التكامل المعرفي في المعجم العربي بين القديم والحديث
Ancient and modern knowledge integration in the Arabic lexicon
أ.مبرز. إدريس شريفي علوي، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مراكش آسفي، المغرب
P. AG. Driss Chrifi Alaoui, Regional center for education and training professions, Morocco
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 73 الصفحة 35.
Abstract
Knowledge integration of linguistic sciences is an inherent feature of ancient Arabic linguistic thought. Older classifications tend to be general in dealing with their language issues. Take for instance the most famous ancient Arabic works such as “ALKITAB” of Sîbawayh, “ALKHASSAIS” of Abu Al-Fath, “ALKAMIL” of “AL-Mubarrid”, and other works to observe this integration, in such a way that these works make each other a reference for the modernists in their different disciplines and fields of study.
These sciences appear to be in a necessary complementary relationship when it comes to the lexicon; the latter could not be established in isolation of the other sciences. However, the compiled lexical works vary in integration. This is mainly due to their differences in terms of methodology, method of arranging materials, and objectives of authorship.
Not only does this integration stop at the old perceptions of the dictionary, it also finds itself incorporated in modern perceptions of linguistic theories that never ceases to focus on this integration, basing its perception on the relationships between linguistic sciences, and sometimes links the fallback of Arabic dictionaries to its complete failure to scientifically link the different linguistic levels.
It appears that this research will attempt to answer the problem of integration between sciences in the Arabic lexicon, ancient and modern. It will also seek to clarify the existing differences in the forms of this integration, and the nature of the sciences that each lexical achievement called for. Not to mention the corrections made by the modern lexicon to the old lexicon in the matter of integration between sciences.
Key words : Knowledge integration – lexicon – ancient perceptions- linguistic theories.
ملخص:
إن منهج التكامل المعرفي بين العلوم اللغوية سمة أصيلة في الفكر اللغوي العربي القديم. كما أن التصنيفات القديمة مالت إلى هذا النهج في التأليف مبتعدة عن التخصيص في تناول قضاياها اللغوية. ولنأخذ أشهر المصنفات العربية القديمة ككتاب سيبويه، وخصائص أبي الفتح، وكامل المبرد وغيرها لنلحظ هذا التكامل بقدر يجعل كل مصنف مرجعا للمحدثين باختلاف تخصصاتهم، ومجالات اشتغالهم.
وتبدو هاته العلوم في علاقات تكاملية لا تنفك حينما يتعلق الأمر بالمعجم؛ فلا يبدو قيامه ممكنا بمعزل عن العلوم الأخرى. لكن المصنفات المعجمية تفاوتت فيما بينها في هذا التكامل. وذلك راجع بالأساس إلى الاختلاف الحاصل بينها فيما يتعلق بمنهج الاشتغال، وطريقة ترتيب المواد، والغايات المنشودة من التأليف.
كما أن هذا التكامل لا يقف عند التصورات القديمة للمعجم، بل نجد حضورا له في التصورات الحديثة للنظريات اللسانية التي ما فتئت تركز على هذا التكامل، وتبني تصورها على العلاقات القائمة بين العلوم اللغوية، وترهن أحيانا تعثر المعاجم العربية بفشلها الذريع في الربط العلمي بين المستويات اللغوية المختلفة.
ويظهر مما تقدم أن هذا البحث سيحاول الإجابة عن إشكالية التكامل بين العلوم في المعجم العربي قديما وحديثا. كما أنه سيعمد إلى استجلاء الفروق القائمة في أشكال هذا التكامل، وطبيعة العلوم التي استدعاها كل منجز معجمي. ناهيك عن الاستدراكات التي سجلها المعجم الحديث على المعجم القديم في مسألة التكامل بين العلوم.
الكلمات المفتاحية: التكامل المعرفي- المعجم- التصورات القديمة- النظريات اللسانية
مقدمة
إن المتأمل في المعاجم العربية القديمة يلاحظ ذلك الحضور اللافت لمختلف العلوم اللغوية في ثناياها. وهذا الأمر يؤكد الصفة التركيبية للعقلية العربية آنذاك. وهو ما يجد تبريرا له من خلال مختلف العلوم والمعارف التي خاض فيها السلف؛ فتجد الرجل منهم نحويا وبلاغيا وفقيها ومحدثا وفلكيا وطبيبا في الآن نفسه. عكس ما بات عليه الحال اليوم حيث بدأ يطغى التخصص الدقيق لدى الأفراد بشكل يجعل معرفتهم بباقي الحقول منعدمة أحيانا.
وحتى لا نبتعد عن الموضوع الذي نود الخوض فيه، نقول إن هذا التكامل بين العلوم يتبدى في أوضح صوره حينما يتعلق الأمر بالمعاجم العربية وبمؤلفيها. فنجد المعجمي يستدعي قدراته ومعارفه النحوية والبلاغية والصرفية والفقهية خلال عرضه للمادة المعجمية الواحدة. وعليه، تغدو المعرفة المعجمية معرفة موسوعية لا تعترف بالحدود الفاصلة بين العلوم، بل ولا تقوم لها قائمة إلا من خلال العلاقات التي تقيمها بين تلك العلوم المختلفة.
ويجب ألا يفهم من ذلك أن درجة التكامل بين العلوم متساو بين جميع المعاجم. بل على العكس من ذلك نجد التفاوت قائما بينها في إدراك واستثمار هذا التكامل بناء على الاختلاف القائم بينها في نوع المعجم، ومرجعياته، وزمنه، ومنهجه في ترتيب المادة المعجمية.
وقد حاولت المعاجم الحديثة، على الطرف الآخر، أن تنهج منهج التكامل هذا آخذة بعين الاعتبار التغيرات الحاصلة في الحياة العامة، والتطور الذي عرفته مجموعة من العلوم، وظهور علوم جديدة لم تكن من قبل. وهو ما فرض على التأليف المعجمي الحديث انفتاحا على علوم لم تؤسس المشهد المعجمي التراثي. لكن مع اختلافات وفروقات ستظهر في عرضنا لهاته القضية في السطور القادمة من البحث. وسيسمح إبراز ذلك الاختلاف بقياس مدى نجاعة المعاجم الحديثة في تجاوز اختلالات التكامل في المعجم العربي القديم، وفي مسايرة الحياة العامة وما تعرفه من تطورات بدل البحث في لغة الأموات وما تركوه من ألفاظ.
