ماهية الكناية في البلاغة العربية
The essence of the metonymy in Arabic rhetoric
نـبـيـــل الـهـومـي: باحث بسلك الدكتوراه، جامعة القاضي عياض، مراكش.
Nabil El Haoumi. PhD researcher, Cadi Ayyad University, Marrakech
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 73 الصفحة 75.
ملخص:
تروم هذه الدراسة بيان جوهر الكناية في البلاغة العربية، ومن مسوغات البحث في هذا الأسلوب البياني هو أن الخطابات المعاصرة على اختلاف أنواعها تَعتمد عليه، وتؤسس مقاصدها الحجاجية على جعل المعنى يأخذ صيغة التلميح بدل المباشرة، والتلميح، كما هو قار في عرف البلاغيين، أبلغ من التصريح. وهذا مكمن الإبداع المستكن في الكناية، لأنها تدفع المتلقي إلى إعمال فكره، ونسج جملة من الاستدلالات المترابطة، قصد الانتقال من المعنى (الظاهر) إلى معنى المعنى (الثاوي والمضمر). وانطلاقا من هذا المعطى عملنا على استجلاء ماهية الكناية في روافدها، لاسيما عند عبد القاهر الجرجاني الذي تعد مصنفاته المهاد الأساس في البلاغة العربية.
الكمات المفتاحية: الكناية- عبد القاهر الجرجاني- المعنى- معنى المعنى.
Abstract:
This study aims to clarify the essence of metonymy in Arabic rhetoric, and one of the justifications for research in this graphic method is that contemporary discourses of all kinds depend on it, and base their argumentative purposes on making the meaning take the form of allusion instead of directness, and the allusion, as it is in the custom of the rhetoricians, is more eloquent than declaration. This is where creativity lies in the metonymy, because it pushes the recipient to realize his thought, and weaves a set of interrelated inferences, in order to move from the meaning (apparent) to the meaning of the meaning (the subliminal and the implicit). On the basis of this given, we worked to clarify the meaning of the metonymy in its tributaries, especially according to Abd al-Qaher al-Jurjani, whose works are considered the basis for Arabic rhetoric.
Key words: the metonymy – Abdul Qaher Al-Jurjani – the meaning – the meaning of the meaning.
تقديم:
تضطلع الكناية بدور هام في إثبات المعنى والتأكيد عليه، كما ينقدح في لُبِّهَا الإبداع والجمال؛ ذلك أنها لا تجنح إلى المعنى مباشرة، بل إنها تقوم على التلميح، والتلميح أبلغ من التصريح؛ إذ تدفع المتلقي إلى إعمال فكره من أجل الوصول إلى المعنى، ومجيء مآتي القول على هذه الصورة، تجعل المعاني آكد وأبلغ في نفوس المتلقين، خلافا لمجيئها على هيأة الحقيقة والتصريح، وما يعضد هذا الحديث هو قول الجرجاني: “وهو أن المعنى إذا أتاك ممثلا فهو في الأكثر ينجلي لك بعد أن يحوجك إلى طلبه بالفكرة، وتحريك الخاطر له، والهمة في طلبه، وما كان منه ألطف، كان امتناعه عليك أكثر، وإباؤه أظهر، واحتجابه أشد، ومن المَركُوزِ في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له، والاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلى، وبالمزية أولى، فكان موقعه في النفس أجل وألطف”[1]. ولا بد للمتكلم أن يكون حصيف الرأي متفطن البديهة حتى يصل إلى المعنى المراد، فما “كل فكر يهتدي إلى وجه الكشف عما اشتمل عليه، ولا كل خاطر يؤذن له في الوصول إليه، فما كل أحد يفلح في شق الصدفة، ويكون في ذلك من أهل المعرفة”[2]، ولا يتأتى هذا الوصول إلا من خلال الانتقالات الذهنية، التي تؤول إلى كفاءة المتلقي بغية استجلاء المعاني المقصودة، لأن “هذا الضرب من المعاني كالجوهر في الصدف لا يبرز لك إلا أن تشقه عنه، وكالعزيز المحتجب لا يريك وجهه حتى يستأذن عليه”[3].
