المبدع الاسباني ماكس أوب، شاهد على العصر
The Spanish creator Max Aub, witness of his epoch
د. الشعيبي إدريس ـ جامعة القاضي عياض ـ المغرب
Dr. ECH-CHOAYEBY Driss / Université Cadi Ayyad ـ Marrakech
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 73 الصفحة 23.
الملخص:يهدف هذا المقال إلى إبراز قيمة ومكانة أحد أشهر، وأهم مبدعي القرن العشرين. يتعلق الأمر بالمبدع ماكس أوب الذي تناول في إنتاجاته مختلف الأجناس الأدبية وأبدع فيها أيما إبداع. كما أنه يعتبر نموذجا للمثقف الملتزم بقضايا عصره، حيث واكب جل الأحداث التاريخية المفصلية التي شهدها القرن العشرون. لذلك، يتمحور هذا البحث حول إظهار بعض الجوانب المهمة من إبداعاته التي تجمع بين القدرة الفنية الفائقة، والالتزام الأخلاقي والسياسي مع القضايا العادلة للإنسان المقهور بغض النظر عن جنسيته وعرقه ومذهبه. وفي هذا الإطار، سنحاول التطرق لكل هذه الجوانب انطلاقا من بعض رواياته من قبيل “شارع بال بيردي” (1961) و”النوايا الحسنة” (1954)، بالإضافة إلى “لويس ألباريث بترينيا”(1934).
المبتغى الأساس من وراء إنجاز هذا المقال، يكمن في تعريف القارئ العربي بمثقف عضوي من هذا الطراز الرفيع بتعبير غرامشي، الذي ما أحوجنا إلى أمثاله في هذا الظرف العصيب الذي يجتازه العالم العربي.
الكلمات المفتاحية: ماكس أوب، الإبداع، المعاناة، المجتمع، قضايا، الرواية.
Abstract:
This article aims to highlight the value and prestige of one of the most famous, and most important, creators of the twentieth century. It is the illustrious and prolific creator Max Aub, who cultivated almost all literary genres with a huge mastery. It is also regarded as the paradigm of the true intellectual whose greatest interest lies in ethical commitment and, above all, the defense of noble humanitarian causes.
This research is centered on demonstrating some important aspects of his creations that combine great artistic ability, moral and political commitment to just causes of the oppressed human, regardless of nationality, race and creed. In this context, we will try to address all these aspects from some of his novels, such as “Valverde Street” (1961) and “Good Intentions” (1954), as well as “Luis Àlbarez Petreña” (1934).
The principal purpose of this essay is to present to the Arab reader an important intellectual with a specific style, who we need in this difficult situation in which lives the Arab world.
Key words: Max Aub, creation, suffering, society, matters, novel.
- تقديم:
يعتبر القرن العشرون مرحلة تاريخية تخللتها العديد من الأحداث والوقائع المفصلية التي أرخت بضلالها على تاريخ الإنسانية[1]. ولعل المقاربة المتعددة الأبعاد لهذه الأحداث الجسام التي شهدها العالم، وإسبانيا على الخصوص، قد تطرق إليها العديد من الباحثين والمبدعين والمفكرين، على سبيل المثال لا الحصر المبدع الأمريكي إيرنست هيمنغواي (Putnam, 2006)والروائي الفرنسي الشهير أندري مالرو ( (Vinals, 2006 والشاعر الشيلي الحاصل على جائزة نوبل بابلو نيرودا (Ossa Martínez, 2015)والشاعر البيروفي الكبير سيزار بايخو (Vallejo 1987) ، والمفكر الفرنسي الملتزم الشهير جون بول سارتر ((Aragüés Estragués, 2020، إلخ. ويعتبر الروائي الاسباني ماكس أوب أحد المبدعين الذين سطع نجمهم وتركوا بصمتهم في المقاربة الإبداعية لتك لأحداث، بالإضافة إلى التزامه الأخلاقي والإنساني مع القضايا العادلة بغض النظر عن الدين والعرق والمذهب (Malgat, 2011) . إذ أن رغم حداثة سنه مع مطلع القرن العشرين، فإن هذا الكاتب الإسباني كان قد انخرط فكرا وممارسة في أهم الأحداث الفارقة التي شهدها العالم وإسبانيا آنذاك. بدءا بهزيمة إسبانيا في معركة أنوال، وأثرها العميق على المستوى السياسي، وما خلفته من نذوب في الذاكرة الجمعية للمجتمع الاسباني، ومرورا بالانقلاب العسكري الذي قام به الديكتاتور خوسي أنطونيو دي ريبيرا. فكانت هذه الأحداث مؤشرا على تكريس اندحار اسبانيا التي أصبحت دولة منهارة بعد أن كانت قوة عظمى يحسب لها ألف حساب (Fernández-Alfaro, 1997). استطاع المبدع ماكس أوب التقاط هذا الوضع المتردي بنفس إبداعي لا يضاهى. وفي هذا النطاق، تعتبر روايته الرائعة “شارع بال بيردي“(1961) وثيقة تاريخية بامتياز لحقبة المستبد بيرمو دي ربيرا، علاوة على جمالية السرد وروعة التقنيات الروائية التي أحسن توظيفها ماكس أوب. فهي بنية سردية متناسقة تؤشر نابعة من رحم التجربة والمعاناة، لذلك امتلك القدرة على استحضار الذاكرة في قلب فني منقطع النظير(Sánchez Zapatero, 2010, p. 69).
