
الـثــقــافـة الإسـلامـيّــة أمـام التمظهرات الغـــربـيّـة – مـقـاربـة أدبـيّـــة –
أميـنـة دحـــــو، طالبة دكتوراه تخصص الأدب المقارن إشــــراف أ.د محـمــد قــادة
جامعة عبد الحميد بن باديس – مستغانم ـ الجزائر
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 42 الصفحة 103.
الملخص:
يسعى هذا الطرح إلى إبراز مكانة الثقافة الإسلاميّة و تبيان مكانتها أمام الثقافات الأجنبيّة، فعلى الرغم من مصداقيّتها و الوصلة الرصينة التي أحدثتها بين العلم و الدين، العقل و القلب، و كذا فضلها في تجنّب القطيعة بين الماضي و الحاضر، و في الوقت ذاته مواكبتها للمستجدّات المعاصرة التي تنعش حياة المثقّف المسلم، إلاّ أنها تعاني من عدم الثبات و هذا راجع لعدّة أسباب تنوّعت بين تفريط بعض المثقفين عن قيم الثقافة الحقّة و أباطيل بعض الخصوم لدى الأجانب و كذا استحداث ما لا يتوافق و القيم الإسلاميّة و إيلاجها عبر كافة المواضيع الأدبيّة، العلميّة…أمام ظهور هذه التيارات و تلاطم المبادئ المختلفة و عراكها بغية تصدّر بقيّة الثقافات، لزاما على المثقف المسلم الثبات والصمود مع مواكبة كل مستجدّ يهدف إلى إعلاء صرح معرفة بنّاءة تخدم شعوب الأرض قاطــبــة.
الكلمات المفتاحيّة:
الثقافة الإسلاميّة – فكر الغيريّة – نظرة الآخر – التحدّي الثقافيّ – راهن المسلم المثقّف –
تمهيد:
تعدّ الثقافة الإسلاميّة منبعا فكريّا لشتى المعارف الإنسانيّة، لذا وجب على الباحث التشرب منها، بدراسة مفاهيمها والتوغل في مضامينها، حتى يتمكن من تأسيس قاعدة معرفيّة صلبة تؤهّله إلى إعلاء صرح فكريّ مرصوص البنيان.فما المقصود بالثقافة؟ و هل لمعنى المصطلح هذا علاقة بالمضمون؟ الإجابة على هذين السؤالين تقتضي الرجوع إلى أصول لفظة ثقافة.
تعود جذور كلمة culture إلى لفظين لاتينيين هما cultura التي تعني حرث الأرض وزراعتها، ولفظ colère الذي يحمل مجموعة من المعاني كالسكن والتهذيب والحماية والتقدير إلى درجة العبادة،[1] وتـبـنّـاهـا الحكيم اليوناني شيشرون (106-43 ق.م) كغاية للفلسفة تعمل على تثقيف الذهن و زراعة العقل وتنميته cultura animi [2] نلاحظ أنها معاني ترتبط بالتمثلات الفكريّة للحياة الثقافيّة، على الرغم من أن أصول الدلالات هذه تنبثق من منابع غربيّة تعود إلى جهود العلماء الأوروبيين أو إلى القوانين الرومانيّة أو كتابهم المحرف مع هذا لم تنزاح كليّا عمّا أتت به التعريفات و المفاهيم العربيّـة لهذا المصطلح. إذ ورد تعريفها فيما يلي:
الثــقـــافـــة لغــة: أصل الثـقــافــة في اللغة العــربـيّــة مأخــوذ من الفعــل الثـلاثي ثقف بضم القاف[3] منشأها؛ ثَقَفْ – ثَقُفَ – ثَقْفاً – و ثَقِفاً و ثقافةً؛ صار حاذقاً, خفيفاً, فهو ثقفٌ و ثقيِفٌ و ثقيفٌ, ثقِف ثقفاً و ثقافة و ثقوفةً, الكلام: حذقهُ و فهمه بسرعة, ثقْفاً ه: ظفر به أو أدركه[4]
يقال أيضــا: ثــقـف في موضــوع ما، أي ألـــمّ أو ظفــر به و أدركه وفي القــرآن الكـــريـــم ﴿فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم﴾[5] أي ظفرتم بهم. وهذه المدلولات مـتـقـاربـة من بعضها البعض، فالنباهة و التركيز يـيسّران السبيل إلى سرعة التــعلــم فثمّة الظفر بالمعرفة و الثــقـافـــة.