1- التكامل المعرفي في المعجم العربي القديم
لا يخفى أن البناء المعجمي العربي القديم تأسس على مجموعة من القواعد الزمنية والمكانية التي حكمت مادته، وحددت عينته. فتميز المعجم العربي بالأخذ عن قبائل دون غيرها وفي أزمنة دون سواها.[1] ولا شك أن هذا النهج رغم ما سجله من نتائج إلا أنه فوت على المعجم مادة علمية كبيرة كانت ستسعفه في التعبير عن مستحدثات الحياة العامة في المجتمع الإسلامي. كما أن هذا الخيار المنهجي لواضعي المعاجم العربية الأولى قيد كل اجتهاد بعده؛ فرأينا واضعي المعاجم اللاحقة يدورون في فلك المعاجم المؤسسة دون انتباه لمتغيرات الحياة العامة، وما استحدث في الدولة الإسلامية من تغيرات حضارية وبشرية أثرت بشكل جلي على مفرداتها وتراكيبها وطرق كلامها، وأغفلت المتكلم الذي هو أصل الوصف المعجمي؛ فصارت تبحث في مادة معجمية لمتكلم ميت، وأغفلت المتكلم الحي الذي يتحرك أمام ناظريها.
ومن جملة ما تميزت به هذه المعاجم العربية القديمة التكامل بين العلوم والمستويات. ونسجل تباينا وتفاوتا في ذلك بين معاجم الألفاظ ومعاجم الموضوعات[2]، وسنمثل لذلك بمعجمين اثنين هما الصحاح للجوهري (ت 393 هـ)، ومبادئ اللغة للإسكافي (ت 421 هـ).
1- 1- معجم الصحاح[3] للجوهري (ت 393 ه)
لقي معجم الصحاح شهرة كبيرة، وأوقع في خلافات كثيرة، وأسهم في بناء تصور ومنهج المعاجم التي جاءت بعده. واخترناه في هذه الورقة البحثية لكونه كتابا تأسيسيا يعكس التصور المعجمي للجوهري ولمعاصريه من جهة، وباعتباره صورة مميزة لذلك التكامل الحاصل بين العلوم المختلفة من جهة ثانية. وسنحاول فيما يلي أن نرسم ملامح العلوم التي تداخلت في تأسيس هذا المعجم.
1- 1- 1- علم النحو
ينحو الجوهري في معجمه نحو اعتماد هذا العلم في إقامة لبنات كتابه. فنجده يجنح نحو بيان الوظائف النحوية، ويفرد لها مكانا إلى جانب المادة المعجمية. وهو بهذا الخيار المنهجي يبرز الدور الجلي الذي يضطلع به النحو في الإبانة عن المعاني، ويحصي السياقات المختلفة التي ترد فيها المفردة المعجمية؛ ذلك أن هذه المفردة تبقى مجرد أصوات لا تحمل أية فائدة بلاغية ولا خبرية ما لم تدخل التركيب. كما أن هذا الجنوح من الشيخ أبي نصر يمكن أن يفسر بالرغبة الجامحة لديه لتأكيد صحة اللغة من خلال إيراد الشواهد النحوية الكثيرة التي تطغى على معنى المادة المعجمية في كثير من المواضع. ويوضح تلك العلاقة التكاملية بين المعجم والنحو محمد أحمد أبو الفرج في قوله: “وكثير من اللغويين يعقدون صلة بين دراسة النحو وبين المعنى، ويجعلون دراسة اللغة في النحو، وتبين كيفية تأدية اللغة وظيفتها، موضحا للمعنى، لا غنى لنا عنه”.[4]
ونوضح هذا التكامل بين علمي النحو والمعجم في كتاب الصحاح ببعض النماذج الممثلة. ففي مادة شَهْل يقول الجوهري: “شهل: الشُّهْلَة في العين: أن يشوب سوادَها زرقة. وعين شَهْلاء، ورجل أَشْهَلُ العين بيِن الشَهَلِ. وأنشد الفراء: ولا عيب فيها غيرَ شهلة عينها /// كذاك عِتاقُ الطير شُهْلا عيونُها. قال: وبعض بني أسد وقضاعة ينصبون غيرا إذا كان في معنى إلا، تم الكلام قبلها أو لم يتم”.[5]
1-1-2- علم الصرف
يختص هذا العلم بالأفعال المتصرفة والأسماء المعربة، ويبحث في الأوجه المختلفة للبنية المعجمية الناتجة عن قواعد التصريف. ولا نكاد نجد مادة معجمية داخل الصحاح إلا ويقدم لها الشيخ الجوهري مختلف القضايا التصريفية التي تهمها. بل إن عنايته بالبنية الصرفية للكلمات تتجاوز عنايته بالتركيب. فبينما يكتفي بإيراد الكلمات في السياقات المختلفة من الناحية التركيبية لبناء الدلالة المعجمية لها، نجده يعنى بجانب الصرف في معظم مواد الكتاب كما أسلفنا. ونمثل على ذلك بما أورده الشيخ في مادة أرط حيث يقول: “أَرْط: الأَرْطى: شجر من شجر الرمل، وهو فعلى لأنك تقول: أديم مَأْروط: إذا دُبغ بذلك، وألفه للإلحاق لا للتأنيث لأن واحدته أَرْطَأة…وفيه قول آخر أنه أَفْعَل؛ لأنه يقال: أديم مَرْطِئ، وهذا يذكر في المعتل، فإن جعلت ألفه أصليا نونته في المعرفة والنكرة جميعا، وإن جعلته للإلحاق نونته في النكرة دون المعرفة”.[6] فالشيخ أبو نصر اعتمد كثيرا من الأبواب الصرفية في تناوله لهاته المادة المعجمية وهي: الميزان الصرفي، والصحيح والمعتل، والمعرفة والنكرة، وعلامات التأنيث. وغايته في ذلك الإحاطة بالكلمة من جميع نواحيها. بل إن الملاحظ أن ما قدمه الشيخ من تحليل صرفي للكلمة يفوق ما أورده عنها في الجانب الدلالي.