ومع مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، تزامن انخراط ماكس أوب في الحزب العمال الاشتراكي مع هبة جماهرية وضعت نهاية لحكم الديكتاتور السالف الذكر. إثر ذلك تم تنظيم انتخابات تشريعية نزيهة وشفافة لأول مرة في إسبانيا أسفرت عن فوز تحالف أحزاب اليسار وقيام الجمهورية الثانية الإسبانية. مما جعل الثلاثي المكون من ” الجيش، الإقطاع والكنيسة” يتحسس خطرا داهما يهدد مصالحه المتراكمة، وهو الذي ظل يتحكم في مقدرات الدولة لقرون عديدة. فكانت نتيجة تحالفهم قيام القادة الفاشيين، يتزعمهم الجنرال فرانكو، للجيش الاسباني والذي كان متمركزا بالمنطقة الشمالية بالمغرب التي كانت تقبع تحت نير الحماية الاسبانية، بانقلاب مما أدى إلى حرب أهلية طاحنة دامت ثلاث سنوات دمرت إسبانيا وانتهت بانتصار الطغمة الفاشية الفرنكاوية.
تجدر الإشارة إلى أنه رغم انخراط ماكس أوب في صفوف الحزب العمالي الاشتراكي الاسباني، فإنه ظل متشبثا بنقد الدائم للحزب وعدم تماهيه مع توجيهات قادته (Malgat, 2007,p. 86). هذا الموقف يعبر بجلاء عن التزام ماكس أوب الأخلاقي والنضالي، كمثقف عضوي ذي فكر حر، (Miroslav Kotsev 2014, p. 40). وبذلك، فإن إبداعاته الأدبية شاهدة عن دفاعه المستميت عن المستضعفين والمضطهدين، بغض النظر عن دينهم وعرقهم ومرجعياتهم الإيديولوجية. وخير مثال على ذلك هو انخراطه إلى جانب العديد من المثقفين الإسبان وأدباء كبار ذائعي الصيت من العالم، هبوا إلى إسبانيا لمساندة مقاومة الجمهورية الثانية لجحافل الانقلابيين عبر تكوينهم ما يسمى كتائب عالمية أو “Brigadas internacionales”(Claret, 2016, p. 72).
وفي هذا الإطار، تعتبر سداسيته تحث العنوان العام “المتاهة السحرية” أهم وأروع وأصدق ما كتب عن الحرب الأهلية الإسبانية. وهي بذلك مقاربة إبداعية فائقة الدقة لهذا الحدث الجلل. لكن انتصار الفاشيين في الحرب، اضطره رفقة الأغلبية العظمى من المثقفين الإسبان إلى مغادرة اسبانيا إلى أراضي اللجوء. وباعتباره يهوديا، تم اعتقاله خلال الحرب العالمية الثانية من طرف عميل النازية المارشال فيشي وإرساله إلى معسكر احتجاز جماعي في منطقة جلفة بالجزائر. حيث عانى الأمرين في ظروف شديدة القساوة مدة عامين (Eloías Aldás, 2001, p. 94). وقد خلد هذه المعاناة في رائعته “يوميات جلفة” (1944).
بناء على ما سبق، وجب التساؤل حول إرهاصات تفتق العبقرية الإبداعية للكاتب ماكس أوب، من خلال كشفه لتجاوزات قادة الانقلاب إبان الحرب الأهلية الإسبانية، وما تلها من مضايقات على الحريات الجماعية والفردية بإسبانيا. كما نتساءل ونقول إلى أي حد استطاع المبدع الاسباني مقاربة كل هذا في قالب أدبي إبداعي رائع. سنحاول أيضا إلقاء الضوء على تأثير نفي الكاتب إلى أرض المكسيك في تكريس ونضج الوعي والحس الثقافي لديه. لنختم في الأخير بإلقاء نظرة خاطفة على كيفية تصويره المقطعي لكل معاناته والتزامه من خلال تقديم نماذج من أعماله التي تناولت معظمها مختلف أوجه الظلم الذي لحق الكاتب من قبيل تنقيله من طرف قوات النازية من مارسيليا الفرنسية إلى مركز الاحتجاز بجلفة بالأراضي الجزائرية، ثم انتقاله إلى المنفى الأخير بالمكسيك عبر المغرب.
- الروائي ماكس أوب في قلب الأحداث المصيرية في القرن العشرين
إن فكرة الروائي الفرنسي المرموق ألبير كامي والتي مفادها أنه إذا خلت الحياة من المعاناة، فلن يكون للإبداع موطأ قدم Camus A., 1967, p. 70)). هذه الفكرة أو التصور ينطبق إلى حد كبير على حالة الكاتب المتعدد الجنسيات ماكس أوب. حيث عايش معظم الأحداث المصيرية التي عرفها القرن العشرون، أثر فيها وتأثر بها وعبر عنها بطريقة مؤثِّرة وعميقة في العديد من أعماله الأدبية التي شملت معظم الأجناس الأدبية. في هذا السياق، تعتبر المآسي الذي مر بها الكاتب بحق الحافز للإنتاج العملية الإبداعية لديه، التي انصهرت فيها قضايا مجتمعه وما لحقه من ظلم وقهر.
- إرهاصات بزوغ نجم ماكس أوب كمبدع ومثقف ملتزم
من موالد فرنسا سنة 1903، من أم فرنسية وأب ألماني، يهودي العقيدة. اضطرت العائلة للهجرة إلى اسبانيا وماكس أوب طفل صبي، حيث استقرت بمدينة بلينسية، هناك تعلم اللغة الاسبانية التي أصبحت أداة إبداعه. ومنذ بلوغه سن الرابعة عشرة بدأت بوادر اهتمامه بالأدب والالتزام السياسي. وفي هذا الإطار، يقر ماكس أوب في رسالته إلى صديقه مانويل تونيون دي لارا ما يلي:
“El medio en que me formé va claramente de 1917 a 1931. En 1917 tenía catorce años. Alguna vez he contado que una carga de la Guardia Civil a caballo – ¿o no lo he contado? – en la plaza Emilio Castelar, de Valencia, fue determinante. El atravesar – al día siguiente, creo – la calle de las Barcas, desierta bajo el signo de las terceloras, acabó de hacer de mi un partidario decidido de los humildes”[2] (Max Aub, 1970, p.13).
