
التعدد الثقافي وإشكالية التلقي في رحلة ابن فضلان”
د/ عامر رضا ـ المركز الجامعي – ميلة(الجزائر).
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 47 الصفحة 111.
*- الملخـــــص:
تعدّ مسألة التعدد الثقافي في النص التراثي العربي مسألة معقدة جدًا لمافيه من مرجعيات فكرية وإيديولوجيات متعددة، خاصة ما يطرحة النص من إشكاليات مختلفة تؤسس لمرجعيات وفلسفات ذات توجه ثقافي مزدوج وبشكل خاص إذا كان النص يحمل في طياته لأكثر من ثقافة،وهذا فعلا ماوجد في أدب الرحلات،و كتاب ألف ليلة وليلة،و البخلاء للجاحظ،وكتاب كليلة ودمنة وغيرها من المؤلفات ذات التفرع الثقافي المتعدد، وهذا في ماخلق في ذهن المتلقي خلخلة ثقافية كبيرة من خلال تعريفه لثقافات أمم متعددة محيطة به يتأثر بها ويُؤثر فيها.
وتبقى القراءة النقدية الثقافية بحاجة ماسة إلى ناقد متمرس يعيد للنص مرجعياته الفكرية والفلسفية التي تبقى في أغلب الآحايين عصية على النقد مما يخلق تشويشا ابستمولوجيا في فهم الدلالات والأنساق المضمرة التي تحملها النصوص المراد استنطاقها وتأويلها بصورة واعية،ولعل هذا المأزق النقدي جعل من النقد الثقافي بين أخذ ورد في الاستعانة به في قراءة النصوص الأدبية بين العديد من النقاد على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم.
*- الكلمات المفتاحية: التعدد الثقافي- النص التر اثي- توجه ثقافي- أدب الرحلات- ثقافات متعددة.
*- تمهـــــيد:
لقد أصبح التعدد الفكري، والثقافي الإنساني في عمومه داخل بنية النص الأدبي يشكل مأزقًا حقيقيًا خاصة إذا كان النص ذو حمولة معرفية، وفلسفية ورؤية حضارية إنسانية تتجاوز البعد الجغرافي والعقدي والطائفي،وهذا ماحمله التراث الإنساني القديم بشكل عام يسهل معه التواصل وتغطية جميع الأنساق الثقافية التي تتداخل مع مكنونات النص الأدبي بشكل مستمر ومتواصل وفعلاً قدم النص النثري التراثي القديم عبر فترة زمنية طويلة مرجعية حضارية متنوعة الأوجه والدلالات التي تجاوزت جميع الحدود الجغرافية.
طبعًا قدم أدب الرحلات بوجه عام نظرة عميقة للذات البشرية التي كانت تبحث عن جميع أشكال التواصل،ونقل مختلف المرجعيات الثقافية والتواصل مع الآخر في ثنائية تناظرية (الآنا/الآخر) دون إفراط أو تفريط فكري أو عقدي أو فلسفي،ومنه بقي أدب الرحلات حلقة وصل بين مختلف الحضارات الإنسانية خاصة مسألة التبادل الثقافي،ومرجعياته المذهبية والفكرية التي أسست لعلاقات أكثر إشراقًا بين حضارات الشرق والغرب ليصبح الإنسان فيها مورد تلك الثقافات بما يحمله من حمولات ثقافية متعددة تعيد للإنسانية وجودها الجمعي،فعُدت تلك الثقافات المترامية الأطراف تجسد تراكمًا ثقافيا يتشارك الجميع في إنتاجه بشكل مستمر دون إشكال فكري يحول أثناء عملية التواصل الفكري،وهذا الأمر جعل من النسق الثقافي عند كل مجتمع له خصوصية في تكوينه المعرفي، فمثلا الثقافة العربية الإسلامية لها خصوصية تجعلها تتمايز عن غيرها من الثقافات الإنسانية خاصة الثقافة الغربية المسيحية،وغيرها من الثقافات الإنسانية.
ولعلّ أدب الرحلات،وماقدمه للثقافة الإبداعية من إنتاج فكري إنساني،ومع ذلك بقيت الثقافة النثرية بحاجة ماسة إلى إعادة قراءة نقدية أكثر وعيًا من خلال مناهج نقدية تستطيع قراءة المضمر من الأنساق، وفكّ شفرتها العلاماتية تدريجيًا من أجل تحديد مايحمله النص من تجارب بشرية،ومعارف سوسيولوجية، وثقافية باتت تشكل الأطر النصية للغة النص الثقافية كتجربة تستحق القراءة.
أ- أهمية الدراسة:
هذه الدراسة تعدّ من الدراسات النقدية المعاصرة،إذْ تتناول نص تراثي نثري وفق المنهج الثقافي،وعلاقته بقراءة التراث النثري العربي القديم بشكل خاص مسألة الأنساق الثقافية،وتعددها داخل النصوص العربية القديمة وماتحمله من تعددية فكرية ومعرفية على مرّ العصور التاريخانية ليصبح النص في ظلّ المنهج الثقافي إنتاجية إنسانية جمعاء لكونه نص حبلى لمختلف الثقافات بداية من الثقافة العربية الإسلامية إلى الثقافة المسيحية إلى الفارسية والهندية والصينية والسريالية واليونانية والرومانية,,,إلخ،وبذلك أصبحت الأنساق الثقافية المضمرة في تلكم النصوص النثرية بمثابة عتبة حقيقية لحوار ثقافي إنساني متعدد سوف تكشف عنه قراءتنا لرحلة (ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة)،وما في هذه الرحلة من حوار ثقافي وأنساق معرفية متعددة بين الحضارة العربية الإسلامية وبقية الحضارات الوثنية الأخرى.
ب- إشكالية الدراسة:
تدور إشكالية البحث حول قراءة التراث النثري القديم:(أدب الرحلات) وفق المناهج النقدية المعاصرة ،ومن بينها المنهج النقدي الثقافي،والذي بات يشكلّ معضلة حقيقية لغياب العديد من الأدوات الإجرائية الخاصة بالقراءة النقدية الواعية وفق هذا النوع من المناهج،بداية من أصول المنهج، وفلسفته،وصولاً إلى غياب الرؤية الميّسرة لقراءة النص الأدبي النثري،وخاصة القديم منه وفق النقد الثقافي،وما يحمله هذا الأخير من تعدد الرؤى والأفكار والتوجهات النقدية والمذهبية بداية من مدرسة الثقافية النفسية/السلوكية الأمريكية وصولاً إلى (مدرسة فرانكفورت) الثقافية لينتهي المطاف بالمنهج الثقافي إلى التمازج مع المنهج الأنثربولوجي،وعليه تعددت تلكم الفلسفات النقدية التي أصحبت ترى النقد الثقافي حالة نقدية معاصرة لابدّ منها في قراءة التراث النقدي القديم وفقه،وعليه نطرح الإشكال الآتي:”هل تمكن النقد الثقافي من قراءة النص النثري الرحلي قراءة نقدية واعية؟” وهذا ماسيحاول البحث الإجابة عليه تدرجيًا من خلال استعرض المحطات الثقافية المتعددة الأنساق، وما تؤسس له من حوارية ثقافية إنسانية واعية بشكل عام.
