
أقام قسم الدراسات الأدبية والفكرية بمركز جيل البحث العلمي أمسية يوم الخميس 16 سبتمبر 2021 ندوة فلسفية افتراضية احتفاءا بعضو لجنة تحكيم مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية الدكتور داود خليفة ،حيث تمت فيها مناقشة كتابه “من ابستيمولوجيا الاختزال إلى ابستيمولوجيا التعقيد: مع دراسة تحليلية لبراديغم التعقيد والفكر المركب عند إدغار موران”، وقد أدارت الجلسة رئيسة تحريرها د.غزلان هاشمي وبحضور محاضرين من الجزائر والعراق، حيث افتتحت الجلسة بقولها:
“بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، بداية أرحب بالحضور الكريم السادة الأساتذة الأفاضل محاضرين وحاضرين والطلبة والمهتمين ،أسعد اليوم وأتشرف باستضافة أسماء معرفية وازنة من أجل الاحتفاء وتكريم عضو اللجنة التحكيمية بمجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية الباحث الجزائري الدكتور داود خليفة، وذلك من خلال مناقشة كتابه المهم الموسوم بـ “من ابستيمولوجيا الاختزال إلى ابستيمولوجيا التعقيد: مع دراسة تحليلية لبراديغم التعقيد والفكر المركب عند إدغار موران”، وعليه وقبل أن أحيل الكلمة للسادة الأساتذة المحاضرين ،أفسح المجال للدكتور داود من أجل تقديم ملخص حول كتابه فليتفضل مشكورا”.
استلم د.داود الكلمة بين فيها أن الكتاب صدر عن دار النشر ضفاف بيروت ومنشورات الاختلاف الجزائر، عام 2019، هذا ووضح أنه احتوى على ثلاثة أقسام جاءت في 240 صفحة تقريبا ،حيث قال:”الكتاب يندرج ضمن السياق العام لفلسفة العلوم أو الابستمولوجيا المعاصرة، تناول مفكرا معاصرا هو الفرنسي إدغار موران، الذي يعتبر اليوم واحداً من كبار المفكرين الفرنسيين، ومن أكثر المفكرين والفلاسفة المعاصرين انتاجا، شملت دراساته وأبحاثه مقاربات في السوسيولوجيا، الأنثروبولوجيا، علم النفس، البيئة، التربية والتعليم، الإعلام، السياسة، التاريخ، الاقتصاد، القانون، بيولوجيا والمنظومات المعقّدة. فهو متعدد الاهتمامات ومتنوع في مجلات أبحاثه، لم يترك مجالا من مجالات المعرفة والحياة إلا وكان له إسهام فيه، بما في ذلك مشكلات الحياة اليومية والعلاقات الإنسانية، لدرجة يمكن معها القول إنه يشكل خلاصة الفكر الفلسفي المعاصر برمته.
ومن خلال اشتغاله على هذه الفروع المعرفية وما لاحظه من تشظي المعارف وانفصالها عن بعضها، كرّس إدغار موران جهده في السعي إلى وضع براديغم أو نموذج جديد لنمط جديد من التفكير، يجمع ما شتته العلوم الكلاسيكية، في فكر واحد هو الفكر المركب، الذي وحده يمكنه أن يجمع كل فرع من فروع المعرفة مع غيره من الفروع الأخرى دون أن يختزل أحدها في الآخر، وقد بدأ هذا المسعى منذ سبعينيات القرن الماضي مع كتابه الموسوعي “المنهج” بأجزائه الستة.
القسم الأول من الكتاب تناولنا فيه الفكر الكلاسيكي وابستيمولوجيا الاختزال، والذي رصـدنا فيه طبيعـة الانقلاب الجذري الـذي عرفـه العلـم إبان القرنين 16م و17م، أي منذ الثورة العلمية التي شهدتها أوربا والتي نتج عنها الانتقال من فلسفة الطبيعة تلك الفلسفة التي تأسست على العلم الأرسطي وتعاليم الكنيسة المسيحية، أين كان يتم تناول الطبيعة تناولا عقليا تأمليا، إلى علم الطبيعة الذي تأسس على المنهج العلمي واستقراء الطبيعة. مع تخصيص حيزا لأهم العلماء والفلاسفة الذين تركوا بصفاتهم في هذا التحول مثل كوبرنيك، كبلر، غاليلو، ديكارت، بيكون ونيوتن…
هذا التحول نتجت عنه منظومة معرفية في تلك الفترة سميت منظومة التبسيط والاختزال، والتي تقوم على مبادئ، أهمها:
1- مبدأ النظام / أحد المفاهيم الأساسية للعقل، حيث إن الاعتقاد بفكرة وجود “النظام” فكرة تكررت في كل المحاولات الفكرية لإيجاد تفسير معقول للعالم.
