التنشئة الاجتماعية والتغير الاجتماعي: التنشئة الهدرية لملكة التفلسف لدى الأطفال
The Social change and the wasteful upbringing of children’s philosophical gif
د. لحسن دحماني/جامعة ابن طفيل، القنيطرة، المغرب
Dr. Lahcen Dahmany / University of Ibn tofail, Morocco
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 77 الصفحة 123.
ملخص:
إن التغير الذي عرفته الأسرة المغربية من الممتدة التقليدية إلى الأسرة النووية الحديثة، ساهم في تغير التنشئة ووسائطها المتعددة، كما أن ظهور وسائط جديدة: وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، سحبت البساط من تحت الوسائط التقليدية –خاصة الأسرة- فعلى الرغم من التطور العلمي والتقني، والتغير الذي عرفته الأسرة المغربية، إلا أن التنشئة الاجتماعية أصبحت أكثر هدراً، نتيجة ارتماء الأطفال في العالم الافتراضي دون رقابة أو توجيه، لينفتحوا على العالم السبيراني بإيجابياته وسلبياته.
الكلمات المفتاحية: التغير الاجتماعي، التنشئة الهدرية، التفلسف، الطفل.
Abstract:
The shift that the Moroccan family has undergone, from traditional to nuclear one, has contributed to the change of socialization process and its multimedia. The appearance of new media such as social and informational media has overwhelmed the traditional forms. Despite the scientific and technical progress and the change in the family institution, the socialization process has become a loss. The children get exposed to a virtual world without being aware of its advantages and drawbacks.
Keywords : social change, wasteful upbringing, philosophical thinking, the child.
على سبيل الاستشكال:
لقد ساد الاعتقاد أن العقل وحده القادر على إنتاج الأفكار وحل المشكلات وفهم العالم، والسيطرة على الطبيعة كشعار رفعه ديكارت في الفترة الحديثة.[1] وبالنظر إلى هذه الإمكانات العقلية التي يتميز بها الإنسان، فهو يتميز أيضاً بحياة وجدانية وانفعالية وأشكال تفاعلية بينذاتية وبين الغير والعالم. من هنا ارتأينا أن نقارب موضوع الطفل في علاقته بمنشئه وتأثيره عليه. فالطفل لا يتوفر على ذكاء عقلاني معرفي فقط، بل على ذكاء وجداني وانفعالي[2]، وهو ذكاء يساعده على حل مشكلات الحياة اليومية. كما أن الطفل، من خلال هذا الذكاء المتعدد، يخوض في عملية تساؤلية فلسفية وجودية عميقة جداً من قبيل: من أنا؟ من أين أتيت؟ ما مصيرنا بعد الموت؟… وهي أسئلة محرجة بالنسبة لغالبية الآباء والأمهات، كما هو الأمر بالنسبة لجميع وسائط التنشئة الاجتماعية التي تروم إنشاء النشء بمعايير موحدة، ضاربة عرض الحائط الاختلافات العقلية والوجدانية للأطفال، ومتجاوزة بذلك كل الأسئلة التي تتولد لدى الطفل. إن الطفل فيلسوف بالفطرة، لأنه يندهش أمام جميع الظواهر والوقائع التي تظهر للراشدين على أنها شيء عادي، ليس لأنها كذلك، وإنما بفعل التكرار والعادة التي جعلت منها شيئاً مألوفاً، حتى وإن كان غير مفهوم بالنسبة إليهم، لذلك فتساؤلات الأطفال كثيراً ما تضعنا أمام جهلنا، لتعيد إلينا الدهشة والاستغراب كبداية للتفلسف. إن الطفل هنا يمتلك أدوات التفلسف: التساؤل حول الذات، والدهشة…إلخ. لكن كيف يفقد الطفل هذا الحس التساؤلي؟ لماذا لم يتطور ليصبح شغفاً معرفياً ووجدانياً يبدع من خلاله وينفتح على الإبداع الفلسفي والعلمي والفني الجمالي؟ بمعنى آخر، كيف يصبح الطفل شخصاً عادياً نمطياً يرى كل الأشياء بنظرة نمطية تجعل من كل الوقائع والظواهر أمراً عادياً، بعدما كان أمراً مدهشاً وغريباً، يدفعه إلى التساؤل والاستغراب؟ ما دور التنشئة ووسائطها المتعددة في هذا التغير؟ وهل تشكل التنشئة الاجتماعية حاجزاً أمام مواصلة التساؤل والبحث لدى الأطفال؟ وما دور وسائط السبيرانية في تنميط شخصية الطفل؟