جـ- منهج الدّراسة :
سيتمّ الاعتماد على عدد من المناهج أهمّها المنهج التاريخي لعرض الجانب النظري(المنهج النقدي الثقافي وإشكالية القراءة للنص النثري القديم)،مع الاستعانة بمناهج أخرى من أبرزها المنهج السيميائي، والمنهج الأنثربولوجي في تأويل العلامات اللّغوية، وتحليل الأنساق الثقافية لرصد مدارات التحاور الثقافي، والتداخل بين النصوص النثرية العربية القديمة،وبشكل خاص النص الرحلي،ومايحمله من حمولات فكرية وفلسفية ومذهبية ودينية،وهذا فعلاً ماوجد في (رحلة ابن فضلان) إلى بلدان العالم الغربي القديم: بلاد(الترك/الروس/الصقالبة) وماساد الرحلة من تفاعل ثقافي وانصهار اجتماعي/ ديني/ اقتصادي/ إنساني يقارب بين مختلف الثقافات البشرية المترامية الأطراف على سطح المعمورة.
د- محاور الدراسة:
تدور الدراسة حول محورين أساسين هما:
1- المحور الأوّل: النقد الثقافي وإشكالية قراءة التراث النثري العربي
إنّ النقد الثقافي كمنهج تفكير نقدي قد أوجد لنفسه حضورًا نسقيًا متعددًا شمل العديد من المبررات المنهجية ذات الأهداف الإيديولوجية بشكل متواصل،وقد بقى التراث العربي صورة مكثفة للعديد من الثقافات التي يحملها في طياته تُصور مختلف التجارب الإنسانية المتعددة،إذ فتح هذا التراث الباب على مصراعيه حول المثاقفة الفكرية التي تجسدت في العديد من النصوص الأدبية،ومن بينها أدب السير والملاحم،وأدب الحكايات والرحلات الذي كان محطة ثقافية فكرية للعديد من الخطابات النثرية التي نقلت مختلف المشاهد الفكرية لمختلف الحضارات الإنسانية كالحاضرات الوثنية للشعوب القديمة نحو:(اليونانية/البابلية/السريالية/الفرعونية) وصولاً إلى الحضارات السماوية نحو:(الحضارة الإسلامية/ المسيحية/ اليهودية).
ومع ذلك كله قد شكّل النص الرحلي طفرة نوعية في عالم النثر العربي لما فيه من حمولات ثقافية بقيت تصور مختلف المشاهد الأنثروبولوجية، والإثنية لمختلف المجتمعات والحضارات الإنسانية من خلال المنهج الثقافي الذي كان حاضرًا متأصلاً في العديد من الأنواع النثرية،ومن بينها (أدب الرحلات)، الذي أصبح بحق ” نشاط فكري يتخذ من الثقافة بشموليتها موضوعًا لبحثه وتفكيره ويعبّر عن مواقف إزاء تطورها وسماتها”([1])، طبعًا النص الرحلي في نهاية المطاف تتناص معه العديد من المواقف الفكرية والنظريات التي تعطي في نصًا مزيجًا من التفاعلات اللّغوية، والمشاهد الفولكلورية ليصبح النص”سوى مادة خام يستخدم لاستكشاف أنماط معينة من مثل الأنظمة السردية والإشكاليات الإيديولوجية وأنساق التمثيل وكل مايمكن تجريده من النص”([2])،وإذا تتبعنا صورة النماذج النثرية الرحلية وجدنا فيها العديد من مفارقات الأخبار،وغرائبية الأحداث التي تصور حالة الإنسان،وتعدد موروثه الثقافي الذي بات يشمل “العرق والجنس والجنوسة ((gender والدلالة والإمتاع”([3])،وقد سجل أدب الرحلات تلك الصور البشرية وتعدد ثقافاتها على مرّ العصور الإنسانية لمختلف الحضارات لما” يملكونه من تراث ثقافي يميزهم عن غيرهم”([4]) دون إشكال مذهبي سوى نقل تلك المعارف إلى مختلف الثقافات بشكل توثيقي يحدد طبيعة تلك المجتمعات ومايشكل ماضيها وحاضرها بشكل دوري تواصلي.
1-1. النقد الثقافي وقراءة التراث:
في الحقيقة نجد أنّ النقد الثقافي قد درس التراث العربي لكن ليس بالشكل النقدي والمنهجي الذي يجب أن يدرس به لكون هذا النقد بقي ” عائمًا تدخل تحت مظلته ألوان مختلفة من الملاحظات والأفكار والنظريات”([5])،وهذا ما خلق أزمة نقدية في التعامل مع هذا المنهج بشكل متواصل في مقاربته لمختلف النصوص النثرية،ناهيك عن الإختلالات المتباينة بين النقاد، ومرجعياتهم الفلسفية في تحليل النصوص ونقدها،فوّلد بين النقاد تنافرًا نقديًا،ومنهجيًا لزم على نقدنا العربي ضرورة التعامل بحذر شديد مع تراثنا النقدي بمثل تلك المقاربات التي تبقى بعيدة عن تقديم قراءة منهجية سليمة تضمن لتراثنا النثري خاصة التميّز والإضافة النقدية للإبداع والأدب خاصة وأنّ النصوص التراثية هي” مفتاح الدخول إلى التاريخ الثقافي والاجتماعي للعصر في غيبة الشواهد المادية غير النصية على العصر”([6])،وتبقى صلة هذا التراث بالتاريخ المادي والفكري عاملاً هامًا في الإحاطة التامة بهذا التراث الإنساني، والرفع من قيمته داخل الفضاء النسقي للفكر العربي مسؤولية أخلاقية بالدرجة الأولى.