ويورد الشيخ في موضع آخر من الصحاح: “شفه: الشَفَة أصلها شَفَهَة؛ لأن تصغيرها شُفَيْهَة. والجمع: شِفَاه بالهاء. وإذا نسبت إليها فأنت بالخيار إن شئت تركتها على حالها وقلت شَفِي، مثال: دمي، ويدي، وعدي، وإن شئت شفهي. وزعم قوم أن الناقص من الشفه واو؛ لأنه يقال في الجمع: شفوات”.[7] وتبرز في هذه المادة أيضا غزارة المباحث الصرفية ابتداء بباب التصغير، ومرورا بباب الجموع، وانتهاء بباب الإعلال.
ويمكن القول إن الاعتماد الكبير على المباحث الصرفية عند الجوهري علته هي إيمانه العميق بدور البنية الصرفية في الكشف عن المعنى. فليس الصرف عنده معرفة بأحوال الكلمة فقط، بل إن العلم عنده يلقي بسهمه في إماطة الغموض عن الكلمة، وإبراز المعاني المختلفة التي تأخذها بتغير الصور الصرفية التي تظهر عليها.
1-1-3- فقه اللغة
تعددت التعريفات التي قدمت لفقه اللغة بتعدد النظر إلى مجالات اشتغاله. وسنقتصر على تعريف واحد لصبحي الصالح حيث عرفه قائلا: “هو منهج للبحث استقرائي وصفي يُعرف به موطن اللغة الأول وفصيلتها وعلاقتها باللغات المجاورة أو البعيدة الشقيقة أو الأجنبية، وخصائص أصواتها، وأبنية مفرداتها وتراكيبها، وعناصر لهجاتها، وتطور دلالتها، ومدى نمائها قراءة وكتابة”.[8] ويظهر من خلال هذا التعريف أن العلوم التي يخوض فيها فقه اللغة تتعلق بعلم الأصوات، وعلم الدلالة، والتاريخ.
وتظهر العناية الكبيرة بمباحث فقه اللغة في تضاعيف معجم الصحاح في كثير من المواد. ففي مادة لبى مثلا نجده يقول: “لبى: لبيت بالحج تلبية، وربما قالوا لبَّأْتُ بالهمز وأصله غير الهمز. ولَبَّيْت الرجل إذا قلت له لَبَّيْك. قال يونس بن حبيب النحوي: لبيك ليس بمثنى، وإنما هو مثل عليك وإليك. يقال ألببت بالمكان ولبَّبْتُ لغتان: إذا أقمت به”.[9] ففي شرحه لمادة “لبى” يشير الجوهري إلى أصل الكلمة حيث يذهب إلى أن عين الكلمة أصله ياء وليس همزة، كما يقف عند اختلاف اللغات/ اللهجات دون مفاضلة بينها. ويعرج على قضية الأضداد كمبحث من مباحث فقه اللغة في غير ما مادة. ومن أمثلة ذلك قوله في مادة “شَعَبَ”: “شعبت الشيء: فرقته. وشعبت الشيء: جمعته. وهو من الأضداد. تقول: التأم شعبهم إذا اجتمعوا بعد التفرق؛ وتفرق شعبهم: إذا تفرقوا بعد الاجتماع”.[10] كما يميز بين اللغة المتروكة واللغة المستعملة كما يظهر في مادة “قرح” حيث يقول في كلمة “قُرْحَان”: “والاسم: القرح، وفي الحديث: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قدموا المدينة وهم قرحان، أي لم يكن قد أصابهم قبل ذلك داء. وأما الذي في حديث عمر رضي الله عنه حين أراد أن يدخل الشام وهي تستعر طاعونا، إن من معك من أصحاب النبي قرحانون فلا تدخلها، فهي لغة متروكة”.[11] ويظهر هذا النص جانبين اثنين من جوانب فقه اللغة التي تحدثنا عنها آنفا. فنجد الجوهري توسل بالتاريخ تارة وهو يتحدث عن الطاعون الذي عرفته بلاد الشام. كما يفرق بين اللغتين “قرحان” و”قرحانون” باعتبار الأولى مستعملة حية، والثانية متروكة مهجورة.
1-1-4- علم المصطلح
يتخذ علم المصطلح من المفاهيم نقطة بدايته، ويعتمد على مجموع العلوم التي تضبط العلاقات بين المفاهيم وبين الأشياء. والاصطلاح كما يعرفه الشريف الجرجاني هو: “عبارة عن اتفاق قام على تسمية الشيء باسم ما ينقل عن موضعه الأول، وإخراج اللفظ اللغوي من معنى لغوي إلى آخر لمناسبة بينهما”.[12] ونستنتج من هذا التعريف أن هذا العلم ينهض على مجموعة من الشروط يمكن تلخيصها فيما يلي:
1- المصطلح خاص بطائفة من الناس.
2- المصطلح انتقال من موضع أول إلى موضع ثان.
3- المصطلح انتقال من معنى لغوي إلى معنى غير لغوي لوجود علة هي المناسبة.
