
النقد الأدبي في المجالس الأندلسية:
” بهجة المجالس وأنس المجالس”أنموذجا
اجلايلة كوثر طالبة باحثة بسلك الدكتوراه
جامعة محمد الخامس كلية الآداب والعلوم الإنسانية – الرباط ـ المغرب
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 45 الصفحة 127.
ملخص:
عرف النقد الأدبي تطورا ملحوظا خلال القرنين الرابع والخامس الهجريين، وذلك بالاعتماد على نظيره المشرقي في إرساء قواعده الأولى إلا أنه استقل ليحقق كيانه وذاته المتأثرة ببيئته في مجالسه الأدبية، حيث نشطت هذه الحركة (الحركة النقدية) وتطورت في ظل جهود أمراء وشعراء المجالس الأدبية الأندلسية.
مقدمة:
لم يعرف النقد الأبي في الأندلس خلال القرن الهجري الأول أدبا ولا نقدا، كما هو الحال بالنسبة للأدب العربي في المشرق الذي اعتمد في عهوده المتأخرة على الموروث الأدبي الجاهلي والإسلامي بعده. ومعلوم أن الأندلس قد عرفت منذ العقود الأولى التي تلت الفتح (عصر الولاة والإمارة بعده) طائفة من الأمراء والشعراء، منهم الوافدون عليها من المشرق، أمثال جعونة بن الصمة، أبي الخطار حسام بن ضرار الكلبي الملقب بعنترة الأندلس، أبي المخشي الذي تردد على الأندلس غريبا طارئا، والمشهور بمدائحه في عبد الرحمان الداخل الذي كان بدوره أديبا شاعرا جيدة القريحة متبحرا في الشعر وسابرا لأغواره.
كما عرفت الأندلس بعد ذلك مجموعة من الشعراء ينتسبون إليها ميلادا ونشأة وعطاء، يمثلون الجيل الأول من أدبائها، أمثال عباس بن ناصح، و الشاعرة حسانة التميمية بنت أبي المخشي الشاعر أنف الذكر.
وعلى الرغم من كون بعض هؤلاء الشعراء يصنفون في طبقة فحولة شعراء العصر الأموي، ويوازون بهم من حيث الإجادة، كما يذهب ابن حزم في ” رسالة فضل الأندلس وذكر رجالها ” حيث يقول: ” ونحن إذا ذكرنا أبا الأجرب جعونة ابن الصمة الكلابي في الشعر، لم نأبه به إلا جريرا والفرزدق … ولو أنصف لاستشهد بشعره، فهو جار على مذهب الأوائل لا على طريقة المحدثين،”[1] فإنه مع ذلك لم يكتب لمعظم هذه البواكير الأندلسية البقاء، وإنما ضاعت في ثنايا الزمن.
أما شعراء الجيل الثاني الأندلسيين، جيل يحيى الغزال وأحمد ابن فرج الجياني صاحب كتاب “الحدائق”، ومحمد بن هانئ وأضرابهم إلى الإلتفاف إلى الشعر المشرقي، والاكباب على التراث الأدبي الوافد على الأندلس من المشرق بوجه عام، فقد ألفى هذا الجيل من الأدباء نفسه مضطرا ليغترف من ذلك النبع الذي انبجس أمامه ثرا دافقا، والذي كان يمثل في شعر المحدثين، أمثال أبي نواس والمتنبي وأبي تمام والبحتري، وسواهم من شعراء هذه الطبقة.
وهناك عامل ثان يكمن وراء اقتداء الجيل الثاني من شعراء الأندلس بشعر المحدثين – لدرجة يعز معها تبين الشخصية الأندلسية فيما أبدعه من شعر- هو أن المتكأ الحضاري ونظيره المشرقي كان متشابها وهذه حقيقية كبرى تقرب بين الأدبين.
فإلى أي مدى استطاعت المجالس النقدية الأدبية الأندلسية أن تستفيذ من نظيرتها المشرقية؟ وهل استطاعت المجالس النقدية الأندلسية أن تثبت وجودها ؟.
النقد الأدبي في المجالس من خلال:” بهجة المجالس وأنس المجالس”
لقد ارتكز النقد الأدبي الأندلسي في بداياته الأولى على نظيره المشرقي، حيث نجد يحيى الغزال كان صورة نواسية في الأندلس مع اختلاف في جزئيات هذه الصورة أو في بعض ملامحها، وابن هانئ صورة متنبئية في الغرب الاسلامي، والشاعر الجياني المعروف بتيس الجن صورة نواسية كذلك، قال عنه الضبي ” شاعر خليع يجري في وصف الخمر مجرى الحسن بن هانئ، لم أجد من شعره إلا فيها “[2]. وتكاد تكون هذه الحقائق قضايا بديهية ومسلمات لا تحتاج إلى إثبات بنماذج وأمثلة تؤكدها، فحسب الدارس أن ينظر في كتب المجالس الأدبية وخاصة كتاب ” بهجة المجالس وأنس المجالس وشحذ الذاهن والهاجس” ليتبين مدى التماثل في المنحى الشعري المشرقي والأندلسي معا.
والملاحظ أن شعر بعض أعلام حركة التجديد في المشرق قد أصبح متداولا في الأندلس، وهم لا يزالون على قيد الحياة، فشعر أبي تمام، نراه يحظى بعناية خاصة من لدن شعراء قرطبة وأدبائها، ويعود الفضل في إطلاعهم عليه-لأول مرة-إلى الشاعر القرطبي عثمان بن المثنى (ت 273 هـ) الذي ” رحل إلى المشرق، فلقي حبيب بن أوس ـ فقرأ عليه شعره وأدخله الأندلس”[3].
أما البحتري فقد أدخل شعره إلى الأندلس – فيما أدخل من شعره مشرقي- أبو اليسر إبراهيم أحمد الشيباني (ت 288هـ) وهو من الوافدين عليها ” كان قد لقي الجاحظ والمبرد وثعلبا وابن قتيبة، ولقي من الشعراء أبا تمام والبحتري و دعبلا وابن الجهم، وهو الذي أدخل إلى إفريقية والأندلس رسائل المحدثين وأشعارهم[4].