وعليه نجد الكثير من النقاد والمفكرين قد سعوا بشكل مباشر بجعل هذا التراث ينطلق من عوالم بكر كانت تحاصر وجود هذا التراث وولوجه إلى الفكر النقدي من أجل إظهاره للعيان والاستفادة من وجوده، وهذا ما تحقق فعليًا في العديد من الدّراسات النقدية الثقافية أثناء قراءة التراث النثري بشتى الطرق الإجرائية التي باتت تراها مناسبة لفهم ماجاء في مختلف النصوص الأدبية وعرض العديد من التصورات الفكرية التي باتت تكشف عن الأنساق الثقافية،وعلاقة ذلك بماهية النص المدروس من الناحية السوسيولوجية بشكل يؤسس لهويته الإيديولوجية،ولعلّ العديد من تلك الدراسات باتت متباينة في دائرة النقد العربي نظرًا لمرجعيتها المتباينة،وهذه الدراسات التي تم إحصاؤها،هي كالآتي:
المؤلف | عنوان الكتاب | دار النشر وتاريخ الطبع |
تيري إيغلتون- ترجمة ثائر ديب | فكــــــــــرة الثقافة | دار الحوار، سوريا(ط1/ 2000م) |
أرثر ايزابرجر- ترجـــــــــمة وفاء إبراهيم ورمضان بسطاويسي | النقد الثقافي- تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسية | المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة- مصر،(ط1/2003م) |
إدوارد سعيد- ترجمة كمال أبو ديب | الثقافة والإمبريالية | دار الآدب، بيروت- لبنان(ط3/ 2004م) |
عـــــــــبد الله الغذامي |
والدراسات النقدية السّالفة للذكر بقيت تتأرجح في نقدها بعد اعتمادها على منهجيات غير موحدة في دراسة النصوص الأدبية،ومن ثمة تقديم قراءات نقدية متباينة حول طريقة النقد منهجيته،مرجعيته النقدية، الأدوات الإجرائية المستخدمة في النقد، المعايير النقدية المعتمدة في الدراسة والنقد،وهذا الأمر خلق أزمة كبيرة على مستوى المنهج،والبدائل التي يجب أن تستخدم في المقاربات النقدية لكون هذا “النقد الثقافي يتصل في النظرية الغربية بعدة مداخل، ومصطلحات نقدية متداولة في تلك النظرية: التاريخانية الجديدة،التحليل الثقافي، أو الشعرنة الثقافية، والدراسات الثقافية،والنقد الثقافي، والمادية الثقافية، ناهبك عن مفهوم الثقافة والمجتمع”([7])،الأمر الذي زاد في تشعب هذا المنهج هو كثرة المصطلحات النقدية ومرجعيتها إمّا (فرانكفونية أو إنجلوسكسونية) الأمر الذي شعّب المسافة بين النقاد في تطبيق هذا المنهج بين النقاد المشارفة أصحاب المدرسة التاريخانية الجديدة الأمريكية أو النقاد المغاربة أصحاب مدرسة فرانكفورت الألمانية،وهذا التشعب خلق خلخلة في المرجعيات/المفاهيم/ المصطلحات بين الجميع داخل المؤتمرات وقاعات المحاضرات بين هؤلاء وهؤلاء لذلك ” لاينبغي أن يتوقف الناقد الثقافي عند حدود العرض والتحليل بل عليه أن يتعدى إلى دراسة الأنساق الثقافية “([8])،ودون ذلك تبقى القراءة حبيسة أفكار سطحية لاتتوغل في عمق ثقافة النص الفكرية والفلسفية.
1-2. أزمة النقد الثــــقافي:
تشعبت أزمة النقد الثقافي منذ ظهوره كمنهج نقدي،وازدادت مشاكل التعامل به وتطبيقه على مختلف النصوص الأدبية،ومرجعياتها الثقافية لما فيه من بنى متشعبة، ودلالات متعددة جعلت من النص الأدبي محصورًا في زاوية رؤية واحدة، كما أنّ بنية النسق وفعاليته لم تضيف شيئًا جديدًا للنص ناهيك عن تكرار الأدوات الإجرائية في مقاربة النص دون تجديد،هذا الأمر عجّل بتخلي العديد من النقاد عن مقاربة النصوص به،وكذلك مسألة التشعب المتعدد لمصطلحاته الفلسفية التي رغم محاولة العديد من نقادنا تبسيطها للمتلقي العربي غير أنّها بقيت في دائرة المبهم في توظيفها نظريًا أو تطبيقها إجرائيًا لكون” النقد الثقافي لايدور حول الفنّ والأدب فحسب،وإنّما حول دور الثقافة في نظام الأشياء بين الجوانب الجمالية والأنثروبولوجية، بوصفه دورًا يتنامى في أهميته،ليس لما يكشف عنه في الجوانب السياسية والاجتماعية فقط بل لأنّه يشكل كذلك النظم والأنساق والقيم والرموز”([9]).
كما أنّ مسألة البحث في خلفية هذا المنهج النظرية جعل منه محل إشكال كبير بين النقاد نظرًا لتعدد مدارسه،وتفرع منجزاته النقدية، فالنص حسب مفهوم الدراسات الثقافية ليس” سوى مادة خام يستخدم لاستكشاف أنماط معينة من مثل الأنظمة السردية،والإشكاليات الإيديولوجية وّأنساق التمثيل،وكل مايمكن تجريده من النص”([10])، وهذا الأمر في حدّ ذاته خلق سطحية وضحالة في التعامل مع المنهج واستخداماته النقدية التي بقيت تتأرجح في نطاق محدود لكون جلّ الدراسات الثقافية تعاني في الغالب من” فقرها النظري وتركيزها على العوامل الاقتصادية والمادية خاصة الاتجاه المسمى بالمادية الثقافية”([11])،وعليه كلّ تلك الإشكالات المنهجية بقيت مؤثرة على المنهج النقدي الثقافي وتؤدّي دورًا هامًا في انطلاقة المنهج، وتفاعلاته النقدية المطلوبة منه في الكشف والتدليل عن مختلف الأنساق الثقافية في النصوص الأدبية.
كما إنّ التباين النسقي بين النقاد في عملية التنظير، والتطبيق لنظرية الأنساق الثقافية خلق تنافرًا منهجيًا بين جميع النقاد العرب مما خلق تشويشًا في استقبال هذا المنهج والتعريف به والتأصيل له تدريجيًا في جميع مراحله النقدية ناهيك عن تعدد عملية الترجمات غير المؤسسة في استخدام مختلف المصطلحات النقدية الثقافية التي بقيت حالة اضطراب وتذبذب متواصل،إذْ “كثيرًا ما يستخدم أصحاب الاتجاه الثقافي،مختلف المصطلحات الفنية،مثل السمات الثقافية، والمركبات الثقافية،والأنساق الثقافية، والدائرة الثقافية”([12])، وهذا الأمر عجّل فعليًا بتداخل العديد من المصطلحات النقدية داخل النظرية الثقافية وجعلها محطّ نقد،وصعوبة منهجية في تطبيقاتها النظرية المتعددة،فولد في نهاية الأمر أزمة حقيقية داخل مؤسسة النقد العربي الرسمية في التعامل بحذر مع هذا المنهج،أو محدودية تطبيقاته التنظرية والتطبيقية مع جميع النصوص الأدبية فكانت تلك الإشكالات مانعًا حقيقيًا بين جميع نقاد النظرية الثقافية في التنفير من هذا المنهج والابتعاد عن تطبيقاته التي بقيت تخض سوى النسق الثقافي”الهامشي والمغفول عنه”([13]) في مسيرة النص الأدبي.
