
رقصة أحواش : بين عراقة الذاكرة التاريخية ورهانات الهوية
“The Dance of “Ahwach” Between The Authenticity Of Historical Memory And The Stakes Of Identity”
ط.د. خديجة الزاهير/ جامعة القاضي عياض – ط.د.محمد اوبها/جامعة الحسن الثاني
Khadija Ezzahir: PhD student at Cadi Ayyad university, Marrakesh-Morocco
OUBAHA Mohamed, PhD student at Hassan II university, Mohammedia, Morocco.
مقال نشر في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 65 الصفحة 57.
للاطلاع على الصور يرجى تحميل العدد أعلاه
Abstract :
The oases of Draa are rich of multiple individual and collective poetic and lyric patterns reflect the cultural diversity of this region and also reveal the richness of the social fabric of these oases, It shows the common coexistence that distinguishes the identity of Moroccan people in general and Darii in particular, for this we can talk about “sqal”, “Rokba”, “ahwach”,”ahidous” ( collective ,tradional local music ) … “But this intangible cultural heritage, which represents the identity of the region, is threatened by the challenges of globalization and by the social and cultural transformations of the oasis society, This requires intervention in order to protect, preserve and maintain it. In this article we will stop at the dance of “Ahwash” to highlight its historical heritage and symbolic significance as a symbol of the Southeastern Moroccan identity.
Key words: Identity –Globalization-Historical memory- Intangible Heritage- Economical development- Ahwach dance.
ملخص:
تزخر واحات درعة بأنماط شعرية وغنائية جماعية وفردية متعددة، تعكس التنوع الثقافي بهذه المنطقة ويكشف أيضا غنى النسيج الاجتماعي بهذه الواحات، ويبين التعايش المشترك الذي يميز هوية الإنسان المغربي عامة والدرعي على الخصوص، فهناك “الركبة”، “السقل”، “احواش”، “احيدوس”.. ولكن هذا التراث الثقافي اللامادي الذي يمثل هوية المنطقة أصبح مهددا بفعل تحديات العولمة وبفعل التحولات الاجتماعية والثقافية التي يعيشها المجتمع الواحي، مما يستلزم التدخل قصد حمايته وحفظه وصيانته. وفي هذا المقال سنتوقف عند رقصة “أحواش” لنبرز عراقتها التاريخية ودلالاتها الرمزية كرمز لهوية الجنوب الشرقي المغربي.
الكلمات المفتاحية: الهوية –العولمة- الذاكرة التاريخية- الفن اللامادي- التنمية الاقتصادية- رقصة أحواش
تقديم عام:
لا شكّ أن التراث يمثّل الذّاكرة الحيّة للفرد وللمجتمع، ويمثّل بالتالي هويّةً يتعرّف بها الناس على شعْبٍ من الشعوب؛ كما أن التراث بقيمه الثقافية، والاجتماعية يكون مصدرا تربويا، وعلميا، وفنيا، وثقافيا، واجتماعيا، ذلكم أن تراكم الخبرات يُكوّن الحضارة، وتراكم المعلومات يُكوّن الذاكرة، وهذه الذاكرة بدورها وكما تقول: الباحثة تمبل كريستين Christine Temple في كتابها المخ البشري : مدخل إلى دراسة السيكولوجيا والسلوكThe Brain An Introduction To The Psychology of the HumanBrain and Behaviour: « … هي التي تمكّننا من فهْم العالم، بأن تربط بين خبرتنا الراهنة، ومعارفنا السابقة عن العالم وكيف يعمل.»[1] ولهذه الذاكرة كما للتراث الثقافي الذي ننادي بالحفاظ عليه علاقةٌ طردية مع الإبداع لدى الأفراد والمجتمعات. حيث أن لكل شعب موروثاته الخاصة به، والتي توارثها شفهيا، أو عمليا، أو عن طريق المحاكاة.. ليكون بمثابة فنون نتجت عن التفاعل ما بين الأفراد والجماعة، والبيئة المحيطة خلال الأزمان الماضية، ومع مرور الزمن تحولت إلى إنتاجٍ جماعي يختزن خبرات الأفراد والجماعات، وبقدْر ما هو مخْيالٌ للجماعة فإنه جدارٌ متينٌ لحفْظ هويّتها، ومحرّكٌ لها في الاستمرارية والوجود.
