
تعدد الأصوات في المواقف والمخاطبات للنفّري (دراسة تداولية)
أ. يمينة تابتي. أستاذة باحثة بقسم اللغة والأدب العربي بجامعة بجاية/ الجزائر.
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 45 الصفحة 139.
ملخض:
تسعى هذه الدراسة الموسومة بـــــ: «تعدد الأصوات في المواقف والمخاطبات للنفّري (دراسة تداولية)» إلى الكشف عن مختلف الأصوات الفاعلة في هذا النوع من الخطابات، ذلك بالاستناد إلى نظرية تعدد الأصوات اللسانية لأوزوالد ديكرو Oswald Ducrot)) الذي خرج في نظريته هذه بتمييز يفضي إلى أنّ في الخطاب كائنات خطابية تتفاعل فيما بينها متمثلة في: الكائن التجريبي وهو الذات المتكلمة، والكائن الخطابي وهو القائل، وكائن من العالم. بالإضافة إلى المواقف ووجهات النظر. تكمن غاية هذا البحث في إماطة اللّثام عن هذه الأصوات من خلال الملفوظ، سواء في مواقف النفّري أم في مخاطباته. وللإجابة عن إشكالية ما إذا كان (المتكلم /السارد) هو الذي يتحمل مسؤولية الأقوال التي تصدر عنه أم أنّه يحمّل أصواتا أخرى المسؤولية؟ وهل يظهر المتكلم في الملفوظ معلنا عن حضوره الشخصي بقوله”أنا”؟ أم أنّه يستعين في إظهار مواقفه ووجهات نظره بمتلفظين آخرين غيره؟وبالتالي يمكن لهذه الذات أن تتعدد بتعدد المتكلمين.
الكلمات المفتاحية: المواقف والمخاطبات- المتكلم- وجهات النظر- تعدد الأصوات- الخطاب الصوفي – التلفظ.
- توطئة نظرية: تندرج نظرية تعدد الأصوات في إطار التداولية المدمجة، وهي نوع من التداولية غايتها دمج مظاهر عملية القول في اللّسان، حيث ترى أنّ النظام اللغوي وضع لغاية التواصل، باعتبار أن معنى القول مرتبط ارتباطا وثيقا بعملية قوله، لذا فهي تعكس عملية القول أو تشير إليها. وتعتبر أنّ اللّسان ليس مجموعة من الإمكانيات النحوية داخل الجملة فحسب، وإنما تتعداه إلى حسن ائتلاف المتتاليات من الجمل بالاعتماد على مجموعة من القواعد التي تشكل معا: بنيوية الخطاب المثالي[1]. وترى هذه التداولية أن العلاقة بين الأقوال علاقة حجاجية لا استنتاجية، وأنّ إلقاء القول، وهو النشاط الذي يكون وراء إنتاج الأقوال، بنية معقدة من أحداث الخطاب لها وظائف مختلفة، وعليه يميّز الباحثون بين القائل والمتلفظ وبين الذات المتكلمة في الواقع، ثمّ يميّزون ضمن تجليات المتكلم وصور تحقق المتكلم في حد ذاته من المتكلم باعتباره كائنا من كائنات العالم. لذلك استلزمت التداولية المدمجة نظريّة قول متعدّدة الأصوات.[2] وهو الأمر الذي حدا بها إلى الطعن في الفرضية التقليدية في اللّسانيات، التي تقول بوحدة الذات المتكلمة، خاصة وأنّ نظرية بنفينست التي تصنف الضمائر إلى مشيرات ومعوّضات مفهوم المتكلم، تركت دون مزيد من التحليل والتوسع، حيث يمكن في إطارها التسوية بينه وبين الذات المتكلمة.
بينما تنطلق التداولية المدمجة من مسلمة مفادها أن لا وجود لمعنى الملفوظ إلا بالعودة إلى تلفظه، أي إلحاق المظهر التلفظي للمعنى بمظهره الإخباري، أو بمظهر شروط الصدق الذي تنتجه الدلالة، وتهتم بالوقائع السياقية والوقائع الحواررية بمفهوم غرايس.[3]
تهتم نظرية تعدد الأصوات بالمتكلم[4] الذي عاد إلى الظهور بفضل الباحثين باختين وديكرو، اللذين جاءا برؤية جديدة حوله، وهي أنّ المتكلم في الخطاب يمكنه أن يكون متعددا، أو أن يظهر بصور وأشكال متعددة، فشرحا رؤيتهما هذه كل حسب مجاله تحت تسمية أخرى هي: “تعدد الأصوات” (la polyphonie)، وجاءت أبحاث باختين تحت ما يسمى: علم اجتماع التفاعل اللفظي، وجاءت أبحاث ديكرو تحت ما أسماه بنيوية الخطاب المثالي، باعتبار أن الخطاب تحكمه قواعد تضبط حسن تأليفه وتكوّنه، ومثلما يفترض الدارسون شروطا تضبط قواعد تكوين الجمل في علم الإعراب تكوينا نحويا سليما يبيّن ديكرو انطلاقا من بعض الملاحظات الاختبارية أنّ القول: “أ” ضمن متتالية من الأقوال تتكون من:”أ-ب”، يفرض قيودا على: “ب”[5]، بمعنى أنّ القول الذي يكون قائما على أساس الحوار المتبادل بين: أ و ب، يكون قولا موجها حسب رغبة المرسل”أ”، حيث أنّ “ب” يبني جوابه حسب توجيه “أ” له.