2- المحور الثاني: الأنساق الثقافية وإشكالية التلقي في رحلة ابن فضلان
لقد قدمت الرحلة للأدب العربي مادة ثقافية متعددة الأوجه خاصة أنّ أدب الرحلات قد سبقته نصوص نثرية متعددة منها فنّي:(الخطابة/الرسالة)،وماحملته نصوصهما من مادة ثقافية/ تاريخية/اجتماعية/جغرافية ساهمت في إماطة اللّثام عن كثير من المجتمعات،والأمم لتصبح الرحلة في نهاية الأمر” نص مفتوح لايمكنه أن يسيّج في خانة محددة تُجنّبهُ بصفة معينة تضيّقُ من تحرره واتساعه وانتشاره”([14]) .
وعليه فقد ساهمت العديد من الرحلات الداخلية،والتي منها الرحلات الحجازية الزيارية،وكذلك الرحلات الخارجية ،والتي منها الرحلات التجارية والدعوية كرحلات كل من ابن جبير لبلاد البلغار ورحلة ابن فضلان لبلاد الصقالبة والشماليين،ورحلة أفـــوقاي الأندلسي المعروفة باسم (رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب) وفيها رحل إلى البرتغال هروبًا من ملاحقات محاكم التفتيش المسيحية لمسلمي غرناطة كتأريخ لتلك الفترة العصيبة التى مرّ بها مسلمي الأندلس المنكوبين إذ” تتضمن جل النصوص الرحلية بنيات كاملة يؤرّخ فيها المرتحل للفترة التاريخية التي استغرقتها رحلته فضلاً عن الأحداث التي عاصرها من منظور يعتمد المعاينة والقراءة والتأويل والسماع”([15])،وهذا ما يجعل من الرحلة وثيقة تاريخية وجغرافية هامّة.
2-1. تمثلات الأنساق الثقافية في الرحلة:
لقد تجاوزت الدراسات النقدية الثقافية التي تناولت التراث العربي بمختلف أشكاله وأنواعه حدود الثقافة العربية بحثًا عن العالمية لما يحمله من بذور التجربة الإنسانية كمحفز حقيقي لحوار الثقافات/الحضارات تاريخيًا،ومنه وهذا ماحققه أدب الرحالات عبر التاريخ من دور حاسم في تحقيق التقارب الفكري والمعرفي بين مختلف الثقافات الإنسانية،وعليه قدم أدب الرحلات للمجتمع المعرفي في الثقافة العربية مادةً خامًا بحاجة إلى وعي نقدي أكثر جرأة،ومنهجًا أكثر شمولية لتقديم قراءة تستحق من المتلقي متابعتها،والتعاطي مع منهجها دون خلل منهجي،فكان المنهج النقدي الثقافي من خلال التنقيب في التراث العربي عن الأنساق و التمثيلات المضمرة في عديد النصوص الأدبية من خلال الكشف عن سيروروتها التي تخفي زاوية رؤية مغايرة عن ظاهر الحديث، ومع ذلك تبقى مسألة المنهج تؤرّق الناقد/المتلقي أثناء قراءة النص،وخاصة في أدب الرحلات الأمر الذي دفع بالنقد الثقافي للبقاء عاجزًا أمام العديد من النصوص التراثية، وتحديد منهجية القراءة، والتحليل لأنساقها النصية لعدم دراية سابقة بالمنهج وآليات القراءة،وهذا فعلا ما وجدناه في أدب الرحلات من صعوبات جمّة في الإحاطة التامة بأنساقه المضمرة،ولعل هذه الأنساق قدم عددناها كالآتي:
1- نسق الدولة/المملكة: إذا عدنا إلى هذا النسق وجدنا أنّ عاصمة الدولة العباسية (بغداد) بكل ماتملكه من شرعية مطلقة على العالم الشرقي والغربي،فجعلها مركزية القرار في كل ماتراه مناسبًا لصالح الدولة العباسية وهيبتها العسكرية والسياسية،وهذا ماكان في عهد الخليفة العباسي(أبو الفضل جعفر بن المعتضد المقتدر بالله)،مع أحد ملوك العالم الغربي القديم الوثنيين المسمى بـــ (ألمش بن يلطوار)،فكانت العلاقة السياسية في مجتمعه مبنية على الغلبة والقوة مما جعل هذا الأخير يطلب المدد من الخليفة العباسي في بسط الإسلام والنظام القائم على العدل والأخوة، والتسامح في دولته والخلاص من عبادة الأوثان إلى عبادة الله،وهذا ما أشارت إليه الرحلة،حيث يقول فيها:” ولما وصل كتاب ألمش بن يلطوار ملك الصقالبة إلى أمير المؤمنين يسأله فيه البعثة إليه ممن يفقه في الدين ويعرفه شرائع الإسلام ويبني له مسجدًا وينصب له منبرًا ليقيم عليه الدعوة له في بلده وجميع مملكته ويسأله بناء حصن يتحصن فيه من الملوك المخالفين له فأجيب إلى ما سأل عن ذلك” ([16]).
2- نسق الرجل/ المرأة: ولعل العديد من الرحلات تدور في أصلها حول البحث عن أقاليم جغرافية وأماكن جديدة من أجل الاكتشاف أو التجارة أو التوسع الاجتماعي،ونذكر من ذلك رحلة ابن بطوطة المعروفة بـ (تحفةُ النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار)، ورحلة محمود الألوسى أبو الثناء شهاب الدين المعروفة بـــــ (غرائب الاغتراب ونزهة الألباب في الذهاب والإقامة والإياب)،ورحلة الشريف الإدريسي المسماة بــ(نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) وغيرها من الرحلات التي كانت تدور في فحوى استكشاف مختلف الأقاليم والأمصار بحثُا عن المتعة والتبادل الثقافي مع الغير،وإذا عدنا إلى رحلة ابن فضلان وجدناها تحدثنا هي الأخرى عن ضرورة معرفة ثقافة الغير،وتصوير العلاقات الإنسانية بين مجتمع الرجال/النساء في الأقاليم التي مرّ بها في رحلته فعمله يتعالق بالأنثربولوجي، والسوسيولوجي في معرفه عادات وتقاليد تلك الشعوب، وقد أشار ابن فضلان عن ذلك في أكثر من موضع في رحلته فيقول:” ويجتمع في البيت العشرة والعشرون والأقل والأكثر ولكل واحد سرير يجلس عليه ومعهم الجواري الروقة للتجار فينكح الواحد جاريته ورفيقه ينظر إليه وربما اجتمعت الجماعة منهم على هذه الحال بعضهم بحذاء بعض وربما يدخل التاجر عليهم ليشتري من بعضهم جارية فيصادفه ينكحها فلا يزول عنها حتى يفضي أربه”([17])،وهذا الأمر يشير صراحة إلى السلطة الذكورية المفروضة على مجتمع النساء الذي يبقى فاقدًا للهوية الاجتماعية داخل مجتمع الرجال الذي يساهم في تسليع القيم،حيث تبقى هذه الصورة المضمرة لحالة المرأة داخل البنية القيمية للمجتمع تعاني في صمت داخل هرم سلطة القرار الذكوري.