– السببية الخطية: مبدأ السببية ينطلق من فكرة أن هناك تناسبًا بين الأسباب والنتائج، إنه من مبادئ العقل والفلسفة والعلم على حد سواء، وهو أقدم مبدأ عرفه الإنسان في دراسة لما يحيط به من ظواهر، والذي يقتضي بان الظواهر لا تحدث من تلقاء نفسها أي دون أسباب أوجدتها، بل إن الظواهرلابد لها من حوادث تسبقها في الحدوث نسميها سببا أو علة، ولا بد لها من ظواهر لاحقة تلزم عنها نسميها بالناتج أو المعلولات، فالسببية إذن مبدأ مبني على فكرة التتابع الزمني
– الحتمية المطلقة: مجموع الشروط الضرورية لحدوث إحدى الظواهر، فتصبح كل ظاهرة متوقفة على ما يتقدمها من شروط. إن الحتمية – كما أشرنا – لم تنشأ إلا في القرن السابع عشر، تزامنا مع تطور العلم الطبيعي وتزاوجه بالمنهج الرياضي، فساد هناك تصورا علميا للكون يرادف تصور خضوعه للحتمية المطلقة. ثم أصبحت الفيزياء الكلاسيكية أحسن صياغة لهذا المبدأ.
– التجريد والتعميم / فالتجريد كان نتيجة لترييض الظواهر الطبيعية، فتصبح الظواهر الطبيعية مجرد ثوابت ومتغيرات داخل المعادلات الرياضية، أصبح العلم يهدف إلى الكشف عن العلاقات التي يمكن التعبير عنها كميا، وأن الظواهر تبدو أكثر بساطة بقدر ما يمكن تفسيرها رياضيا.
والتعميم أساسه الاستقراء أي ما يعرف بالتعميمات الاستقرائية. والاستقراء استدلال تصاعدي، ينطلق من حالات خاصة ثم تعميمها، فأصبحت صيغة القانون العلمي الذي يتوصل إليه الباحث تعميمية بالرغم من أنه انطلق في بحثه من مقدمات أو حالات جزئية، وبذلك ينطوي البرهان الاستقرائي على تعميم مبني على عدد معين من الملاحظات المحددة.
2- مبدأ الانفصال؛ وللانفصال صور كثيرة كالانفصال بين الذوات، الانفصال بين المعارف، الانفصال بين الظواهر، والانفصال بين الذات والموضوع، والذي تتجسد في الموضوعية بمعناها الكلاسيكي.
والقسم الثاني من الكتاب تناولنا فيه الأساس العلمي لابستيمولوجيا التعقيد (نظريات التعقيد)، وهنا أشير بشكل عام فيزياء الفوضى التي تهتم بالنظم العشوائية وغير القابلة للتنبؤ بها، باعتبارها لا تخضع للتفسير الخطي ولا للتحديد الحتمي، وفيزياء الفوضى كان منشؤها الديناميكا الحرارية الثرموديناميك وانتقل العلم من البحث عن النظام إلى البحث عن الفوضى الكامنة وراء هذا النظام. وعلم التحكم الآلي (السيبرنطيقا) الذي يعبر عن الطبيعة المعقدة للمعرفة العلمية المعاصرة، من حيث إن هذه النظريات أقحمت في التفسير اللاخطية والسببية الدائرية (اللاخطية) حيث تتفاعل الأسباب والمسببات وتتبادل الأدوار والتأثير فيما بينها، عوضا عن السببية الخطية ذات الاتجاه الواحد من السبب إلى النتيجة. وقد نتج عنه علم آخر هو الذكاء الاصطناعي سعيا للوصول إلى آلات الذكية التي يمكن أن تعوّض الإنسان في القيام ببعض الوظائف التي يقوم بها باستخدام قدراته العقلية. إثر ذلك استعرضنا نظرية النظرية الرياضية للإعلام ودور التشويش والفوضى في انتقال المعلومات، أي ميكانيزمات معالجة المعلومات ونقلها في كل أنظمة الاتصال، التي ليست أنظمة متجانسة، بل تتكون من عدة أنظمة فرعية التي ينبغي أخذها في الاعتبار لمعالجة ونقل المعلومات بكفاءة عالية. وفي الأخير استعرضنا نظرية النظم العامة، تلك النظرية التي تهتم بالتفاعل بين المنظومة ومحيطها، ولاسيما تلك المنظومة الحية التي تتميز بكونها أنظمة مفتوحة، أي تتفاعل مع محيطها عن طريق تبادل المادة والطاقة.