ويتبين من خلال هذه الشهادة الوعي المبكر للروائي ماكس أوب، وهذا ما يفسر انخراطه طوال حياته في النضال من أجل القضايا العادلة والقيم الإنسانية النبيلة. وفي العشرينيات من عمره، شرع هذا الكاتب الكبير في كتابة ونشر إبداعاته التي شملت مختلف الأجناس الأدبية. وهكذا؛ بين سنة 1924 وسنة 1927 أصدر ماكس أوب مسرحيات تدخل في إطار ما يسمى بالمسرح التجريبي (Max Aub, 1970, p.14) مثل “El desconfiado prodigioso” (1971) أو “المرتاب العجيب”،(1960) “El celsoso y su enamorada” أو “الغيور وحبيبته”، و “Deseada. Espejo de avaricia” (1973) أو “المرغوب فيها. مرآة البخل”.
وكان دائم التردد على المقاهي الأدبية التي كانت تعج بها مدريد خلال عشرينيات القرن الماضي، مما مكنه من الاحتكاك بعباقرة الثقافة مثل لويس بونييل والشاعر العالمي فيديركو غارسيا لوركا وزميله الشاعر الكبير رفاييل ألبيرتي (Max Aub, 1970, p.14). ومع فجر 1930، أبدع ماكس أوب رائعته “Fabula verde” (1933) أو “حكاية خرافية خضراء”. وخلال هذه العشرية اكتمل نضجه الذي يتبلور في إبداعات غاية في الروعة والإتقان، من قبيل “Luis Álvarez Petreña” ، التي تم نشرها ببرشلونة سنة 1934، “Yo vivo” أو “أنا أحيا”، التي كتبها بين 1935 و 1936. وفي فترة حكم الجمهورية الثانية والحرب الأهلية الاسبانية، تولى ماكس أوب منصب الملحق الثقافي بسفارة إسبانيا في باريس، كما تبوأ منصب الكاتب العام للهيئة الوطنية للمسرح. وخلال نفس الفترة، ساهم مع صديقه الروائي الفرنسي الشهير أندري مالرو André Malraux في إنتاج الفيلم السينمائي المعنون ب “Sierra de Teruel” (1945) أو “السلسلة الجبلية لترويل” المستوحي من الرواية الرائعة “L’Espoir” (1937) أو “الأمل”. وانطلاقا من سنة 1939، كل المصائب اجتمعت حول عنق ماكس أوب، وهكذا بعد هزيمة الفرنسيين أمام النازية سنة 1940 وبما أنه يهودي الديانة، تم الزج به في سجون مدينة مارسيليا و نيس وترحيله إلى مركز احتجاز جهنمي ببلدة جلفة الصحراوية بالجزائر، حيث قضى هناك ما يربو عن سنتين، تجرع فيها كل ألوان العذاب. وفي هذا الإطار، يثير صديقه مانويل تونيول دي لارا النفس الإبداعي لماكس أوب وهو يعاني أسوء أنواع العذاب في أبشع المعتقلات:
“Dos años vive – sobrevive – allí Max Aub. En trozos de papel, a ascondidas de los guardianes, escribe sus poemas Diario de Djelfa, toma notas, traza esquemas… Y, como siempre habla con todos, penetra en las vidas y en las conciencias de grandes y pequeños”[3] (Max Aub, 1970, p.17).
2.2. مرحلة النضج الإبداعي عند ماكس أوب: المنفى طويل الأمد بالمكسيك
كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وبعد أن تجرع كل أنواع العذاب في معسكر جلفة بالجزائر، تمكن ماكس، بحلول شهر شتنبر من سنة 1942، من الفرار من معسكر الاحتجاز بجلفة نحو مدينة الدار البيضاء بالمغرب ومنها إلى مرفأ بيراكروس بالمكسيك. حيث مكث هناك حتى وفاته سنة 1973. ويعتبر هذا المقام الطويل أغنى وأزهى مرحلة في نبوغه وإبداعاته. الشيء الذي جعله يتبوأ أعلى المراتب بين كبار وأشهر مبدعي القرن العشرين. وهكذا، مع بداية تواجده بالمكسيك، شرع في نشر أروع ما كتب عن الحرب الأهلية الإسبانية في سلسة روايات تحمل عنوان “المتاهة السحرية”. وهكذا؛ نشر في المكسيك، سنة 1943، أولى روايات هذه السلسلة المعنونة ب “Campo cerrado” أو “حقل مغلق”. ومباشرة بعد ذلك، قام بنشر ثاني روايات السلسلة، “Campo de sangre” أو “حقل الدم”، تلاها نشر رواية “Campo francés” أو “الحقل الفرنسي”، التي كانت موضوع سيناريو سينمائي. وأثناء هذه الفترة التي تميزت بالإبداع الروائي الغزير والثري والعالي الجودة، نشر كذلك مجموعات قصصية مثل “Historia de Jacob” أو “تاريخ يعقوب”. وانطلاقا من هذه اللحظة التاريخية من حياة ماكس أوب، أصبح ذائع الصيت واسمه يقترن بوفرة وروعة الإنتاجات الفكرية والأدبية، حيث شملت إبداعاته الرواية والمسرح والقصة القصيرة والنقد الأدبي والمقالة الأدبية. وفي هذا السياق، يصرح ماكس أوب بما يلي:
“No hice sino escribir, porque es lo único que me divierte” (Max Aub, 1966, p. 7).
حيث اعتبر أن كل ما يقوم به هو الكتابة، لأنها هي الشيء الوحيد الذي يروح به عن نفسه. وبالفعل، كل كتابته كانت تعبيرا صادقا عما يختلج في قرارة نفسه، بما أنها نابعة من رحم المعاناة وحسه المرهف تجاه المستضعفين.
علاوة على ذلك، انصب اهتمامه على النقد الأدبي، وهكذا قام بنشر سنة 1966 مؤلف يهم تاريخ الأدب الإسباني “Historia de la literatura española”.وكذلك كتابه “Discurso sobre la novela española contemporánea” أو “خطاب حول الرواية الإسبانية المعاصرة”، بالإضافة إلى “La poesía española contemporánea” أو “الشعر الاسباني المعاصر”. تجدر الإشارة إلى أن إبداعاته ترجمت إلى العديد من اللغات مثل الفرنسية الإنجليزية، الألمانية، الإيطالية، العربية، إلخ.