- تحديدات مفاهيمية:
- التنشئة الاجتماعية:
تضعنا التساؤلات أعلاه في قلب عملية التنشئة الاجتماعية، أي “تلك العملية أو السيرورة التي يكتسب الفرد من خلالها العناصر السوسيوثقافية لمحيطه، المكونة لبنية شخصيته تحت تأثير التجارب والفاعلين الاجتماعيين، ومن هنا يتكيف مع البنية الاجتماعية التي يعيش فيها”[3] فعملية التنشئة الاجتماعية هي اكتساب للمعارف والنماذج والقيم والرموز، وباختصار اكتساب طرق الفعل والتفكير والإحساس … وتبدأ هذه العملية منذ ولادة الفرد وتستمر طوال حياته، ولا تنتهي إلا بفنائه.”[4]
إذا فالتنشئة الاجتماعية هي تلك العملية التي تهدف إلى تشكيل هذا الكائن (الإنسان/الطفل) من كائن بيولوجي إلى كائن اجتماعي، أي هي قناة الدمج التي تمكن الطفل من تشرب القيم والأدوار الاجتماعية داخل مجتمع ما من أجل أن يصبح فاعلاً فيه، أي أن يسعى الطفل إلى إثبات ذاته، إما عن طريق العناد عندما يقابل بالرفض من طرف الأسرة التي لا تعيير اهتماماً لميولاته، أو من خلال تعزيز ثقته بنفسه عبر المحاورة والمصاحبة وإذكاء روح المبادرة والإبداع، هذا الأمر يضعنا أمام نوعين من التنشئة الاجتماعية: أولاً تنشئة اجتماعية تقليدية هدرية ترتبط بالطاعة والولاء والسكوت في حضرة الكبار، أو تنشئة حديثة ترتبط بضياع الطفل بين الوسائط التكنولوجية المتعددة، حيث تحل الصورة محل الخيال والإبداع. ثانياً؛ تنشئة اجتماعية حافزية: تحفز الطفل على استعمال عقله والعمل على المبادرة والإبداع وإذكاء الفضول المعرفي والحس التواصلي بينه وبين ذاته وبين الغير بصفة عامة.
إن التنشئة الاجتماعية هي إحدى قنوات التغيير الاجتماعي للمجتمع، سواء على مستوى البنيات والقيم والأدوار وغيرها، إذا ما التغير الاجتماعي؟
- التغير الاجتماعي:
يعرف “جي روشي” التغير الاجتماعي باعتباره كل تحول Transformation في البناء الاجتماعي في الزمن ولا يكون مؤقتاً سريع الزوال لدى فئات واسعة من المجتمع ويغير مسار حياتها.”[5]
إن التغير الاجتماعي ظاهرة تمس البناء الاجتماعي، أي التغير الذي يحدث أثراً عميقاً في المجتمع، وهو الذي يطرأ على المؤسسات الاجتماعية: كالتغير الذي يطرأ على بناء الأسرة، أو على النظام الاقتصادي، أو السياسي وما إلى ذلك. هذا التغيير هو الذي يمكن تسميته بالتغير الاجتماعي.
إن قياس التغير لا يتأتى إلا من خلال الوقوف على الحالة التي كان يوجد عليها المجتمع سابقاً وكيف أصبح اليوم. فالتغير الاجتماعي إذن هو كل تحول يطرأ على البناء الاجتماعي، في النظام، والقيم، والأدوار، وما يمكن مشاهدته خلال فترة زمنية معينة.
يرتبط مفهوم النمو بمفهوم التغير ارتباطاً وثيقاً، ذلك أن التغير الاجتماعي له جوانب عديدة، ومن هذه الجوانب: الجوانب الكمية التي يمكن أن تقاس من خلال معدلات النمو التي تعتبر أحد المؤشرات الهامة للتغير الاجتماعي، فالتغير في حجم السكان أو تركيبهم، والتغير في حجم الناتج القومي، يمكن أن تعد مؤشرات للتغير الاجتماعي. ولكن وجود هذه المؤشرات وغيرها لا يعبر عن كل جوانب التغير الاجتماعي، فدراسته تحتاج إلى بيانات أكثر تفصيلاً حول التغيرات الكيفية في العلاقات الاجتماعية وفي ثقافة القيم.