ومن خلال مقاربتنا لمبحث الكناية في البلاغة العربية، انقدحت لنا مجموعة من الإشكالات التي شكلت المهاد الحاضن للدراسة، نُوجِز الحديث عنها في العناصر الآتية:
* ما المعاني التي تَحُوزُها الكناية في القواميس اللغوية؟
* كيف نظر العلماء على اختلاف مشاربهم إلى الكناية؟
* ما جوهر الكناية وكنهها عند عبد القاهر الجرجاني؟
* ما مكامن الائتلاف وصُوَى[4] الاختلاف في مقاربة مبحث الكناية بين الجرجاني والسكاكي؟
* أَتَنْزَعُ الكناية نحو المجاز أم أنه ينقدح في لبها الحقيقة والتصريح؟
وتبعا لهذه الإشكالات آثرنا أن نوزع محاور البحث على الشكل الآتي:
* تعريف الكناية.
* أ- في اللغة.
* ب- في اصطلاح البلاغيين.
* جوهر الكناية عند الجرجاني.
* الكناية عند السكاكي.
* الكناية بين الحقيقة والمجاز.
* خاتمة.
تعريف الكناية:
أ- الكناية في اللغة:
ورد في لسان العرب تحت مادة (ك ن ى): “الكناية أن تتكلم بشيء وتريد غيره، وكنى عن الأمر بغيره يكني كناية: يعني إذا تكلم بغيره مما يستدل عليه”[5]. وجاء في القاموس المحيط للفيروز آبادي (ت817 ه): “كنى به عن كذا يكني كناية: أي تكلم بما يستدل عليه، أو أن تتكلم بشيء وأنت تريد غيره”[6]. وما يستفاد من هذه التعريفات أن الكناية تحوز معنى الستر والخفاء، و”تكنى: تستر من كنى عنه، إذا وَرَّى”[7].
ب- الكناية في عُرْفِ البلاغيين:
كان لأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت 209 ه) صاحب كتاب “مجاز القرآن” قصب السبق في الحديث عن الكناية، وتفيد عنده “ما فُهمَ من الكلام ومن السياق من غير أن يذكر اسمه صريحا في العبارة”[8]. وقد تعددت الآراء في تعريف الكناية؛ فنُلفِي على سبيل الذكر لا الحصر أن المبرد (ت 286 ه) يجعلها على ثلاثة أضرب: أحدهما التعمية والتغطية، ومنه قول النابغة الجعدي:
أَكْنِي بِغَيْرِ اسْمِهَا وَقَدْ عَلِمَ | اللهُ خَفِيَّاتِ كُلِّ مُكْتَتِمِ |
وتعمد الكناية حسب هذا الصنف إلى التستر وعدم التصريح (أكني بغير اسمها).
والضرب الثاني عند المبرد – وهو الضرب الحسن عنده- يتمثل في الانصراف عن اللفظ الخسيس إلى ما يدل على معناه من غيره، كقوله تعالى في عيسى عليه السلام وأمه: ﴿كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَام﴾[9]، كناية عن قضاء الحاجة، وقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾[10]، فالجلود هنا كناية عن الفروج. في حين يجنح الضرب الثالث إلى التفخيم والتعظيم، ويقصد بها في هذا المقام الكُنْيَة، وهو أن يعظم الرجل إذا دعي باسمه. وتحدث قدامة بن جعفر (ت 337 ه) عن الكناية في باب الإرداف، وهو “عندما يريد الشاعر دلالة على معنى من المعاني فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى بل بلفظ يدل على معنى هو ردفه وتابع له، فإذا دل على التابع أبان عن المتبوع”[11]، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
بَعِيدَةُ مَهْوَى القُرْطِ إِمًّا لِنَوْفَلٍ | أَبُوهَا وَإِمَّا عَبْدُ شَمْسٍ وَهَاشِمُ |
فالشاعر هنا أراد أن يصف طول الجيد (العنق) فلم يعمد إلى التصريح بلفظه، وإنما أتى بمعنى ملازم لطول الجيد ألا وهو بُعْدُ مهوى القُرْط.