- تقديم لبعض الأعمال الإبداعية المهمة للروائي ماكس أوب
كما سبقت الإشارة، يتميز المبدع ماكس أوب بغزارة ووفرة إنتاجه في أجناس عدة. ولهذا لا يمكن الإحاطة بكل إنتاجه في مقالة واحدة كهذه. لذلك ارتأينا أن نتطرق لنماذج من إبداعاته الروائية والتي تعطينا دليلا واضحا عن أن ماكس أوب هو نموذج المثقف الملتزم والمبدع الكبير الذي عايش جل الأحداث المفصلية خلال القرن العشرين. وفي هذا السياق، الروايات التي سنتطرق إليها تندرج فيما يسمى بالرواية التاريخية، حيث نجد فيها توليفة غاية في الروعة لأحداث تاريخية عايشها الكاتب وشخوص واقعية مع أخرى من نسج خياله. ولهذا تعتبر هذه الأعمال الروائية بمثابة وثائق تاريخية في قالب إبداعي مميز.يتعلق الأمر، إذن، برواية “زقاق بال بيردي” التي نشرها سنة 1961 وراوية “النوايا الحسنة” التي نشرها سنة 1954، بالإضافة إلى رواية “لويس ألباريس بترينيا” التي نشرت سنة 1971.
1.3. رواية زقاق بالبيردي أو“La calle de Valverde“
ففي روايته “La calle de Valverde” أو “شارع بالبيردي”، وهي رواية معبرة عن مدينة مدريد في الحقبة الممتدة من 1925 إلى 1928. أبطالها متعددو المشارب ويجسدون مختلف أطياف المجتمع المدريدي آنذاك. وهكذا، فأبطالها يتشكلون من مثقفين وصحفيين وطلبة وأفراد من عامة الشعب ومن الطبقة البرجوازية الصغيرة (Max Aub, 1970, p. 40). كما تتناول الرواية وقائع تاريخية بليغة الأثر في إسبانيا عشرينيات القرن الماضي، مثل نكسة أنوال بالنسبة للإسبان والانقلاب العسكري الذي مكن الديكتاتور خوسي أنطونيو دي ريبيرا من الاستيلاء على مقاليد الأمور. ويعتبر موجز أحداث الرواية بمثابة دليل واضح على أهميتها التاريخية والإبداعية. أحداثها تنطلق من منزل يحمل رقم اثنين وثلاثين بشارع فال بيردي المطل على واجهتين. الباب الأول يفضي إلى ساكنة مكونة من الطبقة الوسطى، بينما الباب الثاني يؤدي مباشرة إلى الساحة الشهيرة المسماة الطريق الكبير أو (Gran Vía)، التي تعتبر رمزا للتحديث في العاصمة الاسبانية بعماراتها وناطحات السحاب، ومقرات لشركات كبرى مثل تليفونيكا. تتناول الرواية بشكل إبداعي رائع علاقات مختلف أطياف المجتمع التي تستوطن هذا الفضاء. وفي ذلك يكون المبدع ماكس أوب قد استحضر توجيه الكاتب الاسباني الكبير، الذي يمثل تيار الواقعية بإسبانيا القرن التاسع عشر، بينيتو بيرز غالدوس. حيث كان يقر دائما أن الروائي دائما ما يأخذ عن الفضاء الذي يستوطنه المادة الأولية لينتج نفس المكون في قالب إبداعي يتسم بالتماهي مع الواقع المعاش (Max Aub, 1967, p.173).
تتميز رواية بال بيردي بأبعادها المتعددة، وكثرة المواضيع والشخوص، وكل ذلك مصاغ بصنعة روائية غاية في الإتقان والروعة.وهكذا، نجد أن بنية الرواية تحتوي على عدة مستويات متداخلة:
يتمحور المستوى الأول حول شارع فال بيردي والمنزل والبوابة وثلاثة شخوص أساسية: مارغا (Marga) وأبوها السيد فيديل (Fidel) وعمتها فيلي(Feli) . إذ دون الخروج من المنزل رقم 32، يجد القارئ نفسه في المستوى الثاني الذي يحكي قصة الرسام الذي يطلق عليه ميراليس (Miralles) بمعية زوجته وبنتيه باكيتا (Paquita) وإيزابيل(Isabel) . في هذا السياق، يتعرف القارئ عن عالم الصحافة بمدينة مدريد وعلى رواد المقاهي الأدبية وعلى دور الضيافة، وذلك عن طريق الاشبيلي مانويل كانتويسو(Manuel Cantueso)، خطيب باكيتا. وبقدرة عالية، يستطيع الكاتب ماكس أوب، في هذا المستوى، المزج بين الواقع التاريخي والواقع المتخيل من طرفه.
أما المستوى الثالث، فيختلف كثيرا ويمكننا تسميته “باكتشاف مدريد من طرف فيكتوريانو تيريزا(Victoriano Terraza) ، أحد الشخوص المتميزة في الرواية. هذا الشاب الذي ينتسب إلى مدينة بلنسية، الطموح أتى إلى مدريد وبحوزته رسائل توصية إلى مدير جريدة، عنوانها على الأرجح إل ليبيرال (El Liberal).