فالتغير الاجتماعي هو كل تحول يحدث في النظم والأنساق والأجهزة الاجتماعية سواء أكان ذلك من الناحية المورفولوجية أو الفزيولوجية خلال فترة زمنية محددة، بفعل عوامل خارجية أو داخلية، مثل اكتشاف موارد الثروة أو الهجرة أو نشر التعليم أو الاختراعات التكنولوجية.[6]
التغير الاجتماعي هو الانتقال من حال حال، وقد يكون هذا التغير تقدمياً أو تأخريا، ثابتاً أو مؤقتاً، مخطط أو غير مخطط، موجهاُ أو غير موجه، مفيداً أو ضاراً. فالتغير إذا هو العملية التي يتحول بها نظام المجتمع من نموذج إلى آخر، إن هذا التغيير ليس منعزلاً عن فعل الفاعلين، لذلك وجب الاهتمام بعملية التشئة الاجتماعية باعتبارها قناة من قنوات التغيير، لذلك وجب العمل على إذكاء الروح الفلسفية لدى الناشئة باعتبارهم فاعلين مستقبليين. إذا ما التفلسف؟
- التفلسف:
يعتبر التفلسف فعل معرفي يقوم على أساس الدهشة والشك والتساؤل والنقد، باعتبارها آليات فعل التفلسف. فالمتفلسف هو ذلك الشخص الذي لا ينظر إلى الظواهر والأحداث بعين عادية، بل ينظر إليها من خلال الآليات السالفة الذكر، فالفيلسوف ليس شخصاً عادياً، بل هو ذلك الشخص الذي لا يسلم إلا عبر الفحص والنقد. فالنقد في الفلسفة لا يعني أبداً إدانة شيء أو صب اللعنات عليه، ليس مجرد الرفض والنفي، ولا يصح أن يتحول من نقد إلى نقض، وليس هو الاتهام والتطاول، ولا الصياح والصراخ، وإنما هو الجهد العقلي والعملي لعدم تقبل الأفكار وأساليب الفعل والسلوك والظروف الاجتماعية والتاريخية تقبلاً أعمى. إذا التفلسف هو ذلك الجهد الذي يبذل للتوفيق بين جوانب الحياة الاجتماعية وبين الأفكار والأهداف العامة للعصر، وتمييز المظهر فيها من الجوهر، والبحث في أصول الأشياء والظواهر وجذورها وارتباطها بحقائق الواقع من حولها، أي معرفتها معرفة حقة.[7]
إذا فالعلاقة القائمة بين فعل التفلسف والتشئة والتغير الاجتماعي هي علاقة وثيقة الصلة، فلا تغير إلا من خلال نشء فاعل ومبدع وخلاق، ولا نشء فاعل إلا من خلال تنشئة اجتماعية حافزة ومحفزة، ولا تنشئة حافزة إلا من خلال إذكاء روح التفلسف بما تقتضيه من آليات الدهشة والشك والتساؤل والنقد وغيرها من الآليات التي تدفع الإنسان إلى استشراف المستقبل ومحاولة الخروج عن كل نمطية وجمود يروم إعادة إنتاج نفس المجتمع.
- التنشئة الهدرية: التنشئة الاجتماعية التقليدية وإعادة الإنتاج
إن الحديث عن التنشئة الاجتماعية بماهي عملية سيرورة ثقافية تروم إكساب الطفل طرق الفعل والتفكير والإحساس، فإن هاته العملية وجب أن نميز فيها بين نوعين من التنشئة: التنشئة الاجتماعية الحافزة، والتنشئة الاجتماعية الهدرية. وسنسلط الضوء هنا على التنشئة الهدرية للذكاء المعرفي العقلي والوجداني للطفل.