وضرب ابن رشيق القيرواني (ت 456 ه) بسهمه أيضا في مبحث الكناية، فذكرها في باب الإشارة، مبينا أن الإتيان بالقول على هذه الشاكلة، لا يتسنى إلا للشاعر المبرز، الذي حيزت له فُرُوط الوثاقة والإبداع. وقد عالج فخر الدين الرازي (ت 606ه) هو الآخر الكناية في كتابه الموسوم ب: “نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز”؛ إذ يقول: “اعلم أن اللفظة إذا أُطلقت وكان الغرض الأصلي غير معناها فلا يخلو إما أن يكون معناها مقصودا أيضا ليكون دالا على ذلك الغرض الأصلي وإما أن لا يكون كذلك فالأول هو الكناية والثاني هو المجاز”[12]. ونجد للكناية صدى وحضورا أيضا في المؤلفات، التي عُنِيت بعلوم القرآن، ومنها كتاب “البُرهان في علوم القرآن” لبدر الدين الزركشي (ت 794 ه)؛ إذ عرف الكناية بقوله: “الكناية عن الشيء: الدلالة عليه من غير تصريح باسمه، وهي عند أهل البيان أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له من اللغة ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه ورديفه في الوجود ويجعله دليلا عليه فيدل على المراد من طريق أولى”[13].
ماهية الكناية عند الجرجاني: جَوْسٌ للعوالم وسبر للأغوار
حازت جهود عبد القاهر الجرجاني (ت 471 ه) البلاغية نصيبا وافرا من البحث والدراسة؛ إذ عكف الدارسون على إسهاماته المبثوثة في ثنايا كتابيه “أسرار البلاغة” و”دلائل الإعجاز” محاولين استكناه آراء شيخ البلاغيين العرب في مختلف الظواهر البلاغية التي تطرق إليها، ولا تفتأ اجتهادات الجرجاني في مضمار البلاغة تحث الدارس على ضرورة التنقيب فيها، وإماطة اللثام عن كثير من الدلالات الثاوية في مفاصلها. وتُعَزى مَدَاعِي اهتمام الدارسين بجهود عبد القاهر الجرجاني واعتنائهم بها، إلى كون مؤلفاته تعد المهاد الأساس في البلاغة العربية، فضلا على أن مصنفاته تشكل مَعينًا ثَرّا تكتنفه الأسئلة وتتنازعه الإشكالات، مما يُغري الباحث بالإقبال على هذه المصنفات، بُغية استكشاف عوالمها واستجلاء كُنْهِهَا وماهيتها.
بَسطَ الجرجاني في كتابه “أسرار البلاغة” الحديث في أضرب التشبيه، وأقسام الاستعارة، وأنواع المجاز، في حين جَلَّى في كتابه “دلائل الإعجاز” الكناية وسلّط الضوء عليها، من خلال تعريفها وتحليلها، استنادا إلى جملة من الشواهد الشعرية والنثرية.
استرفد الجرجاني من مختلف الروافد التي سبقته، وأفاد منها في دراسته للكناية، ويبرز تصور عبد القاهر الجرجاني للكناية انطلاقا من نص رئيس، يقول فيه: “الكلام على ضربين، ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، وذلك إذا قصدت أن تُخبر عن زيد مثلا بالخروج على الحقيقة، فقلت: خرج زيد.. وضرب آخر لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلك على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض.. ألا ترى أنك إذا قلت: “هو كثير رماد القدر فإنك في جميع ذلك لا تفيد غرضك الذي تعني من مجرد اللفظ، ولكن يدل اللفظ على معناه الذي يوجبه ظاهره، ثم يعقل السامع من ذلك المعنى، على سبيل الاستدلال، معنى ثانيا هو غرضك كمعرفتك من كثير الرماد أنه مضياف.. وإذا قد عرفت هذه الجملة، فها هنا عبارة مختصرة، وهي أن تقول المعنى ومعنى المعنى”[14]. يعد هذا النص نواة يظهر فيه تصور الجرجاني لمبحث الكناية. يجعل عبد القاهر الجرجاني الكلام على قسمين: قسم سهل المرام ويسير المنال على المخاطب اصطلح عليه بالمعنى، لأن الغرض من الكلام يفهم من خلال الدلالة الوضعية للألفاظ، ويمكن أن نوضح هذا القسم بالترسيمة الآتية:
دائرة الانطلاق دائرة العبور | دائرة الوصول |
خرج زيد Ø | خروج زيد |
وقسم آخر صعب المنال، بعيد المرام، سماه الجرجاني: “معنى المعنى“، ويتطلب هذا الضرب من المتلقي تسخير كفاءاته الذهنية والاستدلالية والموسوعية، للوصول إلى الغرض المراد من الكلام. ولا يكون الوصول إلى هذا الغرض بدلالة اللفظ وحده، بل ينطلق المخاطب من الدلالة الوضعية (المباشرة) ليستخلص معنى مضمر هو المراد والمقصود، ويمكن أن نمثل لذلك بالآتي:
يقول الجرجاني في تفسير هذا المعنى: “ألا ترى أنك لما نظرت إلى قولهم (هو كثير رماد القدر) وعرفت منه أنهم أرادوا أنه كثير القرى والضيافة، لم تعرف ذلك من اللفظ، ولكنك عرفته بأن رجعت إلى نفسك فقلت: إنه كلام قد جاء عنهم في المدح، ولا معنى للمدح بكثرة الرماد، فليس إلا أنهم أرادوا أن يدلوا بكثرة الرماد على أنه تُنصب له القدور الكثيرة، ويطبخ فيها للقرى والضيافة.. وهكذا السبيل في كل كناية”[15]. ومن ثمة فالكناية تتفتق انطلاقا من المعنى الحرفي، وهي أبلغ من التصريح. ويجعل الجرجاني مزية للكناية تفوق التصريح، وهي الزيادة في إثبات المعنى، لذلك يقول: “أن ليس المعنى إذا قلنا إن الكناية أبلغ من التصريح، أنك لما كنيت عن المعنى زدت في ذاته، بل المعنى أنك زدت في إثباته، فجعلته أبلغ وآكد وأشد”[16].
الكناية عند السكاكي: صُوَى الائتلاف وأواصر الاختلاف
آثرنا أن نقيم مقارنة بين الجرجاني والسكاكي (ت 626 ه) من خلال تناولهما لمبحث الكناية، محاولين رصد أواصر الائتلاف ومكامن الاختلاف بين الرجلين، ومرد مقارنة آراء الجرجاني باجتهادات السكاكي من خلال كتابه “مفتاح العلوم”، يعزى إلى أن هذا الكتاب يمثل معينا لآراء السلف وأعمالهم، كما أن مصنف مفتاح العلوم يتميز كذلك بجملة من الخصائص، منها على سبيل التمثيل لا الحصر: حسن التبويب ودقة الترتيب.
عرف السكاكي الكناية بقوله: “هي ترك التصريح بالشيء إلى ذكر ما يلزمه، لينتقل من المذكور إلى المتروك كما نقول: “فلان طويل النجاد” لينتقل منه إلى ما هو ملزومه، وهو طول القامة، وكما تقول: “فلانة نؤوم الضحى” لينتقل منه إلى ما هو ملزومه وهو كونها مخدومة”[17]، ولم يخرج السكاكي بهذا التعريف عن ما أشار إليه الجرجاني في تعريفه للكناية؛ إذ كشف هو الآخر على أن الكناية تقتضي الانتقال من اللازم إلى الملزوم.
تقسيم الكناية عند السكاكي:
قسم السكاكي الكناية إلى ثلاثة أقسام:
أ- الكناية المطلوب بها إثبات الموصوف: وتنشطر إلى قريبة وبعيدة؛ فالقريبة هي أن تختص الصفة بموصوف معين، كقولك: “جاء المضياف” تريد زيدا المشهور بضيافته، والمعروف بِقِرَاهُ، والبعيدة هي التي تكون مجموعا وصفيا يحول دون دخول أي شيء آخر في معناه غير الموصوف المقصود، ومنه قولهم عن الإنسان: “حي مستوي القامة عريض الأظفار”، فهذه الأوصاف مجتمعة تدل على مراد واحد وهو الإنسان.