في حين يذهب الكاتب السوري الدكتور أحمد زياد محبك إلى أبعد من ذلك فيرى: «إن التراث الشعبي إبداع عفوي أصيل، يحمل ملامح الشعب، ويحفظ سماته، ويؤكد عراقته، ويعبر عن همومه اليومية، ومعاناة أفراده، على مختلف مستوياتهم، وهو صورة لروحهم العامة، وشعورهم المشترك.»[2].
إن تزخر منطقة درعة بثقافة شعبية متنوعة بتنوع القبائل التي تستوطنها، إلا أن هذا الغنى بدأ يندثر أمام غياب الاهتمام الرسمي بهذه الثقافة الشعبية وفي ظل التحولات التي يعرفها المجتمع الدرعي بعد الاستقلال ناهيك عن توافد السياح الأجانب بكثرة على المنطقة، وأيضا في ظل عولمة الثقافة، هذه العولمة التي أصبحت تهدد التراث المحلي.
ويمكن التمييز في داخل النصوص الغنائية الشعبية التي أرخت عن وعي أو غير وعي لهوية الإنسان الدرعي، كما أرخ الشعر لأيام العرب:
- نوع خاص بالقبائل العربية وتحديدا أولاد يحيى (الروحا)من بينها: “الركبة” و”الصف” و”الهرمة” و”المشاط” و”الترواح” و”الوسطي”
- نوع خاص بقبائل أيت عطا وأيت سدرات وهو “أحدوس” و”أحواش”
- نوع خاص بقبائل ادراوة وهو “السقل” و”أقلال”
- نوع خاص بقبائل اعريب وهو “الكدرة” و”الشمرة”
- نوع خاص الزوايا والمرابطين وهو “الحضرة” و “جيلالة”
إضافة إلى هذه الأنواع الغنائية الجماعية فهناك أنواع فردية أخرى تحيل كلها إلى هوية الجنوب الشرقي المغربي ومن أهمها ” الرسمة”و”التحوفي”[3]
وسنقتصر في هذه المساهمة المتواضعة على وصف ودراسة رقصة “أحواش” التي تنتشر بمناطق الجنوب الشرقي، وربطها بهوية المنطقة.
الإشكالية: كيف تأثر التراث المحلي بالتغيرات التي يشهدها العالم وخاصة العولة؟ كيف يمكن الحفاظ على هذا التراث الذي يشكل هوية الجنوب الشرقي المغربي؟ ما هي رقصة أحواش وما هو مجال انتشارها؟ ما هي الدلالات والرموز التي تحملها هذه الرقصة؟ هل عرفت تغيرات عبر التاريخ؟
صورة رقم 1 : صورة لرقصة أحواش
المصدر : تصوير الباحثة خديجة الزاهير
أولا : تعريف رقصة “أحواش “، تاريخها ومناطق انتشارها.
- تعريف الرقصة:
كلمة أمازيغية الأصل مشتقة من الفعل “حُش” بمعنى “أٌرقص” و”أر ئتحوش” بمعنى “يرقص” ومصطلح أحواش لا يدل على نمط معين من الفن، بل يدل على كل ما له علاقة بالرقص، وله عدة تسميات أخرى مثل: أمارك- أكوّال-أهنقار- أهياض-أكناوي..وكل هذا بمثابة تشكيلية فنية مكونة من بناء إيقاعي ورقص جماعي ونظم شعري في مكان خاص يدعى “أبراز” أو “أسايس”.
أحواش إذن تطلق على الرقص الجماعي بجميع أشكاله بجنوب المغرب خاصة في المناطق المتداول فيها لهجة تشلحيت. وفي رأي بعض الدارسين كأبو درار فالمصطلح في الناحية الفنية لا يعني رقصة واحدة كما هو شائع بل ” يشمل متتالية من الرقصات المتناسقة فيما بينها”. على شكل لوحات منسجمة ويقابل كلمة أحواش بمدلولها الفني في أمازيغية الأطلس المتوسط مصطلح أحيدوس.