إن عملية التنشئة الاجتماعية داخل الأسر التقليدية تعمل على تلقين الطفل القواعد الاجتماعية التي تتخذ شكلاً مطلقاً؛ بل مقدساً لكل ما يصدر عن الأبوين الراشدين، وذلك لأن العلاقات الأسرية قد اكتسبت مشروعيتها من عادات وتقاليد المجتمع، وبالتالي فإن أي تجديد يقترن بسلوكات متحررة من القيود الاجتماعية يعتبر مرفوضاً. فالتنشئة الاجتماعية بهذا المعنى هي تلقين الطفل كيف ينصاع إلى قواعد المجتمع، وكيف يقبل بالتراتبية القائمة على المستوى الأسري والاجتماعي. فوضع الأب مثلاً يجعله محط تقدير واحترام من طرف كل أفراد الأسرة، وهذا الاحترام الأبوي يتجاوز إطار العلاقة العاطفية إلى إطار العلاقة السلطوية[8]. حيث كانت للأب سلطة صارمة تقصي كل أشكال اللطف التي كانت تعتبر ضعفاً من قبله، لذلك كان الأب يحاول أن يبقى على قدر من التبجيل الذي يخصه به أفراد الأسرة من خلال خلق صورة الرجل القوي المرهوب، إضافة إلى كبر السن؛ أي فضيلة الخبرة والتجربة الحياتية، زد على ذلك إضفاء الشرعية على سلطته من خلال ارتكازه على القيم الأخلاقية والدينية التي تمجد خضوع واستسلام الأبناء لآبائهم، هذا الأمر الذي يلزم الابن بالخضوع للسلطة الأبوية، ولا يسمح له أبداً بإبداء رأيه النقدي، خاصة تجاه سلوك والديه وإلا تعرض لسخطهما (رضى الله من رضى الوالدين) أما نيل رضاهما فمقرون بمدى احترامه وخضوعه غير المشروطين تجاه والديه.إذا، فالخوف “سيتخذ هنا مظهراً مزدوجاً، خوف من سخط الوالدين وخوف من السخط الإلهي، ولا فائدة ترجى من شخص لم ينل رضى الخالق والمخلوق.”[9]
إن هذه السلطوية داخل الأسرة التقليدية التي تلعبها التنشئة الاجتماعية، تجعلنا أمام تداخل بين الاحترام والخوف، فبدل أن تساهم التربية في تفتح شخصية الطفل، فإنها تعمل على تنميط شخصيته وتحنيطها وقولبتها وفق قواعد لا تقبل التبديل. فالتنشئة الاجتماعية التقليدية تروم إعادة إنتاج نفس القيم والمواقف والسلوكات داخل المجتمع، وليس تنمية الوعي النقدي للطفل من أجل إعادة النظر في هذه السلطة المطلقة وقرينتها الطاعة العمياء. ويبدو تأثير السلطة الأبوية وسلطة التقاليد المجتمعية بالمغرب، أشد وطأة على الإناث مقارنة بالذكور، حيث يتم تكريس التمايز والتراتبية بين الجنسين منذ لحظة الولادة، وهو ما أكدت عليه الباحثة المغربية سمية نعمان جسوس في كتابها بلاحشومة، حيث تؤكد على أن المولود إذا كان انثى تكتفي النساء بزغرودة واحدة أثناء الاحتفال بقدومها، أما إذا كان المولود ذكراً استقبل بثلاثة زغرودات [10] الأمر الذي يعكس التمييز بين الولد والبنت داخل المجتمع المغربي.
إن التنشئة الاجتماعية بماهي عملية نقل تقوم على أساس تلقين المعارف والقيم باعتبارها شيء مطلق، تجعل من الطفل- في اعتقاد الأسر والمربين بصفة عامة، أي المتدخلين في عملية التنشئة الاجتماعية- مجرد صفحة بيضاء وجب ملؤها بما يتماشى مع قيم وعادات وأفكار المجتمع، وليس النظر إلى الطفل باعتباره ذاتاً متفردة لها القدرة على صناعة ذاتها، بمعنى؛ أن وسائط التنشئة الاجتماعية تروم إعادة إنشاء نفس المجتمع، لذلك فهي تعمل جاهدة، وبكل الوسائل، على أن يكون الأطفال متشابهين ومنصاعين وطيعين، هذا الأمر يجعل من التنشئة بالأسر التقليدية تنشئة هدرية للأطفال ومواهبهم، تفوت على المجتمع سبل التقدم والتطور الإيجابي من خلال الطفل باعتباره مستقبل المجتمع، وهو المجتمع بعينه… فعوض إذكاء روح الإبداع والتحرر والتفرد والتميز، تعمل التنشئة الاجتماعية التقليدية على التنميط والتحنيط والانغماس في التقليدانية.