أما ديوان المتنبي فقد صادف في الأندلس عامة وقرطبة خاصة بيئة صالحة وقبولا مشهودا، منذ أدخله أديب طارئ من أهل الجزائر يدعي أبا يحيى زكرياء بن الأشج، الذي قابل أبا الطيب في المشرق، ودرس عليه شعره، ثم قفل راجعا إلى الأندلس حاملا معه الديوان”[5].
فكانت الحركة النقدية والأدبية التي أثارها أدب هؤلاء المشارقة في الأندلس قد أسفرت عن ظهور مؤلفات نقدية في مستوى كتابي ” الموازنة ” و ” الوساطة “. وأما تفضيل بعض أدباء الأندلس لطريقة أحد المحدثين على طريقة غيره، والإعجاب بشاعر محدث دون آخر، فأمر وارد تعكسه الأخبار والآثار النقدية التي نعثر عليها في ثنايا بعض المؤلفات، كقول الزبيدي يصف ثقافة الشاعر الخيطي ( ت338هـ) ” الخيطي أبو حفص عمر ابن يوسف، كان من أهل العلم بمعاني الشعر، حسن التكلم فيه، وكان يتعصب للبحتري”[6] وكقوله يصف ثقافة ابن الأصفر أبي عبد الله محمد (ت 391هـ) ” كان له حظ من علم النحو، وبصير بمعاني شعر حبيب وغيره من أشعار المحدثين”[7]. وكقول ابن بشكوال في حق ابن الافليلي (ت 441هـ) ” عظيم السلطان على شعر حبيب الطائي وأبي الطيب، كثير العناية بهما خاصة”[8].
كما تجلى تأثير هؤلاء المحدثين على أدباء الأندلس- خلال القرن الرابع الهجري خاصة- في ثلاثة مستويات ذات صلة بالنقد هي :
أ- مستوى المعارضة: كمعارضات ابن دراج – في مدحه للمنصور ابن أبي عامر- لسيفيات أبي الطيب، وذلك في غير ما قصيدة من الديوان، مما حمل الثعالبي على القول بلغني أن أبا عمر القسطلي كان عندهم بصقع الأندلس كالمتنبي بصقع الشام…”[9]
ب- مستوى الشرح والتحليل :كشرح ابن الافليلي لديوان المتنبي، الذي أطراه ابن حزم بقوله ” شرح أبي القسم بن محمد بن الافليلي لشعر المتنبي…. وهو حسن جدا”[10].
ج- مستوى النقد والاستدراك: كاستدراكات الطبيخي ( 352هـ) وملاحظاته النقدية التي اشتمل عليها شرحه لديوان مسلم بن الوليد[11] وكذلك استدراكات ابن سيده المرسي(458هـ) التي اشتمل عليها كتابه “شرح مشكل أبيات المتنبي”[12].
لقد لاحظنا كيف واكبت الدراسات الأدبية الأندلسية الأدب المشرقي ونهلت من منابعهم الفياضة وتأثر بهم تأثرا شديدا على المستوى الأدبي نظرا لتشابه المعطيات بين البيئتين الأدبيتين من جهة، ولتوفرها على مناخ ثقافي خصب أسعف على ازدهار الأدب وتطور الحركة النقدية من جهة أخرى.
وإذا كانت الآثار النقدية التي تخلفت إلينا عن مرحلة ما قبل القرن الخامس الهجري، لا تسعف- في عمومها- على إقامة الدليل على نضوج النقد الأندلسي خلال ذلك الدور المبكر من التاريخ، فإن ذلك لا يعني بالحتم أنه كان أثناءه بسيطا ساذجا ” يعتمد على الذوق، ويتلفت في أغلب الأحيان إلى اللغة”[13] كما يذهب بعض المختصين في الدراسات الأندلسية.
إن الحركة الابداعية شعرية كانت أم نثرية مرتع خصب للنظر النقدي ومجال مسعف على التأمل والاقتراح. و الرصد النقدي التقويمي يعتبر أهم البواعث على تطور عملية الخلق الفني، ونقلها من المجالات الضيقة إلى آفاق أرحب وأوسع، والسمو بها إلى مستويات أرقى وأرفع.
ونظرا للعلاقة القائمة بين الابداع الفني ونقده، فإننا لا نستطيع أن نتصور قصيدةـ أو مقامة أو رسالة أو خطبة ، أو غيرها من النصوص الابداعية، بمعزل عن المتلقي في المجالس الأدبية الذين يعيدون إنتاجها من خلال تفسيرهم لها، وتمثلهم لمضامينها وتفاعلهم معها، واستدراكهم عليها إيجابا أو سلبا. وهذه الحقيقة تدفعنا إلى التساؤل عن مستوى الوعي النقدي الذي صاحب النشاط الأدبي في المجالس الأدبية العلمية الذي عرفته الأندلس خلال القرنين الرابع والخامس الهجريين.
فإذا كانت الحلقات الأولى للنقد تبدأ من المبدع نفسه، قبل أن ينقل تجربته إلى المتلقي، فإننا نجده أحرص ما يكون على تعهدها و إخراجها للناس في أجمل صورة وأبهى معرض، وأسمى بيان، وقد أهله حرصه هذا أن يكون أعلم من سواه بمواطن القوة والضعف فيما يبديه أو يبدعه غيره من الأدباء، وهذا هو ما ألمح إليه ابن رشيق بقوله ” وأهل صناعة الشعر أبصر من العلماء بآلته من نحو غريب ومثل وخبر وما أشبه ذلك”[14].
ولعل مما ضاعف حرص شعراء الأندلس خاصة، وأدبائها عامة على تعهد شعرهم وتوخي الإتقان فيما يبدعون، ومراعاتهم لأحوال مخاطبيهم، واعتبارهم للموقف التواصلي وظروف الإنتاج. فقد كانت قرطبة خاصة و سائر مدائن الأندلس عامة، بيئة أدبية نادرة المثيل، وكان للحكام مشاركة أدبية سواء على مستوى الإبداع أم على مستوى التذوق والنقد.