3– تاريخ الرقصة ملئ بالدلالات والمعاني:
إن الحديث عن تاريخ بداية أحواش يعد مسألة في غاية الصعوبة ،إذ أن هذا النمط يغلب عليه الطابع الشفهي ،ولا يزال لم يخضع بعد للكتابة والبحث، والمعروف هو أن أحد المماليك الأمازيغ اشترى آلة الطبل “كانكا” (التي تعد أهم آلة في أحواش )من الرومان، وانتقلت إلى المغرب بفعل الهجرات البشرية الآتية من إفريقيا السوداء وخصوصا في العصر السعدي، ونجد أن هذه الآلة تنتشر بالخصوص في المناطق التي كانت ممرات ومحطات للقوافل التجارية كواحة طاطا وورزازات وزاكورة، وهذه المناطق التي تعرف الانتشار الواسع لأحواش والارتباط الوثيق، بسكان هذه المناطق بهذا الفن، وهذا أيضا يؤكد أن فن أحواش خضع لتأثيرات وتأثيرات على مر الزمن. وهناك فرضية ثانية تروجها بعض المصادر الأجنبية تعتبر منطقة تلوات ببلاد كلاوة أول مهد لنشأة هذه الرقصة ومنها انتشرت عبر المناطق المجاورة.
ثانيا : نسق ومكونات رقصة أحواش
- الملفوظ/النسق الشعري:
يعد النص الشعري من بين أهم المكونات لفن أحواش، إذ لا يمكن لأحواش أن يقام دون نص شعري، وتبدأ الرقصة باستهلال ديني متبوعا بـ”تالالايت”.
ويتميز هذا الفن كذلك بالفورية والحكمة والألغاز حيث يحاول كل “أنظام” أن يقارع صاحبه في شكل مقابلة شعرية تدعى “أنعيبار” وفي مقابلة ما قد تصل إلى المخاصمة، حيث يدخل أحد من الفرق لإيقاف المقابلة قبل أن تصل إلى المجادلة بمقطع غالبا ما يدعو فيه إلى تحكيم العقل والصلح، ويسمى المقطع “تامنصيفت” وتتكون من شطرين يردد الشطر الأول نصف الفرقة، بينما يردد النصف الأخر المقطع الثاني. وتحاول المجموعة أداء المقطع في انسجام وتناسق ما يعطي لوحات رائعة من الركز بقرع الطبول أولا ثم الدفوف ثانيا.
الصور رقم 2 : صورة لفرقة أحواش ورزازات
المصدر : تصوير الباحثة خديجة الزاهير
كما يمكن للنساء أن يؤدين قطع موسيقية من اختيارهن، تليها ضربة الطبل مع الدفوف، وخلال إنشاد المقاطع قبل أن تكون مصحوبة بالآلات يسود جو من الخشوع والإنصات الجمهور وهذا كله من أجل معرفة الأخبار من لدن “ئنظامن” وعندما يكمل قوله يبدأ “ئمهدارن” في ترديد اللازمة حتى انتهاء المقاطع التي رددها “أنظام”،ليبدأ من جديد في التحاور، ويسمى كل طرح”أسفسي”.وتختلف المواضيع المتداولة في فن أحواش، إذ لا يمكن حصرها إطلاقا، إلا أننا نجدها ترتكز أساسا على مشاكل المجال ومواضيع اجتماعية متعلقة به، إضافة إلى مواضيع سياسية وثقافية …
- الحركة والرقص:
تختلف الحركة وطريقة الرقص في أحواش باختلاف نمط هو منطقة تداوله، فبالنسبة لمنطقة طاطا مثلا تعتمد على تحريك الأكتاف “تيغراط” والأرجل “ئضارن” كما تختلف طريقة التحريك كذلك من طاطا إلى أيت عبد الله، إضافة إلى التصفيق”الرش” بميزان دقيق. ويعد رئيس الفرقة الوحيد المسؤول عن تغيير الحركات، ويدعى “أمسيس”، كما يختلف أحواش أفلاندرا عن نظيره بورززات في مجموعة من التفاصيل مثل:
- سرعة الإيقاع، أي أن الراقصين ينطلقون على نحو مباشر إلى ما يمكن اعتباره بداية نهاية الوصلة في ورززات.
- يتركب من ثلاثة اضرب هي: “رّامّي” و “أَسْكَرْ” و”تَسُّسْتْ”[4] وهي مصطلحات تحيل على إيقاع ورقص يلازمه.
- انفراد المغني “الفردي” بوقت مهم من الغناء، وقت مقتطع من الوصلة.
- قربه الكبير من أحواش الأطلس الصغير (سوس خصوصا).
- النقر على الطبل من جهتيه باستعمال اليدين في الوقت نفسه.
- غياب النساء يبين أحد عوائق الإنجاز خارج المجال الطبيعي\ الأصلي.