يعود أصل مفهوم تعدد الأصوات (Polyphonie)، كما عرّفه كل من باتريك شارودو ودومينيك مانغنو، إلى ميدان الموسيقى، أي أنه مصطلح مستعار من الموسيقى، ومعناه تجميع الأصوات أو الآلات الموسيقية.[6] ولقد انتقل هذا المصطلح من ميدان الموسيقى إلى ميدان العلوم الإنسانية فتبناه العديد من الباحثين في مجالات مختلفة كالأدب والتداولية واللسانيات، واستعانوا به كمفهوم بلاغي جديد لفهم النصوص والملفوظات والخطابات المختلفة، وأصبح يحيل على حقيقة أن النصوص تحمل في أغلب الحالات كثيرا من وجهات النظر المختلفة: حيث يستطيع الكاتب أن يُنطِق أصواتا عديدة من خلال نصه.[7] أما مفهومه في إطار حوارية باختين فإنه يتخذ طابعا أدبيا، فرغم اشتغال باختين بمسائل لسانية وأدبية إلا أنه يظهر ميلا شديدا نحو الأدب، وليس في هذا ما يُفاجئ فالمجال المفضّل للحوارية هو عنده النّص الأدبي..وأثار باختين مسألة التعدد اللغوي في اللغة الروائية من خلال مسألة التكثّر اللغوي (plurilinguisme) في مستوى اللغة، ويرى أنّ خاصية اللغة الروائية تكمن في أنّها تقدم صورة عن اللغة أكثر منه صورة عن الإنسان.[8]
يرفض أزوالد ديكرو فرضية وحدة الذات المتكلمة (l’unicite du sujet parlant) الذي يسود العلوم اللغوية، ويخالف في نفس الوقت باختين الذي تناول تعدد الأصوات في النصوص أو متتالية من الملفوظات فقط، ويرى أنّ على أحد علماء اللغة أن يذهب أبعد من ذلك ليتناول مسألة تعدد الأصوات في الجمل.[9] لقد تناول ديكرو هذا المفهوم من الوجهة اللسانية والحجاجية والتلفظية متأثرا في ذلك بمفاهيم جيرار جينت(G.Genette)[10]،الذي فرّق بين أطراف الخطاب، وأظهر أنّ السرد الروائي يتكوّن من الكاتب والسارد والشخصية، وميّز بينهم بتحديد وظيفة كل واحد منهم، وبناء على تمييز جينيت قام ديكرو بتوضيح تمييزه للذات المتكلمة التي جعلها موازية لـلمؤلف، والقائل الذي يوازي السارد المسؤول عن المسرود والمتلفظ الموازي للشخصية السردية أو جزءا من العالم التخييلي، وجعل مصطلح «علم السرد (narratologie)» كفضاء حامل لهذه الذوات، موازيا لمصطلح «تعدد الأصوات (polyphonie)» كالآتي:
علم السرد السارد مركز زوايا النظر
تعدد الأصوات القائل المتلفظون
فالقائل يتحدث في نفس الاتجاه الذي يحكي فيه السارد على أنّه أساس الخطاب، والسلوكات التي تظهر في هذا الخطاب يمكن أن تعزى إلى متلفظين أو وجهات نظر.[11]
يكمن الهدف الأول لديكرو في تحليل كيف إنّ الجملة المنطوقة تشير إلى الموقع الأفضل لأصوات مختلفة ضمن إطار المفهوم التوجيهي للمعنى، كما بيّن أنّ من الضروري تمييز العناصر الآتية:
أ – الذات المتكلمة : وهي الكائن المسيطر الذي يتخيّل ويبتكر الأحداث ومصدر الجملة المنطوقة، وفي اللسانيات تتم المقابلة بين متكلمين، هما: «متكلم خارجيّ ومتكلم داخليّ، بالنسبة إلى الخطاب، حيث تقوم هذه المقابلة على فرضية مفادها أنّ كلّ ذات متكلمة يمكن أن يكون لها نوعان من الهويّة: هويّة اجتماعية وهويّة خطابيّة. تُحدد الهويّة الاجتماعية الذات المتكلمة بأنّها هي التي تأخذ الكلمة، وأنّ لها وضعا اجتماعيا ـــــ باعتبارها ذاتا متواصلة ـــــ وأنّ لها قصدا تواصليّا، وتُحدّد الهويّة الخطابيّة الذات المتكلّمة بأنّها كائن لغوي يُعبّر من خلال استعماله إجراء التلفّظ».[12] ويمكن لهذه الذات أن تنشطر إلى ذاتين: ذات خارجية عن الخطاب، وذات داخلية فيه، ولكل ذات موقع، منها التي تنتج عمل اللغة، ومنها التي تستقبل عمل اللغة، ثم تسعى إلى تأويله، حيث نجد في حالة الإنتاج أنّ المتكلم أو الباث يتموضع خارج الخطاب، بينما يتموضع المتلفظ داخله، أما في حالة الاستقبال فإنّ المخاطَب يكون خارج الخطاب، بينما يكون ما يسمى بالمتلفظ المشارك داخل الخطاب.[13]
ب- القائل : وهو الكائن الخطابي الذي يستطيع استعمال ضمير المتكلم وقول: “أنا”، ويكون مسؤولا عن الملفوظ، وموجها لوجهات النظر، وهو منشئ الأفعال الانجازية “illocutionary acts“، وهو الذي يستحضر تلك الأحداث التي ابتكرتها الذات المتكلمة، وقد أوجد ديكرو اختلافاً أخراً بين هذا القائل ككائن من العالم والقائل كمشار إليه (أو كموضوع الملفوظ).[14] حيث قام هو ونولك (Nølke) بالتمييز بين القائل كمتكلم مسؤول عن الملفوظ، الذي لا وجود له إلا في الحدث التلفظي، وبين القائل كذات تملك وجودها المستقل بعيدا عن الحدث التلفظي، وفي الوقت نفسه يمكن لهذا القائل أن يكون هو نفسه القائل المتكلم في الملفوظ.[15]
ج- المتلفظ: وهو كائن خطابي يطابق وجهة نظر محددة، وهو الذي يقوم بالفعل أو لديه القدرة على انجاز الفعل. ومن وجهة نظر ديكرو فإن الجملة تستطيع تمييز متكلمين مختلفين، يمكن تحديدهما عن طريق تتبع الآثار، مثل: “أنا”، ضمير المتكلم في موقع الفاعل، و“ني” ضمير المتكلم في موقع المفعول به، وقد يصبح الواحد تابعاً للآخر. ونستطيع تحديد فاعل متكلم واحد، ومتكلمين على مستويين مختلفين، ومتكلم الجملة المحكية هو المتكلم الرئيسي والحقيقي، وبإمكان معنى الجملة المحكية أيضاً تحديد المتلفظين، وبذلك تعبر عن وجهات نظر مختلفة، لا تُعزى إلى القائل.