كما يمكن الاعتماد على ذلك الكم الكبير من أسماء المؤلفات الأندلسية وعناوينها التي وصلتنا عن مرحلة ما قبل القرن الخامس الهجري، وهي كتب التراجم الأدبية وكتب الطبقات والاختيارات الشعرية التي يغلب على الظن أنها كانت تشتمل على آراء وشذرات نقدية شأنها في ذلك شأن نظائرها في المشرق.[15]
ومن القرائن التي تسند هذا الترجيح ما يؤثر عن الأندلسيين من ملاحقة نقدية للملمين والطارئين على بلادهم من أدباء المشرق وشعرائه، أمثال أبي علي القالي الذي تعرض لسياط النقد من طرف أدباء الأندلس بمجرد ما وطئت قدماه أرضها سنة 330 هـ، على عهد عبد الرحمان الناصر[16]، ولم ينجح صاعد البغدادي الوافد على قرطبة زمن العامريين من المصير نفسه، فقد أوكلوا رئاسة ديوان الشعراء لأديب وناقد هو عبد الله ابن مسلمة الذي قال عنه الحميدي :” من أهل العلم والأدب ،ناقد من نقاد الشعر… في ديوانه كان زمام الشعراء، وعلى يديه كانت تخرج صلاتهم، وعلى ترتيبه كانت تجرى أمورهم[17].
ثم بعد ذلك تطور الحس النقدي عند الأندلسيين إذ المتأمل لهذه الأحداث ولهذا التطور يلحظ أنها أصبحت تتناول قضايا وأصولا أساسية في التفكير النقدي، والتي كانت تمهيدا لما تلاها من تطور في الرؤية النقدية عند الأندلسيين ومنها: – إشكالية السرقة الأدبية: هذه القضية كبرى من قضايا النقد الأدبي قديمه وحديثه، نجدها واضحة في نقد الأندلسيين، فقد كونت عندهم موضوعا من أهم موضوعاته، واستأثرت باهتمام منذ فجر تعاملهم مع القطاع الأدبي وإثارتهم لظواهره وقضاياه. ولعل ابن عبد ربه القرطبي (ت 328هـ) أول ناقد أندلسي نجده يولي مسألة السرقات الأدبية هذه عناية خاصة، ذلك ضمن مؤلفه “العقد الفريد” الذي تحدث فيه عن قدم هذه الإشكالية النقدية التي يسميها “استعارة” ويبين بعض أنواعها، قال: ” لم تزل الإستعارة قديما في المنظور المنثور، أحسن ما تكون أن يستعار المنثور من المنظوم، والمنظوم من المنثور، وهذه الإستعارة خفية لا يؤبه بها، لأنك قد نقلت الكلام من حال إلى حال . و أكثر ما يجتلبه الشعراء، ويتصرف فيه البلغاء، إنما يجري فيه الآخر على مذهب السنن الأول، وإما في منظوم وإما في منثور. أن الكلام بعضه من بعض “.[18]
كما تحتفظ لنا المصادر – على مستوى الإجرائي الصرف- بصورة ونماذج من السرقات الأدبية، وخاصة الشعرية منها، لاسيما تلك التي كانت تكتشف في مجالس المنصور بن أبي عامر الأدبية والفكرية، ونجتزئ منها ما يسوق هذا الاقتباس نقلا عن ابن بسام، الذي يرى أنه قد ” أدخل على المنصور يوما وردة في غير أيامها، لم تستتم فتح كمامها، فقال فيها صاعد على الارتجال:
أَتَـــتْــــكَ أبَــا عاَمــــــرٍ وَرْدَةٌ | يُـــذَكِّــــــرُكَ المِــــسْكُ أَنْــفَاسَــــهَــــا | |
عَـــذْرَاءُ أبْـــصَـــرَهَــــا مُـــبْصِـرٌ | فَــغَــطَّــتْ بِـــأَكْمَــامِـــهاَ رَأْسَـــهَـــــا |
فسر بذلك المنصور، وكان ابن العريف حاضرا فحسده، وجرى إلى مناقضته، وقال لابن أبي عامر: إن هذين البيتين لغيره، وقد أنشدنيهما بعض البغداديين بمصر لنفسه، وهما عندي على ظهر كتاب، فقال له المنصور أرنيه، فخرج ابن العريف… حتى أتى مجلس لبن بدر، وكان أحسن أهل وقته بديهة، فوصف له ما جرى فقال:
عَـــشَوْتُ إلى قـَصْـرِ عَـبَّاسَـــةٍ | وقـــدْ جَــــدَّلَ النّـــــومُ حُـــرَّاسَهَــــا | |
فَـألـفَـيْـتُهَــا وهي فِـي خٍــذْرِهَا | وقَــدْ صَــرعَ النـَّـوْمُ أُنَــاسَـــهَـــــا | |
فـَقــَالتْ : أسَاٍر عَــلَـى هَـجْـعَةٍ؟ | فَــقـُـلتُ : بَـلَى، فَـرَمَـتْ كَـأسَـهـَـــا |
..فطار بها ابن العريف، ودخل بها على المنصور، فلما رآها اشتد غيظا على صاعد..”[19]
ولعل أهم ما يستلفت النظر في نص ابن بسام هو أن الذوق الأدبي قد تطور في زمن العامريين عنه في بداية القرن الرابع الهجري، فاختلفت تبعا لذلك المقاييس والمواقف النقدية، فبينما كان ابن عبد ربه، يتساهل في مسألة السرقة الأدبية ويبررها ، نجد المنصور يتشدد فيها ويرفضها في مجالسه الأدبية. وقد أورد ابن عبد البر نموذجا على ذلك في ” بهجة المجالس وأنس المجالس” بين جرير وعبد الله بن معاوية حيث نجد جرير يقول:
ألاَ تَخافَا نبوتي فِي مُلِمّة | وخَافَا المَنايَا أن تَفُوتكُمَا بِيَا | |
تعرضت فاستمررت من دون حاجتي | فحالك إني مستمر لحاليا | |
وإني لمغرور أعـــــــــــــــــــــلل بالمنـــــــــــــــــــــــــــــــــــى | ليالي أرجو أن مالك ماليا | |
فأنت أخي مالم تكن لي حاجة | فإن عرضت أيقنت ألا أخاليا |
وهذا البيت من شعر جرير هذا قد أدخله عبد الله بن معاوية عبد الله بن جعفر في أبياته التي يقول فيها، فلا أدري من تقدم صاحبه إليه:
رَأَيْت فُضَيْلاً كَانَ شَيْئاً مُلَفَّفاً | فكشَّفَهُ التمحيصُ حتى بدا لِيَا | |
فـأنت أخي مالم تكن لي حاجةٌ | فإن عرضت أيقنت ألا أخاليا | |
فلا زاد ما بيني وبينك بعدما | بلوتك في الحاجات إلا ثنائيا[20] |
– ثنائية اللفظ والمعنى: يعتبر ابن عبد ربه أول ناقد قرطبي نقع عنده على رأي حول ثنائية اللفظ والمعنى، حيث يقول: ” واعلم أن العلماء شبهت المعاني بالأرواح والألفاظ بالأجساد واللباب، فإذا كتب الكاتب البليغ المعنى الجزل، وكساه لفظا حسنا، وأعاره مخرجا سهلا، ومنحه دالا مونقا، كان في اللقب أحلى وللصدر أملا “[21].
