العصور الكلاسيكية في الحضارات الشرقية القديمة (بلاد الرافدين، البابلية، الفرعونية، الهندية، الإغريقية…)، مرورا باليونان والفلسفة الإسلامي، وصولا إلى الفلسفة الحديثة ثم الفلسفة المعاصرة. وعلى هذا الأساس تهدف هذه الدراسة إلى تقديم لمحة تاريخية حول مفهوم الجسد، على اعتبار أنه قبل أن يصبح موضوع اهتمام علمي كان إشكالية فلسفية بالدرجة الأولى، وأثيرت هذه الإشكالية في الفكر الفلسفي على النحو الآتي: ما علاقة النفس/ الروح بالجسد؟ ما طبيعة الجسد؟ وما طبيعة النفس؟ وهل النفس/ الروح هي الخالدة، أم الجسد، أم هما معا؟ وهل الأسبقية للروح أم الجسد؟ هل ماهية الأنا تتحدد في جسده أم في روحه ونفسه؟ هذه هي أهم الأسئلة التي حاول الفلاسفة أن يقاربوها في إطار إشكالية الجسد. وبدورنا سنحاول تقديم إجابات عن هذه الأسئلة في ضوء التصورات الفلسفية السالفة الذكر.
- فكرة الجسد في الفلسفة اليونانية:
ترجع البدايات الأولى للاهتمام الفلسفي بالجسد إلى الفلسفة اليونانية، وذلك خلال مرحلة ما قبل الميلاد، حيث “كان الجسد في المجتمع الإغريقي عبارة عن نظام رمزي يخول التفكير في الأشكال التعارضية بين الذات والآخر، القريب والبعيد، الاتصال والانفصال، الإنساني والإلهي، فالجسد الإنساني اعتبر جسدا دونيا (sous corps) في مقابل الجسد الأعلى للآلهة (sur corps) ، إن الجسد الإنساني دوني ومعيب وخاضع لتقلبات الزمن والمحدودية ومعرض للتعب والشيخوخة والمرض ثم الموت والهبوط، في حين أن الجسد الأعلى للآلهة هو جسد خالد الإشعاع ومكتمل ويتم بالحياة والقوة والجمال”.[1]
فكيف قارب الفلاسفة اليونان مشكلة الجسد؟ وهل يمكن الحديث عن فلسفة الجسد؟
وبالعودة إلى الإرث الفلسفي اليوناني حول الجسد، نجد أن ملامح الاهتمام بالجسد بدأ مع “طاليس Thalès” (546-624 ق.م)، شأنه في ذلك شأن كل الفلاسفة الطبيعيين الأوائل الذين انشغلوا في تحديد ماهية الأجسام الطبيعية وأصلها وهنا تجدر الإشارة إلى أن فكرة الجسد ستلاقي تهميشا من قبل الفلاسفة ليس من حيث عدم العناية بل من حيث تحديد المكانة والأهمية، فنجد الفلاسفة الطبيعيين أهملوا الجسد الإنساني واهتموا بالأجساد الطبيعية.
ثم نجد “سقراطSocrate “(399-470 ق.م)، قد انشغل هو الآخر في الحديث عن نوعين من الوجود، الوجود الحسي والوجود الذهني، وقد نظر للجسد بتأثير من الفيتاغورية، بأنه أدنى من النفس وبهو بمثابة مقبرة للروح. إن فلسفة سقراط الأخلاقية تعلي من مكانة النفس على حساب الروح والفكر على حساب الحياة، ويمكن اعتبار استسلام سقراط للموت خير دليل على انشغاله بالنفس وتحقيق مطالبها، وما يؤكد ذلك أيضا هو تعريف الموت المقترح من طرف بطل سقراط في محاورة فيدون: “أيحدث أن يكون شيئا آخر غير افتراق النفس عن الجسم؟ هذا هو تماما ما يعني الموت: الجسم المنفصل عن النفس يعود جراء ذلك لا ليكون إلا ذاته في ذاته، بينما تصبح النفس المفصولة عن الجسم هي ذاتها في ذاتها، أي حدث أن يكون الموت شيئا آخر سوى ذلك”[2].
لقد كان “سقراط” يعتبر الجسد بمثابة عقبة تقف أمام التفكير، وهذا ما يؤكده حواره على لسان “أفلاطون” حينما يقول: “أن نفس الفيلسوف تزدري الجسد إلى أبعد حد وتهرب منه”[3].
يتضح من خلال ما سبق ذكره، أن الموقف السقراطي ينظر إلى ثنائية النفس والجسم ليس فقط كونهما جوهرين مختلفين، بل ينظر إليهما على أنهما جوهران متناقضان.
نظرة سقراط السلبية تجاه الجسد، ستستمر مع تلميذه “أفلاطونPlaton” (347-427 ق.م)، الذي عاش معه الجسد لحظة احتقار، عرض أفلاطون لتصوره العقلاني لعلاقة الجسد بالنفس في معظم محاوراته الفلسفية مثل “فيدون” و”مينون”، “الجمهورية”، “فايدروس” وغيرها، فنجده في محاورة “فيدون Le Phidon” التي كتبها “أفلاطون” على لسان أستاذه سقراط، وهي تمثل بيانا نظريا يؤسس لمشروعية إقصاء الجسد من فعل التفلسف وإبعاده عن العمل الذهني عموما، ما دامت الفلسفة أو محبة الحكمة، كما يقدمها “أفلاطون” على لسان “سقراط” تخليا عن إرادة الحياة وإقبالا على الموت وتوقا إلى الانعتاق من سحب الجسد من أجل الالتحام لعالم روحاني خالص.
يذهب “أفلاطون” في محاورة “فيدون”، إلى كون أن الروح هي أسمى شيء في الإنسان، لذا وجب العناية بها، أما الجسد فليس سوى سجن عقابي للروح لأنها طردت من عالم المثل بسبب خطأ اقترفته لذا يمثل الموت انعتاقا وخلاصا لها من الجسد، فأفلاطون ينظر إلى النفس على أنها تهبط من السماء إلى الأرض، وفي هذا الصدد فقد قسم العالم إلى جزئين، الأول عالم كامل وهو عالم المثل، والعالم الآخر غير كامل وهو العالم الدنيوي الذي ينتمي إليه الجسد. وعلى هذا الأساس دعا “أفلاطون” إلى التقليل من الاهتمام بالجسد حتى تتمكن الروح من الخلود”[4].