الثـقـــافـة اصطـلاحا: تعدَّدت تعاريف العلماء والمفكِّرين للثَّقافة الإسلاميَّة، ولم يوجد حتَّى الآن تعريف مُحدَّد مُتَّفق عليه لمصطلح الثَّقافة الإسلاميَّة، وإنَّما هي اجتهادات من بعض العلماء والمفكِّرين6. ونظرا لعدم تبات هذا الفضاء المعرفيّ الفسيح و استقراره عند تعريف أو مفهوم موصول مباشرة بمدلولاتها الحقيقيّة، يمكننا صياغـة معـانـيها وفـق ما تمليه الركائز الـمؤسّـسة لـمـفـهـوم الثــقـــافــــة، والتي يمكن إجمال أبرزها فيما يلي:
– تـكسب الفرد رغبة الاحتكاك و التفاعل مع الآخر و بالتالي تصقل فيه شخصية متفتحة بعيدة عن الانكفاء على الذات كما يزعم العديد.
– الـثــقافة تلاقح لعطاءات فكريّة بـنّاءة و قيم سامية تخدم الأمم قاطبة مع مراعاة معايير و مبادئ هويّة الـمـجـتمعات.
– الثقافة إجمالا تشتمل على قيم معنويّة محسوسة كأفكار أدبيّة، تعاملات إنسانيّة، تفاعلات حضاريّة… وجوانب مــاديّـة تتمظهر في تجليّات حضاريّة كالاكتشافات الفلكيّة، المبتكرات الطبيّة، الاختراعات العلميّة…
و يدلي المفكر الراحل مالك بن نبيّ ” إن الثقافة هي الجوّ المشتمل على أشياء ظاهرة مثل الأوزان والألحان والحركات و على أشياء باطنة كالأذواق و العادات والتقاليد بمعنى أنها الجوّ العامّ الذي يطبع أسلوب الحياة في مجتمع معيّن وسلوك الفرد فيه بطابع خاص يختلف عن الطابع الذي نجده في حياة مجتمع آخر “.[6]
يتّضح لنا أن نظرة أو دعوة الـمفكّر مالك بن نبيّ لبناء مجتمع ثقافيّ، تستهل من دواخل المجتمع،أي تنبع من المرجعيّات الفكريّة لشخصيّات الأفراد و كذا تعاملاتهم و هذا ما يميّز المجتمعات عن بعضها البعض. هذا التباين فيما بينها بقدر ما يخدمها، فإنه يمكن له أن يشكّل خطرا على الأمة المتأثر أفرادها تأثرا عكسيّا بسلبيّات الأمم الأخرى. لهذا فإن أيّة محاولة لتحقيق مقارنات أو مقاربات تسعى إلى تجسير ثقافة الذات بالغيريّة، تفرض حتميّة تحصين الهويّة أيّا كانت طبيعتها،حتى تترسّخ و تتوطّد القيم الذاتيّة تجنّبا. لأيّ وافد سلبيّ. يقول غاندي Gandi ” إنني أفتح نوافذي للشمس و الريح و لكني أتحدّى أيّة ريح تحاول أن تقتلعني من جذوري “[7] في الوقت نفسه، التشبت بالمبادئ يجنبّنا الانسياق نحو ما لا يتوافق وقيمنا. إذ أنه يكسبنا ثقة مطلقة في المجابهة الفكريّة أمام كلّ وافد وارد إلينا، و قد أوجبت تلك الضرورة تبعا لآليّات التعامل مع تاريخ المسلمين و التي كان منها:
1- استعماله مشوّها و محرّفا – أداة للتعبئة الجماهيريّة عاطفيّا و فكريّا عبر قرون للاحتكاك بين العالمين الإسلاميّ والأوروبيّ.
2- توظيف قصة ظهور الإسلام و العبادات الإسلاميّة كأسلوب للبرهنة على أن معتقدات المسلمين لا تختلف كثيرا عن المعتقدات الروحيّة للتقليد الديني اليهوديّ المسيحيّ، الأمر الذي انطوى على التفكير بإمكانية كتب المسلمين للمسيحيّة و كان وراء إطلاق فكرة التبشير المسيحيّ في العالم الإسلاميّ.