نستشف من هذا النص أن ابن عبد ربه يمد الجسور بين الشكل والمضمون في العمل الفني، ويقيم العلاقة بين طرفي المعادلة الابداعية، ومما يزيد ذلك وضوحا عنده قوله ” لاسيما إذا كان المعنى البديع مترجما بلفظ مونق شريف، لم يسمه التكلف بميسمه، ولم يفسده التعقيد باستهلاكه”[22]، فهذا الربط بين العنصرين (المعنى واللفظ) على هذا النحو يعتبر خطوة جريئة يخطوها ناقد أندلسي أوائل القرن الرابع الهجري.
و أما تأثر المضمون بقالبه الشكلي ففكرة نقع عليها عند الجاحظ قبله، ولا يستبعد أن يكون قد تأثر به في ذلك.وهذا ما مثل له ابن عبد البر في ” بهجة المجالس وأنس المجالس”، قال مالك بن دينار: كيتيه من أوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بين ذلك حامل عذرة. أخذه أبو العتاهية فقال:
مَا بَالُ منْ أَوَّلُهُ نطفةٌ | وجيفَةٌ وآخِرُهُ يَفْخَرُ | |
أصْبَحَ لاَ يَمْلِكُ تَقْدِيمَ مَا | يَرجُو ولا تأخير مَا يحذَرُ | |
وَأَصْبَحَ الأَمْرُ إلى غيرِهِ | في كل ما يُقْضَى وَمَا يُقْدَرُ [23] |
– الابداع الفني صناعة آلتها الطبع والموهبة :وهذه هي الشذرات النقدية الأساسية التي نعثر عليها في “العقد الفريد” وفيها يبين المؤلف رفضه قبول الأدب الابداعي الذي يكون وليد التقليد الأعمى، أو التكلف المقيت، موضحا أن الإبداع شعرا كان أم نثرا ، يعتاص على غير المطبوعين، لأنه وليد الموهبة الفطرية، فضلا عن كونه صناعة لا يستطيع الامساك بزمامها إلا من امتلك الأداة، وفي ذلك يقول:” واعلم أنه لا يصح لك شيء من المنثور والمنظوم، إلا أن يجري منه على عرق وأن تتمسك منه بسبب، فأما إن كان غير مناسب لطبيعتك، غير ملائم لقريحتك، فلا تضن مطيتك في التماسه، ولا تتعب نفسك إلى انبعاثه باستعارتك ألفاظ الناس وكلامهم، فإن ذلك غير مثمر لك، ولا مجد عليك، مالم تكن الصناعة ممازجة لذهنك وملتحمة بطبعك. واعلم أن من كان مرجعه اغتصاب نظم من تقدمه، واستضاءته بكوكب من سبقه، وسحب ذيل حلة غيره، ولم تكن معه أداة تولد له من بنات ذهنه … لم يكن من الصناعة في عير ولا نقير” [24]. وخير دليل على ذلك هو موهبة ابن عبد البر في صناعة وتأليف ” بهجة المجالس وأنس المجالس وشحذ الذاهن والهاجس”، والتي استقاها من بدائه الأدباء في المجالس الأدبية العلمية التي كان يحضرها والتي كانت شفوية تنم عن حسن إدراك المتلقي وعن فطنته وبديهته. ومن أمثلة ذلك قول جارية ابن السماك له: ما أحسن كلامك إلا أنك تردده. قال: أردده حتى يفهمه من لم يكن فهمه . قالت: فإلى أن يفهمه من لم يكن فهمه يمله من فهمه.[25]
و سأل رجل من الشعراء وجلا من المتكلمين بين يدي المأمون، فقال: ما سنك؟ قال: عظم . قال : لم أرد هذا، ولكن لم تَعُدَّ ؟ قال: من واحد إلى ألف ألف وأزيد. قال : لم أرد هذا، ولكن لم أتى عليك ؟ قال : لو أتى علي شيء لأهلكني. فضحك المأمون. فقيل له: كيف السؤال عن هذا ؟ فقال: أن تقول؟ كم مضى من عمرك.[26]
– المعارضة معيار من معايير التفوق الأدبي: وهذا عنصر آخر من عناصر النقد الأدبي، نجد إشارات إليه في نصوص متناثرة في مصادر الأدب الأندلسي. وتعتبر المعارضة ملمحا أساسيا من ملامح النقد الأدبي في قرطبة قبل القرن الخامس الهجري، وهي ظاهرة أدبية جاءت من منطلق المنافسة في بيئة أدبية احتفلت بالشعر والأدب عامة. فمن النصوص الواضحة في هذا السياق، قول ابن بسام يتحدث عن الأديب اللغوي صاعد البغدادي: “وأنشد المنصور يوما قصيدة أبي نواس أجار بيتنا أبوك غيور”. فعرض عليه أن يعارضها، فأبى صاعد إجلالا لأبي نواس….فلم ينفعه ذلك عنده … وجاءه من الغد فأنشده قصيدته التي أولها:
خِدَالِ البُرَى إني بكُنَّ بَحيرُ | طَوَتْكُنَّ عني خِلْسَةٌ وقَتِيرُ[27] |
ويبدو أن المنصور كان مأخوذا بقصيدة أبي نواس، يدلنا على ذلك إشارته على ابن دراج بمعارضتها كذلك، والذي جاءت همزيته استجابة لرغبته، والتي بدأها بقوله:
دَعِي عَزَمَاتِ الـــمُــسْتَضَامِ تَسِيرُ | فَتُنْجِدُ في عَرُضِ الفَلاَ و تَغُورُ[28] |