بالإضافة إلى علوم أخرى نذكرها بشكل عام: – ظهور الديناميات اللاخطية والميكانيكا الإحصائية التي لا يمكن نمذجتها على أساس الرياضيات الكلاسيكية،
هندسة جديدة (هندسة كسورية) تختلف اختلافاً جذرياً عن الهندسة الإقليدية سميت بـ”هندسة فراكتلات”.
– ظهور علوم الكمبيوتر، مما سمح بمحاكاة النظم الكبيرة جدا أو المعقدة ونمذجتها رياضيا.
– التطور البيولوجي، الذي بيّن ظهور الأشكال المعقدة من خلال آلية لا يمكن التنبؤ بها، بالإضافة إلى آلية التنظيم الذاتي في علاقة بعض الكائنات مع المحيط.
بشكل عام، هذه العلوم أو النظريات الجديدة كان لها قدرات هامة تفسيرية ومنهجية في مجال علوم الطبيعة. وقد كشفت عن وجه آخر للمعرفة العلمية، معرفة تضع التعقيد في الاعتبار، وتربـأ عن نفسها التبسيط والاختزال. ذلك أن التطورات التي عرفها العلم تبين مدى التعقيد الذي يميز بعض الظواهر وبعض مجالات العلمية، التي لا يمكن تناولها من خلال أدوات الابستيمولوجيا التقليدية، الأمر الذي أدى إلى التفكير في ابستيمولوجيا – ربما – بديلة هي “ابستيمولوجيا التعقيد”. وهي موضوع القسم الثالث من الكتاب.
أما القسم الثالث من الكتاب فتم تخصيصه لابستيمولوجيا التعقيد والفكر المركب عند إدغار موران، أشرنا أولا إلى المبادئ الثلاثة التي تقوم عليها هذه الابستيمولوجيا، وهي: مبدأ السببية الدائرية الذي يعرف بـ”الاستدعاء الذاتي” الذي ينص على تبادل مستمر للأدوار بين “الأسباب (العلل)” و”النتائج (المعلولات)”. ومبدأ الحوارية المعروف بـ”مبدأ الازدواجية”، الذي هو مبدأ الذي يغذي ويتغذى من قبل كلا الزوجين المتعارضين ويستوعب التناقض. والمبدأ الثالث هو “الهولوغرامية” أو ما يسمى مبدأ “الاحتواء المتبادل” الذي يُعنى بالعلاقة التبادلية بين الكل والجزء أو مماثلة الجزء للكل.
ثم تناولنا التعقيد والابستيمولوجيا الحوارية، وبيّنا أن هذه الابستيمولوجيا الحوارية التي هي ابستيمولوجيا مفتوحة، لا تسعى إلى الانفتاح على كافة المعارف العلمية بغية إيجاد تكامل بينها فحسب، بل إنها فوق ذلك لا تنغلق على المعارف غير العلمية، وهذه إحدى نقاط الاختلاف بينها وبين الابستيمولوجيا الباشلارية مثلا، التي ترى في المعارف غير العلمية عوائق ينبغي على الفكر العلمي الجديد تجاوزها. وهي من جهة أخرى لا تهتم كثيرا بالكشف عن الحقيقة، بقدر ما تسعى إلى الاهتمام بجوانب القصور في ميدان العلم. وهذه الابستيمولوجيا الحوارية تشكل إطار عقلاني، منفتحة على العلوم، من شأنها أن تعيد بناء النموذج المعرفي على أساس الحوارية بين الأنساق والتخصصات المختلفة.