3-استحضار شخصيّة الرسول – ص – و صحابته كسلاح في الصراعات الطائفيّة و الفرقيّة بين أتباع كنائس في أوروبا و بخاصة بعد ظهور حركة الإصلاح الدينيّ وتكوّن الكنيسة البروتستانتيّة على يد مارثن لوثر Martin luther الأمر الذي زاد من وكيل التشوهات للإسلام و لمادّته الأصليّة “[8]
لقد أملت هذه الممارسة السلبيّة اتجاه تاريخ العرب و المسلمين، رصد وتحليل التأريخ الأوربيّ للإسلام والعرب مذ بدايات العصور الوسطى، إذ شهدت هذه الفترة تعاملا مؤسّسا على الهيمنة على أقاليم العالم الإسلاميّ. فكان لزاما على الطرح إماطة اللثام عن خلفيّات الإساءة الغربيّة للعالم الإسلاميّ والتي يرجّح بعض السوسيوسياسيّين معظمها إلى
أ/ متاخمة الدول الأوروبيّة للعالم الإسلاميّ: إنّ تـموقع أوربا بين عالمين عربيّ و إسلاميّ، ولّد لدى قاطنيها شعورا بالحصار الإيديولوجي. ” بدت أوربا محاطة بعالم إسلاميّ شديد المراس عسكريا، و هو عالم متكون إما من العرب أو من الأقوام المسلمة التي تعدّ أقواما مستعربة. لقد كانت أوربا حينذاك قبل اكتشاف أمريكا و فتح قناة السويس تشعر بأنها مخنوقة إما بعالم الإسلام أو بالصحاري المتجمدة الجرداء، لقد كان شمالها مغلفا بأقاليم ثلجيّة شاسعة، بينما مثل المحيط الأطلسي ( الذي يعدّ نهاية العالم ) كامل حدودها الغربيّة و من ناحية ثانية ، كانت حدود أوربا العصر الوسيط المتبقيّة إسلاميّة بالكامل: فجنوبها متكوّن من البحر المتوسّط الذي كانت تمخره الأنشطة البحريّ العربيّة ( تجاريّة و عسكريّة ) لدرجة أنه بدا و كأنه بحيرة عربيّة “[9]
التحدي الأوروبيّ للفكر الإسلاميّ: لطالـما ذيعت في عصر الثورة الصناعيّة عبارة “السيف الإسلاميّ ” لهذا دوّنت معظم التواريخ الأوروبيّة عن الإسلام – إن لم نقل كلّها – تحت هاجس الخوف من الطاقات العسكريّة العربيّة الإسلاميّة وبخاصّة بعد استقرار الخلافة العربيّة الإسلاميّة، مع أن الإسلام لم ينتشر بتاتا بالسيف – على حدّ اعتقاد الآخر- و يوطّد هذا الطرح المفكّر الراحل أحمد ديدات في مناظرته المدّونة ” المسيحيّة و القرآن ” بقوله « و كذلك تسيّد المسلمون الهند منذ ألف عام و أخيرا عندما نالت شبه القارّة في عام 1974 ، حصل الهندوس على ثلاثة أرباع الدولة و المسلمون على ربع. لماذا؟ لأن المسلمين لم يفرضوا الإسلام في حلوق الهندوس. فالمسلمون في الهند واسبانيا كانوا أمثلة للفضيلة »[10]
إنّ ما حقّقه العالم الإسلاميّ من تفوّق و سموّ لمدارج نهضويّة لم يبلغها الآخر من قبل، يعكس حالة التفوّق الشامل لقوّة الحضارة آنذاك، على غرار العالم الأوروبيّ الذي غرق في وحل الجهل وأوقع أفراده في شباك الاعتقاد و اليقين بعالم الأساطير و الخرافات بعدما أوهمهم من يــزعـمــون أنــهم رجال الدين بمنحهم صكوكا للغفران و بالتالي ضمان حياة روحيّة خالية من كلّ المعاصي !!! لـهذا السبب وغيره تمكّن العالم الإسلاميّ من أن يظفر بميراث المعرفة الحقّة وحياة المعرفة الثقافيّة البنّاءة عبر كافّة الأقطار ليقين أعلامها أن قوّة الحضارة إنما تنشأ من العلم و الثقافة.