يتجلى مفهوم تعدد الأصوات عند ديكرو في مجموعة من الآليات التلفظية والحجاجية، التي يطبّقها على مسائل تداولية متنوعة: كالنفي والسخرية وسخرية النفي، وبعض استخدامات المؤشرات والروابط التداولية، والافتراض المسبق، والأسلوب غير المباشر الحر، حيث يرى أنّ النفي فعل لغوي،[16] وأنّ معظم الجمل المنطوقة المنفية تعبر عن تعارض بين موقفين متضادين تعزى الأولى إلى المتلفظ (أ) وهي الإثبات، وتعزى الثانية إلى المتلفظ (ب)، وهي عادة وجهة النظر المرفوضة، أما ناطق الجملة فيدعم الموقف أو الرأي الثاني.[17]وكذا الاستخدامات المختلفة لمؤشرات الخطاب، التي تندرج في إطار إلقاء القول، حيث يرى أنّ القول هو عبارة عن إلقاء قولي مخصوص للجملة، تربط الجملة المنطوقة والتي تنسب لمتلفظين مختلفين، حيث تُفهم بعدة معاني حسب القائل، وحسب وجهات النظر المختلفة.والافتراض المسبق الذي أشار إليه في أثناء حديثه عن النفي الميتالغوي، عندما شرح المثال الأتي:“لم يتوقف بيير عن التدخين، في الواقع لم يدخن في حياته“. بالقول أن هذه الجملة المنطوقة تُفعّل متلفظيْن، حيث يكون الأول مسؤولا عمّا تم افتراضه مسبقاً: (اعتاد بيير التدخين)، والثاني عما تم تأكيده: (إن بيير لم يدخن في حياته)[18]. وبهذا المثال الذي يتضمن النفي يبين ديكرو وجود متلفظين متفاعلين فيما بينهما، يمكن استنتاجهم من جملة واحدة، وهذا بتدخل عدة عوامل موجودة في الجملة في حد ذاتها أهمها: السياق.
2- إشارية الخطاب الصوفي: يذهب طه عبد الرحمن في تصنيفه الأقوال الإنسانية إلى وجود طرفين متباينين: أحدهما أيمن، ويمثله القول الصوفي، والثاني أيسر ويمثله القول المنطقي، وبينهما مواقع متفاوتة تنزلها أقوال فيها من العبارة نصيب ومن الإشارة نصيب. بحيث كلما انتقل القول درجة إلى اليسار، تناقص نصيبه الإشاري و تزايد نصيبه العباري والعكس بالعكس…مما يلزم عنه أن القول الطبيعي ينزل المنزلة الوسطى في هذا الترتيب، إذ يكون بمثابة أقل الأقوال الأدبية إشارة:
تزايد الإشارة تزايد العبارة
القول الصوفي القول الطبيعي القول المنطقي[19]
ومنه فإن القول الصوفي لا هو بالقول الطبيعي ولا هو بالقول المنطقي، إنما هو قول إشاري يتصدر أعلى مراتب الإشارية، ما يفسر اتجاه الكتابة في النصوص الصوفية شعرا كانت أم نثرا، إذ تتميز كتابات المتصوفة بسمو العبارات والجمل إلى المراتب التي تسمو إليها أرواحهم. ولكن المتصوفة يشعرون أن اللغة غير كافية أو أنها لا غناء فيها تماما كوسيلة لنقل تجاربهم أو استبصاراتهم إلى الآخرين، ولهذا نراهم يقولون إن ما يمرون بتجربته لا يمكن وصفه ولا التفوه به، والدليل قول النفّري:«..كلما اتسعت الرؤية..ضاقت العبارة..». صحيح أنّ المتصوفة يستخدمون اللغة لكنهم يعلنون، عندئذ، أن الكلمات التي يستخدمونها لا تقول ما يرغبون في قوله، وأن جميع الكلمات بما هي كذلك عاجزة عن أن تفعل ذلك .[20] فرغم انتقاء المتصوفة وعنايتهم باختيار الألفاظ، إلاّ أنّهم لا يجدون في اللغة ما يكفي للتعبير عن التجارب التي يمرون بها، لأنها في نظرهم تحوي سرا لا يمكنهم وصفه. ولقد كتب المتصوفة في أهم الأشكال التعبيرية كالشعر، والنثر الفني، والرسائل، وتعتبر «المواقف والمخاطبات» للنفّري من أهم النصوص الصوفية التي وصلت إلينا، ذلك أنّها تحوي جوهر فلسفة ذوقية ميّزتها لغته الحوارية المفتوحة على القلوب والعقول معاً.
احتوى كتاب: المواقف والمخاطبات نصوصا صوفية قسّمها النفّري إلى ثمانية وسبعين موقفا، وسبعة وخمسين مخاطبة، حيث يقصد بالمواقف تلك الوقفات التي يقفها العبد أمام الله، وهي موافقة الله له أو معه حسب أحواله ومقاماته، أو هي استجابة لخطاب الله له في نفسه..فالواقف في فلسفة النفري هو المنقطع عن الطلب لفنائه في المطلوب.[21] وتتجلى المخاطبات في حواره مع الذات الالهيّة، إذ أن: «حواره مع ربّه ليس إلاّ مخاطبة تنكشف إشراقيتها عن معرفة، عبر كل وقفة ومن خلال كل لمحة..أو رؤية »[22]
3– مصدر الملفوظ ومصدر وجهات النظر في نصوص المواقف والمخاطبات:
إنّ لحظة التكلّم هي لحظة التعبير عن الإحساس، أمّا لحظة المشاركة في تلك الأحاسيس فهي لحظة التلفظ، ذلك أن: «المتلفظ هو الكائن الذي يرى ويحكم»،[23] أيّ: « الذات مصدر وجهة النظر».[24] وهو أيضا من ينهض بدور الإدراك وإنجاز الأعمال اللغوية، وهو الّذي يُعلن عن حضور شخصي من خلال هذه الأفعال، كالإثبات والوعد والاستفهام والأمر والنهي…
يرى ديكرو أنّ المواقف الخطابية للمتكلم والمخاطب تتعدّد بتعدّد ذواتهم وتداخلها، وذلك نظرا لتعدد أفعال الكلام من صريحة مباشرة، كأن يكون القول يحوي أمرا يفيد طلب حصول شيء، كما قد يتضمّن الأمر فعل كلام مقدّر فيه، حين يخرج الأمر عن غرضه الأصلي..وهكذا ينشق المتكلم إلى أكثر من ذات تبعا لتعدد أفعال الكلام هذه.[25]
سيتم وفق هذا الأساس الكشف عن نوع المتلفظ في هذه النصوص الصوفية، بالاستعانة بوجهات النظر التي شحنت بها الملفوظات، والتي تظهر بواسطة الأفعال المباشرة والأفعال غير المباشرة.