وفي هذا السياق نجد “أفلاطون” قد وضع تقسيما للجسد معتبرا أنه يتكون من ثلاثة مناطق أساسية تمثل كل منطقة من هذه المناطق قوى خاصة وفضائل خاصة تسكن فيها، وهي: منطقة وهي الرأس محل الروح والعقل، والنفس الغاضبة ومقرها الصدر، والنفس الشهوانية ومقرها البطن، أي ما سماه بالنفس العاقلة والنفس الشهوانية والنفس الغضبية.
وعلى الرغم من أن الإنسان وفق التصور الأفلاطوني هو مسجون في الجسم، فإن “أفلاطون” يرى أن الكمال يحصل بخلق التوازن بين الروح والجسد، أي بين النفس العاقلة والنفس الشهوانية والنفس الغضبية، لأن طغيان الروح على الجسد يجعله يضطرب ويغدو هجينا وطغيان الجسد على الروح يخلق الجهل، ولا يتم هذا التوازن إلا بتمرين الجسد على الرياضة وتمرين الروح على الموسيقى والفلسفة، وعليه يجب أن يسلك الجسد باعتباره عارفا ليس مستهلكا بناء على مبدأ عدم الإفراط والتفريط أي التوازن بين الجسد والروح”[5].
يبرر “أفلاطون” هذه التراتبية بتحديده لطبيعة العلاقة بين الروح والجسد، فالروح سيد يأمر لأنها جوهر إلهي غير قابل للتحليل والفساد والجسد عبد مطيع ومرصود للفناء.
إذن المتأمل في الطرح الأفلاطوني -السقراطي، سيستخلص الفرق والتمييز القائم بين النفس والجسم، إنهما متناقضان لكي لا نقول متعاديين. فإذا كان الجسم حسب “أفلاطون” منجذب نحو الملذات وغارق في الغريزة، فإن النفس تواقة للمعرفة والحكمة، إنها مقر التفكير والفكر، يقول “أفلاطون” في هذا الصدد: “حينما تحاول النفس باستخدام الجسم تفحص شيء ما، يتضح أنها مخدوعة تماما منه”[6]. وطور “أفلاطون” هذه الفكرة بشكل واضح في استعارة الكهف “ما نشعر بع على أنه حقيقة دنيوية مادية هو مجرد انعكاس غامض لحقيقة سامية مثالية”.
نخلص إلى القول أن التصور الأفلاطوني بخصوص الجسد، لا يختلف عن تصور أستاذه “سقراط”، حيث أنه تصور يتضمن ثنائية واضحة (الجسم والنفس)، إلا أنه يعلن تفوق النفس وسموها على الجسم وضرورة تحكم الأول في الثاني. إنهما ينتميان إلى الأفكار المتضادة وما اتحادهما إلا عارضا، فالنفس عنصر خالد وإلهي، أما الجسم فهو أشد مادية وغير خالد.
وإذا كان “أفلاطون” قد أقر بمبدأ الثنائية، فإن تلميذه “أرسطو Aristote” (384-322 ق.م) قد صنف ثنائية الجسد والروح في إطار زوج أنطولوجي أساسي: الهيولي والصورة، لا يمكن الفصل بين حديه ولا استقلالية أحدهما عن الآخر، فالهيولي مادة عضوية ووجود بالقوة، والصورة مادة لا عضوية ووجود بالفعل، وهما وجهان لشيء واحد، فلا سبق إذن للروح ولا تأخر للجسد، بما أن الهيولي والصورة متلازمان في الكينونة، وبالتالي في القدم.
لقد اعتبر أرسطو الجسد “موضوعا فيزيائيا يمكن تعقله ومن ثم فهو قابل للدراسة العلمية، لذا حاول تصنيفه وفق وظائفه وأجزائه. إن الجسد وفق أرسطو جوهر محسوس له صورة تتجذر فيه الحركة التي تمثل الانتقال من الضد إلى الضد، كالانتقال من البارد إلى الحار أو العكس وهذه الخصائص لا تسري على الجسم الحي وحده بل تتعداه إلى كل الأجسام سواء السماوية أو الأرضية، سواء كانت حية أو جامدة، هذا وإن اختلفت أنواع حركتها، فحركة الكائن الحي تبتدئ من التغذية إلى الإحساس ثم التفكير وأخيرا الرغبة والحركية. يتصف الإنسان، بالإضافة إلى ما سلف بالمخيلة وهي امتداد للحساسية، والتذكر أي إعادة تركيب الصور التي تركت أثرا في المخيلة، والفكر أو القوة العقلية وهي أعلى درجة يبلغها الإنسان تسمح له تمثل المفاهيم الكلية، أما الروح فصورة الجسد ومن ثم وطيفها تنظيمه، وهو ما يعني عدم وجود تناقض بين الروح والجسد بل بينهما تناسب[7].
نخلص إذن إلى القول، بأنه لا وجود لمشكل في علاقة الجسد بالروح عند “أرسطو”، على عكس ما ذهب إليه أفلاطون حيث قام بالفصل بين وظيفتي النفس والجسد، لقد وضع “أرسطو” الجسم والنفس كجزئين لجوهر واحد متحدين اتحاد المادة والصورة.
وإذا كان “أرسطو” قد قدّم نقدا محتشما للتصور الأفلاطوني، فإن مذاهب فلسفية أخرى ذات منحي أخلاقي نفعي كالأبيقورية مثلا، رفضت الطرح الأفلاطوني بشكل صريح ، وذلك عندما أكدت على أن مبدأ اللذة هو معيار التقويم الأخلاقي وغاية السلوك الإنساني، فإذا كان افلاطون قد اعتبر الخير قمة المثل وخالق الكون ثم حصره في الإحساسات اللذيذة فقط، فإن أبيقور يصرح: “إنني لا أستطيع أن أتصور الخير إذا غضت النظر عن لذات النوق والذات والحب ولذات السمع، وبالجملة عن كل اللذات التي يحصل عليها الناس بواسطة الحواس، وليس صحيحا أن سرور العقل هو وحده الخير، ذلك لأن العقل يسر برجاء اللذات الحسية التي بالتمتع بها يمكن للطبيعة أن تتحرر من الألم”[8].