و من أهمّ المراكز الحضاريّة الكبرى، بغداد، القاهرة و دمشق، إذ لم تحقّق تقدّما اقتصاديّا فحسب، بل عدّت منارات للإشعاع الثقافيّ كما كان أهمّ روّادها ينابيعا فيّاضة لكلّ متعطّش للارتواء من نبع الثقافة العالميّة. أمثال: ابن سينا، ابن رشد و ابن الهيثم و غيرهم. الذين سطعت أسماءهم في سماء المعرفة البنّاءة و شكّلوا فضلا في تفاخر الحضارة العربيّة الإسلاميّة. أمام هذا الإحراز المتنامي لحقب زمنيّة متتالية، اكتفى العالم الأوروبيّ بالركود في بقع الأوهام لعدم امتلاكهم ما يؤهّلهم لمجابهة علماء العرب. لقد كتب روجر بيكون Roger Bicon – باحث العصر الوسيط – موضحا مسلّمة لا جدال فيها قائلا: ” إن الفلسفة هي الحقل الخاص بالمؤمنين، نأخذها كاملة منهم “.[11]
و ما هو معلوم أن الفلسفة أم العلوم،فالفلكيّ فيلسوف في مجاله، عالم الرياضيات، الفيلولوجيّ ، المختص النفسيّ، الناقد، اللسانيّ….كلّ واحد منهم يتعمّق في مجاله، يستنطق، يستقرأ، يشرح، يفسّر فيوؤوّل. ليكتسب بعد هذا الجهد قدرات تمكّنه من النهم النصيّ في مجاله المعرفيّ.
إنّ وعـي المسلم بضرورة الثقافة الإسلاميّة و تشرّبه من نبعها، أجلى نظرته على الآخر فساعدته على فهم طبائع وعادات مختلف الأمم و عديد الشعوب و الاطلاع على أفكارها، و فضول معرفة ما وصل إليه الآخر من باب المنافسة المحمودة أمر مستحب. فالتعارف المؤسّس على عدم الإخلال بضوابط الأخر يسهم في التفتح و الاحتكاك ولم لا التفاعل المفضي إلى التغيير الايجابيّ و بالفعل هذا ما هذا بالفعل بين الثقافة الإسلاميّة مع الثقافات الأخرى. إذ كان لها الفضل في تخليص الشعوب من عبادة الأوثان و الإيمان بالخرافات و رست بهم عن شط المعرفة الإنسانيّة. فمسار المثاقفة امتدّ إلى غاية إعلاء لكلمة الحق، بعد أن اكتسب الآخر ثقافته من النص القرآني المقدّس و ما حواه من ” عبادات ومعاملات و أخلاق و نظام مجتمع، و منهج حياة جامعة بين العقل و القلب و الروح و الجسد والدين و العلم والدنيا و الآخرة”.[12] لهذا، عدّ التفاعل الثقافيّ أهمّ ميزة تفرّدت بها الحضارة الإسلاميّة ، حيث إنّها – الثقافة الإسلاميّة – لم تسدّ ينابيعها المعرفيّة أمام الآخر، بل فتحت كل مشاربها لقاصدها بغيــة التشرب منها وكان من تلك المنارات بلاد الشام ومصر. أما لدى الآخر فتألّقت عند اليونان.
لقد تمكّنت الثقافة الإسلاميّة من خلا تماشيها بـوتيـرة التسامح و قابليّة الانفتاح، من تحقيق امتداد لمعظم فروعها بـغـرس جذور مواضيعها في أقاليم مختلفة. يقول كولر يونغ T.C Young ” إن الدين الثقافيّ العظيم الذي ندين به للإسلام منذ أن كنا نحن المسيحيّين داخل هذه الألف سنة، نسافر إلى العواصم الإسلاميّة و إلى المعلّمين المسلمين ندرس عليهم الفنون و العلوم و فلسفة الحياة الإنسانيّة، يجب التذكير به دائما. و في جملة ذلك ثراثنا الكلاسيكيّ الذي قام الإسلام على رعايته خير قيام، حتى استطاعت أوروربا مرة أخرى أن تتفهّمه و ترعاه. كلّ هذا يجب أن يمازج الروح التي نتجه بها – نحن المسيحيّين – نحو الإسلام.[13]
إنّه لأمر باد بجلاء على أنّ الثقافة الإسلاميّة أتّرث في شتى المجالات العلميّة مثل الرياضيّات، الطب، وكذلك العلوم الإنسانيّة، و كان فضل السبق لعلمائها في تحقيق التأثير في الآخر. فكتاب ” القانون في الطب” لابن سينا 370 ه، 980م ت: 427 ه، 1037م[14]يعتبر إلى غاية يومنا هذا مرجعا أساسيّا في ذات المجال، ويـعـدّ ابن خلدون 1332 – 1406م [15] أول من تطرّق إلى علم العمران، و لهذا يعتبر مؤسس علم الاجتماع الحديث.