3- نسق الإسلام/الوثنية: القصد من ذلك عرض الرحالات التي تناولت قضية السفر إلى بلاد العجم من أجل الاكتشاف والتحاور الفكري، والثقافي معهم نحو رحلة ابن جبير الأندلسي المعروفة بـــ(التذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار)،ورحلة أفوقاي الأندلسي،ورحلة ابن فضلان المسماة بـــ رحلة إلى بلاد الترك والروس والصقالبة،وبقيت جلّ تلكم الرحلات بأنواعها وأشكالها المتعددة وثيقة تاريخية هامة في عالم النثر العربي القديم لما تجسده من تصور عن معتقدات المجتمعات والأمم الغربية في فترة تاريخية ما،وماساد تلك الفترة من أحداث اجتماعية وسياسية وثقافية بارزة نقلها المؤلّف إلى المتلقين من العلماء وطلبة العلم حتى تبقى سندًا لهم في رحلاتهم في معرفة الأمصار،وطرق السفر في القرّ والحرّ لمن يطلب الرحلة إلى بلاد الغرب،ولابدّ من الإشادة بأنّ نص رحلة ابن فضلان المسماة بـــ رحلة إلى بلاد الترك والروس والصقالبة قاد إلى عملية التفاعل والتخصيب الديني بين أصحاب العقيدة (المسلمين) من جهة، وعبدة الأوثان من جهة ثانية، والذي على أساسه تتحقق الغاية من الرحلة وهي نشر الدين الإسلامي عند مختلف الأمم المسيحية، والوثنية، ودعواتهم إلى توحيد الله وهي تشبه إلى حد كبير رحلة الملك الصالح(ذي القرنين) والتي ذكرها القرآن الكريم في سورة الكهف،وإذا عدنا للرحلة وجدنا هذه الأنساق المضمرة في سردا لرحالة ابن فضلان،إذ يقول:”وقال بعضهم وسمعني أقرأ قرأنا فاستحسن القرآن وأقبل يقول للترجمان: قل له: لا تسكت”([18])،،وهذا دليل على إعجابهم الشديد بسماع تلاوة القرآن الكريم،فله حلاوة،وعليه طلاوة، وفي النهاية نجد أنّ الشكل الآتي يوضح لنا صورة الأنساق وتمثلاتها في رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة.
2-2. الإحالات الثقافية في رحلة ابن فضلان وإشكالية التلقي:
تبدو الإحالات الثقافية التي طرحتها رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة وما تحمله من تيمات وأنساق ثقافية متعددة شهدها الرحالة (ابن فضلان) كان لها الأثر “بتلاقح التجارب الثقافية،والاحتكاك بمكونات معرفية وثقافية”([19])ساهمت في إطّلاع المثقف العربي تاريخيًا على ثقافة الآخر،ومعرفة هويته الفكرية والحضارية كفرد يعيش مع غيره من بني البشر رغم التباين الكبير بينه،وبين الآخر من غير عقيدته، وانتمائه القبلي ليصبح “عنصر التفاعل في الرحلة مزدوجًا ومتباينًاـ، فهناك ثقافة ماقبل الرحلة الفعلية وهي الثقافة الموجهة، المهيئة للاستقبال،تتحوط بمجموعة من الانطباعات المرفودة بصور وأحلام وتخيلات ،أو بمعارف سماعية أو مستقاة من رحلات سابقة تخضع للتحويل والتأويل.. إنّها ثقافة ما قبل الرحلة الموجّهة، مقابل ثقافة مت بعد الرحلة حيث تصطدم الانطباعات والمعارف القبلية/المسبقة مع المشاهدات التي تكونت إدراكًا جديدًا ينضاف إلى الانطباعات”([20]) .
لقد تعددت الأنساق الثقافية في رحلة (ابن فضلان)،حيث تنوعت بين أنساق ثقافية، اجتماعية،أنساق ثقافية ،جغرافية أنساق ثقافية،سياسية،أنساق ثقافية،دينية،أنساق ثقافية اقتصادية وكلّ تلك الأنساق ظاهرها وباطنها في متن الرحلة قد كشفت عن عمق التثاقف بين الدولة العربية الإسلاميةـ،وبقية الشعوب وحضاراتهم المختلفة من غير المسلمين،وصعّبت من تلقي أنساق الرحلة هذه ذات الأحداث المتداخلة “بوصفها حوادث ثقافية،ومن ثم اكتناه أبعادها ومضمراتها النسقية،التي تبدو هي الأخرى على وشيجة تامة بالسياقات الثقافية والظروف التاريخية التي أنتجتها”([21]) ،وعليه بقيت مسألة الأنساق الثقافية داخل النص النثري تعدد لهويات فنية وجمالية متباينة،وما حملته تلكم الأنساق من حمولات متداخلة داخل بنية النص الأدبي لتشكل مفارقة كبيرة في التلقي لهذا التراث المشحون بتعدد ثقافي إنساني كبير،وهذا ماجسده نص(رحلة ابن فضلان)إذْ نجد “أنّ التشكيلات الجمالية والصور الفنية التي تمثل نسيجًا كليًا لتلك النصوص،ليست سوى مظهر وهمي خادع يضمر في جوانيته أنساقًا مخاتلة تتعلق بالمجتمع والثقافة والإيديولوجيا”([22]) ،فعلاً فنص رحلة(ابن فضلان) يضمر في طياته الكثير من أنساق ثقافة الشعوب التي مرّ بها الرحالة(ابن فضلان) من ترك/روس/ صقالبة، وكلّ شعب منهم له نسق ثقافي معين يحيا فيه ويعيش به يختلف كليًا عن الآخر
وعليه تبقى إشكالية تلقي التراث النثري العربي القديم من مؤسسة النقد العربي الحديث مأزقًا تاريخيًا شكّل هاجسًا نقديًا كبيرًا لماخلقه من مفارقات متباينة بين النقاد أنفسهم،وآلية التجاوب النقدي السليم خاصة أنّ” الظروف التاريخية الخاصة بكل ثقافة والنتائج المترتبة عليها تؤثّر في تشكيل المفاهيم والمناهج”([23]) ،التي يجب أن تحدث فرقًا جوهريًا في عملية قراءة التراث قراءة واعية تقوم على منهج سليم تتحدد من خلاله العديد من التجارب النقدية المناسبة لعملية التلقي،ومع ذلك كله تبقى مسألة المنهج تؤرق النقد العربي بوجه خاص في عملية تلقي التراث العربي القديم،وتجاوب المنهج وأدواته الإجرائية في عملية القراءة.