وانطلاقا من هذه الخصائص، وبعودتنا إلى معجم الصحاح نجد أن الجهاز المصطلحي للعديد من العلوم والمجالات مبثوث بين ثنايا الكتاب. غير أن أبا نصر لم يفصل في المصطلحات الخاصة بكل حقل. فنجده يقدم تعريفات مقتضبة للمصطلحات النحوية كقوله عن النعت: “هو الصفة، وقوله عن العامل: هو الذي يعمل”،[13] وقوله عن الفِعل بالكسر: “هو الاسم”.[14] وقد يبدو هذا الأمر غريبا من الشيخ أبي نصر الذي رأيناه يفصل القول في أثناء حديثه عن القضايا الصرفية للكلمة المعجمية، وينحو النحو نفسه وهو يبحث في أصول الكلمة والاختلاف اللهجي فيها. لكن قد نجد لهذا الإحجام من الشيخ تفسيرا له في الشهرة الكبيرة التي عرفتها معاجم المعاني في تلك الفترة الزمنية؛ ذلك أن هذا النوع من التأليف قد عني بمصطلحات الحقول المختلفة، وألف رسالات في صنوف العلوم. ولما كان هذا هو مجال اختصاص هذا النوع من المعاجم فقد انماز عن معاجم الألفاظ التي كانت تتغيا تحقيق أهداف أخرى تتساوق والنهج المعتمد في تأليفها، وفي المعطيات المقدمة حول موادها. وسنبرز فيما يلي الحضور المتميز لعلم المصطلح في بناء أحد معاجم المعاني وهو معجم “مبادئ اللغة” للإسكافي (ت 421 ه) .
1-2- مبادئ اللغة[15] للخطيب الإسكافي (ت 421 ه)
يتميز معجم مبادئ اللغة للخطيب الإسكافي بضمه لمفردات اللغة التي قد لا تجد حضورا لها لا في معاجم الألفاظ ولا في معاجم المعاني.[16] كما أنه يخوض في علوم مختلفة، ويصنع لها أبوابا هي بمثابة الجهاز المصطلحي الخاص بها. فنجد جزءا من الكتاب مخصصا لمصطلحات علم الفلك وقد توزع بين بابين: الأول: باب في ذكر السماء والكواكب، والثاني: باب أسماء الأزمنة والبروج والأوقات. ونجد جزءا آخر مخصصا لمصطلحات الطبيخ، وآخر لمصطلحات المياه وأوصافها وأماكنها، وجزءً لمصطلحات السلاح، وآخر لمصطلحات الطبيعة، وغير ذلك من الأبواب والأجزاء التي ضمها الكتاب بين دفتيه.
ولما كانت غاية معاجم المعاني مختلفة عن غاية معاجم الألفاظ، فإن التكامل المعرفي الحاصل فيها يختلف كذلك. فنجد عناية كبيرة بعلم المصطلح الذي يعد من أهم الروافد التي استقى منها الإسكافي مادة معجمه “مبادئ اللغة” كما يمكن أن نعد “المبادئ” جانبا تطبيقيا لعلم المصطلح. أما الجوانب الأخرى المتعلقة بعلوم الصرف والنحو وفقه اللغة والتأصيل فهي تتوارى في هذا النوع من المعاجم، ونمثل على ذلك ببعض المواد حيث يقول الخطيب في باب “أسماء البروج والأزمنة والأوقات”: “الحِقْبَةُ: السنة والجمع الحِقَبُ. والحُقِبُ واحد وهو اسم لثمانين سنة وجمعه أحقاب. والقرن: ثلاثون سنة. والأمة: ثلاث سنين. والملي: السنة والسنتان. والبضع: ما بين عَقِدين. والدهر: قيل أقله ستة أشهر، وهو الدهر، والمسند، والبرهة، والعصر. والحين: مختلف فيه وقيل: الأشد ما بين العشرين إلى الأربعين وسنة مجرَّمة: تامة”.[17]
نلاحظ من الأمثلة أعلاه أن الإسكافي لم يمض في تقليب المفردة، والبحث في صورها الصرفية، كما أنه لم يبحث في المعاني المختلفة للكلمة داخل السياقات المتباينة. وهذا ملمح بارز يوضح الاختلاف الحاصل بين منهج معاجم الألفاظ التكاملي، ومنهج معاجم المعاني.
إن العناية عند الإسكافي كانت بالمصطلح أكثر من باقي العلوم، ويقتصر الشاهد عنده على الشواهد الشعرية دون سواها. كما أن مقابلة الإسكافي لكثير من الكلمات بنظيرتها الفارسية تدعو إلى التساؤل حول الغاية من التأليف، والجمهور المقصود.
نخلص مما سبق إلى أن التكامل المعرفي في المعاجم العربية سمة مشتركة وحتمية تاريخية وعلمية لا محيد عنها. فعلى الرغم من التمايز الحاصل في صور التكامل هاته، والتفاوت المسجل في حجمه بين معاجم الألفاظ ومعاجم المعاني. فإنه يبقى ملمحا مشتركا وسمة مميزة للتأليف المعجمي العربي القديم. ولما اختلفت الغاية من التأليف في هذه المعاجم، وتباينت المناهج المعتمدة من كل معجمي، وتفاوتت المادة المعجمية المقصودة، كان طبيعيا أن تتفاوت صور التكامل المعرفي فيها.
2- التكامل المعرفي في المعجم العربي الحديث
لقد راكم المعجم العربي ثروة كبيرة تأسست على المنجز الهائل الذي أنتجته سيرورة التأليف المعجمي العربي منذ النماذج الأولى إلى أيامنا هاته. ولما كانت العلوم، كما يقول غاستون بشلار، هي تاريخ أخطائها، فقد كان لزاما على التأليف المعجمي العربي الحديث أن يتجاوز أخطاء الماضي، ويؤسس لمعرفة علمية جديدة مواكبة للعصر. فنتج عن كل ذلك معاجم ألفاظ حاولت تجاوز الصعوبات التي طرحتها معاجم الألفاظ القديمة، ومعاجم متخصصة تقابل في بعض صورها معاجم المعاني القديمة. وغيرها من الأصناف المعجمية التي تباينت الغاية من تأليفها. وسنحاول في هذا المبحث رصد صور التكامل المعرفي الحاصلة في هذه المعاجم الحديثة من خلال الاشتغال بنموذجين اثنين هما: المعجم الوسيط ومعجم ألفاظ الحضارة ومصطلحات الفنون لمجمع اللغة العربية.