أمّا ابــن الــهـيـثم965م- 1040 م[16] فرائدا للمنهج العلميّ بتأسيسه لعلم المناظر.بينما تألّق الإدريسيّ 493ه 1100م توفي بتاريخ 559 ه 1166 م.[17] في الجغرافيا ورسم الخرائط. أن الغربيّين كانوا منساقين وراء المتاهات الخرافيّة و سعوا إلى المكاسب الماديّة كما أنهم توهّموا أن المغفرة الأبديّة يمكن الحصول عليها من قبل كهنتهم. كانت الحضارة الإسلاميّة في أوجّ ازدهــارها. يقول ول ديورانت Will Durant : “عندما تقدّم روجر بيكون Reger Bacon بنظريّته في أوروبا بعد 500 عام من ابن جبير. قال إنه مدين بعلمه إلى المغاربة في اسبانيا الذين أخذوا علمهم من المسلمين في الشرق. وعندما ظهر النوابغ والعلماء في عصر النهضة الأوروبيّة، فإنّ نبوغهم وتقدّمهم كانا راجعين إلى أنهم وقفوا على أكتاف العمالقة من العالم الإسلاميّ “.[18]
إنّ مثل هذا الاعتراف، يؤكّد أن الثقافة الإسلاميّة هي ثقافة هادفة تتصدّر كلّ المعارف، هذا لأن خدماتها شملت الإنسانيّة و عملت جاهدة على تحقيق الرقيّ الموصول بتهذيب النفس. و نظرا للتطوّر الملحوظ الذي تشهده وسائل الإعلام و الاتصال عبر العالم، فقد استحوذت رغبة التطلع من قبل كل أمّة حول تحقيق الريادة الثقافيّة على المستوى الدوليّ و سعى كل مجتمع في أن تحقق توجهاته المعرفيّة ذيوعا وصيـتـا. فازدحـمـت الصراعات الفكريّة و تلاطمت تيّارات غير مـعهودة مسبقا سعت إلى إحداث هـدم خارجيّ للبنى التحتيّة للركائز الإسلاميّة بطرق تكاد تكون أشبه بدسّ السم العسل. هذا لظهور أفكار تحرص على جسّ نبض الحياة المعرفيّة لكلّ مجتمع إلي أين آلت، وتماشى الكل بمبدأ كي تعارض شخصا أو فكرة أو حزبا انتمي إليه، للاستغلال و الاشتغال على العديد من نقاط الضعف، كتأخر العالم الإسلاميّ عن مواكبة التقدّم التكنولوجيّ و انشغالهم بالحروب الداخليّة و كذا هيمنة المجتمعات الغربيّة على مصادر التمويل الدوليّ. يذهب الكاتب الأمريكيّ هربرت شيلر Herbert Schiller في كتابه ” الاتصال والهيمنة الثقافيّة إلى أن الامبرياليّة الثقافيّة تستمدّ طاقاتها تحت إطار نظام عالميّ موحّد بسبب ما أفرزته الخلفيّات الثقافيّة للدول المهيمنة، و أفضت دراسته إلى أنّ ” الامبرياليّة الثقافيّة هي جماع العمليّات التي تستخدم لإدخال مجتمع ما إلى النظام العالميّ الحديث، ولاستماله الطبقة المهيمنة فيه والضغط عليها و إجبارها و رشوتها أحيانا، كي تشكّل المؤسسات الاجتماعيّة في أنساق مع قيم المركز المهيمن في النظام و بناه أو حتى الترويج لها “.[19]
إنّ مثل هذا التصريح العلـنيّ يؤكّد محاولة طمس معالم الهويّة الثقافيّة لهدم الركائز الحضاريّة للشعوب الأخرى بحجّة العولمة الثقافيّة. لكن المفارقة في هذا الأمر عجيبة !! لأنّه من بين ما نصّ عليه هذا النظام الموحّد، قانون موثق في كلّ اللوائح الدوليّة محتواه احترام الهويّات الثقافيّة للأمم كيفما كان حالها و عدم الإخلال بمقوّمات مجتمعاتها !!