يؤمن أتباع هذا المذهب، بأن المحسوسات هي غرض المعرفة، وأن الإدراك الحسي هو وسيلتها الوحيدة، عكس تماما ما ذهب إليه أفلاطون، كما يعتقدون أن الحياة هي الجذر الكامن وراء كل معرفة ومقياس حقيقتها لأن الحقيقة ليست جوهرا مطلقا وهبة من السماء كما يتصورها التفكير النظري المجرد، وإنما هي فعالية مرتبطة بحاجيات الحياة الملحة وبمدى خدمتها لمطالب الإنسان المتجددة، مما يجعلها نسبية. وبالتالي فهذا التصور الواقعي يعلن مصالحته مع الجسد، بما أنه مجال لتحصيل اللذات الآنية.
انطلاقا مما سبق، يبدو أن تصورات الفلاسفة اليونان بشأن الجسد، مختلفة بل تصل إلى حد تناقض اللاحق مع السابق، بحيث تم تسجيل اختلافات عديدة بين الطرح الأفلاطوني والأرسطي وكذا طرح الأبيقورية؛ فبينما قام أفلاطون بالرفع من قيمة الروح والحط من مكانة الجسد وأقر بمبدأ الثنائية، على العكس من ذلك، تم التأكيد على اتحادهما مع تلميذه أرسطو؛ إذ لا تكتمل الكينونة إلا بهما معا، وعلى العكس من كل ذلك أعلنت الأبيقورية مصالحتها مع الجسد ورفعت من قيمته. ومع ذلك – لا يسعنا إلا القول – بأن الإرث الفلسفي اليوناني له أهميته الخاصة في التأسيس لمعرفة الجسد والذات.
- الجسد في الفلسفة الإسلامية:
لا شك أن موقف الفلسفة الإسلامية من الجسد؛ تأثر بموقف كل من الفلسفة المسيحية والفلسفة اليونانية، ومن المؤكد أن تأثير تلك الفلسفات على الفلسفة الإسلامية لا يمكن حصره في موضوع الجسد فقط، وإنما ينطبق أيضا على تفسيرات الفلاسفة المسلمين للوجود والمعرفة والأخلاق بشكل عام. فبالعودة إلى تصورات فلاسفة اليونان ولاسيما سقراط وأفلاطون وأرسطو حول ثنائية الجسد والروح، نجد لهذه التصورات تأثير واضح على تصورات مجموعة من الفلاسفة المسلمين أمثال ابن سينا والغزالي وابن رشد، الرازي، الفارابي، الكندي وغيرهم، لذلك يمكن اعتبار موضوع الجسد والروح من أهم المواضيع التي تناولها الفلاسفة المسلمين، إضافة إلى مسألة التوفيق بين الحكمة والشريعة، وفي هذا السياق نشير أيضا إلى كون نظرة الفلسفة الإسلامية للجسد لم تكن تتناقض في جوهرها مع تعاليم الدين الإسلامي، كما هو الحال مع الفلسفة المسيحية.
فكيف تنظر الفلسفة الإسلامية إلى الجسد؟ وما طبيعة العلاقة القائمة بين الجسد والروح وفق تصورات الفلاسفة المسلمين؟
يرى “ابن سينا Avicenne” (980-1037م)، أن الإنسان يتألف من روح وجسد، أو بتعبير ابن سينا من سر وعلن، فسره هو الروح وعلنه هو بدنه، والإنسان حسب ابن سينا بفعل طبيعته الجسدية يقترب من الحيوان ويتدنى، أما بفعل الروح فيرتقي أكثر علما ومعرفة وعلى هذا الأساس فالإنسان هو عبارة عن جوهر روحاني خالص، يستعمل البدن مطية للالتحاق بواجب الوجود (الله) والاتصال به والتوق إلى حضرته؛ نظرا للطبيعة الإلهية للروح، فهذه الأخيرة لن تحظى بالسعادة إلا بموت الجسد، وخلاصها من علائقه تماما، يقول ابن سينا: “وهذا مذهب الحكماء الإلهيين… فإنهم شاهدوا جواهر أنفسهم عند انسلاخهم عن أبدانهم واتصالهم بالأنوار الإلهية”[9].
فالنفس عند “ابن سينا” جوهر روحاني[10] قائم بذاته، يفيض ويتخذ من نفسه آلة في اكتساب العلوم والمعارف، حتى يصبح عارفا بالله ولكل العوالم المحيطة بها، أو بمعنى آخر أن النفس هي الجوهر الناطق والكامل للإنسان الذي يقوم بالتذكر والرؤية والتمييز، أو بالأحرى هي الجوهر الفعال المدرك، ومنه فالنفس تستطيع أن تدرك ذاتها والعالم من حولها من خلال العقل، ودون حاجة إلى الحواس، ويعني ذلك أن النفس ليست في حاجة إلى الجسد، فهذا الأخير لا يمكنه إدراك الأشياء دون استخدام الحواس، وحسب ابن سينا الإدراك العقلي أقوى من الإدراك الحسي، بحيث دعا إلى الشك في الحواس وما تقدمه من معارف.
يتضح من خلال ما سبق، أن “ابن سينا” يتبنى موقفا يهمش الجسد ويضعه في مرتبة أدنى من النفس، بل يرى الجسد على أنه عائق أمام النفس وشاغل لها، وهنا يظهر الأثر الأفلاطوني في النظرية السينوية ويظهر ذلك أكثر عندما يؤكد ابن سينا على خلود النفس، أي أن النفس لا تموت بموت الجسد، بل على العكس من ذلك عندما يموت الجسد تتخلص النفس منه، ومن تم فهي سرمدية وغير فانية وهذا ما جعله ينادي بأبدية العالم. وهي الفكرة التي نجد لها حضورا في فلسفة “أفلاطون وأرسطو وأفلوطين”، وبالخصوص هذا الأخير الذي أكد أن النفس عنصر إلهي وخالد، بينما الجسم، فهو عنصر مادية وفان.
ورغم التعارض الذي يبديه التصور السينوي بخصوص العلاقة القائمة بين النفس والجسد، فإنه لا ينفي إمكانية وحدتهما ولم يستطع أن يتصور وجودا للنفس خارج دائرة الجسد، وفي هذا الصدد يرى ابن سينا في كتابه “القانون في الطب” أن النفس والجسد يوجدان معا في وحدة تمنح الحياة للكائن الحي، فالنفس في حاجة إلى جسد لكي تحقق وجودها، والجسد أيضا بحاجة إلى اقترانه بالنفس. وهو نفس الطرح الذي دافع عنه أرسطو، رغم أنه هو الآخر أقر بمبدأ الثنائية بين النفس والجسد، إلا أنه اعتبرهما مكونين جوهرين للإنسان لابد منهما لكي تكتمل ماهيته. ومن هنا نلاحظ أن تصور أرسطو حول الجسد يتميز بالتنوع. ونفس الأمر بالنسبة لتصور ابن سينا حول الجسد؛ الذي بدوره يتميز بالتنوع؛ من أحادية إلى ثنائية.