إنّ معضلة استخدام المنهج، وأدواته الإجرائية تبقى مسألة بحاجة إلى إعادة النظر من طرف النقد العربي،والتنظير لها بشكل يسمح لها بالخروج من مأزق الخوف، والتحجيم الذي صاحب عملية قراءة التراث النثري على وجه خاص،وهذا مادفع بالنقد العربي قاطبًا بضرورة التفاؤل في قراءة التراث العربي دون هواجس تحدّ من قيمة القراءة،ومرجعيتها الفلسفية أو المعرفية بشكل عام،إذ يجب على الناقد الحاذق أن يكون” واعيًا وفاعلاً وبشكل خاص في تمثله لتضاريس هذا المشهد المنهجية والإجرائية ومحاولته بلورة رؤيا نقدية- أو مجموعة رؤى نقدية- تفصح عن خصوصيته وجديته في إيصال القطيعة المعرفية التي بدأت على أيدي المفكرين والنقاد النهضويين العرب إلى نهايتها المنطقية”([24])،ومع ذلك كله بقيت مسألة التلقي مشكلة عويصة في النقد العربي المعاصر لتراث ضخم متنوع يسوده الاختلاف المتباين في الشكل والمضمون،وهذا ماعجل في النهاية بترك التراث،والتهرب من قراءته بأساليب، ومناهج نقدية معاصرة تكشف عن مضمراته وتقدمه في ثوب جديد يمكّن الباحثين من تناوله، والتواصل معه تدريجيًا دون قطيعة إبستومولوجية تخلف إشكالاً في البحث فيه خصوصًا لدى طلاّب العلم في اختصاصات النقد الأدبي القديم، ولعلّ المغامرة النقدية التي قام بها العديد من النقاد العرب للمنتج التراثي القديم حاليًا يعدّ تحديًا صريحًا لإخراج هذا التراث،وتبنّيه دون إفراط أو تفريط.
أ- الإحالة الاجتماعية:
يبدو النسق الثقافي الاجتماعي في رحلة ابن فضلان نسقًا متوزايًا مع نسق خطّ الرحلة لما فيها من تعدد ثقافي، واجتماعي وثّقه الرحالة في نصه فالرحلة تكشف عن العمق الاجتماعي المتباين بين جميع شعوب الأرض في الفترة التي رحل فيها ابن فضلان لهدفه قاصدًا بها ملك الصقالبة(ألمش بن يلطوار) الذي طلب المدد والمساعدة من أمير المؤمنين لحمايته من أعدائه وخاصة اليهود ببناء سور يحميه ويحمي عرشه من التهاوي بعد الدخول في الإسلام، فكان له ما أراد لما أرسل له الخليفة برسوله(ابن فضلان) يحمل له ما طلب،ويعينه على تجسيد الدين،وإقامة شعائر الإسلام في بلاده،وقد بدأت رحلته سنة(309م/921هـ)من دار السلام عاصمة الخلافة العباسية (بغداد) لتنتهي الرحلة سنة (922م/310ه) بالوصول إلى بلاد الصقالبة(البلغار).
وأثناء تلك الرحلة التي قام (ابن فضلان)مرّ بالعديد من الأمصار والأقاليم التابعة لدولة الإسلام ،وغيرها من البلدان المترامية الأطراف لأقوام من المسيح أو اليهود أو الذين ليس له عقيدة، وأقام- في كلّ مرة عند قوم منهم-أيامًا ضيفًا يسجل ويوثّق كل مايراه ويشاهده من غرائب الأخبار، والأمصار،وهذه الأخبار نجدها كلها كانت حول:نسق اللّباس/الأكل والشرب/العادات والتقاليد …إلخ.
- مظهر التعايش:
يبدو مظهر ارتداء اللّباس الذي شهده- ابن فضلان في رحلته – للعديد من الأقوام متباينًا حسب طبيعة كل منطقة جغرافيًا،وفصليًا،فهناك من يلبس الصوف وهناك من نصفه العلوي عارٍ ونصفه السفلي مستور بقماش،وهناك من هو عار الحالتين،وهذا الأمر جعله يدرس طريقة تفكير كل منطقة على حالها، وهذا مايتضح في الأمثلة الآتية:
*– المثال الأوّل(مدينة جورجيا):” كنت أنام في جوف بيت وفيه قبة لبود تركية وأنا مدثر بالأكسية والفرى”([25])،وهذا في توضيح لما في هذه المنطقة من البرد الشديد وصعوبة العيش فيها إذا لم يكن الشخص مكورًا بمختلف الألبسة والأغطية.
*– المثال الثّاني(بلاد الصقالبة):إذ يصف نمط حياتهم المعيشية فيقول:”ورأيتهم يتبركون بعواء الكلاب جدًا ويفرحون به ويقولون: سنة خصب وبركة وسلامة“([26]).
*-المثال الثّالث(الروس):حيث يصف لون وشكل أجسامهم نوعية لباسهم فيقول:”فلم أرَ أتمّ أبدانًا منهم كأنهم النخل شقرٌ حمر لايلبسون القراطق ولا الخفاتين ولكن يلبس الرجل منهم كساء يشتمل به على أحد شقيه ويخرج إحدى يديه منه ومع كل واحد منهم فأس وسيف وسكين لايفارقه جميع ماذذكرنا”([27]).
ب ـ – مظهر العادات والتقاليد:
إنّ إحالة العادات والتقاليد التي جمعت في رحلة ابن فضلان نجده قد صور لنا فيها العديد من أنواع تلك العادات والتقاليد التي يحيا فيها أقوام مختلفون في سلوكاتهم وطريقة العيش التي تبدو مرة قريبة من الإنسانية،ومرة أخرى نجدها قريبة من الحيوانية،فكل قوم له نظرة في الحياة تختلف عن غيرها في صنوف العيش والأكل والشرب،والفرح والقرح، الحرب والسلم الزواج والميراث وغيرها من تلك الطقوس البشرية التي تبدو للمتلقي لأغلبها وثنية،وعليه نسوق الأمثلة الآتية والتي وثّقها ابن فضلان في رحلته:
*- المثال الأوّل(قبيلة الغزية):”إذا مات الرجل منهم حفروا له حفيرة كبيرة على هيئة البيت وعمدوا إليه فألبسوه قرطقة ومنطقته وقوسه وجعلوا في يده قدحًا من خشب فيه نبيذ وتركوا بين يديه إناء من خشب فيه نبيذ وجاءوا بكل ماله فجعلوه معه(…) وعمدوا إلى دوابه على قدر كثرتها فقتلوا منها مئة رأس إلى مئتي رأس إلى رأس واحد وأكلوا لحومها إلاّ الرأس والقوائم والجلد والذنب فإنّهم يصلبون ذلك على الخشب وقالوا: هذه دوابه يركبها إلى الجنة فإن كان قتل إنسانًا وكان شجاعًا نحتوا صورًا من خشب على عدد من قتل وجعلوها على قبره وقالوا: هؤلاء غلمانه يخدمونه في الجنة” ([28]).
*– المثال الثاني:(قوم الروس)” إذا أصابوا سارقًا أو لصًا جاءوا به إلى شجرة غليظة وشدوا في عنقه حبلاً وثيقًا وعلقوه فيها ويبقى معلقًا حتى يتقطع من المكث بالرياح والأمطار”([29]).