2-1- المعجم الوسيط
تفطن مجمع اللغة العربية إلى الصعوبات والوعورة والمشقة التي يصادفها الباحث في المعاجم العربية التقليدية. فعقد العزم، واستنفر العقول العلمية، وضافر الجهود كي يخرج معجما علميا ميسرا يعين الدارس، ويستجيب لروح العصر، ويتجاوز الصعوبات التي تطرحها المعاجم التقليدية. وكانت ثمرة ذلك تأليفه للمعجم الوسيط سنة 1960 في طبعته الأولى.[18] وتلت ذلك طبعات تنقيحية وتصويبية قدمت خدمة جليلة للغة العربية ولمنتسبيها، بل ولغير منتسبيها كذلك ممن عشقوا هذا اللسان، وتاقوا إلى تعلمه. وسنبرز فيما يلي مختلف العلوم التي تفاعلت فيما بينها كي تقدم للدارس معجما عربيا عصريا يفيد من الماضي، ويعايش الحاضر، ويستشرف المستقبل.
2-1-1- العلوم اللغوية العربية
عكس ما كان عليه الحال في معاجم الألفاظ القديمة التي تحتفي أيما احتفاء بعلوم اللغة، وتكاد تضاهي كتب النحو والصرف والبلاغة في المعلومات التي تقدمها حول موادها، فإن الأمر قصر في المعجم الوسيط. ويرجع ذلك إلى الغاية الثاوية وراء تأليفه حيث جاء في مقدمة الطبعة الثانية: “والحق أن المجمع أراد لهذا المعجم أن يفي بالحاجة إلى معرفة ألفاظ العربية ودلالاتها المختلفة، فكان من هم لجان الإعداد والتحرير، للوفاء بذلك، أن تحشد ما يمكن أن يتسع له مثل هذا المعجم من الألفاظ، لتحقيق غرضين، أحدهما: أن يرجع إليه القارئ المثقف ليسعفه بما يسد الحاجة إلى تحرير الدلالة للفظ شائع أو مصطلح متعارف عليه. والغرض الآخر: أن يرجع ّإليه الباحث والدارس بما تمس الحاجة إليه من فهم نص قديم من المنثور أو المنظوم”.[19]
ويظهر من خلال هذا النص أن الغاية العظمى من وراء تأليف المعجم تتعلق بالدلالة أساسا؛ أي أن علم الدلالة (sémantique) بما هو بحث في جوهر كلمات المعجم ومضامينها، ووقوف على الشروط الواجب توافرها في الرمز حتى يكون قادرا على حمل المعنى.[20] وهذا لا يعني غياب العلوم الأخرى السالفة الذكر إذ يبقى حضورها أمرا حتميا لكنه أصبح حضورا مقننا لا إسهاب فيه. فظهر النحو من خلال السياقات المختلفة التي ترد فيها الكلمة، وظهر الصرف بتقديم بعض مشتقات الجذر المعجمي، وكذا من خلال الشكل الذي غدا دافعا لأي التباس ممكن في الدلالة الصرفية للكلمات. كما أن الشواهد تراجعت كثيرا مقارنة بما كان عليه الحال في معاجم الألفاظ القديمة. ولنأخذ مثالا مادة بَهِقَ: “بَهِقَ بَهَقا: أَصابَهُ البَهَقُ. فهو أَبْهَق وهي بَهْقَاء. ج بُهْقٌ”[21]. فالملاحظ من خلال هذا المثال أن المعلومات المتوفرة حول هذا المدخل في المعجم الوسيط تتعلق بالصرف من خلال إيراد صفة الفعل المذكرة والمؤنثة، والجمع (بُهْقٌ)، والمصدر (بَهَقٌ)، والتركيب من خلال ورود الكلمة في سياق الجملة “أصابه البهق”، والأصوات المتحركة التي تشكل في مجموعها دلالة المفردة. لكن كل ذلك يتضافر لبناء الدلالة وإيضاحها وهي غاية المعجم كما جاء في النص أعلاه.
2-1-2- اللسانيات الحديثة
تأثر المعجم العربي بمختلف النظريات اللسانية الحديثة، وكان لها الأثر البالغ في توجيه النظر والمنهج لدى العديد من صانعي المعاجم الحديثة. فنجد البنيويين مثلا نظروا إلى المعجم باعتباره لائحة من الكلمات وبالتالي فهو لا يحمل سمات النسق اللغوي.[22] عكس ما نجده عند التوليديين الذين يرفضون هذا الطرح، ويقيمون علاقات بين النحو والمعجم حيث يعدون هذا الأخير مكونا من مكونات النحو، ويرون أن الارتباط وثيق بين القواعد المركبية والقواعد المعجمية، وهو ما حدا بعبد القادر الفاسي الفهري إلى اعتبار المعجم نسقا علائق دلالية وتركيبية وصوتية وصرفية متكاملة.[23] وسنبين فيما يلي بعض النظريات اللسانية التي اعتمدها مجمع اللغة العربية في بناء المعجم الوسيط.