ويمتاز المستوى الرابع بإعطاء الأولوية لما هو تاريخي مثل المحاولة الانقلابية الفاشلة ضد الجنرال خوسي بيريمو دي ريبيرا والمعروفة تاريخيا بسانجوانادا[4] أو(Sanjuanada) . ومن خلال تناوله هذه الأحداث التاريخية، يقدم الكاتب تحليلا سيكولوجيا لشخصيات تاريخية معروفة، مثل فيرمين غالان (Fermín Galán) وأنطونيو ماريا سبيرت(Antonio María Sbert) . وبواسطة أحد شخوص الرواية مولينا (Molina) ذات الأصل الجبلي، نلج لمستوى هامشي من الرواية، ولكن له أهمية كبرى لأنه يمكن القارئ من التعرف على أوساط بورجوازية شمال إسبانيا، التي لعبت دورا غاية في الأهمية في إسبانيا منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر. يأتي أخيرا المستوى الخامس من الحكي الذي يعالج العلاقات الاجتماعية بين عدة شخوص في فضاء شارع فال بيردي، مثل العلاقات المتأزمة بين الزوجين خواكين(Joaquín) ومارغا والخيانة الزوجية لغابرييلا(Gabriela) ومولينا (Molina)،بالإضافة إلى فشل العلاقة الغرامية بين كانتويسو وباكيتا (Max Aub, 1970, p. 46).
جدير بالذكر أن هذا المستوى الخامس والأخير من الحكي يكتسي أهمية بالغة، من حيث التطرق إلى العلاقات الاجتماعية المتردية كما سبق الذكر، إضافة إلى التطرق إلى أحداث تاريخية وقعت في العاصمة الاسبانية آنذاك، من قبيل المنفى الاختياري للسياسي المعروف سانشيز غيرا (Sánchez Guerra) ، والتئام المؤتمر الوطني للحزب الاشتراكي العمالي الاسباني الذي تمخض عن رفض أي تشارك مع حكومة يرأسها الديكتاتور خوصي أنطونيو بريمو دي ريبيرا. من أبرز التقنيات التي استعملها ماكس أوب في روايته هذه، لجوؤه إلى تقنية الرسائل المتبادلة بين العديد من الشخوص. يتعلق الأمر بتقنية معروفة يستعملها كبار الروائيين بغرض إيصال مجموعة من المضامين ذات أهمية قصوى، مثل التقنية التي اعتمدها الروائي الاسباني خوسي كادالسو (José Cadalso) في عمله الرائع “رسائل مغربية” أو (Cartas Marruecas) الذي تم إصداره في القرن الثامن عشر سنة 1774. وهكذا، فإن رسائل الملم باللغة والثقافة الاسبانية، الشاب أندري باريون (André Barillon) ، المتواجد في مدريد آنذاك وأحد شخوص الرواية، تعتبر من أروع مقاطع هذه الرواية. ففي إحدى الرسائل، يقوم بتمجيد دور الضيافة، وفي أخرى نجده يصف بدقة وإتقان متناهيين النقاشات المستفيضة التي كانت تستضيفها المقاهي الأدبية. ورسائله هذه كانت تحمل تواريخ إرسالها، ومكان كتابتها، مدريد 1926 و1927.
تعود أهمية الرواية إلى نجاح ماكس أوب في رصد التفاعل بين الفضاء الاجتماعي والظرفية التاريخية، وخير دليل على ذلك تميز الرواية بإظهار الدقة في توقيت حدوث المعطى التاريخي مع الخوض في تفاصيل الحياة اليومية للمجتمع المدريدي في تلك الحقبة. أما من ناحية التعبير اللغوي، فنجد الكاتب يعتمد عدة مستويات لغوية. ولعل لجوؤه في بعض فصول الرواية إلى اللهجة العامية التي كانت تتكلم بها ساكنة مدريد في عشرينيات القرن الماضي ليعتبر من أهم الخصائص التي تميز الشكل التعبيري للكاتب. استعماله لهذا النمط التعبيري لم يكن وليد الصدفة، بل كان الهدف منه تبيان نوعية اللغة المستعملة من طرف مختلف أطياف المجتمع الاسباني بحاضرة مدريد آنذاك. ففي نقاشات الأدباء والمثقفين في المقاهي الأدبية، نجد أن اللغة المستعملة لغة أكاديمية عالمة. أما الشخوص المنتمون لعامة الشعب فيستعملون في الرواية مختلف اللهجات العامية المتداولة، وفي هذا الإطار يجب التنويه إلى حضور مستويات عدة من اللهجة العامية الاسبانية. السبب هو بما أن مدريد هي العاصمة، أي القطب الاقتصادي والثقافي للدولة، فإن عددا كبيرا من سكان مختلف مناطق إسبانيا يؤمون للعيش فيها. لذلك نجد في الرواية تواجد مختلف لهجات التي يستعملها شخوص الرواية المنتمون إلى مختلف جهات هذا البلد (Max Aub, 1970, p.49).
2.3. رواية النوايا الحسنة أو “Las buenas intenciones “
تعتبر رواية “النوايا الحسنة” للكاتب ماكس أوب امتدادا لإرث أشهر وأكبر روائي إسبانيا في القرن التاسع عشر بينتو بيرز غالدوس. وهذا ما يفسر إهداء الرواية إلى ممثل الواقعية باسبانيا القرن التاسع عشر من طرف ماكس أوب. قام بكتابة هذه الرواية في ربيع سنة 1953، ونشرها سنة بعد ذلك. إنها رواية شخص كان يعتبر النية الحسنة هي الوسيلة للنجاح في الحياة. بطل الرواية هو أغوستين ألفارو(Agustín Alfaro) الابن الوحيد في عائلته. كان هذا البطل ضحية لقناعته بأن النية الحسنة هي قدره وسبيل سعادته، إلى أن تسبب له ذلك في الفاجعة. وكما يقول المثل فلطالما كان طريق جهنم معبدا بالنية الحسنة (Max Aub, 1970, p.52).