يتعلق فعل التلفظ(Acte locutoire) في خطاب النفّري بالقائل، الذي يعتبر المسؤول الأوّل عن الملفوظ، ويراد بالفعل التلفظي إطلاق الألفاظ في جمل مفيدة، ذات بناء نحوي سليم وذات دلالة، ويشمل فعل القول بالضرورة على أفعال لغوية فرعية، وهي المستويات اللّسانية المعهودة: المستوى الصوتي، والمستوى التركيبي والمستوى الدلالي، والتي يسمّيها أوستين أفعالا، أي: الفعل الصوتي، وهو التلفظ بسلسلة من الأصوات المنتمية إلى لغة معيّنة، وأمّا الفعل التركيبي فيؤلف مفردات طبقا للقواعد التركيبية للغة معيّنة، وأما الفعل الدلالي فهو توظيف هذه الأفعال حسب معانٍ وإحالات محدّدة.[26]
تشتمل نصوص الموافقات والمخاطبات على فونيمات، وتتركب هذه الفونيمات بطريقة تشكل في الأخير دلالة، وفيها يتحقق فعل التلفظ، وذلك من خلال سلسلة أصواتها التي تنتمي إلى اللغة العربية، وأما ترابطها فيؤدي إلى تأليف المفردات، وفق قواعد النحو والصرف العربي، هذه القواعد تسهم بشكل مباشر في إنشاء الدلالة، التي لا يمكن أن تفهم إلا ضمن سياق الخطاب الديني عموما، كالوعظ والإرشاد والنصح، وضمن السياق الصوفي خصوصا، في الجانب الإشاري الذي يحدد القصد والتوجه، ويتوخى فيه المتلفظ الصدق الإيجابي لحصول الدلالة، والذي يكمن في طريقة نقله للخبر، فيتجلى أمامنا:
– المتلفظ الواعظ الذي تتلخص مهامه من خلال شروط الكلام الآتية:[27]
– الشرط الأول: أن يكون كلامه لداع يدعو إليه، إما لاجتلاب نفع، أو لدفع ضرر، وهو شرط متوفر في هذه النصوص، فالنفّري يظهر بمظهر الواعظ، فهو كمتصوف وصاحب تجربة، ينقل الخبر بغية إقناع المتكلم إليه: (مريد¤ غير مريد)، بما يمكن أن يلحقه من نفع إذا أخذ بما حثه عليه، أو إقناعه بما يمكن أن يلحقه من ضرر، إذا أقدم على القيام بالعكس، كقوله: « أوقفني في الموعظة وقال لي احذر معرفة تطالبك برد معارفي فتقلبك وجدك وأختم بها على قلبك».[28] لقد استعان النفري بفعل الأمر”إحذر” مخاطبا المريد، يحثه على الرياضات والمجاهدات، التي تخرجه من أوصاف بشريته المذمومة، سواء كانت ظاهرة، قائمة بالجوارح، أو باطنة قائمة بالقلب.
كما أنه أصاب الشرط الثاني، المتمثل في أنه أتى بالكلام في موضعه، وتوخى به إصابة فرصته، حيث نجده قد أتى بالخبر على قدر حاجته إليه، أي بما يخدم حاجته في المتلقي، حتى يحصل منه على مراده منه، وهو إقناعه بوجهة نظره، وبتخير الألفاظ يكون قد حقق الشرط الثالث باستعماله للّفظ الموجز والمعبّر عن القصد.
فعل كلامي مباشر هو الأمر، |
تدل الملفوظات المشكلة لهذا الموقف أنّ هناك قائلا أنتج الملفوظ، وأنّ هناك متلفظين مندسين في الخطاب، أحدهما مسؤول عن الخبر، عن طريق فعل مباشر، متمثل في فعل الأمر: “احذر”، الصادر عن الذات المتكلمة، والآخر مسؤول عن إصدار الفعل غير المباشر، الذي يُفهم من وراء القول، والمتمثل في الوعظ عن طريق إسداء النصيحة، وهذه النصيحة هي في الأساس تكون موجّهة إلى مستقبل الموقف، وفي هذا عودة إلى مفهوم:“بنية تعدد الأصوات” التي تحدثنا عنها سابقا، ويمكن تمثيل الاستنتاج المتوصل إليه في هذا الموقف كالآتي:
كما سعى النفّري للوصول إلى الدلالة والمعنى الذي يبتغيه، إلى أن يكون لكل فاعل يذكره فعله المتصـرف، بحيث يسند إليه الفعل كقوله في إحدى مخاطباته: «يا عبد أنا الرؤوف فلا يحيط برأفتي إعراض المعرضين..يا عبد أنا المحسن فلا يحجب
قول مباشر(فعل نطقي “نص المخاطبة”)= م1 |
إحساني إنكار المنكرين»[29]، فقد أسند فعلي “الرأفة والإحسان”، إلى فاعله المفترض، وهو الله، وبهذين الفعلين التلفظيين يكون النفري قد أنشأ جملةً سليمةً من حيث تركيبها، إذ هي (مسند ومسند إليه)، كما أنّ لها معنى واضحا، يظهر خاصة من خلال استعماله للعبارتين:” لا يحيط برأفتي إعراض المعرضين ” و” لا يحجب إحساني إنكار المنكرين ” للدلالة على أن الله موجود وأنه هو الرؤوف الرحيم وهو المتحكم في كل شيء، ويمكن إظهار الأصوات المندسة في هذه المخاطبة بواسطة فعل القول الذي يتضمن القول المباشر والقول المنقول كما هو موضّح في الخطاطة الآتية:
وعليه فإنّ في هذا المخاطبة قائلاً أوّل مسؤولا عن الملفوظ هو:”النفري” ككائن من العالم، لديه القدرة على القول، وقائلاً ثانياً نسب إليه القول، هو الذات المتكلمة المتمثلة في الذات الالهية، وثلاثة متلفظين، حيث يظهر المتلفظ الأوّل من خلال القول المباشر الحرفي للقائل الأوّل، أي من خلال المفهوم الأوّلي للمعنى المعبّر عنه في الموقف، ويظهر المتلفظان الثاني والثالث من خلال قول القائل الثاني، أي أنّ المتلفظ الثاني يظهر في المرجع، الذي اعتمد عليه النفري في التوصّل إلى صياغة هذه المخاطبة وهو منهجه المتمثّل في التصوف، والذي نستنتجه من خلال تأويل الملفوظ بمساعدة السّياق. وهو خبر على أن الله يرأف ويحف برحمته كل من يأتيه بقلب سليم، أي الذي لا يرجو من الدنيا إلا رضاه، ويستبعد من نوال هذه الرأفة والإحسان عباده المعرضين والمنكرين، أما المتلفظ الثالث فهو المسؤول عن إبراز هذا الخبر(القصد)، الذي أراد القائل الأوّل تبليغه من وراء هذه المخاطبة.