3- اللباس والآلات:
أما بخصوص الزي الذي يرتديه أمحوش ومؤنثه “تمحوشت” أي أصحاب أحواش فنجد البلغة المزوقة، التكشيطة القفطان، تطرفت وهي عبارة عن قطعة من الثوب ترتديها النساء فوق اللباس المذكور سابقا، ومجوهرات للتزيين كالدواح أي أقراط من الفضة.
أما على مستوى الرأس فيتم ارتداء القطيب وخيط الروح. وعلى مستوى الصدر نجد تخلا لين، فعلاوة على وظيفتها الجمالية فهي تقوم بتثبيت تطرفت. ويجب على الراقصة أنلا ترتدي سروالا طويلا حيث يحجب جمالية الحناء، وتجدر الإشارة إلى أن النساء قديما كن يرتدن أثوابا بيضاء وصفراء فقط.
أما الرجال فيرتدون الفراجية وهو لباس داخلي، والجلابة والبلغة والكل بلون أبيض دليلا على الصفاء والنقاء دون نسيان “تكميت” أو “الخنجر” وتتجلى دلالته في الاستعداد الدائم للحرب والدفاع.
ومن الآلات المستعملة في هذه الرقصة نذكر “تكنزة” جمعها “تكنزوين” أي “الطارة” وهي عبارة عن إطار خشبي مستدير يعرف ب “إغص” يغطى قعره بجلد الخروف وعلى الإطار نجد ثقب للتحكم في الآلة. وهي أساسية في الغناء الشعبي المغربي عامة،إلا أن ”تلونت أوحواش”تختلف عن غيرها بنبرتها الرقيقة الخالية من أي اهتزاز. كما نجد “الدمدوم” عبارة عن قطعة خشبية دائرية وكبيرة الحجم تغطى من كلتا الواجهتين بجلد الماعز نظرا لمتانته ويستعمل “التيو” كأداة للضرب على الدمدوم.
الناقوس: آلة حديدية تصدر صوتا مميزا مثل رنين الجرس ويصطلح الناقوس كذلك على الجرس، يستعمل في هذا النمط من أحواش إضافة إلى الدفوف “إلونا” والطبل ” كانكا” والتصفيق.
وإذا أردنا الحديث عن مكان الرقص فيدعى أسراك وهو مكان واسع أما شكلها فهو عبارة عن خط مستقيم مكون من النساء فقط وعند ارتفاع الإيقاع تقوم الراقصات بالدوران في اتجاه اليمين جاعلين من ذلك دائرة يتوسطها الرجال وبين الفينة و الأخرى تبتعد راقصتان بأمر من الرايس للرقص خارج الدائرة وبحركات متشابهة ومتناسقة فيما بينها ..
الصورة رقم 3 و4 : مهرجان ورزازات لرقصة أحواش
المصدر : تصوير الباحثة خديجة الزاهير
تعتبر رقصات أحواش من الممارسات الثقافية والفنية ذات الطابع الجماعي المتجذر في تقاليد المجتمع الأمازيغي إذ تقترن بمختلف المناسبات التي يحييها أبناء القرى والقبائل برمتهم كالأعياد الدينية والوطنية والمواسم والحفلات والأعراس والختان… إلى غير ذلك من المناسبات التقليدية التي تبرز فيها قيم التكافل والتآزر الاجتماعي.
ومن بين مميزات رقصة أحواش الاحترام والتنظيم ويتجلى ذلك في كون النساء لا يلتفتن أثناء الرقص بهدف المحافظة على الإيقاع وإظهار الاحترام إضافة إلى الزغاريد التي تقابل بها النساء غناء الرجال عليهن احتراما لهم أما الحركات الحاضرة بقوة في هاته الرقصة نجد “تمركات “أي الرقص بالأرجل عند الرجال أما النساء فنجد تطابق الكفين معا وتحريكهما دون تصفيق والرقص بالكتفين وتدل هذه الحركة على أن هذا تقليدي ويجب المحافظة عليه.