وتبقى جلّ تلك العادات والتقاليد،ـوسبل العيش تمثل جانبًا هاما من الثقافة الاجتماعية التي يحيا فيها العديد من الأقوام التي كانت محاذية لدولة الإسلام، فكان الجانب السوسيولوجي لكل قوم منهم قد شكل خصوصية لدى قبائل: الترك/الروس/الصقالبة، التي مرّ بها أثناء الرحلة.
ب- الإحالة الدينية:
شكل النسق الثقافي/الديني رؤية خاصة عند كل مجتمع مرّ به ابن فضلان أثناء سفره من دار السلام حتى بلاد الصقالبة، فقد تباينت ديانة كل قبيلة،حيث نجد القبائل التابعة لإقليم الدولة الإسلامية بقيت وفية للإسلام،بينما نجد بعض القبائل التركية المتاخمة لحدود دولة المسلمين،فيها من الديانة الوثنية التي تكثر عند هؤلاء خاصة قبائل من الجرجانية/الغزية وقبائل الروس والصقالبة ماعدا قبيلة(ألمش بن يلطوار)،والتي خضعت فيما بعد لدولة الإسلام حيث سمى ملكها نفسه باسم خليفة المسلمين (جعفر) تيمنًا، حيث خطب في قومه قائلاً لهم:” اللهم أصلح عبدك جعفر بن عبد الله أمير بلغار مولى أمير المؤمنين“([30])، ليصبح هاجس الدين والصراع العقدي هدفًا بين بني البشر على اختلاف معتقاداتهم وطقوسهم التي يؤمنون بها،وما فيها من قيم وسلوكات تشكل هويتهم التي يعتقدون بها،وسوف نسوق الأمثلة الآتية لهذا التباين بين بني البشر من مسلمين ووثنين لادين لهم.
- المعتقد عند قبائل الترك:
يبدو المعتقد عند بعض قبائل الترك متباينًا فيهم من هم يدينون بالإسلام،وفيهم من يدين بالوثية،وهذا الأمر جعل الرحالة ابن فضلان يصاب بحيرة التعامل معهم والمحافظة على ديانته، حيث سئل من بعض أفراد قبائل الغزية عن القرآن الكريم والله، على لسان الترجمان:” قل لهذا الأعرابي ألربنا عز وجل امرأة فاستعظمت ذلك وسبحت الله واستغفرته فسبح واستغفر كما فعلت”([31])، والأمر الجلل الذي في معتقد أهل قبيلة(الباشغرد)التركية عظيم لأنهم كانوا كل واحد منهم يجعل لنفسه خشبة ينحتها وسيميها ربًا،كما نجد” منهم من يزعم أنّ له اثني عشر ربًا: للشتاء رب وللصيف رب وللمطر رب، وللريح رب وللشجر رب وللناس رب وللدواب رب وللماء رب ولليل رب و للنهار رب وللموت رب وللأرض رب،والرب الذي في السماء أكبرهم إلاّ أنه يجتمع مع هؤلاء باتفاق ويرض كل واحد منهم بما يعمل(…) ورأينا طائفة منهم تعبد الحيات وطائفة تعبد السمك وطائفة تعبد الكراكي”([32]).
ب- المعتقد عند قبائل الروس:
يبدو المعتقد عند قبائل الروس شائك ومعقد لمايسوده من وثنية مترامية الأطراف على كامل سلوكياتهم إذ يصورهم (ابن فضىلان) على”أنهم أقذر خلق الله لايستنجون من غائط ولابول ولا يغتسلون من جنابة ولا يغسلون أيدهم من الطعام بل هم كالحمير الضالة يجيؤون من بلدانهم فيرسون سفنهم بإتل وهو نهر كبير ويبنون على شطه بيوتًا كبارًا من الخشب”([33]) ومع ذلك يبقى المعتقد الديني مسألة ذات شأن ثقافي كبير لأيّ مجتمع سواء كان مسلمًا أو وثني يؤسس لنفسه هوية تميّزه عن غيره، وتبقى رحلة ابن فضلان وثيقة ثقافية لجميع الأقوام التي مرّ بهم واحتكّ بهم الرحالة.
جـ- الإحالة الاقتصادية:
لقد رسم النسق الثقافي/لاقتصادي صورة هامة عن نوعية التعاملات التجارية والمالية التي كانت تتم بين دولة الإسلام، والدول والقبائل المجاورة لها من أترك وروس وصقالبة ويهود وغيرهم من المجتمعات التي أصبحت لكل واحدة منهم عملة مالية خاصة بها وطريق محددة للمعاملات التجارية تميّزها عن غيرها نقلها لنا (ابن فضلان)،حيث انطلقت الرحلة: من مدينة دار السلام/دسكرة /حلوان /قرمسيس/ساوة /الري/خوار الري /سمنان/الدامغان/نيسابور/سرخس /مرو /قشمهان/المفازة/جيحون/آفرير رباط طاهر بن علي/بيكند/بخارا/ خوارزم الغزية /البنجاك/ الباشغرد /البلغار/الروس، وكلّ مدينة أو قبيلة من هؤلاء لها عملة ذات لون خاص تتميّز به عن غيرها،والأمثلة الآتية التي نسوقها تشير إلى ذلك التطور والتغير والمثاقفة الاقتصادية التي كانت بين بلاد المسلمين وغيرها من بلاد العالم الوثني.
أ- مظاهر التجارة: (الدراهم ببخارى) يشر ابن فضلان إلى ذلك قائلاً:” ورأيت الدراهم ببخارا ألوانًا شتى منها دراهم يقال لها الغطريفية: وهي نحاس وشبه وصفر يؤخذ منها عدد بلا وزن مئة منها بدرهم فضة “([34])، وعلى هذا تختلف في شكلها وقيمتها عن القيم المالية الموجودة في عاصمة الخلافة الإسلامية (بغداد)المعروفة بــ دار السلام التي يعرفها (ابن فضلان)، ويتعامل بها
ب- مظاهر البيع و الشراء: يتم عن طريق المقايضة في بعض بلاد الترك والصقالبة البلغار بشكل خاص كما هو مبين في الرحلة،حيث يشير إلى ذلك ابن فضلان فيقول:” وأكثر أكلهم الجاورس ولحم الدابة على أنّ الحنطة والشعير كثير وكل من زرع شيئًا أخذه لنفسه ليس للملك فيه حق غير أنهم يؤدون إليه في كل سنة من كل بيت جلد سمور”([35]) ، ومع ذلك يبقى الاختلاف واضح في طريق البيع والشراء بين جميع البشر الذين مرّ بهم ابن فضلان وأصحابه الذين شهدوا الرحلة معه خاصة (تكين وسوسن وبارس)،ونقلوا عجائبها وغرائبها من عادات وتقاليد لأقوام مختلفين عنهم في الملة خاصة قوم الغزية، الصقالبة، الروس، يأجوج ومأجوج ،وماساد رحلته من واقعية ممزوجة بالخيال والخرافات،فهي تحاكي رحلة الملك الصالح ذي القرنين وماساد رحلته من عبر تاريخية صورها القرآن الكريم في قصة (أهل الكهف).