– مبدأ تنظيم المعرفة وشروط انتاجها يشدد إدغار موران الأهمية على النظر في شروط إنتاج المعرفة ذاتها، شاجبا تفكك المعارف وانفصالها، فيرى إنه ينبغي على المعرفة في سعيها لبناء ذاتها أن تستند للسياق، للشمولي، للمركب وللتعقيد، إذ أن المعرفة العلمية هي معرفة شديدة التنظيم ومؤسَسَة على التعقيد فحص أدوات المعرفة فحسب، بل وتبحث في شروط إنتاج أدوات المعرفة: العصبية الدماغية والاجتماعية الثقافية، هذا البحث يستلزم بالضرورة النظر في مكتسبات ومشاكل المعارف العلمية الخاصة بالدماغ، علم النفس المعرفي، الذكاء الاصطناعي وعلم اجتماع المعرفة، من حيث إن المعرفة مكون مركب من ما هو بيولوجي، فيزيولوجي، نفسي وثقافي.
وبشكل عام، يكون التعقيد الذي ينادي به موران بمثابة أداة معرفية للمضي قدما في المعرفة الحقيقية التي يتقاطع فيها النظام والفوضى، العقل والمادة، الإنسان والطبيعة، الذات والموضوع، الراصد والمرصود، الواحد والمتعدد. وبوجه عام يسعى موران لإعادة بناء المنظومة المعرفية بناءً جديدا من شأنه أن يُؤسس لاتصال وثيق بين ثقافتين متباعدتين اليوم بشكل كبير: الثقافة العلمية والثقافة الإنسانية.
إن ابستيمولوجيا التعقيد عند موران لم تكن سوى تطوير لأسس نظرية المعرفة بإدخال عنصر التعقيد في صلب هذه المنظومة المعرفية، وبالدراسة النقدية لعملية بناء وتنظيم المعرفة العلمية، ومن هنا كان اقتراح نموذج معرفي يستند إلى التعقيد، حيث يعطي هذا النموذج الإطار الإرشادي والنظري والتوجيهي والمنهجي لعملية إنتاج المعرفة.
سعى موران من خلال براديغم التعقيد والفكر المركب إلى تحليل الفكر العلمي المعاصر من أجل تقديم تفسير يحترم من جهة خصوصيات كل نطاق المعرفة، ومن جهة أخرى السعي إلى المحافظة على العلاقة التي تجمع كل التخصصات من فلسفة وفيزياء وعلم اجتماع وانثروبولوجيا وغيرها.
ووصلنا ختاما مع إدغار موران إلى أن معرفة المعرفة تتطلب فكرا معقدا وتوليد منهج قادر على التفكير في التعقيد، يستطيع إنجاز مرحلة حاسمة في قلب مشكل المعرفة، حيث إن الشروع في علم جديد ينبغي البدء دائما من خلال علوم التعقيد، يفترض هذا المسعى بضرورة إصلاح الفكر بصورة حتمية، إصلاح تصبح فيه المعرفة بالضرورة سياقية وشمولية، بعيدة عن التجزئة والفصل والاختزال”.
أحالت رئيسة الجلسة الكلمة إلى د. محمود خليف خضير الحياني من الجامعة التقنية الشمالية/العراق والذي قدم مداخلة موسومة بـ ”براديغم المركب ونظرية الكاوس قراءة في كتاب ابستيمولوجيا التعقيد والفكر المركب عندإدغار موران ”.،إذ تطرق إلى مصطلح الفوضى وجذوره في الأساطير اليونانية والعلاقة الجدلية بين النظام والفوضى ،ودور الفلسفة اليونانية التي اعتنت بمفهوم اللوغوس وفكرة تحديد السبب،والتي انتهكت من قبل الفلسفة الهرمسية والغنوصية ،هذا وعمل عصر التنوير/العقل على تطوير المجتمع الغربي من خلال العناية بالعلوم التقنية التي سيطرت على المجتمع ،وقد حاولت مدارس علم الاجتماع والفلسفة في القرن العشرين معالجته نقدا واحتواءا ،كما أسهمت نظريات مابعد الحداثة في البحث عن الجانب النظري في الحياة والعلوم ،ناهيك عما قدمه علماء الاجتماع والفلسفة من نظريات تهتم بالتواصل والحوار والشمولية والتركيب والتعقيد بغرض احتواء الواقع المتناقض والمتأزم ،الذي تحول إلى واقع رقمي متشيء وهو مايتماهى مع طرح موران.