ثالثا :التراث مرآة الهوية 1. في مفهوم الهويّة:
يعتبر مفهوم الهوية ” Identité ” من أهم المفاهيم اشتغلت عليها الفلسفة وحاولت ضبط هذا المفهوم بغض النظر عن تمظهراته الثقافية والاجتماعية، وقد تبين أنه من المفاهيم التي يصعب ضبطها والإلمام بها من كل جانب، فالمعجم الفلسفي يعرف مفهوم الهوية بأنه: ” حقيقة الشيء من حيث تميزه عن غيره وتسمى أيضا وحدة الذات”[5]إذن فالهوية مأخوذة من ” هو ” بمعنى جوهر الشيء وحقيقته .. أي “هو هو” أي مطابق الشيء، وما يشبه من كل وجه وإن تميز منه، لكن ليبنيزLeibniz الفيلسوف الألماني الشهير ينكر المطابقة التامة من كل وجه ويرى أنه ليس في الطبيعة شيئان متطابقان من كل الوجوه. إن الهوية كالبصمة للإنسان يتميز بها عن غيره. وتُعرّفُ الهوية أيضا بمعنى ” التفرّد “، فالهوية الثقافية تعني التفرّد الثقافي بكل ما يتضمنه معنى الثقافة من عادات وأنماط سلوكٍ، وميلٍ، وقيمٍ، ونظرةٍ إلى الكون والحياة.[6]
إن مفهوم ” الهوية ” لا يجب أن يؤخذ بالبساطة العفْوية، إذْ لا يزال يلفّه الكثير من الغموض، فهناك من المفكرين مَنْ يصل به الأمر إلى حدّ القول بأن الهوية لا وجود لها أصلا، ذلك أن الهوية الشخصية تُـفترضُ أن يبقى الإنسان نفسه على مرّ الزمن. أمّا الهوية الجماعية فهي أكثر إشكالية ..الهوية الجماعية تفترض(التماثل التام) في الـ (نحن) الجماعية، بينما البشر مختلفون تبعا لطبيعة الظروف التي تكوّنوا في إطارها، وتبعا للبيئة التي يحيوْن فيها ومكوّناتها الحضارية والثقافية والاجتماعية ، وهذا ما عبّر عنه الفيلسوف الفرنسي ” بول ريكور ” بالقول:« … إن أهواء الهوية متجذّرة فينا بعمق، وليس هناك أي شعب يعاني منها أكثر من شعب آخر.»
وفقا للعديد من الدراسات السوسيولوجية، والأنثروبولوجية التي تتفق على كون الهوية تُــعدُّ معطى اجتماعيا يقوم على مبدا التطابق والانسجام، ويحمل دلالات التنوع والتكامل والاختلاف، فإن الهوية تشتغل في التراث الثقافي كشرط وكمناخ؛ فهي سند الإبداع، وشرط الإحساس بالذات والانتماء، بل هي التعبير الصادق عن الذات في أقصى درجات انتشائها واحتفالها، هي بذلك تغدو منطلقا وطريقا وهدفا. إنها ترتكز على شعور غريزي بالانتماء والمحلية وتظهر ملازمة للثقافة الخاصة في حدود ملامحها الأصلية والأهلية التي تشكل حاملا للهوية الجماعية، أي الهوية القائمة على الإرث الثقافي والسلالة المشتركة ومن ثم، فهي تساعد على اكتشاف النسق البنياني للمجتمع حتى يتحول إلى كل منسجم على مستوى الوعي“[7].
2-التراث الثقافي والدفاع عن الهوية رقصة “أحواش” نموذجا
إن المتتبع للشأن الثقافي الدرعي وخصوصا فيما يتعلق منه بالتراث الشعبي والرقصات الجماعية، “رقصة أحواش نموذجا” لابد إلا أن يلاحظ أن هذه الأخيرة، استطاعت عبر التاريخ أن تتجاوز البعد الفني من مجرد أداء راقص، لتعكس بعدا آخر أكثر عمقا ونضجا، ألا و هو البعد “الهوياتي” إن صح القول، بحيث يمكن اعتبارها تجسيما مصغرا للحياة الاجتماعية بواحات درعة، مُجسِّدَةً عبر تلك الحركات، الكلمات والإيقاعات خبرة السكان ومدى قدرتهم على التكيُّف، والتأقلم والتعايش مع المجال الواحي ومن هنا فهي عبارة عن ذاكرة جماعية حية وسجل تاريخي للمنطقة.
إن رقصة أحواش الممتدة على ضفاف وادي درعة ليست وليدة اليوم، فهي تراث لا مادي ذو جذور تاريخية عميقة ضاربه في القدم، ونتاج لتطور مستمر لمئات السنين، جعل منها ملخصا لتاريخ قديم ينطلق من الماضي السحيق إلى الوقت الحاضر.