وبالنسبة “للغزالي” (1058-1111م)، فلم يخرج تصوره الأخلاقي للجسد عن المرجعية الدينية الإسلامية، التي تضفي طابع القدسية الجسد، كما استلهم من التراث الفلسفي اليوناني، خاصة التراث الأفلاطوني نتيجة الاتصال الحضاري بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة اليونانية.
من هذا المنطلق يمكن اعتبار تصور “الغزالي” للجسد بمثابة نقطة التقاء وتداخل الديني مع الفلسفي والصوفي أيضا، على هذا الأساس فقد درج الغزالي على النهج الذي اختطته الميتافيزيقا اليونانية حينما نظر إلى الإنسان نظرة تجزيئية جسد/ نفس، في ضوء مسألة خلق الإنسان، حيث قسم العالم إلى قسمين “عالم الأمر وعالم الخلق، الأول لا كمية له ولا تقدير له كأرواح البشر وأرواح الملائكة، إنه عالم الموجودات الخارجة عن الحس والخيال والمكان…والثاني فهو عالم الأجسام وعوارضها، والخلق بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد والأحداث…”[11]، وبذلك فالإنسان في نظر الغزالي مكون من عالمين؛ عالم الأمر وعالم الخلق، أي عالم العقل وهو العالم الإلهي وعالم الحس وهو العالم المادي، أي أنه مكون من جسد ونفس، وفي هذا الصدد حاول الغزالي في كتابه “معارج القدس في مدارج معرفة النفس”، شرح العلاقة القائمة بين الجسد والنفس، كما حاول أيضا شرح معاني الألفاظ المترادفة للنفس (النفس، القلب، الروح والعقل). وفي هذا الصدد يرى الغزالي، أن هناك علاقة توازن وتكامل بين كل هذه المكونات، فجميعهما يعين بعضها بعضا، إلا أنه اهتم بدراسة النفس اهتماما كبيرا، محاولا إثبات وجودها وخلودها، فاعتبر أن معرفة النفس توصل إلى معرفة الله ومعرفة أسرار الكون، ورأى أنها جوهر روحاني خالص متمايز عن الجسد، بينما هذا الأخير من عالم الخلق وهو معرض للزوال، ويوضح الغزالي الفرق بين النفس والجسد من خلال هذا القول: “أعلم أن الله تعالى خلق الإنسان من شيئين مختلفين: أحدهما: الجسم المظلم الكثيف الداخل تحت الكون والفساد المركب المؤلف الترابي الذي لا يتم أمره إلا بغيره، والآخر: هو النفس الجوهري المفرد المنير المدرك الفاعل المحرك المتمم للآلات والأجسام…”[12].
بناء على ما سبق، يتضح أن “الغزالي” يولي النفس عناية خاصة مقارنة بالجسد، فهذا الأخير ليس سوى خادم الروح، إنه مسخر من طرفها، واعتبر أن الجسد منزل أو مسكن للروح وأنها تحل به لعناية إلهية وتظل في ذلك الجسد لمدة محددة إلى أن ينتهي أجلها. كما يؤكد أيضا أن سعادة الإنسان لا تكتمل إلا بعد أن تتحرر النفس من كل قيود الجسد.
إن الناظر لما تقدم يجد أن التصورات السابقة تعج بإشارات تمنح الروح قيمة ومكانة أسمى من الجسد، فقد تم تناوله ضمن عدة ثنائيات أخرى (الجسد، الروح، النفس، البدن، الجسم، العقل، القلب)، وأفضت في كل أشكالها لصالح الروح على حساب الجسد. فمعظم الفلاسفة المسلمين أعطوا الجسد مرتبة أدنى من الروح، وبذلك بوسعنا القول أن تصوراتهم توافقت مع المرجعية الدينية الإسلامية.
- فكرة الجسد في الفلسفة الحديثة والمعاصرة:
إذا كانت الفلسفات السابقة نظرت إلى الجسد نظرة أدنى من الروح والنفس، فإنه سيعاد له الاعتبار وترجع له قيمته وينظر إليه نظرة فلسفية جديدة تقوم على أساس سيادة النزعة العقلانية في الفكر الفلسفي وتطور الفكر العلمي في مطلع عصر النهضة، ونجد بذور هذا الموقف الإيجابي من الجسد بدأ مع ديكارت وسيتبلور بصفة خاصة مع كل من “نيتشه”، ثم الفلسفة الظاهراتية مع “موريس ميرلوبونتي” و”إدموند هوسرل”، ثم مع “ميشيل فوكو”.
فما هو موقف الفلسفة الحديثة والمعاصرة من الجسد؟
من أجل إبراز موقف فلاسفة العصر الحديث والمعاصر من الجسد، سأكتفي بتقديم أربعة نماذج وهي: موقف “روني ديكارت”، “فريدريك نيتشه”، ثم الفلسفة الفينومينولوجيا مع ميرلوبونتي وهوسرل، ثم “ميشيل فوكو”.
- “روني ديكارت René Descartes“ (1596-1650)
يعتبر “روني ديكارت” من أبرز المؤسسين لمشكل العلاقة بين الجسد والفكر في الفلسفة الحديثة والمعاصرة وفي هذا السياق، يرفض ديكارت الأفكار الكلاسيكية بشأن هذه الثنائية ولاسيما الأفكار الأفلاطونية والمسيحية التي اعترفت بالروح والنفس وهمشت الجسد، وارتأت بأن بينهما علاقة تعارض. بينما ديكارت في كتابه “تأملات ميتافيزيقية”، يرى أن بين الروح والجسد علاقة تفاعل متبادل التي تجعل منهما وحدة أو كلية لا انفصال فيه، ذلك أن الجسد عنده هو مجموعة امتدادات مرتبطة ببعضها البعض تخضع لقوانين الميكانيكا والكمياء والإحياء وعلم وظائف الأعضاء، فهو بهذا المعنى عبارة عن “آلة مركبة من أجزاء متجاورة ومترابطة حسب تصميم قبلي”[13]، وهذه الآلة في حاجة إلى محرك يصل بين ميكانيزماتها المنفصلة، ويمنعها من التوقف عن أداء وظائفها وليس ذلك المحرك سوى العقل أو الروح. إنه “آلة جد منظمة من طرف الإله السعاتي، والروح لا توجد في الجسد وجود الربان في السفينة، بل ككائن يسكن في جميع أنحاء الجسد…”[14]، إن الوظائف الجسمية مثل (الحركة، الهضم، التنفس…)، تشتغل وفق آلية تنبع من إرادة الله.
