
حجاجية الصورة الشعرية من منظور التلقي
Argument of poetic image from the perspective of receiving
الأستاذ بوقفحة محمد ـ المركز الجامعي أحمد زبانة غليزان ـ الجزائر
Mohammed BOUKAFHA – University Center Ahmed Zabana Relizane – Algeria –
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 64 الصفحة 79.
Abstract:
The topic rises to terms that constitute the basic nucleus of this research to be talked about, and among these terms is what was striking in history in terms of age, with renewal in use, including what was associated with the development of the poetic text, in its depth and renewal, and perhaps some of these terms did not settle on the definition Specific, and we are in front of this issue, we do not claim innovation as much as we try to approach concepts in the way the image appears to the reader. Perhaps we are facing a conceptual rubble that reached us through translation, and it is known that translation has destroyed the original text in one way or another, it does not give the exact meaning as much as it approaches it, and the context rule remains in determining these approaches and describing the term’s solutions, and by returning to the topic title “The argument of the image” Poetry from the perspective of convergence. “I find it necessary, to clarify, to define a conceptual approach to each term separately, then to bridge the gap between these concepts, to give the general concept of the title, and from here we should detail and then summarize, and as a result, we summarize the talk of these terms by mentioning Idiomatic concepts without wrapping A linguistic aspect of the concept, because we think it is available in dictionaries.
keywords: Receive, poetic image, argument, implicit reader, expectation horizon, broken expectation horizon.
ملخصينهض العنوان على مصطلحات تشكّل اللّبنة الأساسية للموضوع المراد الحديث فيه، ومن هذه المصطلحات ما كان ضاربا في التّاريخ من حيث القدم، مع تجديد في الاستعمال، ومنها ما كان مصاحبا لتطوّر النّص الشّعري، في كينونته وتجدّده، ولعلّ بعض هذه المصطلحات لم يرس على تعريف محدّد، ونحن إزّاء هذا الموضوع، لا ندّعي الابتداع بقدر ما نحاول مقاربة المفاهيم بالشّكل الّذي يجلي الصّورة لدى القارئ الكريم.
ولعلّنا أمام زخم مفاهيمي وفد إلينا بطريق التّرجمة، ومن المعلوم أن الّترجمة هدم للنّص الأصلي بشكل أو بآخر، فهي لا تعطي المعنى الدّقيق بقدر ما تقترب منه، ويبقى حكم السّياق قائما في تحديد تلك المقاربات وتوصيف حلالات المصطلح، وبالعودة إلى عنوان الموضوع “حجاجية الصّورة الشّعرية من منظور التّلقي“، أجدني من باب التّوضيح مضطرّا إلى تحديد مقاربة مفاهيمية لكلّ مصطلح على حدة، ثم تقريب الهوّة بين هذه المفاهيم، لإعطاء المفهوم العام للعنوان، ومن هنا يجدر بنا التّفصيل ثم الإجمال، ونحن إثر ذلك، نوجز الحديث عن هذه المصطلحات بذكر مفاهيمها الاصطلاحية دون الخوض في جوانب المفهوم اللّغوية، لاعتقادنا أنّها متوفّرة في المعاجم والقواميس..
الكلمات المفتاحية: التلقي، الصورة الشعرية، الحجاج، القارئ الضمني، أفق التوقع، كسر أفق التوقع.
* الحجاج أو المحاججة:
من أكثر المصطلحات تداولا في النّقد المعاصر، خصوصا إذا تعلّق الأمر بالنّص أو بالخطاب الأدبي، بل إنّه صار ينطق رديفا لهما أو لأحدهما (الحجاج والنّص/حجاجية النّص/ النّص الحجاجي..)، (الخطاب والحجاج/ حجاجية الخطاب/ الخطاب الحجاجي..)، وهو مصطلح موغل في القدم من حيث الوجود الفعلي، ولا يزال يحافظ على حمولته المعرفية منذ وجوده في البلاغة العربية قديما، ويبدو أنّ مفهوم الحجاج ينشد الإقناع، ويستدعي في ذهن المتلقي ما يثبت صحّة الملفوظ (نص/خطاب)، أو توجيه الفهم، ومن هذه النّاحية يصبح الحجاج ضربا من ضروب البلاغة، إذ إنّ محصّل البلاغة (أن يؤتى السّامع من حسن إفهام النّاطق)، و مادام الحجاج على هذه الهيئة فهو يهدف إلى التّأثير في المتلقي، لحمله على فهم ما، ولتوجيه الخطاب وجهة ما “[1]، ويبدو من خلال هذا القول، أنّ المغزى الأساسي من الحجاج هو التّأثير والإقناع، وما يعزّز هذا المغزى، أنّ بعض مفاهيم الحجاج يحيل على أنّه ” حاصل نص من مكونات مختلفة، تتعلّق بمقام ذي هدف إقناعي”[2].
– يقتضي الحديث عن مصطلح الحجاج الغوص في غمار هذا المصطلح، وتتبّع مراحل كينونته التّاريخية، منذ الحضارة اليونانية القديمة، إلى حدود النّقد المعاصر، أو بمعنى أدقّ، إلى ما بعد الحداثة، ذلك أن وجود النّص في الأساس، هو بغرض التّأثير والإقناع، ولعلّ ذلك شرط من شروط الرّدف بين النّص أو الخطاب والحجاج. وطالما أنّ الموضوع يتعلّق بالنّص الشّعري المعاصر، وصوّره الشّعرية، آثرنا أن نقصر تتبع الحجاج تاريخيا من حيث استخداماته كمصطلح في النّقد الحديث والمعاصر في الثّقافة العربية، مع الإشارة إلى استعمالاته في الموروث العربي، ولا سيما البلاغة العربية القديمة.