ليس من قبيل المبالغة التأكيد على أن رواية “النوايا الحسنة”، بما تحمله من سخرية مريرة، تعتبر عبرة وتحذير لكل أولئك الذي يعتقدون بأن عدم الالتزام هو الحل الصائب في الحياة. وهذا كان السبب الرئيسي لمأساة أغوستين ألفارو، بحيث أنه تخلى بذلك عن حريته الشخصية وجعل الآخرين يلتزمون عوضه، وبالتالي يقررن مصيره. ومن تم قام بربط مصيره بأبيه وعائلة أنخليتا (Angelita) الذين أجبروه على الذهاب إلى مدينة (Alicante)، بينما هو كان يفضل السفر إلى إيبيزا (Ibiza) بجزر البليار. كانت حياته كما مقتله مشروطتين بنوعية طبعه المتميز بغياب القدرة على اتخاذ القرارات. كان (Agustín) شخصا خجولا جدا وضحية لتربية قوامها نسق فكري يعتبر أن الطفل النموذجي هو الذي يتميز بالنوايا الحسنة ولا يقوم بأي شيء. وبسبب تلك التربية كانت حياته عبارة عن سلسلة من الانكسارات والإحباطات، مثل فقدانه عشيقته التي كانت الوحيدة القادرة على إنقاذه.
من جهة أخرى، فإن هذه الرواية الرائعة تعبر عن عدة فئات اجتماعية، حيث نجد البقالة والتجار عديمي الضمير، بالإضافة إلى حثالة ورعاع المجتمع. علاوة على مستوى الرداءة والانحطاط الذي يميز أصناف مهمشة من المجتمع.
تمتاز رواية “النوايا الحسنة” ببنية درامية متقنة التي لابد من الإشارة إليها. ففي الفصلين الأولين يتم طرح الإشكالية التي تقودنا مباشرة إلى عقدة القضية، التي تتألف من الجزء الأول الذي يمتد جغرافيا بين حاضرة مدريد وزاركوزا. بعد ذلك، يأتي الجزء الثاني الذي يتصادف مع تواجد (Remedios) بمدينة برشلونة، يتم التطرق فيه إلى قصة شخصية تولا أو (Tula) ولقاء الذي جرى بين المرأتين. أما الجزء الثالث فيختصر في معادلة (Agustín – Angelita) و الجزء الرابع يتعلق بالحرب وبمدينة مدريد التي لازالت ترزح تحت وطأة المأساة. الخاتمة والتي هي عبارة عن حل لعقدة القضية بطريقة غاية في الإتقان والروعة من طرف المبدع ماكس أوب. ويتجلى حل هذه العقدة في مقتل أغوستين بدون سبب، اللهم أنه لم يكن على وعي بما يجري. وفي الواقع، مأساة هذا الشاب ترجع أولا وأخيرا إلى تشبثه بالنوايا الحسنة كسبيل وحيد للعيش. وعلى خلاف ذلك، فإن أباه السيد ألفارو مريا خوسي María José) (Alfaro، كما يتبين في آخر الرواية، يوجد على طرف نقيض من ابنه، نظرا لنفاقه وميولا ته الشريرة (Max Aub, 1970, p.56).
3.3. روايةلويس ألباريث بترينيا أو “ Luis Álvarez Petreña “
تعتبر راوية لويس ألباريث بترينيا أول الأعمال التي كتبها ماكس أوب، حيث قام بنشرها سنة 1934. تتميز هذه الرواية بكونها رسائلية وتتضمن تحليليا عميقا لنفسية البطل لويس ألباريث بترينيا (Max Aub, 1970, p.62).
وهكذا؛ فأن لويس ألباريث بترينيا كان همه أن يكتب ويحب. لكنه لم يجد نفسه في أي منهما. إنه الشخص الذي يعاني وسط أزمة خانقة في ظروف تاريخية صعبة للغاية أدت به إلى وضع حد لحياته. هذا المآل المأساوي يتعارض مع رباطة الجأش، والقدرة على مجابهة الصعاب لكاتب الرواية ماكس أوب. يتعلق الأمر بنهاية تراجيدية لبطل الرواية التي تجعل القارئ يقارن بين الهشاشة النفسية للشخص المحوري في الرواية والصبر على المعاناة لكاتبها. وكأن ماكس أوب يريد أن يوحي لقرائه بأن الصبر والثبات على المواقف في أحلك الظروف كما عاشها هو، هي أرقى وأنبل سمات النضال، على خلاف بطل الرواية الذي انهار ولم يستطع مواجهة ظروف صعبة كما الحال بالنسبة للكاتب. ولإيضاح هذه الفكرة الأساسية في هذه الرواية، وجبت الإشارة إلى عزلة لويس ألباريث بترينيا وسببها، ليس راجعا كما يتبادر للدهن إلى الإحباط، ولكن إلى انعدام أي أفق للكتابة في إسبانيا، كما يتبين من خلال كلامه هذا:
“El ser escritor hoy en España es una continua desesperanza” (Max Aub, 1970, p.63).
أي أن فعل الكتابة في إسبانيا الراهنة يعتبر بمثابة خيبة أمل مستمرة.
إن انتحاره لا يرجع إلى مشاكل غرامية مع حبيبته لورا أو (Laura)، حيث إن علاقتهما لم تكن تعتريها مشاكل، وإنما إلى الإحباط الذي أصابه نظرا لقناعته أن الإبداع الأدبي لا قيمة له في إسبانيا.
فاجعة لويس ألباريث بترينيا لا يجب أن تدفع القارئ إلى الاستنتاج بأنها رواية رومانسية وعاطفية. يجب فهمها على النقيض من ذلك تماما. ذلك أن توالي الصفحات تجعل القارئ يتابع أول بأول وقائع الأزمة النفسية وهول المأساة التي أصابت بطل الرواية، عندما اختار وضع حد لحياته بلجوئه إلى الانتحار. والغرض من ذلك هو أن الكاتب يريد إيصال فكرة مفادها أن اختيار لويس ألباريث بترينيا لهذا المصير المحتوم كان خطأ فضيعا.
قراءة هذا العمل الإبداعي الأول لماكس أوب ضرورية جدا لفهم واستيعاب الكم الهائل والرائع لإبداعاته على امتداد كل مراحل حياته. ورغم أن رواية لويس ألباريث بترينيا تعتبر أولى باكورات أعماله الأدبية، فإن مستواها الفني يضاهي الأعمال الإبداعية الأدبية ذات الشهرة الواسعة حينئذ.