يستعين النفري في نصوص المواقف والمخاطبات بمجموعة من الأصوات، حيث يكون لكل صوت فعل ووظيفة يستخدم لأجلها، ذلك وفق سياق الحديث الذي يخدم رأيه وفكرته، كقوله في موقف من مواقفه:
«وقال لي أنا مجري الحكمة فمن أشاء أشهده أنني أجريت فذلك حكيمها، ومن أشاء لا أشهده فذلك جاهلها فاكتب أنت يا من شهدها ».[30] فذِكرُه للفعل: (أشاء) الذي يتكرر في الموقف مرتين، والفعل (أشهد) الذي يتكرر أيضا مرتين مصحوبا بأداة النفي في المرة الثانية، جاء من أجل خدمة سياق الموضوع بما يتماشى مع المسألة، فالفعل “أشاء” الذي جاء في ذكره أول مرّة للتأكيد على أنّ كل شيء يتم إذا أراد الله ذلك، وأما في ذكره للمرة الثانية كان للنهي والنصح، وليثبت للمريد أنّ الله تعالى يعطي الحكمة من يشاء من عباده، فيكون بذلك قد أبرز قوة الفعلين الكلامية illocutoire) (Force، حيث أنهما نافذان بحكم تلك القوة، لأن الفعل المتضمن في القول يشتمل على هذه القوة، التي يُعرّفها أوستين بقوله: «هو الفعل المنجز بقولنا لشيء ما»،[31] ويحيلنا هذا إلى نوع آخر من الملفوظات التي استخدمها النفري ليُكسبَ كلامه خاصية النفاذ والتنفيذ، أي بجعل كلامه يتحقق بمجرد النطق به، وهي الأفعال الإنجازية.
4- تلميح النفّري إلى متكلم منفصل عن القائل : يبرز هذا المتكلم في المواقف والمخاطبات من خلال فعل الكلام الانجازي[32](Acte locutoire)، ويتعلق مصطلح فعل الكلام بالمتلفظ (L’énonciateur)، لأنّ إنجازه يتم أثناء التلفظ بالقول، ولأنّه يعتبر مسؤولا عن قوله ذاك بمجرد التلفظ به، لِما يحمل معه من شحنة أو قوة إنجازية. ويطلق على الفعل الإنجازي الفعل المتضمن في القول ويعتبره أوستين الفعل الكلامي الحقيقي، ويرى تلميذه سيرل بأنّ هناك بعض الأمور تحكم الأفعال الإنجازية، منها مثلما ترى أرمينكو:
– الاختلاف في الترتيب بين الكلمات والأشياء، ويتعلق الأمر بالنسبة للآخرين بالحصول على مطابقة العالم للكلمات، كأن تكون الكلمات الأولى مثلاً توكيدات، والثانية وعوداً أو أوامر.
– الاختلافات بالنسبة لغاية الفعل.
– اختلافات تمس الحالة النفسية المعبر عنها.
– الاختلاف في حدة الالتزام المعبّر عنه في تقديم وجهة الإنجاز.
– اختلاف مقياس أوضاع المتكلم والمستمع في حدود حساسية قوة إنجاز الفعل.
– الاختلاف في الكيفية التي يرتبط بها القول بمصالح المتكلم والمستمع.
– اختلافات في العلاقة بمجموع الخطاب والسّياق الخطابي.
– اختلافات في أسلوب إنجاز الفعل الإنجازي.[33]
ويمكن أن نستنتجه في نصوص الموافقات والمخاطبات كما يلي:
يستعين النفّري بأفعال تتلاءم· وطبيعة الموضوع، كما تتلاءم كذلك مع نوع المخاطَب المقصود بالقول. لذلك نجده يستعمل صيغ الكلام المختلفة كالأمر، الذي يظهره بمظهر المتلفظ الآمر، كقوله في الموقف الآتي:
–«وقال لي أعلن توبتك لكل شيء يستغفر لك كل شيء»[34]. والمقصود من فعل الأمر:”أعلن” هو حث المريد على الإقرار بوحدانية الله الذي تتمثل قدرته في كل الموجودات وإخلاص العبادة له. أي يحثّ المريد على أنّ السبيل الوحيد لنيل مرضاة الله ومغفرته هو في مراعاة سلوكه وأفعاله، أينما كان وحيثما وجد، لأن الله موجود في كل شيء، وهذا النوع من الأمر فيه توجيه من القائل إلى المريد داخل الملفوظ، نحو الطريقة التي تمكّنه من التخلص من حيرته، ومن الذات المتكلمة إلى المتلقي خارج الملفوظ، إذا واجهه نفس الأمر.
تُعرَفُ صيغة الأمر في لغة العرب باستعمالها، وهي: اللام الجازمة، وصيغ مخصوصة، وعدة أسماء، معناه استعمال نحو: لينزل، وانزل، وصه، على سبيل الاستعلاء”، و لقد جاء الأمر في هذه النصوص بصيغته الأصلية وهي: (افعل)،[35] كالآتي:احفظ، احذر،أعلن، الزم.. التي يقصد من خلالها النفري قيام المتكلم إليه بالفعل الذي أمره به، حيث أنه ينوي لحظة تكلمه تحقيق هذا المقصد.