– الحجاج في الموروث العربي القديم والنقد الحديث والمعاصر: بالنّظر إلى الهدف من الحجاج، من أنّه وجد للتّأثير والإقناع، فهو هنا يتقاطع مع مكوّن من مكوّنات الإرث العربي القديم، ونقصد بذلك، البلاغة أو علم البلاغة. لأنّ نهج البلاغيين إنمّا كان قصدهم إلى الّتأثير والإقناع، لذلك نجد تداخلا بين الحجاج والبلاغة أو أحد فروعها المعروفة (علم البديع ،علم البيان، علم المعاني)، ولعلّ ” ما أثار إشكالية التّداخل بين البديع والحجاج، هو تلك الحركية الّتي اضفاها ثلّة من الشّعراء المولّدين – في بداية القرن الثّالث للهجرة- على البديع، وذلك أنّهم عمدوا إلى استحضار الّنمط الحجاجي التّحاوري في أشعارهم، ليشمل هدف الإقناع وغاية تبكيت الخصم، سواء بشكل سافر أم بصيغة مضمرة، وما كان توخّي أولئك الشّعراء أسلوب الإقناع، إلّا ليثبتوا صدق دعاويهم، وصحّة مساعيهم اعتمادا على رؤيتهم الشّعرية “[3].
– وبما أنّ العرب أهل فصاحة وبلاغة، كانت قوّة الإقناع عندهم مترتّبة على مدى بلاغتهم وفصاحتهم، وهم بذلك يضاهون في التّأثير المنطق عند اليونان، أو على الأقلّ، يمكننا القول، إنّ الحجاج عند العرب هو بلاغتهم، وعند اليونان هو المنطق. إذ لم يكن العربي قديما يحتاج إلى محاججة ما دام يمتلك فصاحة وبلاغة، ولعلّهم يحتكمون إذا حصل خلاف على أمر ما إلى أبلغهم، أي إلى أكثرهم فصاحة وأبلغهم حجّة، وما حادثة النّابغة الذّبياني في قصّة الخنساء وحسّان بن ثابت، إلّا دليل على ذلك. ” أنّ الحجاج المنبثق عن الاستدلال البلاغي، لا يتلخّص في ماهية البلاغة الّتي تؤسّس للغة طبيعية ذات ملمح حواري، بين متكلّم ومستمع، لكلّ منهما رأيه ، في غيّاب الحمل القهري لكلّ واحد منهما على قول الآخر، مما يسوّغ لهما دخول المجال السّجالي ، قصد طلب التّأثير والإقناع، وبذلك يكون الحجاج البلاغي مشتملا على البعد الاستدلالي والبعد الإمتاعي ، أو الجمع بين البيان والبديع”[4]، ومن ثمّة فإنّه ” وراء كلّ حجاج بلاغة، والعكس صحيح، لأنّ مدار ذلك هو الإغراء و الاستغواء قصد الإمتاع والإقناع”[5].
– وجملة القول في هذا العنصر، لما فيه من تداخل إلى حدّ الاتحاد بين البلاغة والحجاج، ومن أنّ مغزاهما وهدفهما واحد، فإنّ ” المناطقة –أصحاب المنطق- لجأوا إلى الحجاج لسدّ الفراغ المعرفي الذي تركه المنطق الصوري، و ( أنّ) اللّسانيين لجؤوا إليه لسدّ الفراغ الّذي تركه البحث اللّساني المحايث، أوالبنيوي الدّاخلي للغة، باعتبار كونها نسقا منغلقا على نفسه، وكلاهما وجد نفسه يخوض في قضايا الخطاب، الّتي عالجتها البلاغة القديمة من زوايا متعددة”[6]. يبدو أنّ اللّجوء إلى الحجاج كان حتمية لتقوية الجوانب الناّقصة، سواء في البحث اللساني أم المذهب العقلاني، الذي ينهض على المنطق الصوري، أو ما يسمى “النمذجة”، ذلك أنّ اللّسانيين أوالمناطقة إنمّا كانت حاجتهم إلى الحجاج عرضّية ولم يتدارسوه لذاته، وإنّما كان عندهم مطيّة لبلوغ التّمام في مجال تخصّصهم، سواء من حيث البحث اللّساني، أم المنطق.
وهو ما أوحى إلى البلاغيين المحدثين ونبّههم بوجوب الالتفات إلى هذا الركن الّذي لم يستوف حظّه من الدّراسة في البلاغة القديمة، أوعلى الأقلّ لم يحظ بالعناية اللّازمة، لذلك ” تنبّه البلاغيون المحدثون، بشكل متأخّر، إلى أنّ ما يدعوه الطّرفان (المناطقة واللّسانيون) حجاجا، يندرج في هموم البلاغة، طواه النّسيان في ركن من أركانها، طوال عصور الانحطاط، أوصار منبتا خارج النّسق، بل يجب الاعتراف بأنّ المناطقة واللّسانيين هم الذين نبّهوا البلاغيين إلى أّن مادة الحجاج توجد في تراثهم البلاغي”[7].
وقد تضاربت الأقوال بين المحدثين في علاقة الحجاج بالبلاغة، وفي حاجة أحدهما للآخر، وعموما ” فإنّ المواقف فيما يخصّ العلاقة بين البلاغة والحجاج، تمتدّ من المطالبة بقطيعة جذريّة إلى (القول بوجود) توازن، وبين مبحثين متمايزين ومتكاملين إلى حدّ ما، وصولا إلى اقتراح دمجهما في نشاط لغوي واحد”[8]. إنّ مسألة دمجهما في نشاط لغوي واحد، فيها مغالطة كبيرة، ذلك أنّنا نفرغ البلاغة من محتواها التّأثيري، والبلاغة ما وجدت أساسا إلّا لأّنها تنحو ذلك النّحو التّأثيري الإقناعي عن طريق الفصاحة والبيان، وهي ليست بحاجة إلى اللّجوء إلى الحجاج لإثبات تأثيرها لدى المتلقي. ثمّ إنّ البلاغة تحتوي الحجاج، وإن لم تشر إليه.
– وأمّا ما يخصّ موضوعنا “حجاجية الصّورة الشّعرية من منظور التّلقي”، هو مدى تأثير هذه الصّورة في المتلقي، فيتخذ منها موقفا، بغضّ النّظر عن طبيعة هذا الموقف، لذلك فالحجاجية أو الحجاج في هذا المقام هدف وغاية، وليس مطيّة لبلوغ الغاية.