لقد أبدع ماكس أوب هذه الرواية سنة 1934، أي خلال حكم الجمهورية الثانية بإسبانيا الذي كان من أبرز داعميها. خلال سنة 1934، قام التحالف اليساري الذي كان يشكل هذه الحكومة التقدمية بإصدار قانون الإصلاح الزراعي. حيث شكل هذا القانون ثورة اجتماعية وسياسية كبيرة جدا، لأنه كان يتوخى القطيعة مع أبشع استغلال تعرض له العالم القروي في إسبانيا على مدى قرون. إذ كان تحالف الإقطاع والكنيسة بالإضافة إلى الطغمة العسكرية يستولي على كل مقدرات البلاد الفلاحية. شكل هذا الحدث التاريخي الشرارة التي جعلت هذا التحالف يشرع في التهيئة للانقضاض على الحكم بواسطة انقلاب عسكري ضد الحكومة الشرعية للجمهورية الثانية. وهذا ما وقع خلال الحرب الأهلية.
في رواية لويس ألباريث بترينيا التي يصادف نشرها إعلان قانون الإصلاح الزراعي يستشرف الكاتب ماكس أوب مخططات الحلف المناوئ للجمهورية الثانية، عبر رفضه للخنوع والإحباط لشرائح من المجتمع الاسباني والتي يرمز إليها بطل الرواية ألباريث بترينيا.
ولعل التضاد بين القدرة الفائقة على التحمل التي يتميز بها الكاتب والانهيار السريع لأحد شخوص روايته، وفي هذه الحالة لويس ألباريث بترينيا، يبين بما لا يدع مجالا للشك أن طريق الالتزام باللحظة التاريخية يتطلب مقاومة الصعاب وعدم الاستسلام. إن هذه الخلاصة تبرز بجلاء أهم ثابت بنيوي في كل إبداعات ماكس أوب، وكذلك في التزامه بالقضايا العادلة. ولهذا، بما أن رواية لويس ألباريث بترينيا هي أولى إنتاجاته الإبداعية الغزيرة، فهي خير شاهد على نضج الكاتب ووعيه بقضايا عصره منذ حداثة سنه. وهكذا فماكس أوب بقي طوال حياته وفيا لمبادئه والتزامه، علاوة على علو كعبه في التطرق إلى جل الأجناس الأدبية من رواية ومسرح وقصة قصيرة وشعر وكتابة السيناريوهات السينمائية والفنون التشكيلية.
لكل ذلك يعتبر ماكس أوب بحق من أهم المبدعين والمثقفين الذين أثروا وتأثروا بكل حدث جلل وقع في القرن العشرين. من الحرب العالمية الأولى التي أثرت أحداثها في تكوينه وهو يافع صغير السن، إلى المخاض العسير الذي عاشته إسبانيا في عشرينيات القرن الماضي. وكانت قمة عطائه في مجال الفكر والممارسة السياسية لخدمة القضايا العادلة إبان الحرب الأهلية الإسبانية ومقاومته الطغمة الفاشية بزعامة فرنسيسكو فرانكو.
- خاتمة
ختاما، وأخذا بعين الاعتبار الثقل والمكانة المتميزة التي استطاع ماكس أوب أن يتبوأها بين كتاب ومبدعي القرن العشرين، فإننا نؤكد أن الساحة الثقافية العربية هي بحاجة للتعرف على مبدع من طراز ماكس أوب، الذي يعتبر نموذجا للمثقف الملتزم بقضايا عصره. إن حياته الشخصية المليئة بالمعاناة والأحداث الجسام، والتي كان سببها الأساسي الانخراط في دفاعه المستميت عن القضايا العادلة التي تهم الإنسانية جمعاء، يجب أن تكون مصدر إلهام لكل كاتب يريد أن يكون صوتا معبرا يعكس الواقع الذي يعيشه. كما أن إبداعاته الغزيرة التي توائم بين المستوى الفني الرفيع والقناعات المبدئية التي لم يحد عنها يوما، تجعل منه مثالا يحتذى به، خاصة في عالمنا العربي الراهن الذي تواجهه تحديات مصيرية. ولهذا نؤكد مرة أخرى أن نموذج ماكس أوب، كمثقف عضوي وكمبدع ملتزم، يجب أن يحذو حذوه المثقفون العرب في هذا الظرف العصيب الذي يمر به العالم العربي.
وفي نظرنا من أهم الخلاصات التي يمكن استنباطها من هذه المقالة هي أن المثقف لا يجب أن ينعزل في برجه العاجي أو يتوارى إلى الخلف، بل عليه واجب الالتزام بهذه اللحظة التاريخية المأساوية. إن الأهمية القصوى لماكس أوب كنموذج تكمن أيضا في تجاوزه ومعالجته للمعضلات العرقية والمذهبية التي يعاني منها عالمنا اليوم عموما، والبلاد العربية خصوصا. وفي هذا الإطار، فإن ماكس أوب، اليهودي الديانة والمتعدد الجنسيات، كان الإنسان هو همه الأول بغض النظر عن ديانته أو منشئه أو عرقه.
من جهة أخرى، فإن قدرته الاستشرافية التي لا تضاهى تعتبر منارة، لأي مثقف همه الالتزام بالقضايا الإنسانية. فعلى سبيل المثال، خلال حكم الجمهورية الثانية، كان ماكس أوب يدافع بشراسة عن قيم اليسار التي كان يشاركها مع تحالف اليسار الجمهوري، ولكنه كان ينتقد منطق الحزب والولاء للزعيم. بحيث أن المثقف بالنسبة إليه يجب أن يكون حرا في فكره وعصيا عن الانصياع للتوجيهات المفروضة من قادة الأحزاب اليسارية. وكان ماكس أوب، وهو أحد رواد هذا الموقف الصائب، ممن تنبؤا بتجاوزات وأخطاء هذه الأحزاب التي يتقاسم معها القيم اليسارية، ولكنه كان دائم الرفض لتدجين مناضليها، وخاصة المثقفين منهم.