على الرغم من التأكيد على أهمية المدرسة والأدوات الثقافية في بناء معارف الطفل وتنظيمها، إلا أن هذا لا يعني عدم وجود فوارق فردية بين الأطفال، والتي تعود بالأساس إلى تطور المستوى التعليمي وأهميته وتوظيف الموارد المساعدة والكفيلة بتوضيح بعض الظواهر الكونية وتفسيرها للطفل، على اعتبار أن هذا الأخير يلج المدرسة وهو مزود بمعارف سابقة استقاها وتلقاها بعفوية من وسطه الطبيعي والاجتماعي، وهو ما يعرف بالمعارف الساذجة أو العفوية، مقابل المعارف العلمية أو المنظمة التي يتعلمها الطفل في المدرسة[11]، فالمعارف قبل المدرسية هي ناتجة عن تنشئة اجتماعية، أي عملية نقل من جيل إلى جيل.
لقد كان تأثير بياجي حول تفكير الطفل بادياً في بعض اتجاهات البحث حول هذه القضايا. كما كانت نقطة الانطلاق هي الإقرار بأن الأطفال لا يعتبرون صفحات بيضاء عندما يواجهون تفسيرات الظواهر العلمية في المدرسة، بل إنهم يوظفون المفاهيم والحدوس التي اكتسبوها في وضعيات سابقة ويستعملونها لإضفاء الدلالة على ما يرون ويسمعون.[12] ويظهر في كثير من الدراسات والأبحاث أنه “غالباً ما يلاحظ أن التلاميذ لا يغيرون أفكارهم رغم محاولات الأستاذ تقديم بديهيات مضادة لما سبق أن تعلموه”، وأن “التلاميذ غالباً ما يستمرون في تبني مفاهيم خاطئة حتى بعد تلقيهم ساعات عدة من التعليم الفزيائي”[13]. لكن هل هذا يعني أن التنشئة الاجتماعية الحديثة، المرتبطة بالتغيرات المجتمعية التي عرفها المغرب، والانفتاح على التطور التقني وما أتاحه من انفتاح على ثقافة الغير البعيد والمختلف، ساهمت في تفتح شخصية الطفل وخروجه من التنميط والتحنيط والهدرية؟
- التنشئة الاجتماعية الحديثة وتنميط شخصية الطفل
إن مجال علاقات الجنس والحب، وعلاقات الأطفال بدويهم، وعلاقات الصداقة، هو المجال الذي يمكن أن يغير الأساس الذي استخدم لربط حياة الناس الشخصية، فالألفة والتواصل العاطفي هم سبب وجود هاته العلاقات. إن “العلاقة الخالصة على حد تعبير غيدنز القائمة على التواصل العاطفي، “تختلف عن كثير من الأنواع التقليدية للروابط الاجتماعية، فهي تستند إلى عمليات الثقة الفعالة، أي انفتاح شخص على آخر.[14]” فالعلاقة الخالصة هي علاقة ديموقراطية تقوم على أساس التواصل والثقة والانفتاح، عكس العلاقة التقليدية التي تقوم على أساس الأمر والطاعة، أي الفرض والإكراه. بيد أن مفهوم الديموقراطية في العلاقة الخالصة يبقى مفهوماً متعالياً عن الواقع. تبدو ديموقراطية العواطف قائمة على المساواة، خاصة في علاقة الأطفال بذويهم، غير أن هاته العلاقة لا تقوم على أساس المساواة المادية، إذ يجب أن تكون للآباء سلطة على الأطفال في أي من اهتماماتهم، ومع ذلك يجب أن يسلموا من حيث الجوهر بالمساواة، أي وجب أن تبنى سلطة الأباء على عقد ضمني في العائلة الديموقراطية. أما الأطفال في العائلة التقليدية فيفترض بهم أن يروا من دون أن يسمعوا “شوف واسكت، أنت مزال صغير”، وبالتالي مصادرة حقهم في الرد والتعبير عن آرائهم.
يعتبر الطفل قارئ بارع لإحساسات الآخرين وحالاتهم النفسية، من خلال تعبيرات الوجه والحركات المرافقة. فهو يستطيع، منذ الشهور الأولى، إدراك بعض الحالات الانفعالية والسلوكية لأمه وأبيه، ويتفاعل معها ويستجيب لها، وقد يتخذ القرارات بشأنها، انطلاقاً من فهمه وتفسيره لهذه الحالات النفسية من فرح وحزن وخوف…إلخ. وتشير الدراسات التي اختصت بنظرية الذهن، أن الطفل يستطيع تكوين نظرية سيكولوجية حول الأشخاص المحيطين به والوعي بالعديد من المظاهر الانفعالية لذاته وللآخرين، وذلك من خلال تجاربه اليومية وأشكال تفاعلاته الاجتماعية[15].