ومما يزيد تأكيدا على ذلك ما جاء في ” بهجة المجالس وأنس المجالس” حيث جمع المأمون بين العتابي وبين أبي قُرَّة النصراني، فقال لهما: تناظرا وأوجزا. فقال العتابي لأبي قرة: أسألك أم تسألني؟ فقال: سلني. قال: ما تقول في المسيح؟ قال: أقول إنه من الله عز وجل. فقال العتابي: إن (من) تجيء على أربعة أوجه: فالبعض من الكل على سبيل التجزؤ، والولد من الوالد على سبيل التناسل، والخل من الحلو على سبيل الاستحالة، والخلق من الخالق على سبيل الصنعة، فهل عندك خامسة قال: لا، ولكني لو قلت واحدة من هذه ما كنت تقول؟ فقال العتابي: إن قلت: إنه كالبعض من الكل جزأته، والباري لا يتجزأ، وإن قلت: إنه كالولد من الوالد أوجبت ثانيا من الأولاد وثالثا ورابعا إلى ما لانهاية، وهذا لا يجوز على الباري عز وجل، وإن قلت على سبيل الاستحالة، أوجبت فسادا، والباري لا يستحيل ولا ينتقل من حال إلى حال، وإن قلت: إنه كالخلق من الخالق، كان قولا حقا، وهو الحق الذي لا شك فيه.[29]
– الاشادة بالبديهة واعتبارها من أسس التفوق الشعري: لقد اعتبرت البديهة منذ وقت مبكر من أهم عناصر التأهيل الأدبي عند الأندلسيين، حيث غدت في المجالس الأدبية التي كان يعقدها الخلفاء والأمراء والوجهاء بقرطبة أساسا نقديا للحكم على ملكة الشاعر الابداعية، و بذلك غدت موضوع منافسة بين الشعراء.
ولعل أعظم شخصية أندلسية كان لها أبلغ الأثر وأعمقه في تطوير النقد الأدبي في الربع الأخير من القرن الرابع الهجري بقرطبة، هي شخصية المنصور بن أبي عامر، الذي مكنه تأهيله الفني والأدبي من الدفع بعجلة النقد، وذلك من خلال إلحاحه على قضيتين نقديتين هامتين، أولهما هي المعارضة الأدبية التي سبق أن تحدثنا عنها، وثانيهما هي البديهة والإرتجال.
فالملاحظ أن مسألة البديهة من خلال ما تخلف إلينا من الأثار النقدية قد عنى بها المنصور في مجالسه الأدبية عناية فائقة، فقد كانت مجالسه الأسبوعية مناسبة لاختبار الشعراء في مدى قدرتهم على ارتجال الأشعار، وكان نجاح
الشاعر في هذا الاختبار سببا في إلحاقه بديوان الشعراء، وحصوله على الرواتب والمكافآت.
ولعل الاختبار الذي أجراه ابن أبي عامر على صاعد البغدادي كان للدلالة على ذلك. فقد حكى ابن بسام أن المنصور استمع إلى أبيات لصاعد قالها ارتجالا يصف مشهدا مركبا هيئ بأمر منه كي يمتحنه به، فأعجب بها المنصور، ولم يملك إلا أن يكتبها بخط يده، أعترافا منه لصاعد بالاجادة والتفوق[30]. ولا أدل على ما كان لقول الشعر بديهة من مكانة في النفوس خلال المرحلة العامرية، من المكافأة العظيمة التي حظي بها صاعد إثر سماع المنصور لأبيات قالها ارتجالا يصف فيها جارية حسناء في سفينة تجذف بمجاذيف من ذهب[31]، فقد ” أمر له المنصور بألف دينار ومائة ثوب …وأجرى عليه المراتب…. وألحقه في ديوان الندماء”[32].
و هكذا كانت مجالس المنصور الأدبية مظهرا من مظاهر حب الشعر والولع بالأدب عامة، ومناسبة لتذوقه ونقده، وتلمس جوانب المتعة والجمال فيه، والتعرف على عوامل جودته أو رداءته. تلك صورة عن واقع النقد الأدبي في قرطبة خاصة والأندلس عامة قبل القرن الخامس الهجري. كما أفرد ابن عبد البر بابا في هذا المجال سماه ” باب من الأجوبة المسكتة وحسن البديهة” حيث وصف ابراهيم النظام لأبي عبيدة معمر بن المثنى باليقظة وسرعة الجواب، فمر به يوما ومعه قارورة زجاج، فأراد أن يختبره، فقال: يا أبا إسحاق ما عيب هذه ؟ فقال سريعة الانكسار، بطيئة الانجبار. فأعجب ذلك أبا عبيدة.[33]
ولا ريب في أن نقاد المرحلة الموالية (مرحلة الفتنة) كابن شهيد وابن حزم وسواهما قد استفادوا من هذه البدايات النقدية التي كانت- فيما يبدو – على جانب من الإستقواء والنضوج، واتخذوها منطلقا لأحكامهم وأساسا نظرياتهم، علما بأن البناء النقدي جهد جماعي لا فردي، يكمل اللاحق ما بدأه السابق ليزيد عليه ما يزيد، فهو محطة جملة إضافات تمثل العطاء النقدي المتنامي لطائفة من الأدباء والنقاد عبر العصور.