لكن وكغيرها من مكونات التراث الثقافي، أضحت تعاني من تجليات العولمة والعصرنة وانعكاساتهما التي طالتها فأضافت إليها العديد من “الرتوشات الدخيلة” لإمتاع الأخر/الغريب[8] وتلبية لرغبات الأجنبي في الغريب والأسطوري، وبالتالي لا علاقة لها برغبة المبدع ولا تنبئ عن واقعه ولا عن تطلعاته على حد سواء.
واليوم في ظل المبادئ العلمية الحديثة التي بدأت تعي أهمية التراث الثقافي بكل مكوّناته، وتدرك هذه القيمة الإبداعية والجمالية في الثقافة الإنسانية، والدور الذي يلعبه في تشكيل المقومات الأساسية لهذه الثقافة، فإن التراث الثقافي أحوج لمثل هذه الدراسات التي تأخرت كثيراً، وهذه مهمة الدارسين والمهتمين بأن يعلنوا أن هذا التراث الغني والمتواجد، وبصور متنوعة لهو من الغنى التاريخي، والهويّاتي، والجمالي ما يجعله ليس قضية متحفية، أو مجالا للدراسات الأكاديمية وحسب، يتم التعامل معها كمتعة خالصة، أو كفرجة في أوقات الفراغ. وتكمن أهمية الحفاظ على التراث الثقافي في الأهداف التي يمثلها هذا التراث وهي:
- الحفاظ على التراث الثقافي وبعده الحضاري، وحفظه لذاكرة وهوية الإنسان والمجتمع؛ ذلك أن الإنسان مكوّن من مادة وروح. وبما أن التراث الثقافي يحتوي على جانبين: الملموس ممّا أنتجه السابقون من مبانٍ، وأدوات ومدن وملابس، وغيرها ممّا هو مادي، وغير الملموس من معتقدات، وعادات، ولغات، وتقاليد وغيرها؛ فإن هذيْن العنصريْن يكوّنان عصب الحضارة، فالحفاظ عليهما يعني الحفاظ على ما أنتجه الإنسان في مجتمع ما ككينونة وكهوية فردية ومجتمعية. فالتراث يمثل الذاكرة الحية للفرد وللمجتمع، ويمثل بالتالي هوية يتعرف بها الناس على شعب من الشعوب، فأحواش إذن تمثل مما لا شك فيه هوية الإنسان المغربي.
- الحفاظ على التراث الثقافي هو إغناءٌ للثقافة الإنسانية بالحفاظ على التنوع الثقافي لدى شعوب المعمورة.
- إن التراث بقيمه الثقافية والاجتماعية يكون مصدرا تربويا، وعلميا، وفنيا، وثقافيا، واجتماعيًا.
- إن فقدان التراث الثقافي يعني فقدان الذاكرة، ويعني افتقارا اقتصاديا مهمّا في التنمية المحلية لمناطق هذا التراث، وخلْق ديناميكية تنموية شاملة يستفيد منها السكان المحليون، وخزينة الدولة من موارد مالية هامة بالعملة الصعبة، والعملة المحلية.
الصورة رقم 5 : مهرجان ورزازات لأحواش
المصدر : تصوير الباحثة خديجة الزاهير
خاتمة :
لكل أمة تراثا تعتز به وتفتخر، وتعتبره الجذر الذي يمتد في الماضي السحيق ليؤرخ ماضي الأمة وأمجادها العظيمة، وتعتبر الحاضر امتدادا للماضي، ويشكل السمة المميزة لكل أمة عن غيرها. ويتضمن الموروث التراثي الثقافي على معلومات جمالية، وتاريخية، وعلمية، واجتماعية اقتصادية، أو قيم روحية للماضي، والحاضر والمستقبل. وتبرز هنا الحاجة الماسة والمستمرة لتقييم أهمية وحالة التراث الثقافي، والدور الذي يلعبه في وجوده على هذه الأرض، والدور الاقتصادي والتكنولوجي للتراث الثقافي في الفنون، والتغيرات الاجتماعية والعلمية. وهذا التقييم يعتبر أساسا لاتخاذ القرارات من أجل حماية ونقل معاني القيم التراثية والهوياتية للمجتمع.