وفي هذا السياق يرى “ديكارت” أن الإنسان يتألف من جوهرين هما بالطبيعة النفس والجسد، فالنفس روح بسيط مفكر، أما الجسد فهو امتداده، يقول ديكارت في هذا الصدد: “إذا ذهبت من كوني أعرف بيقين أني موجود وأني مع ذلك لا ألاحظ أن شيئًا آخر يخص بالضرورة طبيعتي أو ماهيتي سوى أني شيء مفكر، استطعت القول إن ماهيتي إنما انحصرت في أني شيء مفكر، أو جوهر كل ماهيته أو طبيعته ليست إلا التفكير. ومع أن من الممكن أن يكون لي جسم اتصلت به اتصالا وثيقا…”[15]. وفي نفس الصدد يقول: “إن النفس متصلة حقيقة بمجموع الجسم […] بسبب أنه واحد وبطريقة ما غير قابل للقسمة، بفضل ترتيب أجهزته التي ترتبط جميعها ارتباطا وثيقا بعضها بالآخر، لدرجة أنه حين ينتزع أحدها فإن ذلك يجعل مجموع الجسم معطوبا”[16].
بناء على ما تقدم، فديكارت يتصور الإنسان وفق طبيعة مزدوجة، بحيث رأى أنه يتكون من الفكر الذي هو ماهية الإنسان والجسم الذي هو امتداده؛ وهذا الامتداد هو الجوهر المادي نفسه، أو الطبيعة التي تعمل في كل شيء طبقا لقوانين الميكانيكا الدقيقة، تعمل بذلك لأن الله فرض عليها الخضوع لهذه القوانين، ورأى ديكارت أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتكون من هذين الجوهرين (الجسد والروح)، بحيث لا يمكن الحديث عن الروح عند الحيوان مثلا، لأنه خاضع لقوانين الطبيعة فقط، بخلاف الإنسان الذي يمتلك روحا وجسدا.
هكذا إذن، يفرق “ديكارت” بين النفس والجسد، أو بالأحرى بين الجوهر المفكر (النفس أو العقل) والجوهر الممتد (الجسد)، وأكد على طابع الصلة القائم بينهما، مؤسسا من ثمة لموقف إيجابي من الجسد وهو بذلك يستبعد ثنائية أفلاطون (جسم أرضي فان، ونفس خالدة تسكنه)، ويبتعد عن تأثير أفكار أرسطو الذي يرى في كل إنسان وحدة مركبة من جسم (مادة) والنفس (شكل)، أي أنه مركب من هيولي وصورة. كما ابتعد عن الأفكار اللاهوتية خلال العصر الوسيط التي انتقصت من قيمة الجسد ووضعته في تناقض مع الروح والنفس.
- “فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche“ (1844-1900)
لا شك أن ديكارت قدم موقفا إيجابيا حول الجسد وأعاد له الاعتبار، ومنحه قيمة ومكانة لا تقل أهمية على قيمة الروح، وقدم تفسيرا عقليا، علميا لثنائية الجسد والروح مستفيدا من علوم عصره. هذه الإيجابية اتجاه الجسد ستعرف أوجها مع الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه الذي اعتبر أن “تاريخ البشرية هو تاريخ إذلال الجسد وإماتة الرغبات والتضحية بالذات”[17]، فقام بثورة عارمة على التفكير الذي سبقه، خاصة الأنساق الفلسفية المثالية، التي همشت الجسد واحتقرته في مقابل الروح. لكن هذه الأخيرة ستعرف أفولها مع نيتشه وأضحت مكانتها أدنى من مكانة الجسد، يقول نيتشه في هذا الصدد: “الجسم هو عقل كبير، جمهور متحمس، حالة سلام وحرب، قطيع وراعيه. هذا العقل الصغير الذي تدعوه روحك، يا أخي، ليس إلا أداة بيد جسمك، وأداة صغيرة جدا، ولعبة بيد عقلك الكبير”[18]، يبدو من خلال هذا القول أن نيتشه قلب رأسا على عقب كل الأفكار المثالية بخصوص ثنائية الجسد والروح، حيث أعلن أن الجسد هو العقل الكبير، في مقابل العقل الصغير الذي يقصد به الروح.
ويواصل “نيتشه” تضخيمه للجسد، وتقزيمه للروح، بما أن هذه الأخيرة ليست سوى عرض تابع للجسد، فيقول: “إن الإنسان المتفقه الذي يعرف، يقول: أنا الجسد كله ولا شيء غيره، أما الفكر أو الروح فليس سوى اسم لشيء ما في الجسد”، يتضح حسب “نيتشه”، أنه ليس ثمة وجود للإنسان دون الجسد، وما الروح في نظره سوى ذلك الصدى التابع له، ويستمر “نيتشه” في الدفاع عن الجسد، ضد كل من يتنكر لأهمية الجسد وقيمته، بقوله: “للمستهزئين بالجسد أريد أن أقول كلمتي، ليس عليهم أن يتعلموا من جديد ولا أن يعيدوا تعليم الآخرين، بل فقط أن يقولوا وداعا لجسدهم وأن يصيروا بكما إذا”[19].
واضح هنا أن “نيتشه” يدحض كل الأفكار التي تنظر إلى الجسد نظرة استهزاء واحتقار، ويرى أن من يحتقره ويستهزئ به ليست لديه معرفة وإحاطة به.
يتضح مما سلف، أن “نيتشه” احتفى بالجسد وبقواه الغريزية باعتبارها قوى فاعلة حقيقية، واعتبر الجسد أعظم من الروح، فهذه الأخيرة ليست إلا وسيلة له، على عكس تماما ما قالت به الأفلاطونية والمسيحية وغيرها، التي أساءت فهم الجسد في نظر “نيتشه”، حيث كانت ترى أن الجسد مجرد أداة للروح وخاضعة له، لكن مع “نيتشه” حصل العكس؛ أضحت الروح مجرد أداة في يد الجسد يتحكم فيها، يقول نيتشه: “يوجد وراء أفكارك ومشاعرك، يا أخي، يقوم سيد جبار، مرشد طريق مجهول يدعى الذات، يسكن جسدك، إنه هو جسدك…”[20].