لهذا نجد فترة الفتنة (399-422هـ) فترة مليئة بالظواهر المتناقضة والغريبة، فقد عاش بها الورع والتقوى إلى جانب الخلاعة والمجون، وعاش الجهد العلمي الجامع إلى جانب الدعة والخمول. فلا غرابة أن تنتقل عدوى ذلك إلى ميدان الأدب، وتترك بصماتها عليه، سواء على مستوى الخلق الفني إبداعا، أم على مستوى الملاحقة التقويمية نقدا، طالما أن الأدب ليس شيئا هلاميا مجردا، بل هو مرتبط أشد ما يكون الارتباط بظروف إنتاجه، ونتاج لجملة مؤثرات تحيط بالمبدع أو الناقد في حيلته الخاصة والعامة، أي أنه محصلة لعوامل ذاتية وأخرى موضوعية، تتحكم في تحديد الإتجاه الفني ، وتعكس رؤيته التي تنم على درجة وعيه بواقعه، وبنائه الاجتماعي، ومستواه الفكري، وطبيعته النفسية[34].
وقد اتخذ الأدب ونقده نتيجة لكل ذلك خلال هذا الدور إتجاهات عدة يمكن إجمالها فيما يلي:
-اتجاه أخلاقي ديني: تفاعل مع الحياة الاسلامية، واستوحى رؤاه من أصول العقيدة ومن تعاليم الدين، متخذا المعيار النقدي الأخلاقي مقياسا أساسيا فيما يبدعه أو يصدره من أحكام، أو يقدمه من توجيهات نقدية، ذلك المقياس الذي تختزله آيات من سورة الشعراء[35]، كما يختزله قول الرسول صلى الله عليه وسلم:” إنما الشعر كلام، ومن الكلام خبيث وطيب”[36].والواقع أن هذا الاتجاه النقدي الذي كان ينزع أصحابه منزعا دينيا أخلاقيا ،
قد جاء صدى لذلك النشاط الديني الذي عرفته قرطبة خلال هذه المرحلة العصيبة من حياتها، والذي كانت له جذور في السابق وسيكون له امتداد في الفترة اللاحقة.
-اتجاه فني جمالي: اتخذ الاتجاه النقدي العربي الخالص خلفيته المرجعية، من الاتجاه الجمالي الذي يفصل بين الأدب والدين، ويقيم الحواجز بين الأخلاق والفن في مجالي الابداع والنقد ،متخذا من مبدأ الاجادة معيارا للحكم على الآثار الأدبية، والذي تختزله عبارة قدامة بن جعفر: ” إن المعاني كلها معرضة للشاعر، وله أن يتكلم منها فيما أحب وأثر…. وعلى الشاعر إذا شرع في أي معنى… أن يتوخى من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة”[37].
كما تختزله عبارة القاضي الجرجاني ،التي قالها في سياق دفاعه عن شعر المتنبي:” والعجب ممن ينقص أبا الطيب، ويغض من شعره لأبيات وجدها تدل على ضعف العقيدة، وفساد المذهب في الديانة، ولو كانت الديانة عارا على الشعر، وكان سوء الاعتقاد سببا لتأخر الشاعر، لوجب أن يمحى اسم أبي نواس من الدواوين… والدين بمعزل عن الشعر”[38].والواقع أن هذا الاتجاه الفني الخالص جاء ثمرة من ثمرات الحركة الأدبية واللغوية التي عرفتها قرطبة على عهد العامريين، والتي كانت تمهيدا لظهور هذا التيار الجمالي الفني في المرحلة اللاحقة.
لقد عاش الاتجاهان الأخلاقي والنقدي الجمالي معا جنبا إلى جنب، يتبادلان فيما بينهما التأثير ويحتضنهما مجال بيئي وسياق زمني واحد، ويصدران عن رؤية فلسفية عامة واحدة، تتلخص في ازدراء الحياة ورفضها، والبحث عن الخلاص من وطأتها، تلمسه البعض في اللهو والعبث والجنوح إلى المتعة، فجاء أدبه ونقده صدى لواقعه وانعكاسا أمينا لحياته اللاهية، ينزع فيه منزعا فنيا جماليا خالصا، وكان رائد هذا الاتجاه في قرطبة، أبو عامر ابن شهيد(ت 426هـ). وتلمسه البعض الآخر في العزوف عن الملذات والإنكباب على علوم الشريعة وأصول العقيدة، استيعابا وتعمقا وتأليفا ومنافحة عن المذهب العقدي المتبنى، وكان رائد هذا الاتجاه في قرطبة خلال هذه المرحلة الفقيه الظاهري أبو محمد علي بن أحمد بن حزم (ت 456هـ) الذي ” كان يحمل علمه هذا، ويجادل عنه من خالفه، حتى استهدف فقهاء وقته، فتحاملوا على بغضه، وحذروا سلاطينهم من فتنته”[39].
وقد برز اتجاه آخر وسطيا حيث يستقي بعض عناصره من الاتجاه الأخلاقي الملتزم، ويستمد البعض الآخر من الاتجاه الفني الخالص، وهو الاتجاه النقدي التوفيقي الذي حاول أصحابه الافادة من معطيات الاتجاهين معا، وكان رائده في قرطبة خلال هذه الفترة شيخ مؤرخي الأندلس أبو مروان ابن حيان (ت 469هـ) الذي أسهم مع ابن حزم وابن شهيد في إخصاب أهم حركة نقدية وأدبية شهدتها عاصمة الخلافة الأموية بالأندلس.