إن الطفل يمتلك كل المقومات التي تجعل منه كائناً وجدانياً بامتياز، وهذا الذكاء الوجداني لا يعبر عنه فقط في مواقفه وردود أفعاله، بل يظهر من خلال قدرته على فهم جميع أشكال الانفعالات الصادرة عن الغير، وفي استيعاب طرق وأساليب التعامل مع الآخرين، وفي اتخاذ القرارات الانفعالية المناسبة، إما بالاقتراب أو الابتعاد، وإما بالاستجابة أو النفور[16].
إن الذكاء الوجداني للطفل ليس إيجابياً دائماً، بل يمكن أن تتحول هذه الطاقة الانفعالية إلى قوة اندفاعية سلبية: عنف، غضب، انفعال وانحراف…وغيرها. بالعودة إلى المقاربة السيكوتحليلية، يمكن تفسير ذلك بخلل في مراحل النمو الوجداني-الجنسي عند الطفل حسب فرويد، أو إلى طبيعة المزاج العصبي، وإلى ثنائية: الإحساس بالتفوق حسب آدلر. وبالرجوع إلى المقاربة البيولوجية، نجد أنها تفضل اعتماد التفسير القائم على الإفرازات الهرمونية، غير أننا سنركز على الجانب الاجتماعي المرتبط بوسائط التنشئة الاجتماعية.
إن السلوك الانفعالي للطفل له وجود بالقوة وقد يتحول إلى وجود بالفعل بلغة أرسطو، أي يمكن أن يتحول إلى سلوك عنيف، حينما يتوفر المناخ والعوامل السلبية التي تغذيه، ويمكن التركيز هنا على عامل أصبح يشكل تحدياً للآباء والمربيين…وغيرهم، ألا وهو العالم الرقمي السيبراني ووسائل الإعلام كأحد الوسائط المهمة في التنشئة الحديثة للطفل على المستوى المعرفي والوجداني والاجتماعي.
إن انفتاح العالم على المجال الافتراضي، خاصة على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت أكثر انتشارا، نظراً لسهولة ولوجها من طرف الجميع، تساهم بشكل أو بآخر في تكوين شخصية الأفراد، بل في توجيههم، الأمر الذي يجعل من هاته المواقع التواصلية فعالة في التنشئة الاجتماعية للفرد بصفة عامة، والطفل على وجه الخصوص، فالطفل لا يمتلك الوسائل والإمكانات العقلية لتحليل المعطيات المنشورة والصور وتفييئها وتصنيفها، لذلك يكون أكثر عرضة لمخاطر هذا الفضاء المفتوح ومحتوياته. فمواقع التواصل الاجتماعي وما تحمله من تفاهة تساهم في تسطيح وعي الطفل، لينغمس في كل ما يدعوا وينمي البلادة والتفاهة كمثال على النجاح “البوز”.