وهذه الحماية لن تتحقق إذا لم تكن ضمْن نهضة ثقافية حديثة شاملة، مرفقة بوعي لمكوّنات هذا التراث الثقافي، والنظر إليه لا كماضٍ غاب وانقضى، بل هو حاضرٌ دوْمًا وحيٌّ، ومحفّزٌ لنا في الاندماج بفعالية في الحاضر، والإطلالة بثقة على المستقبل، لا كقيدٍ يكبّلنا ويشدّنا إلى ذلكم الماضي لوحده، فننقطع عن دورة الحياة المعاصرة، وننكفئ على أنفسنا فتجرفنا التيارات الخارجية، ولا نقوى حينها على المقاومة.
وختاما فإن الثراء والغنى الذي يميز العنصر البشري والعرقي والثقافي بدرعة ما هو إلا انعكاس للغنى والثراء الوطني على المستوى الثقافي والعرقي، والتعايش الذي يميز ساكنة درعة الأوسط ليس سوى تجسيد للتلاحم والتعايش الحاصل بين أبناء الشعب المغربي في إطار لحمة واحدة وفي دولة واحدة، تجمعها هوية واحدة هي الانتماء للمغرب.
قائمة المراجع :
- كرستين تمبل، المخ البشري: مدخل إلى دراسة السيكولوجيا والسلوك، ترجمة عاطف غيث، منشورات عالم المعرفة، عدد 287، 2002.
- أحمد زياد محبك، من التراث الشعبي: دراسة تحليلية للحكاية الشعبية، دار المعرفة، بيروت، 2005.
- عبد الرحمان المتقي، المجتمع الدرعي من خلال لوحاته الفنية، ضمن أعمال الملتقى الأول حول أغاني ورقصات الواحات، المنظم بزاكورة أيام 18-19-20 نونبر 2005، منشورات جمعية تنمية وادي درعة زاكورة، الطبعة الأولى، مارس 2006،
- محمد المصدياني، الثقافة الشعبية بدرعة، ضمن ندوة حوض وادي درعة ملتقى حضاري وفضاء للثقافة والإبداع، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير، 1996.
- محمد الخطابي، أشكال التعبير الفنية الجماعية في “درعة” ضمن أعمال الملتقى الأول حول أغاني ورقصات الواحات، المنظم بزاكورة أيام 18-19-20 نونبر 2005، منشورات جمعية تنمية وادي درعة زاكورة، الطبعة الأولى، مارس 2006،
- مجموعة من المؤلفين، المعجم الفلسفي، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، 193.
- محمد الميلي، الجذور الثقافية والفكرية لثورة نوفمبر المجيدة، صحيفة المجاهد الأسبوعي، العدد 2303 من 20ـ 27 /9/ 2001.
- طيب تيزيني، مفهوم التراث العالمي مدخل باتجاه التأسيس، ضمن مجلة عالم الفكر، العدد الرابع، 2008.
[1]-كرستين تمبل، المخ البشري: مدخل إلى دراسة السيكولوجيا والسلوك، ترجمة عاطف غيث، منشورات عالم المعرفة، عدد 287، 2002، ص 105.
[2]ـ أحمد زياد محبك، من التراث الشعبي:دراسة تحليلية للحكاية الشعبية، دار المعرفة، بيروت، 2005، ص 5.
[3]– محمد المصياني، الثقافة الشعبية بدرعة، ضمن ندوة حوض وادي درعة ملتقى حضاري وفضاء للثقافة والإبداع، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير، 1996، 254.
[4]– محمد الخطابي، أشكال التعبير الفنية الجماعية في “درعة”، ضمن أعمال الملتقى الأول حول أغاني ورقصات الواحات، المنظم بزاكورة أيام 18-19-20 نونبر 2005، منشورات جمعية تنمية وادي درعة زاكورة، الطبعة الأولى، مارس 2006، ص 20.
[5]– مجموعة من المؤلفين، المعجم الفلسفي، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، 193، ص 208.
[6]– محمد الميلي،الجذور الثقافية والفكرية لثورة نوفمبر المجيدة، صحيفة المجاهد الأسبوعي، العدد2303 من 20ـ 27 /9/ 2001.
[7]ـ.طيب تيزيني، مفهوم التراث العالمي مدخل باتجاه التأسيس، ضمن مجلة عالم الفكر، العدد الرابع، 2008، ص 9.
[8]– عبد الرحمان المتقي، المجتمع الدرعي من خلال لوحاته الفنية، ضمن أعمال الملتقى الأول حول أغاني ورقصات الواحات، المنظم بزاكورة أيام 18-19-20 نونبر 2005، منشورات جمعية تنمية وادي درعة زاكورة، الطبعة الأولى، مارس 2006، ص 12.