اتجاه هذه التيارات المتضاربة فيما بينها، يستوجب على المسلم المثقّف الصمود أمام كلّ وافد أجنبيّ و أن يرمّم صرحه الثقافيّ الذي ما كان ليضعف إلاّ بضعفه و تفريطه الـمتعمّد للأخذ بأسباب التقدّم البنّاء، هذا الأخير الضارب بـجذوره في ثقافاته السابقة. فكان و من دون شكّ بعد ذاك الإهمال بعدم الاهتمام و التمسّك بقيم الثقافة الإسلاميّة افرازات سلبيّة التي لا تنسجم و مقوّمات الأمّة الإسلاميّة، على رأس تلك الإفرازات الهدّامة تخلّى المسلم المثقف عن حمل مشعل رسالته الحضاريّة التي أسّسها السابقون و وضعها على أكتاف مفكّرين من غير بني جلدته في الوقت الراهن.
إزاء هذا التراجع الفكريّ و الانزياح عن مبادئ الهويّة الإسلاميّة، تصبح الثقافة الإسلاميّة في موقف لا يؤهّلها للمنافسة بما أنها لا تمتلك ما يجعلها في موقف قوّة لتتدافع حضاريّا إن لم يتمّ الرجوع إلى إنعاش الأصول و إحياء الجذور، فبفضلهما تـتمكن الثقافة الإسلاميّة من ضمان استمراريّتها والمنافسة الحضاريّة. ليس لأنها ورثت إرثا غنيّا فحسب، بل لأنّ قيمها إنسانيّة تختزل مبادئ معقولة في الشكل والمظهر، العمق و الجوهر و كلّها ركائز مؤسّسة على الحوار و المعاملة الحسنة و هما أساسان تنهض عليهما سـنّـة الحياة الطبيعيّة. أمّـا حياة الصراع فمردّها إلى التراث الرومانيّ القائم على أساطير صراع الآلهات وتعدّدها و هذا ما لا يتقبّله العقل الرجيح.
بعدما تبيّن أنّ راهن القانون الدوليّ ينادي بضرورة الـحوار الـثــقافي، فلزاما على المسلم المثقّف أن يواكب أيّ مستجدّ يخدم معرفته بتتبعه لوسائل الإعلام الثقافيّة المعاصرة من جهة ونشر و إيصال أفكاره ووجهات نظره من جهة أخرى…هذا لأن التكنولوجيا أضحت أداة تحكم لأيّ مجتمع يبتغي الحضارة. هذه الأخيرة التي استفحلت فيها سياسة التهميش للفكر التأمليّ و الجماليّ و عوّضته بالجوانب الماديّة الملموسة و المرئيّة. في هذا الشأن يدلي الدكتور عبد الوهــاب الـمسيري بقولــه « أن الإنـــسان لا يــستــخــدم كــلّ إمكاناته الإنسانــيّــة ( النقديّة و الجماليّة إلخ في تنظيم المجتمع، و يركّز على الترشيد على هدى متطلّبات النظم الإداريّة و الاقتصاديّة والسياسيّة التي يفترض أنها ستزيد من تحكّمه في الواقع. و يؤديّ كلّ هذا بالطبع إلى ضمور حياة الإنسان و يصبح الترشيد هو استعمار عالم الحياة »[20]
استنادا لما سبق ذكره و بعدما تبيّن أن الأمر ينبئ بانسياق الكلّ وراء تمظهرات الثقافة الأجنبيّة المعاصرة على الرغم من ازاحتها للدين و على الرغم من وعينا بالتخلي الكليّ عن كل جهد ثقافيّ إبداعيّ و الابتعاد عن القيم المعنويّة كالتقوى، المصالحة، التسامح. فإنّ معظم المجتمعات تولي اهتماما بالتكنولوجيا و الماديّات على أساس أنّ التطوّر والتفوّق موصولين بالماديّات !! و على الرغم من أن هذا الأمر مفارقة غير منطقيّة لأنه يحدث قطيعة مع الوازع الدينيّ، إلاّ أن الواقع يفصح بحقيقة