كما نجد إلى جانب صيغ الأمر الخالصة والبسيطة صيغاً من الالتماس التي عبّر عنها النفري بصورة غير مباشرة (فعل لغوي غير مباشر)، إذ لم يُصدر فيها فعل الأمر بصيغته المباشرة، وإنّما استخدم أسلوب الالتماس، فظهر بمظهر المتلفظ الملتمس، بواسطة السؤال:
« يا عبد..أين ضعفك في القوة؟
وأين فقرك في الغنى ؟
وأين فناؤك في البقاء؟
وأين زوالك في الدوام؟ ».[36]
تعتبر هذه الاستفهامات كلها استفهامات إنكارية، الغرض منها الاستنكار، وليس السؤال لأجل الحصول على جواب، وهو قصد متضمن في القول المراد منه الالتماس بواسطة السؤال، وبذلك يكون النفّري قد أنجز عملا أوّليا بواسطة عملٍ ثانويٍ، والمتكلم إليه يفهم قصد النفري بفضل عملية معقدة تحدد بعد أن يُطبّق المتكلم إليه القواعد الدلالية للأعمال اللغوية، ويرى أنّ القول يُمثّل المقصود، ثمّ يعود إلى المعارف التي يملكها في “الالتماس” الذي قصد المتكلم انجازه، ووفقاً لشروط نجاح الالتماس، فإنّه يتعين على من يتوجّه إليه بالكلام أن يكون قادرا على إنجاز العمل المطلوب، فحسب رأي سيرل:« يكفي أن نطرح سؤالا حول الشروط التحضيرية للالتماس ( قدرة المتكلم إليه ورغبته) في انجاز العمل المطلوب لننجز العمل الأوّلي للالتماس بصورة غير مباشرة».[37] وعليه فإنّ المقصود من قوله:«أين ضعفك في القوة؟ وأين فقرك في الغنى؟ وأين فناؤك في البقاء؟ وأين زوالك في الدوام؟». ليس الاستفسار عن موطن الضعف في القوة، ولا عن الفقر في الغنى، ولا عن الفناء في البقاء، فهذه كلها تناقضات يستحيل أن تلتقي، وإنما المقصود هو التماس النفري مِنَ المريد أن يقف مع نفسه وينظر من حوله في ملكوت الله وخلقه، ليتعرّف على قدرته، وتقديره: «انظر إلى قدرة الله وعظمته التي تتجلى في الأكوان، فلا ضعف مع قوته، ولا فقر مع الغنى به، ولا فناء بعد الانتقال إلى الآخرة التي هي دار البقاء والدوام، عكس الدنيا الفانية، التي تمثل الضعف والفقر والزوال».
جاءت معظم المواقف والمخاطبات بأسلوب خبري، استعان به النفّري لإنجاز فعل التوجيه، فيظهر على إثره المتلفظ الموجه: حيث يتجسد قصده التوجيهي من خلال مجموعة من أفعال التوجيه كـالنهي، الذي هو: «طلب الكف عن الشيء، وله صيغة واحدة، هي المضارع المقرون بلا الناهية»،[38] ليُظهر بواسطته النفّري (القائل الفعلي القائم بفعل النهي) عدة متلفظين: المتلفظ الناصح والمتلفظ المعاتب والمرغب والمنبئ والمبشّر في آن واحد، يقول في مخاطبته الثانية والخمسين: «ياعبد لا تخرج بسري فأخرج بسرك، أنظر إلى كنفي عليك كيف أسترك به عن خلقي ثم أنظر إلى يدي عليك كيف أسترك بهما عن كنفي، ثمّ أنظر إلى نظري إليك كيف أسترك به عن يدي ثم أنظر إليّ كيف أسترك بي عن نظري وكيف أسترك بنظري عن نفسي».[39]
الفعل الكلامي غير المباشر وهو المعنى الضمني الصادر عن:
لا تخرج بسري: فعل كلامي مباشر هو: – المتلفظ الناصح
(النهي) وهو المعنى الحرفي الصادر – المتلفظ المعاتب
عن القائل الفعلي – المتلفظ المرغب
– المتلفظ المنبئ
– المتلفظ المبشِّر
يظهر النهي في هذه المخاطبة من خلال المعنى المباشر، بواسطة أداة النهي “لا” : « لا تخرج بسري»، حيث يفهم من هذه العبارة نصحا، نلمس فيه نوعا من الطلب الموجه إلى العبد، إذ يطلب منه القائل (النفري) البقاء في كنف الله وعدم الخروج عنه بالانصراف عن عبادته بغيره، بلسان قائل آخر تمثّل في الذات الالهية، معاتبا ومهددا إيّاه بقوله: « فأخرج بسرك»، ثم يُرغِّبُه بعد ذلك لفعل هذه الطاعة بواسطة استراتيجية الترغيب والمكافأة بقوله: « أنظر إلى كنفي عليك كيف أسترك به عن خلقي ثم أنظر إلى يدي عليك كيف أسترك بهما عن كنفي، ثمّ أنظر إلى نظري إليك كيف أسترك به عن يدي ثم أنظر إليّ كيف أسترك بي عن نظري وكيف أسترك بنظري عن نفسي »، وتُصنّف هذه الأنواع من الأفعال التوجيهية ضمن التوجيهات النفسية، التي تصدر عن المتكلم في شكل انفعال، لكي يحُثّ المتكلم إليه على أداء الفعل بتحريك مشاعره، بواسطة العتاب والطمأنة في الوقت نفسه.
5- علامات حضور الذات المتكلمة في نصوص المواقف والمخاطبات:
من بين الصيغ الكلامية الظاهرة التي لها دور في تحديد مختلف الأصوات، ما يسمى بـ: “الإشاريات”، التي تعتبر وحدات لسانية لا يجب إغفال أهميتها، نظرا لأنه من خلالها يترك المتكلِّم أثره في الملفوظ، وباعتبارها قرائن أو علامات لحضور ذات التلفظ في الملفوظ.
– “الأنا” كموضوع الملفوظ: لقد حدّدت أوريكيوني الوحدات اللّسانية في: الضمائر والزمان والمكان، ومجمل العناصر الإشارية، وتعتبر أنّ الضمائر من أهم الوحدات المتميّزة بفكرة الإشارية، والتي يعوّل في تحديد مضمونها الإحالي على وضعية التواصل: بصورة ضرورية وكافية فيما يتعّلق بضمير المتكّلم “أنا”، وضمير المخاطب “أنت”، فهما قرينتان إشاريتان خالصتان. وبصورة ضرورية لكن غير كافية فيما يتعّلق بضمائر الغائب: “هو” و”هي” و”هم” و”هنّ”، التي هي في آن واحد إشارية ( بشكل سلبي)، إذ تشير فقط إلى أنّ الشخص (الذي تقصده) ليس متكّلما ولا مخاطبا.[40]
يبتدئ النفّري نصوص المواقف كلها بقوله: «أوقفني وقال لي..وقال لي..وقال لي»،[41] كما يبتدئ نصوص المخاطبات بقوله: «يا عبد.. يا عبد.. »،[42] وهي كلها إحالات على الذات الإلهية، والدليل قوله في إحدى مواقفه: «أوقفني في كبريائه وقال لي أنا الظاهر الذي لا يكشفه ظهوره، وأنا الباطن الذي لا ترجع البواطن بدرك من علمه»،[43] فقوله: أنا الظاهر ثم قوله: أنا الباطن، تحيل على أنّ المتلفظ هو الله تعالى، لأنّ الظاهر والباطن من أسماء الله الحسنى، وأيضا قوله في إحدى مخاطباته: «يا عبد أنا الرؤوف فلا يحيط برأفتي إعراض المعرضين..يا عبد أنا المحسن فلا يحجب إحساني إنكار المنكرين»،[44] فصفة العبد تلصق دائما بالله، لأنّه هو المعبود، وهي صفة تعود على الإنسان وهو المخاطَب، و اسم الرؤوف أيضا من أسماء الله الحسنى، وما يثمّن هذا كله الأداة الإشارية (أنا)، التي تستدعي حضور المتكلم في ذهن المرسل إليه.