أ- اللسانيات التوليدية
يثني عبد القادر الفاسي الفهري رائد اللسانيات التوليدية في العالم العربي على المعجم الوسيط لأنه حاول أن يتجاوز ذلك المنهج الإقصائي القائم على ثنائية الزمان والمكان في قبول الوحدات المعجمية؛ إذ إن البحث المعجمي في نظره يجب أن يتركز على الملكة المعجمية للمتكلم لا أن يقف عند لغة الأسلاف. [24] وهذا الأمر نجده مصرحا به في مقدمة المعجم الوسيط حيث يقول عنه مؤلفوه: “وقصر همه على اللغة قديمها وحديثها، وتوسع في المصطلحات العلمية الشائعة، ودعا إلى الأخذ بما استقر من ألفاظ الحياة العامة، وخطا في سبيل التجديد اللغوي خطوات فسيحة، ففتح باب الوضع للمحدثين، شأنهم في ذلك شأن القدامى سواء بسواء، وعمم القياس فيما لم يقس من قبل، وأقر كثيرا من الألفاظ المولدة والمعربة الحديثة، وشدد في هجر الحوشي والغريب”.[25]
ب- اللسانيات الاجتماعية
يظهر استثمار المعجم الوسيط لهذا المدخل اللساني من خلال الشرح بالسياق (النظرية السياقية). فالكلمة لا ترد منفردة بل في سباق لغوي، ولا يمكن الفهم إلا في السياق؛ أي أن التعريف في المعجم الوسيط اعتمد على سياق مجموع العناصر اللغوية التي ترد قبل اللفظ وبعده في إطار الوظيفة الاجتماعية للغة. ومن أمثلة ذلك ما جاء في شرح مدخل “تلتل”: “تلتل: سار شديدا. و- ساق سوقا عنيفا. و- الشيءَ: حركه بعنف. و- فلانا وغيرَه: أقلقه وأزعجه”.[26] حيث قدم المعجم معاني عدة للمدخل “تلتل” تباينت بتباين السياقات الاجتماعية والتركيبية؛ فكان الفعل في حالة اللزوم دالا على حالة الشدة لدى صاحبه، أما في حالة تعدي الفعل فتتباين الدلالة كذلك بتباين حالة المفعول به أعاقلا كان أم غير عاقل.
وهذه بعض النماذج التمثيلية فقط والتي نرمي من خلال إيرادها إلى إبراز استفادة المعجم الوسيط من النظريات اللسانية، وانفتاحه على هذا المنجز في إطار علاقة التكامل التي تسمه، والتي تجعله منفتحا على كل العلوم التي تمكنه من تنمية الكفايتين الوصفية والتفسيرية.
2-1-3- الطبيعيات والكيمياء[27]
معلوم أن مصطلحات العلوم أصبحت اليوم تجد مكانا لها في العديد من المعاجم المتخصصة التي تأخذ بمصطلحات العلم شرحا وإيضاحا وتخصيصا وترجمة. لكن الخطة التي رسمها واضعو المعجم الوسيط دفعتهم إلى الانفتاح على تلك الحقول ومصطلحاتها. ومن أمثلة ذلك مصطلح أثير حيث قدم كما يلي: “الأثير: بريق السيف والمقدم على غيره. يقال هو أثيري أوثره وأفضله. وعند (الطبيعيين) سيال يملأ الفراغ يفترضون تخلله الأجسام وعند (الكيميائيين) سائل غير ذي لون طيار يذيب المواد الدهنية ويستخدم في الطب”.[28] فالمنهج المعتمد في التناول، كما يظهر من خلال هذا المثال هو الوقوف عند المعنى اللغوي للكلمة، قبل عرض استعمالاتها في الحقول المعرفية الأخرى. وهذا التصور في بناء المعجم الوسيط يبرز بجلاء التكامل الذي ينشده المعجم الوسيط في بناء مواده.
2-1-4- سيميائيات الصورة الأيقونية[29]
حظيت الصورة في العقود الأخيرة باهتمام واسع لدى العديد من الدارسين، واستطاعت أن تنسخ التصور التقليدي للعلامة باعتبارها دالا ومدلولا إلى اعتبارها دالا ومدلولا ومرجعا. ونلاحظ استثمارا كبيرا من المعجم الوسيط لهذا الوسيط الإيضاحي الذي ييسر تعلم الألفاظ التي قد يغيب تصورها الذهني باعتماد العلامة الثنائية. ومن أمثلة ذلك في المعجم الوسيط “الخزامى: جنس نَبَات من الفصيلة الشفوية أَنْوَاعه عطرة من أطيب الأفاويه واحدته خزاماة”.[30] و”الخُرْشوف: نبات من الفصيلة المركبة الأنبوبية الزهر. في طرفه ثمرة مغلفة بأوراق: يطهى ويؤكل”.[31] إذ لم يكتف واضعو المعاجم في هذين المثالين وفي غيرهما بالتعريف، لأنهما يبقيان تعريفين ملتبسين ومحتملين لعدد كبير من النباتات العطرة والأنبوبية الزهر؛ لذلك أرفقوا التعريف بصورتين أيقونيتين حتى يتعرف عليهما متصفح المعجم. لكن ما يؤاخذ على هذا التكامل بين المعجم وسيميائيات الصورة هو غياب الألوان عنها مما يوقع في لبس في المعنى، ويكاد المتصفح لا يدرك معنى المفردة رغم جهود الشرح التكاملي بين اللفظ والصورة من لجنة المجمع. كما أن الفهم قد يلتبس عند المجموعة البشرية عندما ترى الصورة تهدم التصور القائم عندها حول هاته الكلمة أو تلك. فعند سماعنا، نحن المغاربةَ، الخُرْشُوف، فإن فكرنا يتجه نحو نوع من الخضروات التي تطهى وتؤكل. بينما المقصود به في المعجم الوسيط، من خلال الصورة الأيقونية، هو ما يعرف عند المغاربة بـ“القوق”.
2-2- معجم ألفاظ الحضارة ومصطلحات الفنون[32]
اخترنا الاشتغال بمظاهر التكامل في أحد أهم المعاجم الخاصة الصادرة عن مجمع اللغة العربية وهو “معجم ألفاظ الحضارة ومصطلحات الفنون”. ويأتي هذا المعجم كحلقة من حلقات السياسة العامة للمجمع التي تهدف إلى تزويد المكتبة العربية بالمعجمات الخاصة. ويتأسس اختيارنا لهذا المعجم المجْمَعي على إيماننا العميق بجدوى الاشتغال في فرق كما دأب مجمع اللغة العربية على ذلك من جهة، ولقياس مدى نجاعة هذا المعجم في تحقيق التكامل المنشود بين المعارف المختلفة من جهة ثانية. خصوصا وأن ابراهيم مدكور يؤكد الصعوبات التي يطرحها وضع معجم خاص بألفاظ الحضارة والفنون. وهي مهمة، في نظره، أشد عسرا من وضع معجم خاص بالمصطلحات العلمية.[33]
ونسجل بداية الشبه الكبير بين معاجم المعاني العربية القديمة وهذا المعجم المتخصص، وقد سبقت لنا إشارة في ذلك؛ فنلاحظ مثلا من خلال المنهج المتبع في تبويب هذا المعجم اعتماده تجميع المفردات في أبواب لسمات دلالية مشتركة بينها. وهذا يحيلنا إلى أول العلوم التي تدخل في صناعة “معجم ألفاظ الحضارة ومصطلحات الفنون” وهو علم الدلالة.