إن انتقالنا من ثقافة الأذن (السمع) إلى ثقافة البصر (الصورة)، لم يرافقه تنشئة جمالية أو تفكير استشرافي وقائي يخفف من التأثيرات السلبية في الطفل، الناتجة عن عنف الصورة. وليست الصورة العنيفة هي التي تحمل أثراً عنيفاً (قتل أو ضرب…) فقط، بل الصور العنيفة هي تلك الصورة التي تحمل الطفل على التقليد وتقوي لديه السلوك الأناني والانفعال السلبي والاتكالية أيضاً، فالصورة العنيفة هي عملية إدمان، تؤدي بالطفل إلى الكسل الفكري والإبداعي، فبعدما كانت الحكاية –المكتوبة أو الشفهية- تذكي روح التخيل والابداع الفكري، أصبحت الصورة اليوم تجعل من الطفل مجرد متلقي سلبي، ينتظر الحلول الجاهزة من الشاشة، كما تصبح المشاهد العنيفة مصدراً للذة والمتعة، بل إن الأطفال اليوم وفي علاقتهم بهواتفهم الذكية أصبحوا يصورون المشاهد العنيفة بنوع من البرودة والأحاسيس الجامدة كما أكدت على ذلك مجموعة من الدراسات. ولعل الهدر الوجداني للطفل مرده إلى عدم قدرة المدرسة والأسرة التحكم في الوسائط السبيرانية، مما جعل الطفل يبحث عن بدائل للأسرة والمدرسة، بدائل جديدة للتواصل معها، فأصبح يقضي معظم أوقاته أمام شاشة (تلفاز، حاسوب، هاتف…) وما تحمله من عوالم افتراضية، الأمر الذي جعل الطفل ينفتح على عوالم تنشئوية افتراضية من طرف أشخاص افتراضيين، ليصبح غير قادر على التمييز بين “الواقعي والخيالي، وبين الكائن والممكن، وبين الجد والهزل، وبين الحب والعنف.”[17]
إنه لمن ضروب الوهم الاعتقاد في كون التنشئة الاجتماعية الحديثة والمنفتحة على الوسائل التقنية ليست تنشئة هدرية، بل على العكس من ذلك فهي تحتوي على مجموعة من المثبطات للنمو المعرفي والوجداني للطفل الذي يقوم على التساؤل والاستغراب أمام الظواهر والوقائع. فإذا كانت التنشئة التقليدية تقوم على التلقين كأساس لتنشئة الطفل؛ أي إعادة إنتاج نفس المجتمع بأعطابه وتناقضاته وخرافاته وأساطيره المؤسِّسَة للجهل المركب، التي تُقَدم للطفل في شكل حقائق مطلقة، ينطلق منها لتفسير كل الظواهر والوقائع التي يصطدم بها في مسار حياته، ليبقى فكر الطفل رهين المنطق اللاهوتي والخرافي والميتافزيقي، عوض التفسير العلمي، فهي لا تمكن الطفل من الوسائل المهمة للنمو العقلي والوجداني المبدع والخلاق، بل تعمل على طمس هوية الطفل المتمايزة القائمة على التساؤل والاندهاش أمام الظواهر، لتصبح بذلك ظواهر عادية لا تثير فيه شهية التساؤل والبحث، بل تصبح من بين المسلمات التي تلقن له دون برهنة عقلية أوعلمية، ليصبح الطفل يقبل التناقضات والخرافات والأساطير بنوع من الدغمائية العمياء، باعتبارها عائق أمام كل إمكانية للبحث عن الحقيقة. والأمر سيان بالنسبة للتنشئة الاجتماعية الحديثة التي تهدر طاقات الطفل العقلية والوجدانية وإغراقها في عالم الصورة العنيفة، ومواقع التواصل الاجتماعي الافتراضية التي أصبحت تعدم التواصل الواقعي بين الأطفال والوالدين، ليتحول الطفل من الواقع إلى السبيرانية وما تحمله من الصور المغرية والوهمية، وما تقدمه من النماذج المثالية التي يجب على الطفل محاكاتها. لينتقل المجتمع من النماذج المعرفية والعلمية التي تذكي روح الإبداع الخلاق للطفل، إلى نماذج تقدمها وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي المتعددة على أنها النماذج المثالية الناجحة بالمجتمع (النجوم) من مغنيين/ت وممثلين/ت وولاعبين/ت… الأمر الذي يساهم في هدر الرأسمال البشري المستقبلي (الطفل) للمجتمع. إن الأسر الحديثة اليوم لم تعد تنظر إلى الطفل بكونه عنصر داخل وحدة إنتاجية هي الأسرة، كما كان سائداً بالأسرة التقليدية، بل تغير الأمر، ليصبح وضع الأطفال في هذه الحالة مهم وذو مفارقة إلى حد ما. فالمواقف “اتجاه الأطفال وحمايتهم تغيرت جذرياً منذ بضعة أجيال”.[18] فإنجاب طفل اليوم لم يعد أمراً اعتباطياً عشوائياً، كما كان سابقاً، لأن الطفل في العائلة التقليدية يرتبط بوظيفة اقتصادية ما، أما اليوم فقد أصبح يمثل عبئاً مادياً ثقيلاً. فـ”مخاوفنا على الأطفال من تأثيرات الطلاق، ووجود أسر عديدة بلا أباء، يجب أن تفهم بإزاء توقعاتنا بصدد كيفية وجوب رعاية الأطفال وحمايتهم.” [19]
على سبيل الختم:
إن التغير الذي عرفته الأسرة المغربية من الممتدة التقليدية إلى الأسرة النووية الحديثة، ساهم في تغير التنشئة ووسائطها المتعددة، كما أن ظهور وسائط جديدة: وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، سحبت البساط من تحت الوسائط التقليدية –خاصة الأسرة- فعلى الرغم من التطور العلمي والتقني، والتغير الذي عرفته الأسرة المغربية، إلا أن التنشئة الاجتماعية أصبحت أكثر هدراً، نتيجة ارتماء الأطفال في العالم الافتراضي دون رقابة أو توجيه، لينفتحوا على العالم السبيراني بإيجابياته وسلبياته.