هذا الأمر ويفرض وجوده على الساحة الدوليّة و هذا ما هو باد مع النظام العالميّ الجديدة بقيادة محور وحيد –الولايات المتحدة الأمريكيّة – يقول إدوارد سعيد : ” يتوجّب أن لا تغيب عن بصرنا الحقيقة الساطعة بأن الولايات المتحدة تحكم رباطا متينا حول العالم. وأن المسألة لا تعود إلى ريغان أو كلينتون و نفر من شاكلة كير كباترك فقط، بل تعتمد كثيرا على الخطاب الثقافيّ و على صناعة المعرفة و إنتاج النصوص وتسويقها. إنها باختصار لا تعتمد على الثقافة كميدان أنتروبولوجي عام يناقش و يحلّل روتينيّا في دراسات ثقافيّة،”.[21] فلا مندوحة من الاعتراف أن الثقافة الإسلاميّة لن تسلم من تسريبات الثقافة الهدّامة، كلّما ابتعد المتشرب لها عن جذورها وارتوى ممّا لا يتوافـــق مع معاييرها، هذا لأنّه يعتقد بأنّه محاط بتحديّات لا يملك القدرة على مواجهتها، لأنّ مضامينها منافية للثقافة الإسلاميّة. لذا وجب التحصين للمقوّمات وتحقيق وصلة بين الأصالة و المعاصرة لنتمكّن من تجسير معبر الحوار و احترام رأي الآخر حتى و إن وجدت اختلافات. هذا لأنّ الآخر المكتسح للساحة الثقافيّة لا يتوان في مسايرة الحياة اليوميّة للمسلم. أمام هذه التصدعات و الإنفصالات و كذا تصدّر مخلفات الثقافات الأجنبيّة التي طفت على سطح بقيّة الثقافات ينبغي الثبات و الصمود و عدم الانبهار أمام كلّ وافد و في الوقت ذاته إعداد العدّة الفكريّة الموصولة بقيم الدين الإسلاميّ، فنخلص بأعمال هادفة و مثمرة تخوّل لنا إقناع الآخر بإيجابيّات ما يدّخره الشق المقابل بعقلانيّة الحوار. لأن الراهن الثقافيّ المعاصر أضحى مرهونا بالحوار فثمّة الاحتكاك والتفاعل في إطار ما يفرضه الشرع الذي هو من المفروض أن يعمّ بمواضيعه كل الثقافات الدوليّة.
قائمة المصادر و المراجع:
النص القرآني: سورة النساء الآية 91.
- ابن منظور ،لسان العرب، المجلد التاسع ، ص : 19 ، المعجم الوسيط : لإبراهيم مصطفى وآخرون.
- أحمد ديدات – الاختيار بين الإسلام و النصرانيّة – تر: أكرم ياسين الشريف – مكتبة العبيكان – الرياض – ط 1 – سنة 2008
- ادوارد سعيد – تعقيبات على الإستشراق- تر: صبحي حديدي – المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر – بيروت – 1966.
- أنور الجنديّ – معلمة الإسلام – المجلّد الأوّل – المكتب الإسلاميّ – بيروت – 1980م.
- ريتشارد نيكسون– الفرصة السائحة – تر: أحمد صدقي مراد – دار الهلال – القاهرة – د، ت – ص 138، د،ت – ص 138 – نقلا عن ول ديورانت – عصر الإيمان
- أحمد الدعمي – الاستشراق ( الاستجابة الثقافيّة الغربيّة للتاريخ العربيّ الإسلاميّ ) مركز دراسات الوحدة العربيّة – بيروت – ط 1 فبراير 2006.
- ريموند وليامز، الكلمات المفاتيح ، ترجمة نعيمان عثمان، المركز الثقافي العربي، ط1، 2007.
- عبد الوهاب المسيري – الصهيونيّة و النازيّة و نهاية التاريخ – رؤية حضاريّة جديدة – دار الشروق – القاهرة – 1997.