هكذا إذن، استطاع “نيتشه” أن يحرر الجسد من النظرة الإرتكاسية الكلاسيكية التي احتقرته بوصفه مصدرا للخطيئة والشر وقتلت رغبته في الحياة وصنعت إنسانا يكره جسده ودشن في المقابل بداية جديدة للجسد الإنساني بغرض إعادة الاعتبار إليه، فهو ليس جسدا زاهدا، أو كيانا مدنسا وأقل قيمة وأهمية من الروح، بل هو حسب “نيتشه” عنوان انخرطنا في الحياة بوصفه جسدا راغبا في الحياة من كل نواحيها ورمزا لإرادة القوة.
- “ميشيل فوكو Michel Foucault” (1926–1984)
إذا كانت الفلسفة الحديثة – كما رأينا ذلك – قد أعادت الاعتبار لمكانة الجسد وقيمته واستطاعت أن تحرره؛ بدءا مع ديكارت في القرن السابع عشر الذي أسس لموقف إيجابي من الجسد، من خلال تجاوزه لطابع التناقض بين الجسد والروح، الذي قالت به الفلسفات الكلاسيكية، مؤكدا على أن الإنسان عبارة عن وحدة غير قابلة للقسمة أو الاختزال، ثم مع نيتشه الذي حارب الأفكار الميتافيزيقية واللاهوتية التي احتقرت الجسد وحاربته، فإن الفلسفة المعاصرة لن تبحث فقط في قيمة الجسد ومكانته، بقدر ما ستهتم بالتأمل والتنظير للجسد في علاقته بالمؤسسات الاجتماعية، خاصة في علاقة الجسد بالسلطة في إطار المجتمع الرأسمالي. وفي هذا الإطار اهتم ميشيل فوكو بالجسد في نطاق رصده للتاريخ والمؤسسات واستقصائه للبنية العميقة التي تحكم مسار الحضارة الغربية بطريقة أركيولوجية، جينيالوجية، فحسب ميشيل فوكو رغم أن الجسد تحرر خلال فترة الحداثة من وصاية الروح والمسيحية، بقدر ما أصبح اليوم مسخرا لخدمة الليبرالية، ومستغلا ومستلبا من طرف المجتمع الرأسمالي البورجوازي، لقد أضحى أداة طبيعية للعمل والزيادة القصوى في الإنتاج والاستهلاك بإيعاز من المؤسسات الرأسمالية.
وعلى هذا الأساس شرع “فوكو” في تفكيك النسق المعرفي الغربي، من خلال تعرية الوجوه الخفية لأخطبوط السلطة والكشف عن الاستراتيجية المتبعة للسيطرة على الجسد وترويضه، في مختلف التجارب: أثناء المرض والصحة، العقل والجنون، اللذة والألم، الحرية والعقاب…وذلك من خلال الدفع به نحو مؤسسات قهرية (المعزل، السجن، الجيش، المستشفى، المدرسة…)، وهي أماكن تتميز من جهة بالانغلاق وقمع الأفراد، ومن جهة أخرى تسهل عمل ووظيفة السلطة، وهكذا تسعى هذه المؤسسات إلى مراقبة الجسد وضبطه وتوجيهه بطريقة تجعل الأفراد يقبلون بشروط التحكم، كما تسعى إلى تحويل الجسد لطاقة إنتاج وتعمل على إعدام كل إمكانياته ومؤهلاته التي من شأنها التشويش على هذه المهمة.
وفي هذا السياق تناول فوكو في كتابه “المراقبة والمعاقبة” (1975)، عدة نماذج وأمثلة من المؤسسات بغية رصد مظاهر المراقبة للجسد وكان من بين تلك المؤسسات؛ السجن باعتباره المكان الأكثر انتشارا للمراقبة والعقاب في العالم الحديث، موضحا كيفية تحول السجن من مجرد مكان للعقاب والتعذيب إلى حدود نهاية القرن الثامن عشر، إلى مكان للتأديب والتعقب والمراقبة، حيث تم إلغاء المواجهة الجسدية بين الضحية والجلاد، فحلّ القاضي محل الجلاد، وأصبح أداة في يد السلطة والقائمين عليها ذلك لقضاء مصلحتهم الشخصية، في إطار ما يسميه بتكنولوجيا السلطة، ولعل تحليلات فوكو بخصوص الجسد، كلها تسير في هذا الاتجاه، أي “محاولة فهم كيف تم الانتقال من تصور للسلطة حيث الأمر يتعلق بمعالجة الجسد بوصفه مساحة لرسم وتثبيت التعذيب والعقوبة إلى شكل آخر، يعمل بالعكس على تشكيل وتكوين وتصحيح وإصلاح الجسد”[21]، وهذا الأمر لا يتعلق بالسجن فقط، بل ينطبق على مؤسسات أخرى كالمستشفيات وكل أماكن العزل والحجر.
يرى “فوكو” أن مع بداية القرن التاسع عشر، ظهرت العديد من الهيئات الرقابية التي تسعى إلى تسيير أكثر عقلانية وتحقيق مردودية أكبر من خلال مراقبة الجسد وقوة العمل وتوسعت دائرة المراقبة لتشمل جميع المؤسسات والأنشطة اليومية، فقد أضحت جميع مرتبطة بالمراقبة إلى درجة جعلت الأفراد يمارسون بدورهم المراقبة فيما بعضهم البعض من أجل التحقق من التزامهم بأنماط السلوك المقبولة، إنها مراقبة يتداخل فيها الجميع: المجتمع والمؤسسات والأفراد ويشكل فيها الجسد وساطة رئيسية، “أصبحت سلطة العقاب تسري على طول الشبكة الاجتماعية […] لتتشعب إلى أن تصبح غير منظورة كسلطة للبعض على البعض”[22].
يكشف التشريح الذي قام به “ميشيل فوكو” لمشكل العلاقة بين السلطة والجسد؛ عن وجود سلسلة لامتناهية من الاستراتيجيات والممارسات والأساليب المبتكرة من طرف الليبرالية البورجوازية من أجل استغلال الجسد الإنساني وترويضه والاستثمار فيه. – وكما رأينا- يتم ذلك في مختلف المؤسسات والفضاءات المغلقة التي تسمح بتسيير الأفراد في المكان وتوزيعهم والتعرف عليهم ومعاينتهم من قبيل (الأسرة، الزواج، الجنس، المدارس، المستشفيات، أماكن وفضاءات الإنتاج، السجون، دور العزل والحجر وغيرها).