حيث نجد ابن عبد البر يقرر أن الإبداع والخلق الفني شعرا كان أم نثرا، لا يتحقق بكثرة الاطلاع على الإشكاليات النحوية وقضايا التركيب اللغوي، ولا بالدراسات المعجمية وإنما بهم جميعا حتى يتحقق البيان فصاحة وبلاغة، شريطة أن تطعم بعنصر الطبع والسليقة. وهذا ما أكده في ” بهجة المجالس وأنس المجالس” حيث أفرد بابا في “اختلاف عبارتهم في البلاغة”، حيث قال المفضل الضبي لأعرابي: ما البلاغة؟ قال: الإيجاز في غير عجز، والإطناب في غير خَطَل.[40]وقال خالد بن صفوان لرجل كثر كلامه: إن البلاغة ليست بكثرة الكلام، ولا بخفة اللسان، ولا كثرة الهديان. ولكنها إصابة المعنى والقصد إلى الحجة.[41]
إذن فقيمة الشعر عند ابن عبد البر ترتبط بمدى حرصه وتحقيقه للغاية التربوية الأخلاقية، وبمدى إرضائه للقيم الدينية العليا ، أي أن قيمته الجمالية متصلة بقيمته الأخلاقية، ومعنى ذلك أن الفضيلة شيء متعشق على عكس الرذيلة، فهي صفة ممقوتة متسخِّطة. وهذا ما أكده في باب “الأدب” ، حيث وصف أعرابي الأدب في مجلس معتمر بن سليمان، فقال: الأدبُ أدب الدين، وهو داعية إلى التوفيق، وسبب إلى السعادة، وزاد من التقوى، وهو أن تعلم شرائع الإسلام، وأداء الفرائض، وأن تأخذ لنفسك بخطها من النافلة، وتزيد ذلك بصحة النية، وإخلاص النفس، وحب الخير، منافسا فيه، مبغضا للشر نازعا عنه، ويكون طلبك للخير، رغبة في ثوابه، ومجانبته للشر رهبة من عقابه، فتفوز بالثواب، وتسلم من العقاب، ذلك إذا اعتزلت ركوب الموبقات، وآثرت الحسنات المنجيات.[42]لذلك نجد ابن عبد البر يضع إطار للشعر من خلال القيم الخلقية وما يثير النفس إلى الخير ويدعو إلى الفضيلة. و هذا ما تلمسناه في ” بهجة المجالس وأنس المجالس وشحذ الذاهن والهاجس ” حيث قلما نجده أورد لفظا موحشا إذا لم يكن منعدما فيه.
عود على بدء :
خلاصة القول فقد تمخضت الفترتان ( القرن الرابع والخامس الهجريين) من الناحية النقدية الأدبية عن أعلام بارزين كابن حيان وابن عبد ربه وابن حزم وابن شهيد وابن عبد البر، وهذا يعني أن النقد الأدبي في قرطبة لم يكن في بواكيره الأولى ساذجا ولا بسيطا، خلافا لما كان يعتقده بعض الدارسين ، بل كان على مستوى عال من النضج والاستقواء وهذا ما تؤكده كتب التراجم والطبقات، وكذلك الآثار النقدية التي تخلفت إلينا عن تلك المرحلة المبكرة من مراحل التفكير النقدي في الأندلس ،بالاضافة إلى المجالس الأدبية العلمية وخاصة مجالس المنصور التي لعبت دورا مهما في تذوق الشعر ونقذه، وتلمس المتعة والجمال فيه، والتعرف على عوامل جودته أو رداءته، فنتج عن ذلك إخصاب أهم حركة نقدية شهدتها عاصمة الخلافة الأموية بالأندلس، وهي اتجاهات تؤول إلى أصل مشترك واحد، وتعتمد على المحافظة باعتبارها المقياس الأساس في نظم الشعر وفي الكتابة النثرية ونقدهما، باعتبار ذلك من ثوابت الإتجاه الثقافي العام للأندلسيين . فنجد الاتجاه الأخلاقي يستمد رؤاه من الموروث الديني، ويشدًّ الأدب شعره ونثره إلى نسق من القيم الخلقية المسلم بها عقيدة ومذهبا (ابن عبد البر)، ثم الإتجاه التوفيقي الذي يمثله ابن حيان الناقد الذي لم يتردد في ثنائه على نتاج الأديب خلقا وإبداعا ، ثم الإتجاه الفني الخالص الذي مثله ابن شهيد والذي كان من طليعة من نهضوا بالحياة الأدبية والنقدية في قرطبة. فوضع للسرقة قاعدتها وحدد للبديهة مستوياتها وللإختيار رسومه ومعاييره، متخذا من شاعريته وثقافته المتنوعة وسيلة للتعبير عن آرائه ومواقفه وهذا ما مثلَ له ابن عبد البر في “بهجة المجالس وأنس المجالس وشحذ الذاهن والهاجس” .
مصادر والمراجع:
– الوساطة بين المتنبي وخصومه، الجرجاني علي بن عبد العزيز القاضي، شرح وتقديم أحمد عارف الزين، الطبعة المصرية سنة 1948م.
– بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس، تأليف الضبي أحمد بن يحي بن أحمد بن عمرة المتوفى سنة 599 هـ، دار الكاتب العربي، 1967.
– بهجة المجالس وأنس المجالس وشحذ الذاهن والهاجس ،تأليف الإمام أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي 368-364 هـ، تحقيق محمد مرسي الخولي، دار الكتب العلمية بيروت -لبنان (دت).
– تاريخ النقد الأدبي في الأندلس، تأليف محمد رضوان الداية، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية 1981م.
– جدوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، الحميدي ( أبو عبد الله محمد بن أبي نصر ) طبعة الدار المصرية سنة 1966 م.
– إشبيلية في القرن الخامس الهجري، تأليف صلاح خالص، نشر دار الثقافة، بيروت، مطبعة سيما 1965م .
– الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، تأليف أبي الحسن علي بن بسام الشنتريني المتوفى سنة 542 ه، تحقيق سالم مصطفى البدري، الجزء الثالث، منشورات محمد علي بيضون الطبعة الأولى 1419 ه- 1998م، دار الكتب العلمية بيروت لبنان .[1]
– ديوان ابن دراج القسطلي، تحقيق محمود علي مكي، نشر المكتب الاسلامي بيروت- لبنان، الطبعة الثالثة سنة 1389م.
– طبقات النحويين واللغويين، الزبيدي أبو بكر محمد بن الحسن، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، نشر دار المعارف، الطبعة الثانية 1984م.
– نفع الطيب في غصن الأندلس الرطيب، تأليف الشيخ أحمد بن المقري التلمساني، حققه الدكتور إحسان عباس، المجلد الأول، دار صادر بيروت، الطبعة الأولى 1968 – طبعة جديدة 1997 .
– نقد الشعر بين ابن قتيبة وابن طباطبا العلوي، تأليف عبد السلام عبد العال، نشر دار الفكر العربي بمصر، الطبعة الأولى 1978م.
[1] – نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب، تأليف أحمد بن المقري التلمساني، حققه إحسان عباس ،المجلد 1، دار صادر بيروت، الطبعة الأولى 1968_ طبعة جديدة 1997،ج 3 ، ص 177.