2-2-1- علم الدلالة ونظرية الحقول الدلالية
تعد نظرية الحقول الدلالية إحدى أهم نظريات علم الدلالة الحديث، ويسعى أصحابها إلى تحليل المعنى من خلال البحث في السمات الدلالية المشتركة بين المداخل المعجمية، ووضع هاته المداخل تحت اسم عام يجمعها.[34] وذلك ما نلاحظه في معجم ألفاظ الحضارة ومصطلحات العلوم حيث جمعت المداخل المعجمية الدالة على الثياب في باب/ حقل دلالي سمي “الثياب وما يتعلق بها”. وكذلك كان في أبواب “المأكولات”، و“المنزل والأدوات المنزلية”، و“المركبات وما يتعلق بها”، و“الحرف والصناعات”، “فن التصوير”، و“فن النحت”، وغيرها من الأبواب.
2-2-2- فقه اللغة
على الرغم من كون هذا الحقل يعد من المباحث اللغوية العربية القديمة، فإن مؤلفي معجم ألفاظ الحضارة والفنون لم يفوتوا الفرصة في استثمار بعض مباحثه في شرح العديد من المصطلحات. ونمثل لذلك بما قدم من معلومات حول أصول المفردات إن كانت عربية أو دخيلة، ولغاتها الأصلية كما يبرز في أول مادة من مواد هذا المعجم. فنجد ما يلي: “الإبزيم: أداة تتخذ في الحزام لشده وربطه، وهي معربة من قديم، والمنقول أنها فارسية”.[35] ويفصح هذا التعريف عن بعض مباحث فقه اللغة إذ إنه يشير إلى كون كلمة إبزيم غير عربية، بل نقلت إلى العربية من لغتها الأصلية التي هي الفارسية.
2-2-3- الترجمة
إن للترجمة أهمية بالغة في البناء الحضاري للمجتمعات لما لها من دور محوري في إثراء الثقافات الإنسانية واستفادة بعضها من البعض الآخر. ومعلوم أن ثمة معاجم ثنائية اللغة جعلت الترجمة همها الأساس والوحيد، فمضت بحثا ودراسة في وضع ما يقابل المصطلح المحلي في اللغات الأجنبية. ورغم أن معجم ألفاظ الحضارة ومصطلحات الفنون ليس من هذا النوع، فإنه هو الآخر استثمر تقنية الترجمة إلى جانب الشرح العربي لكل مصطلحات المعجم. وكانت الفرنسية والعربية هما اللغتان المترجمتان إليهما. ومن أمثلة تلك الترجمات في باب “المنزل والأدوات المنزلية” :“الدقية: petite marmie (F) small pan (E) حلة صغيرة يحلى فيها الطعام”.[36] ونورد مثالا ثانيا ورد في باب الثياب: “الحرملة: pèlerine (F) cape(E) رداء قصير واسع يوضع على الكتف ويغطي الظهر والصدر، وهو مشقوق المقدم، وكلمة “الحرملة” دخيلة استعملت في العصر الحديث”.[37] وبعودتنا إلى أحد المعاجم الفرنسية وجدنا أن التعريف الذي يقدمه معجم المصطلحات لا يعدو أن يكون ترجمة لما جاء في المعاجم الأجنبية؛ أي أن الترجمة لا تقف عند حدود المصطلح بل تتعداه إلى التعريف؛ وحتى لا يبقى حكمنا عاما سنورد التعريف الذي قدمه “le petit robert” لكلمة “pèlerine“
“n.f . vêtement de femme en forme de grand collet rabattu sur les épaules et la poitrine“[38].
ونرى من جانبنا أن هذا التكامل الذي يقيمه “معجم ألفاظ الحضارة ومصطلحات الفنون” مع الترجمة يخدم متكلمي العربية دون أن ينفع غير الناطقين بالعربية الراغبين في تعلم ألفاظ ومصطلحات هذه اللغة. ومرد هذا الحكم إلى غياب تشكيل الكلمات الذي يشكل صفة سلبية وسمت هذا المعجم. ففي المثالين السابقين سيجد المتكلم الفرنسي صعوبة وعجزا في معرفة المقابل العربي الصحيح النطق للكلمتين ” pèlerine“، و“petite marmite“. والصعوبة عينها يجدها المتكلم الإنجليزي.
خاتمة
وفي خاتمة الحديث عن التكامل المعرفي في المعجم العربي بين القديم والحديث، ننتهي إلى ما بدأنا به وهو تأكيد حتمية التكامل بين المستويات اللسانية وغير اللسانية في بناء المعاجم العربية القديمة والحديثة. وهذا التكامل بين تلك الحقول يساعد لا محالة في الانتقال بالبحث المعجمي من البحث في دلالة الكلمات ومعانيها، إلى بناء الدلالة الكلية النسقية المترابطة الأجزاء والمكونات. ويساعد هذا البناء النسقي في الإمساك بالروابط والعلاقات التي تنتظم الحقول العلمية سعيا منه لاستخلاص وحدة المعرفة كهدف أسمى وغاية فضلى منشودة. فلم يعد الطب مستقلا عن علم الصرف، ولا الكمياء بعيدة عن الاشتقاق اللغوي، ولا الأنتربولوجيا منفصلة عن فقه اللغة. كما لم يعد التفسير اللساني ليقوم بوظيفته دون تضافر لجميع مستوياته. ولنا المثال البارز فيما وسم نموذج شومسكي “البنى التركيبية” من تغييب للمكون الدلالي، ليعود بعد ذلك بسنوات، ويؤكد أهمية هذا المكون إلى جانب المكونات الأخرى في دراسة الملكة اللغوية.