* الصّورة الشّعرية: والصّورة في الأساس قديمة قدم النّص الشّعري، ثمّ إنّ بعض الأشعار إنّما هي في تلاحق صوّرها وتتابعها، وكأنّي بالّشاعر لم يقل إلّا ما يرى بعينه، لا بخياله، وليس له غرض من قول الّشعر إلّا ليصوّر ما يراه بالعين المجرّدة، بعيدا عن الخيال، لذلك فإنّ ” الصّورة ليست شيئا جديدا، وإنّ الشّعر قائم على الصّورة منذ وجد حتّى اليوم، ولكنّ استخدام الصّورة يختلف بين شاعر وآخر، كما أنّ الشّعر الحديث يختلف عن الشّعر القديم في استخدامه للصّور”[9]، ولم نشأ في هذا العنصر من الموضوع أن نفصل بين المصطلحين (الصّورة) و(الشّعرية)، لبعد الغور في الحديث عن كلّ مصطلح منهما، ولربمّا أخرجتنا تفاصيل الحديث عنهما منفصلين عن الموضوع، لذا آثرنا الحديث عنهما مجتمعين، لكونهما يشكّلان معا مصطلحا نقديا له من الحمولة المعرفية ما يميّز الشّعر عن بقية الأجناس الأدبية الأخرى، ذلك …وحتّى إنّ هذا المصطلح (الصّورة الشّعرية)، يتحدّد من خلاله الموقف من النّص الشّعري لدى المتلقي. وإنّ النّقاد يبنون رؤيتهم وأحكامهم النّقدية حول النّص، انطلاقا من حسن استخدام الشّاعر للصّورة، والمراس الّذي يدعونه التّجربة الشّعرية، وهي نظرة تكاد تكون متوافقة مع نظرة النّقاد القدماء، في تصفيفهم وتصنيفهم للشّعراء بناء على من أحسن منهم وصفا، أو استهلالا، أو وقوفا على الأطلال، وإنّما هي أحكام تبنى على الصّور. وآيتهم في ذلك أنّ الرّسم شعر صامت، والشّعر رسم ناطق.
– وما دام الشّعر فنّا، و ” والشّاعر – ككلّ فنان- يحاول أن يخلق نوعا من التّوافق النّفسي بينه وبين العالم الخارجي، عن طريق ذلك التّوقيع الموسيقي، الّذي يعدّ أساسا في كلّ عمل فنّي، ونحن لا نتأثّر بهذه الموسيقى، إلّا لأنّها تهيء لنا حالة من الاندماج مع مظاهر التّناسق والإيقاع في هذا العالم الخارجي، والمنطبعة في نفوسنا في الوقت نفسه على نحو أو آخر “[10] .
إنّ موضوع الصّورة له من الأهمية البالغة، ما جعل النّقاد قديمهم وحديثهم، يوغل الحديث فيه، ويصطنع له مفهوما يحاول أن يمتاز به عن غيره، وقد ورد مصطلح (الصّورة) في مؤلفات الجاحظ وعبد القاهر الجرجاني، إذ يراها الجاحظ (المتوفّى 255هـ)مكوّنا هامّا من مكوّنات الشّعر، إذ يقول: ” فإنمّا الشّعر صناعة، وضرب من النّسيج وجنس من التّصوير”[11] ، هذا القول يعزّز مكانة الصّورة في بناء النّص الشّعري، القديم والحديث، ويؤكّد ما ذهبنا إليه من أنّ الشّعر إنّما مردّ أمره وغايته إلى الصّورة، وإن كانت الصّورة في قول الجاحظ قد وردت بلفظ التّصوير، فإنّها عند عبد القاهر الجرجاني (المتوفّى471هـ) قد وردت بلفظ التّمثيل، والّذي هو قرين الصّورة، ويرى أنّ الشّاعر بإمكانه أن ” يريك الحياة في الجماد، ويريك التئام عين الأضداد، فيأتيك بالحياة والموت مجموعين، والماء والنّار مجتمعين”[12] .
– وعلى الرّغم من اتفاق النّقاد على أهمية الصّورة في بناء النّص الشّعري، إلّا أنّهم اختلفوا في تعريفهم لها، أو على الأقل لم يكن تعريفهم لها جامعا، يشكّل مرجعية يمكن للباحث الانطلاق منها، أو الإحالة عليها، لذلك يجد الباحث عنتا في تعقب الصّورة ومفهومها في مصنّفات النّقاد، وهو ما فتح باب الاجتهادات للمحدثين، ووافقته القفزة النّوعية الّتي صار إليها النّقد في العصور التّالية للتّرجمة. إنّ عدوى هذا الاختلاف في تحديد مفهوم الصّورة، انتقل إلى المحدثين وصار منهم من يوعزها إلى الشّكل، ونفر يلحقها بالمضمون، ونحن أمام هذا الوضع نورد بعض التّعريفات بما يمليه المقام، وما تستدعيه طبيعة الموضوع، وغايتنا في تعريف الصّورة، إنمّا القصد منه جانبها البلاغي، اّلذي ينشد التّأثير والإقناع، إذ نحن إزاء حتمية التّأثير في المتلقي، وعلى هذا الأساس يكون رصدنا للمفاهيم، فـ (الصّورة)إذن ” تشكيل لغوي، يكوّنها خيال الفنان من معطيات متعدّدة، يقف العالم المحسوس في مقدّمتها، فأغلب الصّور مستمدّة من الحواس، إلى جانب ما لا يمكن إغفاله من الصّور النّفسية والعقلية، وإن كانت لا تأتي بكثرة”[13].
إنّ الصّورة في هذا المفهوم تكاد تكون نقلا مجرّدا من الخيال يكتفي فيه الشّاعر أو الفنان برسم ما يشخص أمام عينيه من مشاهد في قالب نصّي مجرّد، أداته العين، فهو يشبه إلى حدّ بعيد عمل المصوّر الفوتوغرافي، بيد أنّ ” الصّورة الشّعرية هي تركيبة عقلية وعاطفية معقّدة، تعبّر عن نفسية الشّاعر وتسترعي أحاسيسه، وتعين على كشف معنى أعمق من المعنى الظّاهري للقصيدة، عن طريق ميزة الإيحاء والرّمز فيها، والصّورة هي عضوية في التّجربة الشّعرية، ذلك أنّ كلّ صورة داخلها تؤدّي وظيفة محدّدة متآزرة مع غيرها، ومسايرة للفكرة العامة”[14].