قدم د.بوغالم جمال من جامعة الشلف/الجزائر مداخلة موسومة بـ “منظومة المعارف المعاصرة من التجزيئية إلى التكاملية من خلال كتاب ابستيمولوجيا التعقيد والفكر المركب عند إدغار موران ”.
بين أن مداخلته ترتكز حول أربعة تساؤلات مركزية ،ويمثل الجواب عنها جوهر ابستمولوجيا التعقيد عند موران ورؤيتها لنظام المعرفة المعاصرة ، كما تمثل في الوقت ذاته الإشكالية العامة لهذا الكتاب،وقد حددها الباحث في:”
- أولا: لماذا الفكر المعقد العابر للحدود المعرفية (الحوارية بين المعارف)؟
يسعى ادغار موران إلى اعتماد مقاربة تشبيكية بين المعارف، تكون عابرة للحدود المعرفية المتداولة. ويؤكد أنه أدرك هذا الأمر عندما كان يعمل على كتابه الأوّل (الإنسان والموت) الذي نُشِر عام 1951، ومما أعابه على الدارسين آنذاك اقتصارهم على زاوية النظر الدينية، في حين أن أي معضلة إشكالية ذات دلالة عميقة في حياة الكائن البشري لا يمكن تناولها بواسطة مبحث معرفي مفرد أحادي النظرة، إذ الأمر يتطلّبُ دوماً قدراً من الفكر العابر للحدود المعرفية الراسخة.
ثم ناقش هذه الموضوعة الأساسية في سلسلة كتبه المعنونة (بالمنهج) ومفادها إن المعرفة موزّعة على حقول متباعدة عن بعضها بطريقة صارمة، إذ عبر عن ضرورة إيجاد أدوات مفاهيمية تجعل تعشيق هذه الحقول المعرفية مع بعضها أمراً ممكناً.
ثانيا: ماهي صورة المعرفة في منظومة التبسيط والاختزال؟
تناول الكتاب في فصله الأول هذه المسألة بشيء من التفصيل ،ومفادها أن صورة المعرفة في منظومة الاختزال إنما تعيش في شقق متجاورة منفصلة عن بعضها في حين أنها ينبغي أن تكون مرتبطة بطريقة بينية متداخلة.
إن واقع المعرفة الاختزالية موغل في التخصص والتجزيئية متجاهل لطابع التعقيد للواقع ومستوياته وهذا منتج عنه ما يسميه موران العمى المعرفي.
إن النظام العقلاني للمعارف، كما ظهر بواسطة الفلسفة الوضعية المحكومة بالفكر الاختزالي، يأخذ شكل علاقة اعتماد وسلطة. ويتبين لنا أن التبعية الموجودة بين حلقات سلسلة العلوم غير قابلة للعكس والارتداد، ووضع النظام الهرمي للعلوم يأتي من النظر إليها بصفتها سلسلة متصلة، تتجه نحو غاية معينة، الفكرة التي لا تلقى قبولا في العلوم المعاصرة.
ثالثا: ما هو الإطار المفاهيمي لتكاملية المعرفة عند موران؟
وهو ما يمثل جوهر الفصل الثاني من الكتاب، يرتكز على مفردات مفتاحية في منظومة التعقيد المورانية أهمها:
- التعقيد:
يعرف موران التعقيد أنه نسيج من المكونات المتنافرة المجمعة بشكل يتعذر معه التفريق بينها، إنه يطرح مفارقة الواحد والمتعدد،
فمنطق التعقيد يحاول تفسير ظواهر لا يمكن تفسيرها استناداً إلى النظريات التقليدية الكلاسيكية، بل يستند على دراسة المجموعات الديناميكية، لا عن طريق تقسيمها إلى أجزاء، كما يحمل التعقيد بشكل مقلق سمات الخليط وغير القابل للفصل والاختلال والغموض واللايقين.
- الحوارية
بغية تحقيق فهم أفضل لمثل هذا النمط من التعقيد المفاهيمي العابر للحدود المعرفية يتوجّب تأسيس عدد من المبادئ أبرزها ما يدعوه موران المبدأ الحواري، الذي تُفهَمُ الوقائع بموجبه بأنها متكاملة ومتضادة في الوقت ذاته .