خاتمة:
من أهم النتائج التي تم التوصّل إليها ممّا سبق:
– أنّ مصدر الملفوظ في نصوص المواقف والمخاطبات يختلف عن مصدر وجهات النظر، ذلك أنّ مصدر الملفوظ هو القرآن الكريم، رغم عدم تصريح النفري بذلك، إلا أنّ التناص ظاهر بين نصوصه وبين معنى ما جاء في القرآن الكريم، ما يُنمّ عن وجود مقصد أو هدف محدّد للمتلفظ، والذي أحدث نوعا من التفاعل بينه وبين المتلقي.
– أنّ هذا المتلفظ هو كائن خطابي موجود في نصوص المواقف والمخاطبات، ولقد تمثّل دوره في إبراز وجهات نظر الذات المتكلمة المتمثلة في الذات الإلهية، ووجهة نظر القائل المتمثّل في النفّري مؤلف هذه النصوص.
– إنّ ملفوظات نصوص المواقف والمخاطبات بنيت على مبادئ تخاطبية، أسهمت في إنتاج ذوات خطابية، تستدعي التصديق والاحترام، وتساعد على امتثال المتلقي لها، والعمل بما جاء في الملفوظات المسندة إليها.
– أسفرت دراستنا للأفعال الكلامية عن وجود أصوات كامنة وأصوات حقيقية، فالأصوات الكامنة كائنات خطابية تمّ الاستعانة بها حسب السياق، الذي استدعته هذه النصوص والغرض من ورائها، فاستنتجنا وجود متلفظ عليم ومتلفظ مفسّر ومتلفظ معاتب ومتلفظ ناصح ومتلفظ زاهد ومتلفظ منبئ ومتلفظ آمر ومتلفظ مبشّر… أمّا الأصوات الحقيقية فهي: الذات الالهية، والنفري.
– كشفت دراستنا للإشاريات الشخصية في نصوص المواقف والمخاطبات أنّ موضوع الملفوظ المعبّر عنه بـــ”الأنا”هو: “الذات الإلهية”، فقد كان كل تركيز النفّري في هذه النصوص حثّ المتلقي على عدم الانفصال عن هذه الذات أبدا، فكان يدعو إلى صحبتها قياما وقعودا، في النوم وفي اليقظة، وفي الليل والنهار.
– إنّ تعدّد الأصوات في نصوص المواقف والمخاطبات ناتج عن دلالات خطابية، بنيوية ومعرفية، خطابية بواسطة اللغة والقصد بأنواعه: اللساني والتواصلي والتداولي، وأنّ تعدد الذوات ينتج عنه بالضرورة تعدد المقاصد، فنجد مقصد خاص بالذات المتكلمة، ومقصد خاص بالقائل، ومقصد خاص بالنص، ومقصد خاص بالمتلفظ، بما أنّه طرف لا غنى عنه في العملية التواصلية والتخاطبية. وبنيوية بالنظر إلى بنية الجملة، والاستعمالات المختلفة للألفاظ ومعانيها، التي قد لا تنكشف إلا بواسطة السياق، وبنية الشخص في الملفوظ بدراسة الضمائر الدالة عليه، خاصة تلك التي تميّز الشخص عن اللاشخص، والضمائر التي تحيل على الشخص الغائب، عن مقام التواصل باعتبار أن الكلام موجه من المتكلم(أنا) إلى المخاطب(أنت). ومعرفية عن طريق المعارف التي تمنحها الأصوات المتعددة في الجملة، والتي تكون مساعدة على تأويلها، وبالتالي فهمها فهما صحيحا.
– قائمة المصادر والمراجع:
1- بالعربية:
- آمنة بلعلى، تحليل الخطاب الصوفي في ضوء المناهج النقدية المعاصرة، دار الأمل للطباعة والنشر والتوزيع، ط3، تيزي وزو، 2009.
- آن روبول، جاك موشلار، التداولية اليوم علم جديد في التواصل، تر: سيف الدين دغفوس، محمد الشيباني، مراجعة لطيف زيتوني، المنظمة العربية للترجمة، دار الطليعة للطباعة والنشر، ط1، لبنان، 2003.
- باتريك شارودو ودومينيك منغنو، معجم تحليل الخطاب، تر: عبد القادر المهيري- حمادي صمود، المركز الوطني للترجمة، تونس، 2008 .
- جاك موشلار- أن ريبول، القاموس الموسوعي للتداوليّة، تر: مجموعة من الباحثين، إشراف: عز الدين المجدوب، دار سيناترا، المركز الوطني للترجمة، تونس، 2010.
- طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة ج2، كتاب المفهوم و التأثيل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ط1، 1999.
- عبد الهادي بن ظافر الشهري، استراتيجيات الخطاب، مقاربة لغوية تداولية، جار الكتب الجديدة المتحدة، ط1، بيروت، 2004.
- فرانسواز أرمينكو، المقاربة التداولية، تر:سعيد علوش، مركز الإنماء القومي، الرباط، 1986.
- كاترين كيربرات أوريكيوني، المضمر، تر: ريتا خاطر، مراجعة، جوزيف شريم، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت، 2008.
- ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ، فعل القول من الذاتية في اللغة، تر: محمد نظيف، إفريقيا الشرق، المغرب، 2007.
- محمد الخبو ومحمد نجيب العمامي وآخرون، المتكلم في السرد العربي القديم، دار محمد علي للنشر، ط1، تونس،2011.
- محمد بن عبد الجبار النفّري، المواقف والمخاطبات، تحقيق: آرثر أربري، تقديم: عبد القادر محمود، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985،
- مسعود صحراوي، التداولية عند العلماء العرب دراسة تداولية لظاهرة الأفعال الكلامية في التراث اللساني العربي، دار الطليعة للطباعة والنشر، ط1، بيروت، 2005.
- ولتر ستيس التصوف، و الفلسفة، ترجمة و تقديم إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1999.
- يوسف أبو العدوس، البلاغة والأسلوبية: مقدمات عامة، الأهلية للنشر والتوزيع، ط1، عمان، 1999.
2- بالأجنبية:
- Ducrot, Le Dire et Le Dit, Editions de minuit, Paris, 1984.