– إنّ المحدثين لما عالجوا الصّورة، لم يعالجوها خارج إطار الخيال، بل إنّ جلّهم أوعزها إلى الخيال المبتكر، وسمّاها خلقا شعريا، أو (إبداعا)، نظرا لما للخيال من قوّة فذّة على الخلق والابتكار، ذلك أنّ الخيال ” ليس مجرّد تصور أشياء غائبة عن الحسّ، إنّما هو حدث معقد ذو عناصر كثيرة، يضيف تجارب جديدة، فالتّجربة الأولى ليست إلّا بذرة تعطي فرصة الدّخول في أجواء بعيدة وقريبة، من أجل أن تجري عليها صفة التّفكيك، حتّى تغدو التّجربة الأولى مجرّد مناسبة”[15]، وممّا سلف ذكره، تكون الصّورة الشّعرية هي قدرة الشّاعر على الخلق والابتكار والإبداع، أو على الأقل نقل الجوانب الحسّية المعنوية إلى شيء مرئي ماثل أمام المتلقي، أو نقل ذلك الماثل والمرئي إلى معنوي وحسي، إمّا بالاعتماد على الخيال المبتكر (في حال نقل المعنوي إلى مرئي)، أو عن طريق التّصوير والتّمثيل (في حال ترجمة المرئي إلى حسّي)، معتمدا على العقل أو الحواس، ويختلف هذا الخلق والابتكار من شاعر إلى آخر، على حسب سعة الخيال المترتبة عن التّجربة الشّعرية، وآفاق الرّؤية ، ولعلّ الشّعراء المحدثين كانت صورهم أوّل الأمر وفي بداية حياتهم الشّعرية صورا طفولية، مبتذلة ساذجة، مافتئت أن صارت صورا تحمل من الإبداع والابتكار ما يسم شعرهم حقا بالشّعرية والخيال.
– ويكون المحدثون بهذه الحال قد قفزوا بالصّورة من مجرد مركب من مركبات النّص الشّعري، إلى خاصية وجمالية وجب على الشّاعر أن يحسن سبكها ، وانطلق معهم النّص الشّعري من مشاهد تمثيلية بسيطة لا تتعدى الوصف، إلى صور خلاقة مبتكرة، بل ألواح فنية يشكّل فيها تداخل الصّور مزيجا من الألوان يشبه الفسيفساء، عند الرّسامين، إنّها تحمل المتلقي على الانبهار بها، وتطوف به أجواء العوالم وهو لم يبرح مكانه، إنّ الصّورة في الأساس هي جوهر النّص الشّعري، وهي الخاصية التي يتأتّى بها التّأثير والإقناع للمتلقي، وإنّ ظاهرة الاستلاب الّتي يعتمدها الشّاعر على المتلقي إنمّا تقف على جودة صوره، وبراعة مشاهده داخل النّص. فالصّورة ” هي الّتي تبرز العمل الفنّي، وتنقل الفكرة والعاطفة من خلاله، فهي جوهر الشّعر وأساس الحكم عليه”[16]، ويرى النّاقد جابر عصفور أنّ الصّورة ” هي الجوهر الثّابت والدّائم في الشّعر، فللصّورة الشّعرية دلالات مختلفة ، وترابطات متشابكة، ولذلك أصبحت تحمل لكلّ إنسان معنى مختلفا”[17].
* التّلقي أو نظرية التّلقي: يقتضي وجود النّاطق سامعا له، كما يقتضي وجود النّص قارئا له، إنّها الثّنائية الّتي تشكّل نظرية التّلقي. والّتي هي مبدأ من مبادئ العلوم، على رأي الأصمعي ” أوّل العلم الصّمت، وثانيه الاستماع، وثالثه الحفظ، ورابعه العمل، والخامس نشره”[18]، ومن ثمة اقتنصت نظرية التّلقي أهمّيتها في حقل النّقد الحديث، وحتّى في النّقد القديم، لأنّ الشّاعر قديما كان يهتم لأمر السّامع اهتمامه لنصّه الشّعري، لذلك ألزموا أنفسهم بالرّاوية والجارية تغنّي على مسامعهم نصوصهم، حتّى يتسنّى لهم تنقيحها وتصويبها، بما يلقى الرضا عند السّامع، فتحصل المتعة إمّا مدحا أو غزلا أو إطراء وتكسّبا..، ومنه صار الشّعر في مذهبهم “صنعة” أو “صناعة”، وبقدر حسن السّبك يكون التّأثير، وإنّه لماّ وقرت المعلّقات من قلوب المتلقين واستحوذت على سمعهم، صارت إلى القاعدة والمثال الّذي وجب أن يحتذي به كلّ شاعر متأخّر، وبذلك حقّقت الأنموذج أو ما يعرف بنظرية “القاعدة والمثال”[19]، وعلى هذه الشّاكلة صارت مصنّفات نقاد الشّعر، كابن قتيبة (المتوفّى276هـ)، وأبي زيد بن أبي الخطاب القرشي (المتوفّى170هـ) وغيرهما.
– لقد اتخذت نظرية التّلقي في النّقد الحديث بعدا أعمق من مجرّد التّأثير في المتلقي، ذلك أنّ هذه النّظرية هي في الأساس ” عملية مشاركة وجودية، تقوم على الجدل بين المتلقي والنّص، وهي لم تكن بالضّدّ اتجاه أيّ مقاربة من المقاربات النّقدية الحديثة، كالشّكلانية والبنيوية والتّفكيكية، وغيرها، وكانت أهمّ نقلة قامت بها، هي التّحول من قطب المؤلف – النّص إلى قطب النّص- إلى القارئ”[20]، فالتّلقي فعل إجرائي يقوم على السّماع أو القراءة، فكلاهما ناتج عن حاستين هامتين، تفضيان إلى التّأثير بالرّفض أو القبول لما يلقى أو يقرأ، ويظهر ذلك جليّا من خلال التّفاعل بين المتلقي والنّص، و ” يعتقد أصحاب نظرية جمالية التّلقي أنّ العمل الأدبي يتشكّل من خلال فعل القراءة، وأنّ جوهره ومعناه لا ينتميان إلى النّص، بل إلى العملية الّتي تتفاعل فيها الوحدات البنائية النّصية مع تصوّر القارئ، ومن خلال اشتغال القارئ به”[21]، وبما أنّ النّص عالم من الدّلالات والبنيات الّتي يفضي تناسقها إلى معان، يتفاعل معها القارئ الّذي وجد لأجله النّص، فإنّه يفترض أن تكون هنالك علاقة بين هذا النّص وذلك القارئ، يترجمها التّفاعل أو ما يصطلح عليه بـ ” جمالية التّقبّل”[22]، والنّص حينها ” يستمدّ حياته من عملية القراءة الّتي يقوم بها الأفراد، ويفترض في ذلك أنّ التقاء النّص مع القارئ هو الّذي يمنح النّص الحياة”[23].