وفي سلسلة كتبه ” المنهج ” يقدم لنا مثالا مستقى من الثقافة الأوربية التي تشكّلت من التضاد المتكامل الناشئ من ثقافتين متنافستين: الثقافة اليهودية – المسيحية في مقابل الثقافة الرومانية – الإغريقية. حيث تشكّلُ هاتان الثقافتان معاً كلاً واحداً معقّداً يوصفُ بالثقافة الأوربية والتي في إطارها تبقى هاتان الثقافتان ثنائية لا يسعى أحد إعادة هيكلتها أو تعديلها.
- العلاقة بين الكلّ والأجزاء : (مبدأ الهولوغرامية)(أو الاحتواء المتبادل بين الجزء والكل)
أي نظامٍ ليس مجموع أجزائه فحسب، لأنّ التنظيم الجديد للكلّ ينتِجُ صفاتٍ لا يمكن أن توجد في أجزائه. هذا الأمر صحيح في تنظيم الكائنات الحية، والبعد الهندسي للظواهر الطبيعية كما بينته هندسة الفراكتال.
رابعا: لماذا ابستمولوجيا التعقيد- الحوارية- بديلا لابستمولوجيا البساطة والاختزال؟
ابستمولوجيا التعقيد حوارية مفتوحة تتجاوز عقلانية البساطة والاختزال التي صاغها ديكارت والتي تفصل الذات عن الموضوع وتحصر كل طرف داخل دائرته الخاصة .
إن الفكر المعقد وحده يسمح لنا بتمدين معارفنا بتعبير موران، لأنه يفتح أبواب المشاركة بين العلماء وفي مختلف التخصصات، أما التقسيم الكلاسيكي للمعرفة إلى فروع إنما هو تحريف لبنية المعرفة، والذي كان نتيجة للمبدأ الديكارتي القائم على الانفصال بين الفكر والمادة، والذي ترجم في ميدان العلم إلى التخصص، ثم إلى التخصص الدقيق في ميادين المعرفة، ولاشك أن هكذا تقسيم من شأنه أن يقف عائقاً أمام التقدم العلمي ويمنع أي تكامل بين المعارف، حيث إن الانفصال بين المعارف وانعزالها عن بعضها البعض راح يفضي إلى نشوء فراغات هائلة فيما بينها، وهو ما أدى إلى حجبنا عن إدراك عدد من الوقائع والمشاكل الأساسية والحيوية، ومن المعلوم أن العلوم لا تتقدم إلا بعد تحطيم الحواجز بينها، لأن كسر هذه الحواجز هو ما يمكن كل علم من أن يستفيد من العلوم الأخرى”.
قدم د.ياسين سرايعية من جامعة سوق أهراس/الجزائر مداخلة موسومة بـ “ابستيمولوجيا العلم الحديث وحتمية تقويضها في كتاب ابستيمولوجيا التعقيد والفكر المركب عند إدغار موران لداود خليفة”.
بين فيها أن الباحث سعى إلى مساءلة وتقصي الأبعاد الفلسفية في كتابات إدغار موران،إذ ركز على البعد الابستيمولوجي من خلال استبعاد الرؤية المنبنية على الاختزال والتبسيط كماهي في الابستيمولوجيا الكلاسيكية ،حيث حاول تأسيس بديل منخرط مع المعطى الإنساني متمثلا في ابستيمولوجيا التعقيد ،وقد تناولت مداخلته عدة نقاط هي : أولا- الحتمية وانتصار العقل ـ ثانيا- نظريات التعقيد: التي تحدث فيها عن نظرية الكاوس من النظام إلى الفوضى ، نظرية التحكم الآلي / السبرنتيقا ، نظرية الإعلام ، نظرية النظم العامة ـ ثالثا: ابستيمولوجيا التعقيد وبراديغم وتفكيك الحتمية العلمية لدب إدغار موران ـ رابعا: إدغار موران وحيثيات الفكر المركب وتقويض ابستيمولوجيا العلم الحديث ـ ليخلص إلى جملة نتائج من خلال قوله :” استطاع الباحث خليفة داود أن يميط اللثام عن الفكر المعقد لدى إدغار موران الذي احتفل مؤخرا بعيد ميلاده المائة بكتاب درس مائة سنة من الحياة، وأهمية الابستيمولوجيا والبراديغم المركب لديه، وتشابكه مع الرهانات الفلسفية والعلمية المعاصرة، وآليات تجاوزه لمرتكزات ابستيمولوجيا العلم الحديث/ الفلسفة الكلاسيكية التي عمرت ردحا من الزمن، وتقويضه لها، وبهذا الصنيع عادت الفلسفة مع موران إلى أصل الإنسان وعلاقته بالكون وبعلاقاته المعقدة مع بيئته ومواقفه من خلال علاقاته الجزئية والكلية والتكاملية بعلمه الواقعي والميتافيزيقي.