وعلى الرغم مما تحقق على مستوى البناء المعجمي العربي الحديث، واستدعائه لعلوم مختلفة ظهرت في الحياة الحديثة، يبقى الذي تحقق، في نظرنا، على مستوى التكامل المعرفي قاصرا لا يشفي الغليل، ولا يواكب، بشكل مطلق، التطورات الهائلة التي تعرفها الحياة في مختلف مناحيها. ونحن بهذا القول لا ننكر، كما سلف ذكره، انفتاح المعجم الحديث على العلوم الحقة وعوالم الصورة، لكن تبقى التحديات التي تنتظر المعجم الحديث أكبر من ذلك خصوصا فيما يتعلق باستثمار التقنيات الرقمية من أجل بناء معاجم تفاعلية تكاملية حقيقية مواكبة لمختلف التطورات.
لائحة المصادر والمراجع
المراجع العربية
1- الإسكافي، عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب، مبادئ اللغة، تحقيق عبد المجيد دياب، دار الفضيلة، القاهرة.
2- البستاني، عبد الله، البستان، بيروت، المطبعة الأمريكانية، ج1
3- الجرجاني، علي بن محمد السيد الشريف، معجم التعريفات، تحقيق: محمد صديق المنشاوي، دار الفضيلة، القاهرة، مصر
4- الجوهري، أبو نصر إسماعيل بن حماد، تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق: محمد محمد تامر، دار الحديث، القاهرة، مصر، 2009
5- حسان، تمام، اللغة العربية معناها ومبناها، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، 1994
6- الصالح، صبحي، دراسات في فقه اللغة، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، 2009
7- الفاسي الفهري، عبد القادر، المعجم العربي: نماذج تحليلية جديدة، دار توبقال، الدار البيضاء، 1986
8- أبو الفرج، محمد أحمد، المعاجم اللغوية في ضوء دراسات علم اللغة الحديث، دار النهضة العربية، 1966
9- عمر، أحمد مختار، علم الدلالة، عالم الكتب، الطبعة الخامسة، 1998
10- مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، مكتبة الشروق الدولية، ط 2، 1972
11- مجمع اللغة العربية، معجم ألفاظ الحضارة ومصطلحات الفنون، دار الكتب، القاهرة، 1980
المراجع الأجنبية:
1- Robert, Paul, le Petit Robert, SEJER, 2018, Paris
[1] البستاني، عبد الله، البستان، ص 34
[2] تعرف معاجم الألفاظ كذلك بالمعاجم العامة، في مقابل المعاجم الخاصة التي تتصف بها معاجم المعاني.
[3] اشتهر بالصحاح وعنوانه الكامل تاج اللغة وصحاح العربية
[4] أبو الفرج، محمد أحمد، المعاجم اللغوية في ضوء دراسات علم اللغة الحديث، ص 13
[5] الجوهري، أبو نصر إسماعيل بن حماد، تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق: محمد محمد تامر، ص 620
[6] المصدر نفسه، ص 36
[7] المصدر السابق، ص 605
[8] الصالح، صبحي، دراسات في فقه اللغة، ص ص 21-22
[9] الجوهري، المصدر المذكور، ص 1021
[10] المصدر نفسه، ص 599
[11] المصدر السابق، ص 927
[12] الجرجاني، علي بن محمد السيد الشريف، معجم التعريفات، تحقيق: محمد صديق المنشاوي، ص 27
[13] الجوهري، المصدر المذكور، ص 1149
[14] المصدر نفسه، ص 893
[15] يمتاز هذا المعجم عن غيره من المعاجم التي وضعت في نفس المجال، في أنه أفرد لكل موضوع بابًا فحسب جمع فيه كل مفرداته، ولم يجعل للموضوع الواحد كتابًا مستقلًا، وهناك من عده شبه معجم وليس معجما.
[16] الإسكافي، عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب، مبادئ اللغة، تحقيق عبد المجيد دياب، ص 7
[17] الإسكافي، المصدر المذكور، ص ص 60- 61
[18] تشكلت اللجنة التي عهد إليها بوضع الطبعة الأولى من هذا المعجم من: إبراهيم مصطفى- أحمد حسن الزيات- حامد عبد القادر- محمد علي النجار.
[19] المعجم الوسيط، ص 7
[20] عمر، أحمد مختار، علم الدلالة، ص 11
[21] المعجم الوسيط، 94
[22] حسان، تمام، اللغة العربية معناها ومبناها، 1994، ص 314
[23] الفاسي الفهري، المعجم العربي نماذج تحليلية، ص 24
[24] المرجع نفسه، ص 19
[25] المعجم الوسيط، ص ص 13 14
[26] المرجع نفسه، ص 106
[27] معجم الكيمياء والصيدلة، في جزءين عن مجمع اللغة العربية صدر سنة 1983
[28] المعجم الوسيط، ص ص 25 26
[29] تعد الصورة الأيقونية إحدى أنماط العلامة الثلاثية عند بيرس، وتقوم على علاقة المشابهة مع موضوعها الخارجي سواء أكانت تلك المشابهة عن طريق الرسم أو المحاكاة.
[30] المعجم الوسيط، ص ص 255-256
[31] المرجع نفسه، ص 250
[32] لقي هذا المعجم نقدا كبيرا خصوصا في ألفاظ الحضارة التي وردت فيه والتي تنتمي إلى الحياة العامة. لذلك كانت هنالك دعوات لئلا تتسرب ألفاظ الحضارة إلى معاجم الألفاظ المجمعية.
[33] معجم ألفاظ الحضارة ومصطلحات الفنون، ص 6
[34] عمر، أحمد مختار، المرجع المذكور، ص 79
[35] معجم ألفاظ الحضارة ومصطلحات الفنون، ص 5
[36] المرجع نفسه، ص 20
[37] المرجع نفسه، ص 6
[38] Le Petit Robert,p 1844