قائمة المراجع:
- إسماعيل العلوي: الطفل بين الذكاء الوجداني والسلوك الانفعالي، دفاتر مركز الأبحاث والدراسات النفسية والاجتماعية، العدد يناير 2010.
- أنطوني غيدنز ” عالم جامح، كيف تعيد العولمة تشكيل حياتنا” ، ترجمة عباس كاظم وحسن ناظم، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، بيروت 2003.
- بنعيسى زغبوش و آخرون: إدراك الأطفال لمفاهيم فلكية أولية من خلال آليتي التحاور والأدوات الثقافية، دفاتر مركز الأبحاث والدراسات النفسية والاجتماعية، العدد يناير 2010.
- الخطابي عزالدين: دينامية العلاقة بين التقليد والحداثة، تطور الحياة الاجتماعية بمدينة عتيقة، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2015.
- كريم متى: الفلسفة الحديثة عرض نقدي ، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الثانية، 2001.
- نعمان جسوس سمية : بلاحشومة الجنسانية النسائية في المفرب، ترجمة عبد الرحيم حزل، المركز الثقافي العربي، 2011.
- Guy Rocher : l’action sociale , paris, 1968.
[1] يمكن الرجوع إلى كريم متى: الفلسفة الحديثة عرض نقدي ، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الثانية، 2001.
[2] إسماعيل العلوي: ص، 91.
[3] Guy Rocher : l’action sociale , paris, 1968 , P 132.
[4] Guy Rocher : l’action sociale , paris, 1968 , P 133.
[5] مور ولبرت: التغير الاجتماعي، ترجمة عمر قباني، دار الكرنك، القاهرة 1970، ص 69.
[6] الجولان فادية عمر: “التغير الاجتماعي، مدخل النظرية الوظيفية لتحليل التغير، دار الاصلاح للطباعة والنشر، 1984، ص 11و12.
[7] حسين علي: ما هي الفلسفة؟، دار التنوير، بيروت-لبنان، 2011، ص 16 (بتصرف).
[8] الخطابي عزالدين: دينامية العلاقة بين التقليد والحداثة، تطور الحياة الاجتماعية بمدينة عتيقة، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2015،ص 81.
[9] نفس مرجع سابق، ص 83.
[10] نعمان جسوس سمية : بلاحشومة الجنسانية النسائية في المفرب، ترجمة عبد الرحيم حزل، المركز الثقافي العربي، 2011، ص 20.
[11]بنعيسى زغبوش و آخرون: إدراك الأطفال لمفاهيم فلكية أولية من خلال آليتي التحاور والأدوات الثقافية، دفاتر مركز الأبحاث والدراسات النفسية والاجتماعية، العدد يناير 2010، ص 65.
[12]بنعيسى زغبوش و آخرون: إدراك الأطفال لمفاهيم فلكية أولية من خلال آليتي التحاور والأدوات الثقافية، دفاتر مركز الأبحاث والدراسات النفسية والاجتماعية، العدد يناير 2010، ص 67.
[13]نفس المرجع،ص 68.
[14]أنطوني غيدنز ” عالم جامح، كيف تعيد العولمة تشكيل حياتنا” ، ترجمة عباس كاظم وحسن ناظم، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، بيروت 2003.، ص 94.
[15]إسماعيل العلوي: الطفل بين الذكاء الوجداني والسلوك الانفعالي، دفاتر مركز الأبحاث والدراسات النفسية والاجتماعية، العدد يناير 2010، ص93.
[16]نفس المرجع، ص 94.
[17]نفس المرجع السابق، ص 97.
[18]أنتوني غيدنز: مرجع سابق، ص 93.
[19] نفس المرجع، ص 94.