[2] – بغية الملتمس، ص 164.
[3] – فهرست ابن خيرة، ص 397.
[4] – نفح الطيب، ج3، ص 134.
[5] – فهرست ابن خيرة، ص 103-104.
[6] – طبقات النحويين واللغويين، الزبيدي أبو بكر محمد بن الحسن، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، نشر دار المعارف، الطبعة الثانية 1984م، ص 305.
[7] – نفس المصدر، ص 303.
[8] – الصلة، ج1، ص 93.
[9] – يتيمة الدهر، ج1، ص 4.
[10]– نفح الطيب، ج3، ص 172.
[11] – تاريخ النقد الأدبي في الأندلس، تأليف محمد رضوان الداية، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية 1981م، ص 80-90.
[12] – نفس المرجع، ص 166-177.
[13] – تاريخ النقد الأدبي عند العرب، نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن الهجري ،تأليف إحسان عباس، دار الثقافة بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1981م، ص 471.
[14] – العمدة، ج1، ص 117.
[15]– ومن تلك المصنفات- التي ضاعت فيما ضاع من التراث الأندلسي- نذكر على سبيل المثال: كتاب “طبقات الشعراء في الأندلس”، لأبي عبد الله بن عبد الرؤوف المتوفى سنة 343هـ ، والذي يقول عنه الزبيدي ” جود في ذلك وبلغ الغاية في الاتقان”.أنظر طبقات النحويين واللغويين، ص 309. -كتاب “طبقات الشعراء بالأندلس” لحرقوص عثمان بن سعيد الكتاني أورد فيه أخبار شعراء الأندلس حتى عصره، توفي قريبا من سنة 320هـ. أنظر طبقات النحويين واللغويين، ص 288.- كتاب” أخبار الشعراء بالأندلس “لمحمد بن هشام بن عبد العزيز بن محمد بن سعيد الخير بن الأمير الحكم بن هشام، المتوفى سنة 340هـ أنظر جذوة المقتبس ص 95.-“طبقات شعراء الأندلس” لعثمان بن ربيعة، مات قريبا من سنة 310هـ أنظر جذوة المقتبس ص 305.-“طبقات الكتاب بالأندلس” لمحمد بن موسى بن هشام النحوي المعروف بالأفشتين، ذكره أبو محمد علي بن أحمد بن حزم. أنظر جذوة المقتبس ص 127.-كتاب” الحدائق” لأحمد بن الفرج الجياني (ت 350هـ) وهو –فيما يبدو- كتاب تراجم ومختارات أدبية، ذكره ابن بسام في مقدمة “الذخيرة ” فقال:” لم أعرض لشيء من أشعار الدولة المروانية، والمدائح العامرية. إذا كان ابن فرج قد رأى رأيي في النصفة وذهب مذهبي في الأنفة، فأملي في محاسن أهل زمانه كتاب ” الحدائق”. الذخيرة ج1،ص 13.-كتاب “في التشبيهات من أشعار أهل الأندلس” لأبي الحسن علي بن محمد بن أبي الحسين الكاتب، قال عنه الحميدي ” مشهور بالأدب والشعر وله كتاب في التشبيهات من أشعار أهل الأندلس…. كان في الدولة العامرية، وعاش إلى أيام الفتنة. أنظر جذوة المقتبس ص 257.فهذه المؤلفات في الطبقات والتراجم والاختيارات التي ضاعت فيما ضاع من التراث الأندلسي، ولم يصلنا منها سوى عناوينها- اللهم إلا ما كان من نقول عن بعضها نعثر عليها في تصانيف بعض المؤلفات- نرجح أن تكون قد تضمنت نقدا أدبيا عاما، يغلب عليه الجانب التوثيقي كالذي نعثر عليه في طبقات الزبيدي.
[16]– أنظر قصته مع ابن رماجس مبعوث الحكم المستنصر، الذي اختبره في طريقه إلى قرطبة، فاكتشف بعض مواطن ضعفه الأدبي،أنظر نفح الطيب،ج2، ص 70-71.
[17] – جذوة المقتبس، ص 257.
[18] – العقد الفريد، ج 5، ص 338.
[19] – الذخيرة، ج4 ، ص 17-18.
[20] – بهجة المجالس، ج 2 ص 711-712 .
[21]– العقد الفريد، ج5، ص 294..
[22] – العقد الفريد ،ج5، ص 294.
[23] – بهجة المجالس، ج2 ص 440.
[24] – العقد الفريد، ج6، ص 207.
[25] – بهجة المجالس، ج 1 ص 95 .
[26] – بهجة المجالس، ج 1 ص 104 .
[27] – الذخيرة، ج1، ص 22.
[28] – ديوان ابن دراج القسطلي، تحقيق محمود علي مكي، نشر المكتب الاسلامي بيروت- لبنان، الطبعة الثالثة سنة 1389م، ص 22.
[29] – بهجة المجالس، ج 1 ص 106 .
[30] – الذخيرة، ج1،ص 18-19.
[31] – نفس المصدر.
[32] – نفس المصدر.
[33] – بهجة المجالس، ج 1 ص 106 .
[34] – إشبيلية في القرن الخامس الهجري، تأليف صلاح خالص، نشر دار الثقافة، بيروت، مطبعة سيما 1965م ،ص 7-15.
[35] – سورة الشعراء ،الآيات: 223-227 .
[36] – العمدة، ج1 ،ص 27.
[37] – نقد الشعر بين ابن قتيبة وابن طباطبا العلوي، تأليف عبد السلام عبد العال، نشر دار الفكر العربي بمصر، الطبعة الأولى 1978م، ص 19.
[38] – الوساطة بين المتنبي وخصومه، الجرجاني علي بن عبد العزيز القاضي، شرح وتقديم أحمد عارف الزين، الطبعة المصرية سنة 1948م، ص 63-64 .
[39] – الذخيرة، ج1 ،ص 167-168.
[40] – بهجة المجالس، ج 1 ص 71 .
[41] – نفسه .
[42] – بهجة المجالس، ج 1 ص 110-111 .