– لقد حظيّت نظرية التّلقي بمكانة عالية من الاهتمام في النّقد الحديث والمعاصر، لاسيما مع بداياتها الأولى الّتي يعود فيها الفضل إلى المفكر الألماني (هانز روبرت ياوس)، وزميله (فولفانغ آيزر)، وقد تبلور مصطلح التّلقي في المدرسة الألمانية على أنّه ” مفرد في الظّاهر، إلّا أنّه في البنية العميقة يعمل كبوتقة ينصهر في داخلها مفهومان، لكلّ واحد منهما منظوره، وأصوله وإجراءاته، فهما شقّان مختلفان ومتكاملان في الآن نفسه، إذ إنّ أحدهما يكمّل الآخر، وهذان المفهومان هما: (جمالية التّلقي) و(جمالية التّأثير)، فالأوّل وضعه ياوس والثّاني وضعه آيزر “[24]، وإن كانت جمالية التلقي عند (ياوس) تقوم على الدّور الفعّال للمتلقي في أيّ عمل إبداعي، فإنّ جمالية التّأثير عند (آيزر) تقوم على حدّة التّفاعل بين النّص والقارئ، ومن هنا نرى ذلك التّكامل بين المفهومين، من حيث إنّ جمالية التّلقي “تستهدف الجوانب التّاريخية للقارئ والنّص معا، وأنّ جمالية التّأثير تهتمّ بالبعد النّصي والفردي لقراءة النّصوص”[25]، إنّ هذه النّظرية – نظرية التّلقي- بهذا الزّخم المعرفي، والعناية النّقدية، لابدّ لها من أن تقوم على أسس ومبادئ تشكّل مرجعيتها الابستمولوجية. لذلك قال ياوس وآيزر بوجود مبدأين تنهض عليهما هذه النّظرية وهما:
1- أفق التّوقع.
2- القارئ الضمني.
– إنّ ” نظرية الاستقبال والتّلقي، أو جمالية التّلقي، قد ظهرت لتقدّم اعتراضا على الفهم أو التّصوّرات البنيوية للأدب، كما هي الحال مع اتجاهات ما بعد البنيوية، إلّا أنّها اختلفت عنها وعن النّظريات الّتي اهتمت بالقراءة والقارئ، بكونها نظرية تعنى بالفهم لا بالقراءة فحسب، فهي ترى أنّ الفهم ليس القراءة، أو تأويل الرّموز والشّيفرات، هو عملية وظيفية، لأنّها عملية دالة تسهم إسهاما فاعلا في بناء المعنى الأدبي، وهذا يعود إلى مفهوم القصدية الظّاهراتية عند (هوسرل)”[26]،يتجلّى ذلك الاختلاف بين نظرة البنيويين للنّص ودعاة نظرية جمالية التّلقي، فأصحاب الاتجاه البنيوي يرون أنّ النّص يحمل معناه في داخله بالنّظر إلى جانبه اللّساني، فالنّص بنية محايثة مكتفية بذاتها، ويتأتّى تفسير معنى النّص من داخله، فالبنية اللّسانية للنّص تحمل الدّلالة وتنتجها، ولأجل ذلك فإنّ ” الشّكل عندهم لا يلغي المعنى، بل إنّ الشّكل يعمل على إفقار المعنى، وإبعاده وجعله رهينا كما يقول (بارث)”[27]، وإدراك معنى النّص يتوقّف على مدى وعي المتلقي، الّتي تترجمها ردّة فعله حيّال كلّ مقروء، هذا إذا افترضنا أنّ أدنى مستويات التّأويل يقف عند القراءة[28]، وعلى قدر ذلك الوعي ينبني التّصور حيّال المعنى المراد من النّص المقروء، لقد تجاوزوا بهذا الطّرح تلك النّظريات الأدبية القديمة، والّتي ترى أنّ القارئ ” لم يكن إلّا مستهلكا، وهو بهذه الصّفة يغتدي كائنا خارجيا، يستقبل العمل كوديعة لديه، يستقبل معناه الواحد، وفي الآن ذاته، يستعيض عن قراءته بما يوجّه إليه لتفسيره، كما يستغني عن قراءة النّص في معظم الحالات، معوّضا إيّاها بقراءة غيره له”[29].
– وغدا القارئ بوعيه وتصوّراته، رغم اختلافها من قارئ إلى آخر، ذلك المتلقي للنّص، الّذي بنى علاقة تفاعل واعية ومتبادلة بينه وبين النّص المقروء، تفضي إلى نتيجة حتمية تحدّد الموقف النّقدي من النّص، وهي ” علاقة مزدوجة، أو بمعنى آخر، علاقة جدلية تتحرّك من النّص إلى المتلقي، كما تتحرّك من المتلقي إلى النّص”[30].
– وكما أشرنا سلفا أنّ أفق الانتظار والقارئ الضّمني، هما مبدآن أساسيان، صاحبا نظرية التّلقي، أو بالأحرى تقوم عليهما، فمن الجدير بالذّكر الإحاطة بمفهوميهما، على الأقلّ حتّى تتوضّح الفكرة، وتنجلي الصّورة أكثر.
1- أفق الانتظار: ويصطلح عليه بـ ” أفق التّوقع، أو الخبرة الجمالية أو المسافة الجمالية، الّتي تتولّد من رحم أفق التّوقع، وتغيير الأفق الّذي يعتمد على مخزون المتلقي الثّقافي، ذخيرته المعرفية، ومع تغيير الأفق تحدث عملية اندماج الآفاق، بين ماض مقروء وحاضر قارئ، بين أفقين تاريخيين، وأخيرا المنعطف التاريخي الّذي يرتبط بتغيير الأفق ارتباطا وثيقا، فتغيير الأفق يعتمد على المنعطفات التاريخية الكبرى”[31]، ويعطي ياوس مفهوما محدّدا لأفق التّوقع، من حيث هو ” كلّ جنس أدبي يخلق بالضّرورة أثرا، وكلّ أثر يفترض قطعا أفق توقع، والّذي يعني مجموع القواعد السّابقة لوجود النّص، وتوجّه القارئ إلى الكيفية الّتي يتلقّاه بها”[32]، ومن ثمّة فإنّ ياوس قد حدّد العوامل الّتي يقوم عليها أفق التّوقع، في اللّحظة التّاريخية الّتي ظهر بها، وهي:
ا- تمرّس الجمهور السّابق بالجنس الأدبي الّذي ينتمي إليه هذا العمل.