التصور الفينومينولوجي للجسد
تعتبر الفلسفة الظاهراتية من أبرز الاتجاهات الفلسفية المعاصرة التي اهتمت بموضوع الجسد، حيث استطاعت أن تؤسس لمنظور جديد بخصوص الجسد؛ يمثل ثورة على التصورات المثالية والعقلانية (أفلاطون، ديكارت…)، فيما يتعلق بثنائية الجسد والروح. ذلك أن رواد الفينومينولوجيا وعلى رأسهم “ميرلوبونتي”؛ رفض القول بتأثير الروح في الجسد ويقرّ في المقابل بأهمية الجسد في الوجود، مؤسسا بذلك ل “كوجيطو” جديد، وهو: “أنا جسد إذن أنا موجود”.
فكيف تنظر إذن الفينومينولوجيا إلى الجسد؟
ترتكز فينومينولوجيا الجسد حول أنموذج القصدية الذي جعل من الجسد كأداة للتعبير والوجود، على اعتبار أن وجود الإنسان في العالم يتحقق عبر الجسد، إنه يمثل جسر التواصل بين الذوات، فمن خلاله نعبر عن آرائنا ورغباتنا وامتعاضنا وطموحاتنا، فهو الذي يجعلنا نشعر بما حولنا[23]، إنه أداة ربط بين الوعي والعالم؛ طالما أنه حاملا للمعاني والدلالات، وما دام كذلك، فإنه يمثل أداة للمعرفة أيضا، فهذه الأخيرة لا يمكن أن تتم بدون توسط للجسد، كما أن معرفة هذا الأخير لا يمكن أن تكتمل إلا خلال العودة إلى تجربته المعاشة في العالم. فهذه هي الحقيقة التي أكد عليها التصور الفينومينولوجي وهي أننا نمثل أجسادنا ونحن موضوعات مجسّدة.
وفي هذا السياق، يؤكد “هوسرل” أن إدراك الجسد يرتبط بتحققه في العالم، أي من خلال فعل الحضور داخل وجود مشترك بين الذوات وانفتاح الذات على الآخرين ومشاركتهم تجاربهم وهو انفتاح عن وعي قصدي. إذ تحاول الذات بانفتاحها هذا؛ تحقيق وعيها بموضوع ما من موضوعات العالم ويتحقق هذا الانفتاح بفضل الجسد الذي يساعد الذات في إدراك جسدها وأجساد الآخرين. وبذلك كسر “هوسرل” عزلة الذات المفكرة الديكارتية، بحيث رأى هوسرل؛ أنه لا معنى لكوجيطو ديكارت: “أنا أفكر أنا موجود”، إن لم يكن هذا التفكير يقصد موضوعا ما من موضوعات العالم.
وفي نفس الصدد دعا “ميرلوبونتي” إلى ضرورة العودة للعالم المعيش، أو ما يسميه بالعودة إلى الأشياء ذاتها، بحيث لا يمكن فهم الإنسان دون الانطلاق من وجوده في الواقع المعيش لذلك من أجل فهم الجسد لا بد من العودة إلى تجاربه كما يعيشها في الواقع (الجسد المعيش) في مختلف تفاعلاته في الحياة اليومية (الشعور، التفكير، الحب، الكراهية، الفرح، الحزن، الكلام، الصمت، الإيماءات…)، فكل هذه التفاعلات حسب “ميرلوبونتي” ليست مجرد وسيط بين الفكر والعالم، بل هي جسدا للفكر ومن خلالها أيضا ننفتح على الوجود ونخرج من سطوة أفكارنا. ويرى “ميرلوبونتي” أن الوعي هو جزء لا يتجزأ من هذه العملية، لأنه هو الذي يسهر على تنظيمها، وينبغي أن يكون هذا الوعي قصديا ومصاحبا للإدراك الحسي الذي يمثل اللقاء الأول المباشر مع العالم.
يتبين إذن، أن معرفتنا بالجسد حسب “ميرلوبونتي”، ترتبط بمدى معرفة علاقته بالعالم الخارجي، ما دام أن الجسد لا يوجد إلا في نطاق العالم، فهو الذي يربطنا بالحياة وبالآخرين، بل إن فهم العالم يعتمد على بنية الجسد باعتباره منظومة حاملة لمعاني ودلالات الوجود، يقول ميرلوبونتي: “الجسد هو ما يجعلني أتجدر في العالم، بل هو محور العالم الذي أعيه بواسطته”[24].
إن “ميرلوبونتي” بتصوره هذا، يمنح للجسد قيمة عليا عندما أكد على دوره الأساسي في التأسيس لمعرفة العالم وهو بذلك يتجاوز الأطروحات التي قلّلت من مكانته، مقابل مكانة الروح، كما انتقد أيضا الطرح الديكارتي الذي نظر إلى الجسد كآلة ميكانيكية، يقول ميرلوبونتي في هذا الصدد: “إن جسمنا ليس ذلك الجسم الذي تعتبره مجرد آلة، لكنه هو الجسد الواقعي وهو الذي يحدد ويوجه أفعالنا وأقوالنا بهدوء”[25].
خاتمة:
نستخلص مما سبق، أن الاهتمام بالجسد بدأ منذ الحضارات القديمة واستمر هذا الاهتمام مع الفكر اليوناني القديم الذي نظر إلى الجسد بوصفه ثقل على الإنسان وعائق وسجن للنفس والروح، وبالتالي انقسام الإنسان إلى جزئين متقابلين (الجسد في مقابل الروح)، وتواصلت هذه النظرة التجزيئية للإنسان خلال فلسفة العصر الوسيط مع ظهور الديانات التوحيدية (المسيحية، اليهودية والإسلام)، التي رغم اختلاف مفاهيمهما حول الجسد، إلا أنها تتوافق فيما يتعلق بتوجهها الروحي، حيث همشت الجسد وجعلت مكانته أدنى من مكانة الروح. ونفس التصور تبناه فلاسفة هذه المرحلة، لكن هذا التصور سيتوقف مع الفكر الحديث، حيث سيتم إعادة الاعتبار للجسد تزامنا مع بروز نظرة فلسفية جديدة تقوم على أساس سيادة النزعة العقلانية في الفكر الفلسفي وتطور الفكر العلمي في مطلع عصر النهضة. وسيستمر هذا الموقف الإيجابي خلال الحقبة المعاصرة، تزامنا مع تزايد الاهتمام بالجسد في ظل المجتمع الاستهلاكي.