- Flottum, typologie textuelle et polyphonie : quelques questions,www.au.dk/romansk/polyfoni.
- L Austin, Quand dire c’est faire, how to do things with words, Gilles Lane, Ed, Du Seuil, Paris.
- Jacques Bres et aleksandra Nowakowska, «Voix, Point de vue ou comment pêcher le dialogisme a la métaphore», Cahiers de Praxématique 49, 2007.
[1] – ييُنظر: جاك موشلار- أن ريبول، القاموس الموسوعي للتداوليّة، تر: مجموعة من الباحثين، إش: عز الدين المجدوب، دار سيناترا، المركز الوطني للترجمة، تونس، 2010، ص:84
[2] – يُنظر: المرجع نفسه، ص: 85
[3] – جاك موشلر، آن ريبول، القاموس الموسوعي للتداولية، صص: 303-304
[4] – يعتبر مصطلح المتكلم مفهوما بلاغيا قديما، تحدث عنه أرسطو باسم الايتوس«ethos » ، الذي أعيد بعثه اليوم باسم المتكلم، شأنه شأن معظم المفاهيم التي وجدت ضمن البلاغة الغربية القديمة، والتي شهدت عودة قوية اليوم، تحت مسمى البلاغة الجديدة، هذه المفاهيم التي كادت تندثر مع مرور الوقت، ومع التركيز على البعض منها دون الآخر.
[5]– ينظر: جاك موشلر، آن ريبول، القاموس الموسوعي للتداولية، ص:88
[6] – باتريك شارودو-دومينيك مانغنو، معجم تحليل الخطاب، تر: عبد القادر المهيري- حمادي صمود ، المركز الوطني للترجمة، تونس، 2008، ص:432
[7] – المرجع نفسه، ص:432
[8] – جاك موشلر- آن ريبول، القاموس الموسوعي للتداولية، ص: 348
[9]-Voir: Ducrot, Le Dire et Le Dit, Editions de minuit, Paris, 1984, P: 171
[10] – Voir : Ibid., P: 207
[11] – Jacques Bres et aleksandra Nowakowska, «Voix, Point de vue ou comment pêcher le dialogisme a la métaphore» , Cahiers de Praxématique 49, 2007, P.113
[12] – باتريك شارودو-دومينيك مانغنو، معجم تحليل الخطاب، ص:540
[13] – يُنظر: المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[14] – Ducrot, Le Dire et Le Dit, P: 199
[15]– Flottum, typologie textuelle et polyphonie : quelques questions,www.au.dk/romansk/polyfoni.
[16] – Ducrot, Le Dire et Le Dit, P: 214
[17] – Ducrot, Le Dire et Le Dit, P: .219-220
[18]– Ibid. , P:217
[19] – طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة: كتاب المفهوم والتأثيل، ج2، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ط1، 1999، صص: 95-96.
[20] -ولتر ستيس، التصوف و الفلسفة، تر: إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1999 ص: 337.
[21]– ينظر: محمد بن عبد الجبار النفّري، المواقف والمخاطبات، تح: آرثر أربري، تق: عبد القادر محمود، الهيئة المصرية للكتاب، 1985، ص: 21
[23]– يُنظر: محمد الخبو ومحمد نجيب العمامي وآخرون، المتكلم في السرد العربي القديم، ، دار محمد علي للنشر، ط1، تونس،2011، ص:76
– باتريك شارودو ودومينيك منغنو، معجم تحليل الخطاب، ص:217[24]
[25] – آمنة بلعلى، تحليل الخطاب الصوفي في ضوء المناهج النقدية المعاصرة، دار الأمل للطباعة والنشر والتوزيع، ط3، تيزي وزو، 2009، ص:117
[26] – يُنظر: مسعود صحراوي، التداولية عند العلماء العرب دراسة تداولية لظاهرة الأفعال الكلامية في التراث اللساني العربي، دار الطليعة للطباعة والنشر، ط1، بيروت، 2005، ص: 41
[27] – عبد الهادي بن ظافر الشهري، استراتيجيات الخطاب، مقاربة لغوية تداولية، دار الكتب الجديدة المتحدة، ط1، بيروت،ص:94
– النفّري، المواقف والمخاطبات، ص:148[28]
– المواقف والمخاطبات، ص:276[29]
– النفري، المواقف والمخاطبات، ص:162[30]
[31]– J.L Austin, Quand dire c’est faire, how to do things with words, Gilles Lane, Ed, Du Seuil, Paris, P.109
[32]– J.L Austin, Quand dire c’est faire, how to do things with words, P.109
[33] – فرانسواز أرمينكو، المقاربة التداولية، تر:سعيد علوش، مركز الإنماء القومي، الرباط، 1986، صص: 62-66
- يُصبح القول أكثر ملاءمة كلما حمل المستمع، من خلال تزويده بأقل قدر من المعلومات، إلى تنمية أكبر عدد ممكن من معارفه أو تصوراته أو تعديلها…ويتمحور مفهوم الملاءمة حول مفهوم التبعات التي ينتجها القول..والملاءمة قاعدة موجودة وتطبّق على أفعال الكلام بمختلِفِ أنواعها على حدّ سواء، ونذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر: النصيحة والالتماس والسؤال (الملائم) و(الأحمق). يٌنظر: أوريكيوني، المضمر، صص:352- 357
– النفري، المواقف والمخاطبات، ص:184[34]
[35] – عبد الهادي بن ظافر الشهري، استراتيجيات الخطاب، ص:341
– النفري، المواقف والمخاطبات، ص:259[36]
[37]– يُنظر: آن روبول، جاك موشلار، التداولية اليوم علم جديد في التواصل، تر: سيف الدين دغفوس، محمد الشيباني، مراجعة: لطيف زيتوني، المنظمة العربية للترجمة، دار الطليعة للطباعة والنشر، ط1، لبنان، 2003، صص:60-59
[38] – يوسف أبو العدوس، البلاغة والأسلوبية: مقدمات عامة، الأهلية للنشر والتوزيع، ط1، عمان، 1999، ص:61
– النفري، المواقف والمخاطبات، ص: 269[39]
[40]– كاترين كيربرات أوريكيوني، فعل القول من الذاتية في اللغة، تر: محمد نظيف، إفريقيا الشرق، المغرب، 2007، ص:60
– النفري، المواقف والمخاطبات، من الصفحة61 إلى الصفحة 203[41]
– المصدر نفسه، من الصفحة 206 إلى الصفحة 277[42]