ب- أشكال أعمال ماضية وموضوعاتها، تفترض معرفتها في العمل.
ج- التّعارض بين اللّغة الشّعرية واللّغة العلمية، بين العالم الخيالي والعالم اليومي[33].
– ولم تقف نظرة ياوس عند هذا الحدّ من تحديد الإطار المفاهيمي للمصطلح الّذي أوجده، والعوامل الّتي ينهض عليها، بل ” نبّه على مفهوم تغيير الأفق أو بناء أفق جديد، باكتسابه وعيا جديدا، يدعوه بالمسافة الجمالية، أي المسافة الفاصلة بين الانتظار الموجود سلفا والعمل الجديد، حيث يمكن للمتلقي أن يؤدّي إلى تغيير الأفق بالتّعارض الموجود مع التّجارب المعهودة، ومن ثمّة قد يخيب ظنّ المتلقي في مطابقته معاييره السّابقة مع معايير العمل الجديد، وهذا هو الأفق الّذي تتحرّك في ضوئه الانحرافات أو الانزياح عما هو مألوف “[34]، ويبدو أنّ هذا المفهوم يحيل بالّدرجة الأولى على النّص، إذ ليس بالضّرورة أن يتوافق والمعايير الّتي رسمها المتلقي سلفا، أي قد يحصل تعارض إلى درجة التّناقض أو التّضاد مع الأبنية السّابقة في وعي المتلقي، وهو ما ينتج عنه ما يسمى بـ (خيبة الانتظار) أو (كسر أفق التوقع)*، ذلك أنّ ” لحظات الخيبة الّتي تتمثّل في مفارقة أفق النّص للمعايير السّابقة، الّتي يحملها أفق الانتظار لدى المتلقي، هي لحظات تأسيس الأفق الجديد”[35]، وهو ما يحافظ على ديمومة العمل الأدبي، لأنّ التّجديد يقف على كسر المألوف من كلّ فن، أو على الأقل، القفز على بعض جزئياته أو كلّياته إذا اقتضى الأمر، حتّى يحفظ للجديد تلك المرجعية الّتي يقوم عليها.
– ولا يسمح المقام هنا بالغوص في تفاصيل المعايير الّتي يقوم عليها أفق الانتظار، لنتجاوز ذلك إلى الدّعامة الثّانية الّتي تقوم عليها نظرية التّلقي، ألا وهي:
2- القارئ الضّمني: أو القارئ الافتراضي، الّذي قال به آيزر، وهو أنّه وجد أنّ جميع أنواع القرّاء تؤدّي وظائف جزئية، وهي عاجزة عن وصف علاقة التمّاهي بين النّص والقارئ، وذلك أنّ ” العمل الأدبي ينطوي في بنياته الأساسية على متلق قد افترضه المؤلف بصورة لا شعورية، وهو متضمّن في النّص، في شكله، وتوجيهاته، وأسلوبه، إنّ مفهوم القارئ الضّمني يشبه تماما مفهوم (اللّغة) عند سوسير، فهو تجريد يوجّه العمل الأدبي بصورة مقصودة أو غير مقصودة، وجهة تحقّق وظيفته المتواصلة”[36]، وأمام هذا الزّخم المعرفي الّذي يفترض في القارئ، من جهة، يتكهّن به صاحب النّص، ويفترضه في قارئه المميّز، يقف هذا القارئ، من جهة مقابلة، مشدود البال اتجاه النّص المقروء، فهو تارة يحتكّم إلى معاييره السّابقة، فيضع معرفته القبلية في تقابل مع الوافد الجديد، وكأنّه يختبرها، وتارة أخرى تشدّه المعايير الجديدة الّتي تولّدت عن فعل القراءة الحاضر، وهو بين هذه وتلك، يبني آفاقا ويهدم أخرى. ولخلق مرجعيات النّص، وإعادة إنتاجها وتشكيلها، يبتدع آيزر مجموعة من المفاهيم الإجرائية، مثل السّجل والاستراتيجية، ومستويات المعنى ومواقع اللّاتحديد، يدلّل بها على التّفاعل بين النّص والقارئ، لسدّ الثّغرات وملء الفجوات، “لخلق توافق النّص وانسجامه الجديد مستفيدا من مفهومي الرّد والتّعليق عند (هوسرل)، والمظّاهر التّخطيطية لدى (انغاردن)، وتهدف جميعا إلى استبعاد المعرفة السّابقة، والمرجعيات الجاهزة، الّتي يوفّرها التّاريخ أو الفهم السّابق، الّتي تراكمت فوق الشّيء، وتعليق التّاريخ بين قوسين بحسب (هوسرل)”[37].