قائمة المراجع:
- أرسطو طاليس، في النفس، مراجعة وشرح وتحقيق: عبد الرحمان بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الثانية، 1980.
- أفلاطون، فيدون (Phédon)، تقديم وترجمة: مونيك ديكسو، باريس، 1991.
- أفلاطون، فيدون، الأصول الأفلاطونية، الجزء الأول، ترجمة وتعليق: نجيب بلدي وعلي سامي النشار وعباس الشربيني، دار المعارف، الإسكندرية، الطبعة الأولى، 1961.
- بدوي عبد الرحمان، الفلسفة القورينائية أو مذهب اللذة، الطبعة الأولى، دار ليبيا للنشر والتوزيع، بنغازي، 1969.
- تيبس يوسف، تطور مفهوم الجسد من التأمل الفلسفي إلى التصور العلمي، مجلة عالم الفكر، العدد: 4، المجلد: 37، 2009.
- ديكارت تأملات ميتافيزيقية، التأمل الثاني، ترجمة عثمان أمين، مكتبة الأنكلو المصرية، الطبعة الثانية 1974.
- ريفال جوديث، معجم ميشيل فوكو، ترجمة: الزواوي بغوره، دار سؤال للنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2018.
- العلوي هشام، الجسد بين الشرق والغرب نماذج وتصورات، مطبعة النجاح الجديدة (منشورات الزمن)، الدار البيضاء، 2004، العدد.
- مرسول محمد مازن، حفريات في الجسد المقموع، مقاربة سوسيولوجية ثقافية، منشورات الاختلاف، الجزائر، الطبعة الأولى، 2015.
- ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة، ترجمة: علاء مقدم، مراجعة وتقديم مطاع صفدي، مركز الإنماء العربي، بيروت، 1990.
- نصري نادر ألبير، النفس البشرية عند ابن سينا، دار المشرق، بيروت، 1986.
- نيتشه فردريك، أصل الأخلاق وفصلها، ترجمة: حسن قبيسي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، لبنان، 1981.
- نيتشه فردريك، هكذا تكلم زرادشت، باريس، غاليمار، 1974.
- نيتشه فردريك، هكذا تكلم زرادشت، ترجمة: علي مصباح، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، بغداد، 2007.
- Jean Marie BROHM, « le corps un signifiant multiple ? », in Monia LACHHEB, Penser le corps au Maghreb, paris – tunis, Karthala et IRMC, 2012.
- Merleau Ponty Maurice, L’œil et L’esprit, Gallimard, France, 1964.
- René Descartes, Les Passions de l’âme, Paris, 1649.
- Zurlippe (Rudolf), une unité problématique : éléments pour une histoire des conceptions du corps. Idem, 1983.
[1] Jean Marie BROHM, « le corps un signifiant multiple ? », in Monia LACHHEB, Penser le corps au Maghreb, paris – tunis, Karthala et IRMC, 2012, p132.
[2] أفلاطون، فيدون (Phédon)، تقديم وترجمة: مونيك ديكسو، باريس، 1991، ص64.
[3] أفلاطون، فيدون، الأصول الأفلاطونية، الجزء الأول، ترجمة وتعليق: نجيب بلدي وعلي سامي النشار وعباس الشربيني، دار المعارف، الإسكندرية، الطبعة الأولى، 1961، ص34.
[4] تيبس يوسف، تطور مفهوم الجسد من التأمل الفلسفي إلى التصور العلمي، مجلة عالم الفكر، العدد: 4، المجلد: 37، 2009، ص40.
[5] نفسه، ص40.
[6] أفلاطون، فيدون، مرجع سابق، ص65.
[7] أرسطو طاليس، في النفس، مراجعة وشرح وتحقيق: عبد الرحمان بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الثانية، 1980، ص18-19.
[8] بدوي عبد الرحمان الفلسفة القورينائية أو مذهب اللذة، الطبعة الأولى، دار ليبيا للنشر والتوزيع، بنغازي، 1969، ص104.
[9] العلوي هشام، الجسد بين الشرق والغرب نماذج وتصورات، مطبعة النجاح الجديدة (منشورات الزمن)، الدار البيضاء، 2004، العدد 44، ص32.
[10] نصري نادر ألبير، النفس البشرية عند ابن سينا، دار المشرق، بيروت، 1986، ص32.
[11] الغزالي أبو حامد، إحياء علوم الدين، مرجع سابق، ج 8، ص1345.
[12] نفسه، ص1356.
[13] Zurlippe (Rudolf) une unité problématique : éléments pour une histoire des conceptions du corps. Idem p31.
[14] تيبس يوسف، تطور مفهوم الجسد من التأمل الفلسفي إلى التصور العلمي، مرجع سابق، ص40.
[15] ديكارت تأملات ميتافيزيقية، التأمل الثاني، ترجمة عثمان أمين، مكتبة الأنكلو المصرية، الطبعة الثانية 1974، ص ص 96-103 .
[16] René Descartes, Les Passions de l’âme, Paris, 1649, p50.
[17] نيتشه فردريك، أصل الأخلاق وفصلها، ترجمة: حسن قبيسي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، لبنان، 1981، ص115.
[18] نيتشه فردريك، هكذا تكلم زرادشت، باريس، غاليمار، 1974، ص93.
[19] نيتشه فردريك، هكذا تكلم زرادشت، ترجمة: علي مصباح، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، بغداد، 2007، ص75.
[20] نفسه، ص46.
[21] ريفال جوديث، معجم ميشيل فوكو، ترجمة: الزواوي بغوره، دار سؤال للنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2018، ص42.
[22] ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة، ترجمة: علاء مقدم، مراجعة وتقديم مطاع صفدي، مركز الإنماء العربي، بيروت، 1990، ص 116.
[23] مرسول محمد مازن، حفريات في الجسد المقموع، مقاربة سوسيولوجية ثقافية، منشورات الاختلاف، الجزائر، الطبعة الأولى، 2015، ص36.
[24] Merleau Ponty Maurice, L’œil et L’esprit, Gallimard, France, 1964, p19.
[25] Ibid, p13.