وصفوة القول، يمكن الجزم بأن ماكس أوب يعتبر نموذج المثقف الشاهد والفاعل في عصره، أي القرن العشرين، المليء بالأحداث الجسام. ولعل الأعمال الإبداعية التي سبق وأن أشرنا إليها في هذه المقالة لتعتبر جزء من كم هائل من إنتاجاته التي كرست وأبرزت مواقفه ونضالاته.
- المراجع:
- Aldás Nos, Eloías (2001). El testimonio literario de Max Aub sobre los campos de concentración en Francia (1940 – 1942). Castellón: Universidad Jaume I.
- Aragüés Estragués, Juan Manuel (2020). Sartre y la guerra civil española. Recuperado de: https://www.elsaltodiario.com/el-rumor-de-las-multitudes/sartre-y-la-guerra-civil-espanola.
- Camus, Albert (1967). El mito de Sísifo. Buenos Aires: Losada
- Claret, Jaume (2016). Breve historia de las Brigadas Internacionales. Madrid: Catarata.
- Malgat, Gérard (2007). Max Aub y Francia o la esperanza traicionada. Segorbe: Editorial Renacimiento.
- Malraux, André (1937). L’espoir. Paris: Gallimard.
- Max, Aub (1944). Diario de Djelfa. Valencia: Denes.
- Max, Aub (1966). Mis páginas mejores. Madrid: Gredos
- Max, Aub (1967). Pruebas. Madrid: Ciencia Nueva.
- Max, Aub (1970). Buenas intenciones. México: Aguilar.
- Max, Aub (1970). Fabula verde. México: Aguilar.
- Max, Aub (1970). La calle de Valverde. México: Aguilar.
- Max, Aub (1970). Luis Álvarez Petreña. México: Aguilar.
- Max, Aub (1970). Novelas escondidas. México: Aguilar.
- Max, Aub (1970). Yo vivo. México: Aguilar.
- Ossa Martínez, Marco Antonio (2015). Pablo Neruda y la guerra civil española: vivencias, relaciones, exilio y esperanza. ArtsEduca , (10), (72 – 95).
- Sánchez Zapatero, Javier (2010). Escribir el horror, literatura y campos de concentración. Madrid: Editorial Montesinos.
- Traychov Kotsev, Miroslav (2014). Aproximaciones a la literatura concentracionaria de Max Aub: Vernet, 1940; El limpiabotas del Padre Eterno y El cementerio de Djelfa. Valencia: Universidad de Valencia.
- Vallejo, César (1987). Poemas Humanos: España, aparta de mí este cáliz. Madrid: Editorial Castalia.
- Vinals, Carole (2006).André Malraux y Max Aub: dos visiones de la guerra civil española. En Bruña Cuevas, Manuel y alt. La cultura del otro: español en Francia, francés en España (745 – 754), Universidad de Sevilla.
· Fernández-Alfaro, Pablo La Porte (1997). El desastre de Annual y la crisis de la Restauración en España (1921-1923). Madrid: Universidad complutense de Madrid
· Malgat, Gérard (2011). Las obras testimoniales de Max Aub sobre la guerra de España: las difíciles memorias de la derrota y del exilio. AMNIS. Doi: https://doi.org/10.4000/amnis.1514.
· Putnam, Thomas (2006). Hemingway sobre la guerra y sus secuelas. Nacional Archives, 28 (1). Recibido de: https://www.archives.gov/espanol/prologue/hemingway.
[1]بدأ بالحرب العالمية الأولى، مرورا بحدث الانقلاب العسكري الذي قاده الديكتاتور خوصي أنطونيو بريمو دي ريبيرا والحرب الأهلية الاسبانية الطاحنة التي دامت ثلاث سنوات وخلفت مئات الآلاف من القتلى، وصولا إلى الحرب العالمية الثانية التي كان من ضحاياها حيث اعتقل من طرف عملاء النازية بفرنسا وعانى الأمرين، بعد ترحيله إلى معسكر الاحتجاز بجلفة بالجزائر. بالإضافة إلى النكبة العربية، حرب ستة أيام الموافقة ل5 يوينو 1967، حيث احتلت اسرائيل القدس الشرقية والضفة الغربية وشبه جزيرة سيناء. لذلك خصص لهذا الحدث، كتابه “يوميات سيناء”، حيث عالج فيه معاناة وآمال الجنود الشباب المصريين قبل وبعد النكسة.
[2]“يعود تكويني إلى الفترة الممتدة من 1917 إلى 1931. في سنة 1917 كان عمري أربعة عشرة سنة. في إحدى المرات تعرضت للضرب من طرف الحرس المدني الذين كانوا يمتطون صهوة الخيول. في ساحة إميليوا كاسطيلار بمدينة بلينسية، وكان لهذا الحدث أثر كبير على حياتي وجعلتني منذئذ مناصرا للمستضعفين”.
[3] “هناك بجلفة ولمدة سنتين عانى الأمرين من أجل البقاء على قيد الحياة. ورغم معاناته هذه، كان يتناول خفية قطعا من الورق يسجل فيها ملاحظاته وارتساماته والتي أثمرت ديوانه )يوميات جلفة(. وكما هي عادته يتجاذب أطراف الحديث مع الجميع حيث يتسلل إلى أفئدة وضمائر الصغار كما الكبار”.
[4]يعرف انقلاب سنة 1926 في إسبانيا أيضًا باسم سانجوانادا لأنه كان من المقرر إجراؤه ليلة 24 يونيو ، ليلة سان خوان ، انقلابًا فشل في محاولته لإنهاء دكتاتورية بريمو دي ريبيرا ، التي تأسست في إسبانيا عن طريق انقلاب آخر في سبتمبر 1923. هذه كانت أول محاولة انقلابية ضد الديكتاتورية.