ب- الكناية المطلوب بها إثبات الصفة: تنصرف كذلك إلى قريبة وبعيدة؛ فالقريبة هي أن تنتقل إلى مطلوبك من أقرب لوازمه، كأن تقول مثلا: “فلان كثير الأضياف” كناية على أنه مضياف، أما البعيدة فهي التي نعمد فيها إلى الانتقال إلى المعنى المطلوب بواسطة الترابطات الاستلزامية المتسلسلة، ومنها قولهم: “كثير رماد القِدر” كناية عن الكرم؛ إذ توصلنا إلى هذه النتيجة انطلاقا من انتقالنا من كثرة الرماد إلى كثرة الجمر، ومن كثرة الجمر إلى كثرة الحطب، ومن كثرة الحطب إلى كثرة القدور، ومن كثرة القدور إلى كثرة الطعام، ومن كثرة الطعام إلى كثرة الضيوف، ومن كثرة الضيوف إلى الكرم. ومنها كذلك قول الشاعر:
وَمَا يَكُ فِيَّ مِنْ عَيْبٍ فَإِنِّي | جَبَانُ الْكَلْبِ مَهْزُولُ الفَصِيلِ |
فمن طبيعة الكلاب وعادتها أنها تنبح في وجه من لا تعرف، لكن الشاعر من خلال هذا البيت، وصف كلبه بكونه لا ينبح في وجه أضيافه، وذلك لأنه أَلِفَ مشاهدتهم واعتاد على وجودهم، فنخلص إلى ملزوم الكرم في جبان الكلب من خلال مجموعة من الاستلزامات، والأمر نفسه ينسحب على عبارة “مهزول الفصيل” التي تفيد أن هُزال الفصيل- والفصيل ولد الناقة- يؤول إلى فقده لأمه، التي تم ذبحها وتقديمها كطعام للضيوف، فانتقلنا من كل ذلك إلى إثبات كرم الشاعر.
ج- الكناية المطلوب بها تخصيص الصفة بالموصوف:
بيَّنَ السكاكي أنها تتفاوت في اللطف، ومن ذلك قولهم: المَجْدُ بَيْنَ ثَوْبَيْهِ والكَرَمُ بين بُرْدَيْهِ؛ ذلك أنه أثبت صفتي المجد والكرم للممدوح، وذلك بإثباتهما في ثوبيه وبُرديه كناية عنهما.
الكناية بين الحقيقة والمجاز: اختلاف المواقف وتضارب الآراء
يتجاذب الكناية أصلان؛ معنى حقيقي ومعنى مجازي، وهذا الحد هو الذي أشار إليه ابن حمزة العلوي (ت 749 ه) بقوله: “فإذن حاصل الكلام في الكناية أنه يتجاذبها أصلان”[18]، ونتبين من قول العلوي أن الكناية دالة على معنيين حقيقة ومجازا، بل إن بعض البلاغيين يرون أن الكناية “لا تنافي إرادة الحقيقة بلفظها”[19]، فقولنا مثلا: “فلان طويل اليد” فلا يمتنع إرادة طول يده دون تأويل على أنه سارق، وقد تضاربت الآراء بين البلاغيين في تصنيف الكناية، فمنهم من حملها على الحقيقة ومنهم ردها إلى المجاز، ومنهم من سَوَّى بينهما واعتبر أن الكناية تُحملُ على الحقيقة والمجاز معا، وهذا بالتحديد ما ذهب إليه ابن الأثير (ت 630 ه)؛ إذ يقول: “فإنا إذا شئنا حملناها على جانب المجاز، وإذا شئنا حملناها على الحقيقة”[20].
خــــــاتـــمة:
من خلال مقاربتنا لمبحث الكناية، تحصلت لنا مجموعة من الخلاصات، نُجملُ الحديث عنها في العناصر الآتية:
* تدل الكناية في معناها اللغوي على الستر والإضمار والخفاء.
* تفيد الكناية في الاصطلاح المعنى المتفتق والمنبثق من المعنى الحرفي، وهي أبلغ من التصريح.
* تكمن مزية الكناية في إثبات المعنى، وليس الزيادة فيه.
* مدار الكناية على الانتقال من اللازم إلى الملزوم، ولا يتم هذا الانتقال إلا من خلال مجموعة من الاستدلالات المترابطة.
* يتوحد السكاكي مع الجرجاني في ماهية الكناية وحقيقتها، ويتفرد السكاكي عن الجرجاني بتقسيمه للكناية، وكذا باستعاضته عن مفهوم معنى المعنى الذي أشر عليه الجرجاني، بمفهوم الدلالة العقلية.
* يتجاذب الكناية أصلان هما الحقيقة والمجاز.
لائحة المصادر والمراجع:
القرآن الكريم برواية ورش.
المصادر:
* ابن الأثير، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، قدمه وعلق عليه أحمد الحوفي وبدوي طبانة، (د-ط)، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، الجزء الرابع.
* ابن منظور، لسان العرب، الطبعة الثالثة، 1414، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت- لبنان.
* الجرجاني، عبد القاهر، دلائل الإعجاز، علق على حواشيه محمـد رشيد رضا، الطبعة الأولى، 1988، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان.