*- خاتمة:
وفي النهاية نجد أنّ رحلة (ابن فضلان)نموذج تثاقفي في التقارب بين مختلف الثقافات لما حملته من ازدواجية معرفية وفكرية للعديد من بلدان الأمم الوثنية لفترة العصور الوسطى بداية من بلاد الترك ,وبلاد الروس ونهاية ببلاد الصقالبة،وعليه فقدت تعددت الأنساق التي كانت متباينة بين هذه الأمم التي مرّ بها وصولاً إلى هدفه (بلاد الصقالبة)،ومافيها من غرائب وعجائب الأخبار والأقدار التي كانت ترمي به من قبيلة إلى أخرى حتى وصل إلى ملكها،وما قدمه له من عربون التعاون، والتواصل الذي طلبه ملك الصقالبة (ألمش بن يلطوار) مكن خليفة المسلمين (أبو الفضل جعفر بن المعتضد المقتدر بالله)،الذي زودهُ بالمدد والعون من المال ليقيم شريعة الإسلام ودين الله في أرضه، من أجل بناء حصن كبير يحتمي به من المناوئين لدينه الجديد من أبناء عشيرته وغيرهم من القبائل الكافرة،وفعلاً كان له ما طلب،وفعلاً تحققت الغاية بسفر ابن فضلان إليه رسول أمير المؤمنين لينقل إليه حاجته ويبلغه سلامه،وما صاحب الرحلة من عثرات وثّقها (ابن فضلان) في رحلته كنسق ثقافي متعدد الصور والدلالات”في حركة ضدية دائبة من أجل خلق عوالم موضوعية لانهاية لضديتها”([36])، فتصبح رحلته في النهاية محطة إنسانية عالمية تتخطى كل الحواجز الإنسانية لتشكل في النهاية التعدد النسقي البشري دون حدود أو فواصل.
قائمة المصادر والمراجع:
(1) أحمد بن العباس بن رشيد بن حماد البغدادي،رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة، مطبعة أروى، وزارة الثقافة، عمان، الأردن،ط1، 2013.
(2)حفناوي بعلي،مدخل في نظرية النقد الثقافي المقارن،الدار العربية للعلوم- ناشرون، بيروت-لبنان،ومنشورات الاختلاف،الجزائر،ط1، 2007.
(3)يوسف عليمات،النسق الثقافي(قراءة ثقافية في أنساق الشعر العربي القديم)، منشورات وزارة الثقافة،ط1، 2014.
(4) ميجان الرويلي، سعد البازعي، دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء- المغرب، ط3، 2002.(5) البشير العربي، أنتروبولوجيا التراث(التراث كرأسمال اجتماعي) المغربية للطباعة والنشر والإشهار، تونس،ط1، 2008.
(6)سمير سعيد،مشكلات الحداثة،الدار الثقافية للنشر،القاهرة،مصر،ط1، 2002.
(7)عبد اللّه الغذامي، النقد الثقافي(قراءة في الأنساق الثقافية العربية)،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء- المغرب، ط3، 2005.
(8) فاضل ثامر،اللّغة الثانية إشكالية المنهج والنظرية والمصطلح في الخطاب النقدي العربي الحديث، المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء،المغرب،ط1، 1994.
(9) شعيب حليفي، الرحلة في الأدب العربي(التجنّس،آليات الكتابة، خطاب المتخيل) ،رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر،ط1، 2006.
([1])ميجان الرويلي،سعد البازعي،دليل الناقد الأدبي،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء- المغرب،ط3، 2002، ص305.
([2])عبد اللّه الغذامي، النقد الثقافي(قراءة في الأنساق الثقافية العربية)،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء- المغرب، ط3، 2005،ص17.
([4]) البشير العربي، أنتروبولوجيا التراث(التراث كرأسمال اجتماعي) المغربية للطباعة والنشر والإشهار، ـتونس،ط1، 2008، ص127.
([5]) ميجان الرويلي،سعد البازعي، دليل الناقد الأدبي،ص306.
([6])حفناوي بعلي،مدخل في نظرية النقد الثقافي المقارن،الدار العربية للعلوم- ناشرون، بيروت-لبنان،ومنشورات الاختلاف، الجزائر،ط1، 2007،ص63.
([7])حفناوي بعلي،مدخل في نظرية النقد الثقافي المقارن، ص173.
([11])عبد اللّه الغذامي، النقد الثقافي(قراءة في الأنساق الثقافية العربية)،ص19.
([12])حفناوي بعلي،مدخل في نظرية النقد الثقافي المقارن،ص 176.
([13])عبد اللّه الغذامي، النقد الثقافي(قراءة في الأنساق الثقافية العربية)،ص88.
([14])شعيب حليفي،الرحلة في الأدب العربي(التجنّس،آليات الكتابة، خطاب المتخيل)،رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، ط1، 2006، ص44.
([15])شعيب حليفي،الرحلة في الأدب العربي(التجنّس،آليات الكتابة، خطاب المتخيل)، ص68.
([16]) أحمد بن العباس بن رشيد بن حماد البغدادي،رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة، مطبعة أروى، وزارة الثقافة، عمان، الأردن،ط1، 2013ص05.
([17]) أحمد بن العباس بن رشيد بن حماد البغدادي،رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة،ص12.
([19])شعيب حليفي، الرحلة في الأدب العربي(التجنّس،آليات الكتابة، خطاب المتخيل) ،ص150.
([21])يوسف عليمات،النسق الثقافي(قراءة ثقافية في أنساق الشعر العربي القديم)،منشورات وزارة الثقافة، ط1، 2014 ،ص173.
([22])يوسف عليمات،النسق الثقافي(قراءة ثقافية في أنساق الشعر العربي القديم)،ص174.
([23]) سمير سعيد، مشكلات الحداثة،الدار الثقافية للنشر،القاهرة،مصر،ط1، 2002،ص 40.
([24]) فاضل ثامر،اللّغة الثانية إشكالية المنهج والنظرية والمصطلح في الخطاب النقدي العربي الحديث، المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء،المغرب،ط1، 1994، ص82.
([25]) أحمد بن العباس بن رشيد بن حماد البغدادي،رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة،ص12.
([28]) أحمد بن العباس بن رشيد بن حماد البغدادي،رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة، ص20.
([31]) أحمد بن العباس بن رشيد بن حماد البغدادي، رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة،16.
([35]) أحمد بن العباس بن رشيد بن حماد البغدادي،رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة، ص34.
([36])يوسف عليمات،النسق الثقافي(قراءة ثقافية في أنساق الشعر العربي القديم)، ص175.