استطاع داود بانفتاحه على ابستيمولوجيا التعقيد أيضا أن يملأ هوة كبيرة عمقتها الابستيمولوجيا الكلاسيكية التي خلقت فجوة سحيقة بين الفلسفة والعلم وبين التعدد والحياد وبين المادة والعقل وإعطاء أنساق فلسفية وعلامات صورية ذات رموز جبرية مختزلة وبسيطة لا تتسم بذات الانفتاح الذي تتسم به المعرفة العلمية في تلاقيها بابستيمولوجيا التركيب.
وبالتالي تظهر الجدة لدى داود في كشفه عن ابستيمولوجيا التعقيد لدى موران ليس في جدة المضامين بل هي جدة استراتيجية تصبح الفلسفة بموجبها في علاقتها مع المعرفة العلمية ونظرتها لها و في علاقتها بالكون والميتافيزيقيا وتقويضها للأحادية محل تشابك وفوضى وصدفوية ولا متناهية، وهذا ما توصل إليه الباحث من أن ابستيمولجيا موران ليست ابستومولوجيا في ذاتها بل هي نظام وإطار إرشادي وتوجيهي ومنهجي لعملية إنتاج المعرفة”.
أما د.بن حجبة عبد الحليم من جامعة الشلف/الجزائر فقدم مداخلة موسومة بـ “قراءة في المفاهيم المؤسسة لبراديغم التعقيد والفكر المركب من خلال كتاب ابستيمولوجيا التعقيد والفكر المركب عند إدغار موران.
حيث طرح تساؤلا مفاده :لماذا قراءة في المفاهيم المؤسسة لبراديغم التعقيد والفكر المركب عند إدغار موران؟، أجاب:”مرد ذلك إلى أن المؤلف اتجه رأسا إلى إلقاء الضوء على بعد واحد من أبعاد فلسفة إدغار موران، وهو البعد الابستيمولوجي كما صرّح بذلك المؤلف في مقدمة كتابه. وهذا ما جعل العمل كله متمركزا حول هذا الموضوع، وهذا التركيز من شأنه أن يجعل العمل سهل الفهم والتحليل.
المفاهيم الأساسية التي وردت في المؤلف كان أهمها مفهوم “التعقيد” باعتباره المفهوم الأساسي الذي قامت عليه الابستيمولوجيا المورانية، والذي كان منطلقه قصور الرؤية التبسيطية الاختزالية في فهم الواقع والوقائع، هذه الرؤية (أي الاختزالية) التي أفرد لها المؤلف القسم الأول من الكتاب.
تستدعي الضرورة المنهجية التأصيل الكرونولوجي والتاريخي للأفكار والمعارف والنظريات، باعتبارها وعاء يمثل خلاصة معانٍ وخبرات سابقة في نسق معرفي له هويته التي تشير إلى تاريخه وصيرورته وتطوره الدلالي.
الاختزالية شكلت نسق معرفي ساد العلم الكلاسيكي منذ القرن 16م إلى نهاية القرن 19م، فكان المنحى هو تفسير عدد كبير من الظواهر أو الوقائع واختزالها في عدد من المبادئ أو القوانين التي تحكمها كنتيجة لخضوع الكون للنظام (السببية، والحتمية والتعميم).
المؤلف قام بمساءلة الأسس العلمية لمنظومة التعقيد، والتي أشار من خلالها إلى مجموعة من النظريات العلمية المعاصرة التي تبين الطبيعة المعقدة للمعرفة العلمية كنظرية الفوضى (الكاوس)، علم التحكم الآلي، الذكاء الاصطناعي، النظرية الرياضية للإعلام ونظرية النظم العام.. والهدف من ذلك هو التأسيس العلمي للتعقيد وإعطائه المشروعية العلمية.