– إنّ القارئ اليوم أو المتلقي أمام حتمية التّخلي عن الموروث من معارفه، حتّى ينشئ تلك العلاقة التّبادلية بينه وبين النّص المقروء، ليبني ثقافة جديدة، ويصبح النّص المقروء مرجعية لدى المتلقي تتأسّس عليها كلّ ثقافة جديدة، ويصبح الوصول إلى معنى النّص، لا يفترض معرفة مسبقة، أو زخما معرفيا أو ثقافيا، فالنّص في هذه الحالة على المسافة نفسها من جميع القراء، رغم اختلاف مستوياتهم ومشاربهم، إنّ المعنى ينشأ تلقائيا ومن أول مواجهة بين النّص والقارئ، ونستنتج مما سلف ذكره أنّ ” المعنى لدى أصحاب جمالية التّلقي، ولاسيما آيزر، أصبح بنية يشيدها التلقي بافتقار المفاهيم أو المرجعيات السّابقة، وتجاوز المعطى اللّساني الواحد، وقصد المؤلف، وأصبحنا تبعا لذلك بإزاء أسطورة المعنى الجاهز، والمعنى الخفيّ، تلك الّتي أشاعها التّأويل الكلاسيكي، فالقارئ الضّمني مفهوم إجرائي، ينمّ على تحوّل التّلقي إلى بنية نصّية، نتيجة للعلاقة الحوارية بين النّص والمتلقي، ويعبّر عن الاستجابات الفنّية الّتي يتطلّبها فعل التّلقي في النّص “[38]. فنحن أمام ذات قارئة أكثر وعيا وإدراكا من الذّات القديمة الّتي تسيّرها الأفكار المسبقة، والأحكام الجاهزة، والمعرفة القبلية، الّتي توجّه الحكم على النّص، وتؤثّر في رؤية القارئ، أي إنّنا أمام قارئ لا يؤمن بقاعدة (المثال / الأنموذج)، هو قارئ يتعامل مع النّص على أنّه بنية مستقلّة عن العوالم الأخرى، إذ “صارت الذّات المتلقية قادرة على إنتاج النّص بواسطة فعل الفهم والإدراك، ومتمكّنة بذلك من تكثير المعنى، وتشقيق وجوه لا نهائية من بنيته، ممّا يجعله قادرا على الدّيمومة والخلود، بفعل الحوارية المستمرة بين بنية النّص وبنية التّلقي”[39].
– ولربمّا يطول الحديث بنا إذا خضنا في أنواع القراءة ومستوياتها، وأنواع القرّاء، وزمن القارئ وزمن النّص، وكذا جملة المصطلحات الّتي تتوالى عندما يأتي الحديث عن فعل القراءة والقارئ بمفهوميهما النقديين، ونحيل القارئ الكريم، على المراجع الّتي تحدّثت عن نظرية التّلقي وأسهبت الحديث عن مصطلحي القراءة والقارئ، وبعد كلّ ما سبق يضعنا الحديث في موضوع حجاجية الصّورة الشعرية من منظور التلقي، في مواجهة سؤال يفرض وقعه علينا بإلحاح، بل إنّ عنوان هذه الورقة يتضمّنه ويحيل عليه، ومفاد هذا السّؤال هو: كيف يمكن للصّورة الشّعرية أن تؤثّر في المتلقي؟، ومن أين تستقي حجاجيتها؟.
– إنّ ” المتأمّل لما سبق يدرك أهمّية الصّورة، وقيمتها في هذا الاتجاه النّقدي، ويجد فيها أكبر عون على تقدير الوحدة الشّعرية، أو على كشف المعاني العميقة، الّتي ترمز إليها القصيدة”[40]، وإنّ الشّعراء لم يجدوا بدّا من استخدام الصّورة للإقناع ولو بطريقة غير حاسمة، لخلوّ هذه الصّور من المنطق الّذهني، أي البرهان الرّياضي، ولكنّها تمتلك التّأثير المقنع للمتلقي، بغضّ النّظر عن المستوى الثّقافي للمتلقي، ويكفي الصّورة تأثيرا، أنّها مقّوم من مقوّمات إبراز المعنى والتّدليل عليه، كما أنّ المتلقي يتفاعل معها تارة بالإيجاب، فتراه يحاول أن يضفي عليها من ألوان البديع مايراه ناقصا فيها، فهو ينتقل من مجرد الإعجاب بالصّورة إلى النّاقد لها، وتارة بالسّلب مستعيضا بغيرها عنها، ومبديا امتعاضه منها، إنّه في الحالتين (الإيجاب أو السّلب)، قد أثّرت فيه الصّورة ودخل مرحلة ما يسمى بـ “التمّاهي”. الّتي تفضي في النّهاية إلى إنتاج نص جديد وفق رؤية المتلقي، لا رؤية صاحب النّص. فنحن أمام ميلاد نص جديد ومؤلف جديد كان قبل ذلك متلقيا. أو ليس هذا تأثيرا؟.
– قائمة المصادر والمراجع:
أولا-المصادر:
1- أبو عثمان بن بحر الجاحظ، البيان والتبيين، ج2 دار ومكتبة الهلال، بيروت 1423ه.
2 – الحيوان، دار إحياء العلوم، القاهرة1955.
3- عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، تحقيق محمد رشيد رضا، دار المعرفة، لبنان.
ثانيا- المراجع:
4- أحمد علي دهمان، الصورة البلاغية عند عبد القاهر الجرجاني، ط1، دار طلاس دمشق1986.
5- إحسان عباس، فن الشعر، ط1، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان الأردن 1996.
6- بشرى مصطفى صالح، نظرية التلقي، أصول…وتطبيقات، ط1، المركز الثقافي العربي، المغرب2001.
7- جابر عصفور، الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، ط3، المركز الثقافي العربي، بيروت 1992.
8- حسين الواد، قراءات في مناهج الدراسات الأدبية، سراس للنشر، تونس 1985.
9-خالد مصطفى وربى عبد الرضا عبد الرازق، مفهومات نظرية القراءة والتلقي،
10-عبد القادر القط، الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، دار النهضة العربية، بيروت 1978
11-عبد الله محمد حسن، الصورة والبناء الشعري، دار المعارف، القاهرة.
12-عز الدين اسماعيل، الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر.
13-علي البطل، الصورة في الشعر العربي في آخر القرن الثالث الهجري، ط1، دار الأندلس، بيروت 1980.
14-ماجد ياسين الجعافرة، التناص والتلقي، دراسات في الشعر العباسي، ط1، دار الكندي 2003.
15-محمد مفتاح، التلقي والتأويل، ط2، المركز الثقافي العربي، المغرب 2001.
ثالثا-المراجع المترجمة:
16- باتريك شاردو، الحجاج بين النظرية والأسلوب، ترجمة أحمد الود، دار الكتاب الجديد، ط1، 2009.
17- روبرت هولب، نظرية التلقي، ترجمة عزالدين اسماعيل، النادي الأدبي الثقافي، جدة السعودية 1994.
18- رولان بارث، الأسطورة اليوم، تر. حسن الغرفي، الموسوعة الصغيرة، دار الشؤون الثقافية العامة،ع345.