* أسرار البلاغة، شرح وتعليق: عبد المنعم خفاجي وعبد العزيز شرف، الطبعة الأولى، 1991، دار الجيل، بيروت- لبنان.
* الرازي، فخر الدين، نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز، مطبعة الآداب، مصر، 1317.
* الزركشي، بدر الدين، البرهان ي علوم القرآن، تحقيق مـحمـد أبو الفضل إبراهيم، الجزء الثاني، (د-ط)، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، (د-ت).
* السكاكي، أبو يعقوب، مفتاح العلوم، ضبطه وكتب هوامشه وعلق عليه، نعيم زرزور، الطبعة الثانية، 1987م، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان.
* العلوي، يحيى بن حمزة، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، تحقيق عبد الحميد هنداوي، الطبعة الأولى، 2002، بيروت، الجزء الأول.
* الفيروز آبادي، القاموس المحيط، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، إشراف محمـد نعيم العرقسُوسي، الطبعة الثامنة، 2005، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت- لبنان.
* معمر بن المثنى، أبو عبيدة، مجاز القرآن، تحقيق: محمـد فؤاد سزكين، الجزء الثاني، (د-ط)، مكتبة الخانجي، القاهرة، (د-ت).
المراجع:
* مطلوب، أحمد، معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، 1987، مطبعة المجمع العلمي العراقي، الجزء الثالث.
[1]– أسرار البلاغة، عبد القاهر الجرجاني، شرح وتعليق: عبد المنعم خفاجي وعبد العزيز شرف، الطبعة الأولى، 1991، دار الجيل، بيروت- لبنان، ص: 141.
[2]– المصدر نفسه. ص: 143.
[3]– المصدر نفسه. ص: 143.
4– “الصُّوى: الأعلام من الحجارة، الواحدة صُوَّةُ. الصِّحاح تاج اللّغة وصحاح العربية، الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطّار، ط3، مادة “ص و ى”، دار العلم للملايين، بيروت- لبنان، 1984، ج6/2402.
[5]– لسان العرب، ابن منظور، مادة “ك ن ى”، الطبعة الثالثة، 1414 ه، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت- لبنان، ص: 3944.
[6]– القاموس المحيط، الفيروز آبادي، مادة “ك ن ي”، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، إشراف محمـد نعيم العرقسُوسي، الطبعة الثامنة، 2005، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت- لبنان.
[7]– معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، أحمد مطلوب، الجزء الثالث، 1987، مطبعة المجمع العلمي العراقي، 154.
[8]– مجاز القرآن، أبو عبيدة معمر بن المثنى، تحقيق: محمـد فؤاد سزكين، الجزء الثاني، (د-ط)، مكتبة الخانجي، القاهرة، (د-ت)، ص: 73.
[9]– سورة المائدة، الآية: 75.
[10]– سورة فصلت، الآية: 21.
[11]– نقد الشعر، قدامة بن جعفر، تحقيق وتعليق: عبد المنعم خفاجي، (د-ط)، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، (د-ت)، ص: 157.
[12]– نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز، فخر الدين الرازي، مطبعة الآداب، مصر، 1317 ه، ص: 102.
[13]– البرهان في علوم القرآن، بدر الدين الزركشي، تحقيق محمـد أبو الفضل إبراهيم، الجزء الثاني، (د-ط)، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، (د-ت)، ص: 186.
[14]– دلائل الإعجاز في علم المعاني، عبد القاهر الجرجاني، علق على حواشيه محمـد رشيد رضا، الطبعة الأولى، 1988، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، ص: 202-203.
[15]– دلائل الإعجاز، الجرجاني، ص: 330-331.
[16]– المصدر نفسه. ص: 56.
[17]– مفتاح العلوم، السكاكي، ضبطه وكتب هوامشه وعلق عليه، نعيم زرزور، الطبعة الثانية، 1987م، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، ص: 40.
[18]– الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، يحيى بن حمزة العلوي المدني، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، الجزء الأول، الطبعة الأولى، 2002، بيروت، ص:191.
[19]– مفتاح العلوم، السكاكي، ص: 513.
[20]– المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ابن الأثير، قدمه وعلق عليه: أحمد الحوفي وبدوي طبانة، الجزء الرابع،(د-ط)، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، ص: 53.