إن الدعوة إلى الفكر المركب في نظر إدغار موران مفاده تجاوز ما وراء ادعاء المعرفة (للعالم – الإنسان) بالصورة التبسيطية الاختزالية واليقينية التي كانت سائدة من قبل، فمادام الكون وظواهره نسيج متشابك من الأحداث والأفعال المتنافرة المتسمة بالتعقيد والفوضوية واللاخطية، فإنه لا مكان للنظريات العلمية الشاملة والتفسيرات القطعية، الأمر الذي يفتح المجال لـ: اللامتوقع واللاممكن الذي ينبغي أن يكون له حضوره في النظريات العلمية المعاصرة.
أخيرا، إن الأخذ بالتعقيد في صلب المنظومة المعرفية معناه إعادة بناء المعرفة وتجديد آلياتها ومناهجها، بدراسة مختلف الارتباطات والتفاعلات بين فروع المعرفة، من أجل تكوين رؤية تأخذ كافة الأبعاد للموضوعات المدروسة”.
شكرت رئيسة الجلسة د.بن حجية على هذا النقاش العميق لهذا الكتاب ،ثم فتحت باب التساؤلات والنقاش قبل أن تحيل الكلمة إلى د.داود للرد على التعقيبات والتساؤلات.
تساءل د.جمال قائلا:إن الباحث ذكر مايسمى بالاختزالية ووجد لها الوجه الفلسفي والعلمي، ولكن عندما تتبعت عناصر الكتاب في الفصل الثاني مباشرة وجدته يتحدث عن الأساس العلمي لابستيمولوجيا التعقيد، أليس له أساس فلسفي ؟،هل الأفكار التي أسس لها من بنات أفكاره؟ ألم يتأثر بأي اتجاه؟.
هذا ووضح أن الحوارية ليس إدغار فقط ينفرد بها بل صاحب كتاب تواصل وخماسيات هرمس ميشال سال كان مجايلا لادغار وكلاهما ينتميان لفلسفة الاختلاف والتعدد والتي سادت خاصة في فرنسا والتي تؤمن بفكرة التبعثر والتي القت بظلالاها على هؤلاء الفلاسفة .
وأما د.محمود: فتساءل إن كان يعتقد موران نظرية الكاوس ثقافة أو إيديولوجيا ؟.
بينما طرح د.ياسين تساؤلا مفاده:هل هو بفضل حديثه عن المركب أعاد الدرس إلى ذاته؟ ،هل ينتمى إلى جيل مابعد البنيوية؟ وهل أعاد الفلسفة الإنسانية إلى الذات وإلى الدرس الابستيمولوجي بعد سيطرة التقنية والاختزال إلى أبعاده الإنسانية؟ .
في رده على د.جمال بين د.داود أن فيلسوف التعدد هيراقليطس تعلم منه هيجل الجدل كذلك ،وقد أخذ موران فلسفيا فكرة التعدد منهما ،فهو ليس الوحيد الذي تكلم عن منظومة التعقيد والتركيب كما أشار د. بوغالم ، أما في رده على د.محمود وضح أنه انتقد العلوم المعرفية سواء كانت طبيعية أم إنسانية مختزلة ،فالعلم الكلاسيكي اختزالي من شأنه أن يضمر مختلف الأبعاد عن الإنسان ،أي يختزله في بعد واحد في حين أنه مركب ،كما أن العلم لا يفصل عن الإيديولوجيا وإن كان شموليا في فكره فذلك يجعله لا يحصر في تخصص محدد فهو متعدد الاهتمامات.وأما عن تساؤلات د. ياسين فبين أن إدغار أدى إلى تقدم في الدرس الفلسفي المعاصر ،لابد أن يكون مراعيا لكل الأبعاد الثقافية الاجتماعية السياسية..فقد أعاد ترتيب المنظومة المعرفية وفق أساس جديد هو التعقيد والتركيب …
بعد أن أنهى المناقشون تدخلاتهم والمحتفى به تعقيباته ،ختمت د.غزلان الجلسة قائلة:”في ختام هذه الجلسة المعرفية القيمة أقول :سعدت كثيرا اليوم بهذا الحوار العقلاني الفلسفي الجاد والرصين ،وبهذه القراءات المحاورة التي اتسمت بالعمق والخوض في ماوراء الخطاب أو في ماسكت عنه ،أشكر للسادة الأساتذة المحاضرين محاضراتهم ومناقشاتهم ،أشكر الدكتور داود وكل الحضور الكريم وعلى أمل لقياكم مرة أخرى أترككم في رعاية الله”.