رابعا- المقالات والمنشورات:
19- حبيب أعراب، الحجاج والاستدلال الحجاجي، مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، مجلد 30، عدد1، الكويت، سبتمبر2001.
20- عبد القادر زروقي، حجاجية البديع، استدلال منطقي أم إقناع بلاغي، مجلة مباحث الحجاج بين النظرية والإجراء، منشورات مختبر اللغة والتواصل، عدد خاص بالحجاج، أفريل،الجزائر 2015.
21- محمد اسماعيل بصل، فراس خليل سعد، النظرية الحجاجية في البلاغة الغربية، أعلامها وتقنياتها، مجلة جامعة تشرين للبحوث والدراسات العلمية، المجلد40 العدد6 ،2018.
22- محمد العمري، البلاغة والحجاج أو بلاغة الحجاج، مجلة عالم الفكر،المجلد40 العدد4، المجلس الوطني للثقافة والعلوم والآداب، الكويت2012.
[1] – محمد اسماعيل بصل، فراس خليل سعد، النظرية الحجاجية في البلاغة الغربية، أعلامها وتقنياتها، مجلة جامعة تشرين للبحوث والدراسات العلمية، المجلد40 العدد6 ،2018 ص 266.
[2]– باتريك شاردو، الحجاج بين النظرية والأسلوب، ترجمة أحمد الود، دار الكتاب الجديد، ط1، 2009، ص 16.
[3] – عبد القادر زروقي ، حجاجية البديع، استدلال منطقي أم إقناع بلاغي، مجلة مباحث الحجاج بين النظرية والإجراء، منشورات مختبر اللغة والتواصل، عدد خاص بالحجاج، أفريل 2015، الجزائر، ص 91.
[4] – حبيب أعراب، الحجاج والاستدلال الحجاجي، مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، مجلد 30، عدد1، الكويت، سبتمبر2001، ص 110.
[5] – عبد القادر زروقي ، حجاجية البديع، استدلال منطقي أم إقناع بلاغي، مرجع سابق، ص96.
[6] – محمد العمري، البلاغة والحجاجأو بلاغة الحجاج، مجلة عالم الفكر،المجلد40 العدد4، المجلس الوطني للثقافة والعلوم والآداب، الكويت2012، ص 269.
[7] – محمد العمري، البلاغة والحجاج أوبلاغة الحجاج، مرجع سابق، ص270.
[8] – المرجع نفسه، ص272.
[9] – إحسان عباس، فن الشعر، ط1، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان الأردن 1996، ص 193.
[10] – عز الدين اسماعيل، الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، ص124.
[11] – أبو عثمان بن بحر الجاحظ، الحيوان، دار إحياء العلوم، القاهرة1955، ص 557.
[12] – عبد القاهر الجرجاني ، أسرار البلاغة، تحقيق محمد رشيد رضا، دار المعرفة، لبنان . ص 111.
[13] – علي البطل، الصورة في الشعر العربي في آخر القرن الثالث الهجري، ط1، دار الأندلس، بيروت 1980، ص 30.
[14] – أحمد علي دهمان ، الصورة البلاغية عند عبد القاهر الجرجاني، ط1، دار طلاس دمشق1986، ص367.
[15] – عبد الله محمد حسن، الصورة والبناء الشعري، دار المعارف، القاهرة ص 18.
[16] – عبد القادر القط، الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، دار النهضة العربية، بيروت 1978، ص 435.
[17] – جابر عصفور، الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، ط3، المركز الثقافي العربي، بيروت 1992، ص 08.
[18] – أبو عثمان بن بحر الجاحظ، البيان والتبيين، ج2 دار ومكتبة الهلال، بيروت 1423هـ، ص 138.
[19] – حسين الواد، قراءات في مناهج الدراسات الأدبية، سراس للنشر، تونس 1985، ص 66.
[20] – خالد مصطفى وربى عبد الرضا عبد الرزاق، مفهومات نظرية القراءة والتلقي، ص 158.
[21] – روبرت هولب، نظرية التلقي، ترجمة عزالدين اسماعيل، النادي الأدبي الثقافي، جدة السعودية 1994، ص 144.
[22]- حسين الواد، قراءات في مناهج الدراسات الأدبية، ص 65.
[23] – ماجد ياسين الجعافرة، التناص والتلقي، دراسات في الشعر العباسي، ط1، دار الكندي 2003، ص 58.
[24] – خالد مصطفى وربى عبد الرضا عبد الرزاق، مفهومات نظرية القراءة والتلقي، ص 162.
[25] – المرجع نفسه، ص 163.
[26] – بشرى موسى صالح، نظرية التلقي، أصول…وتطبيقات، ط1، المركز الثقافي العربي، المغرب2001، ص 42.
[27] – المرجع نفسه، ص 43.وينظر: رولان بارث، الأسطورة اليوم، تر. حسن الغرفي، الموسوعة الصغيرة، دار الشؤون الثقافية العامة،ع345، ص 58.
[28] – محمد مفتاح، التلقي والتأويل، ط2، المركز الثقافي العربي، المغرب 2001، ص 221.
[29] – خالد علي مصطفى، ربى عبد الرضا عبد الرزاق، مفهومات نظرية القراءة والتلقي، ص 161.
[30] – خالد علي مصطفى،…مفهومات نظرية القراءة والتلقي، ص 165
[31] – المرجع نفسه، ص 167.
[32] – المرجع نفسه، ص 167.
[33] – روبرت هولب، نظرية التلقي، تر محمد عزام، ص 157.
[34] – بشرى موسى صالح، نظرية التلقي، أصول …وتطبيقات، ص 46.
* – هذا مصطلح ظهر مع الشكلانيين الروس.
[35] – بشرى موسى صالح، نظرية التلقي، أصول …وتطبيقات، ص 47.
[36] – خالد علي مصطفى، ربى عبد الرضا عبد الرزاق، مفهومات نظرية القراءة والتلقي، ص 174. وينظر: – بشرى موسى صالح، نظرية التلقي، أصول …وتطبيقات، ص 50-51.
[37] – بشرى موسى صالح، نظرية التلقي، أصول …وتطبيقات، ص50.
[38] – المرجع نفسه، ص 51.
[39] – بشرى موسى صالح، مرجع سابق، ص 52.
[40] – إحسان عباس، فن الشعر، ص193.