- عزيز الخرزجي، محنة الفكر الإنسانيّ 5، محور الأدب و الفن، الحوار المتمدّن، العدد 5448، بتاريخ 2 مارس 2017
- من محاضرة المفكر الراحل مالك بن نبيّ في ندوة خاصة بطرابلس – لبنان يوم الأحد 28 حزيران- 1959. أعيدت كتابتها في كتاب – مشكلات الحضارة – تأملات – دار الفكر – دمشق – 1423 ه -2002 م
- معن زيادة، معالم على طريق تحديث الفكر العربي، سلسلة عالم المعرفة، عدد 115، الكويت، 1975.
- هـربرت شيلر، الاتصال و الهيمنة الثقافيّة، تر: وجيه سمعان عبد المسيح، سلسلة الألف الكتاب الثاني، رقم 135، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة، سنة 1993.
- بحث بعنوان The cultural contribution of islam to christendom نقلا عن كتاب ” أثر و العرب الإسلام في النهضة الأوروبيّة – الشعبة القوميّة المصريّة للتربيّة و العلوم والثقافة – القاهرة 1987م.
14– R.WSouthern westem. Views of islam in the middle ages. Combridge. Harvard university press. 1978
15- الموقع الالكتروني : https://ar.wikipedia.org/wiki
[1] ريـمـوند وليامز، الكلمات المفاتيح ، ترجمة نعيمان عثمان، المركز الـثـقافي الـعربي، ط1، 2007، ص. 94.
[2] معن زيادة، معالم على طريق تحديث الفكر العربي، سلسلة عالم المعرفة، عدد 115، الكويت، 1975، ص. 29
[3] لسان العرب : لابن منظور ،المجلد التاسع ، ص : 19 ، المعجم الوسيط : لإبراهيم مصطفى و آخرون ، ص : 98
4 عزيز الخرزجي، محنة الفكر الإنسانيّ 5، محور الأدب و الفن، الحوار المتمدّن، العدد 5448، بتاريخ 2 مارس 2017، نقلا عن الموقع http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp
[5] الآية 91 من سورة النساء
[6] من محاضرة المفكر الراحل مالك بن نبيّ في ندوة خاصة بطرابلس، لبنان يوم الأحد 28 حزيران، 1959. أعيدت كتابتها في كتاب ، مشكلات الحضارة
تأملات، دار الفكر ، دمشق ،1423 ه -2002 م، ص 147.
2 نجاح حلاس، جوته وتأثره بالأدب العربي والدين الإسلامي، العروبة، مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر و التوزيع، حمص، العدد، 14363 نقلا عن الموقع الإلكتروني : http://ouruba.alwehda.gov.sy/node
[8] ـمحمد الدعمي، الإستشراق ( الاستجابة الثقافيّة الغربيّة للتاريخ العربيّ الإسلاميّ ) مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، ط 1 فبراير 2006- ص8.
[10] أحمد ديدات، الاختيار بين الإسلام و النصرانيّة، تر: أكرم ياسين الشريف، مكتبة العبيكان، الرياض، ط 1، سنة 2008، ص 165، 166 .
[11] R.W.Southern Western views of islam in the middle ages- Combridge- Harvard university press – press- 1978 p 59.
[12] أنور الجنديّ – معلمة الإسلام – المجلّد الأوّل – المكتب الإسلاميّ – بيروت – 1980م – ص 528.
[13] من بحث بعنوان The cultural contribution of islam to christendom نقلا عن كتاب ” أثر و العرب الإسلام في النهضة الأوروبيّة – الشعبة القوميّة المصريّة للتربيّة و العلوم و الثقافة – القاهرة 1987م – ص 5..
https://ar.wikipedia.org/wiki/ابن_سينا [14]
https://ar.wikipedia.org/wiki/ابن_خلدون[15]
https://ar.wikipedia.org/wiki/ابن_الهيثم[16]
https://ar.wikipedia.org/wiki/الإدريسي[17]
[18] ريتشارد نيكسون– الفرصة السائحة – تر: أحمد صدقي مراد – دار الهلال – القاهرة – د، ت – ص 138، د،ت – ص 138 – نقلا عن ول ديورانت – عصر الإيمان.
[19] هربرت شيلر، الاتصال و الهيمنة الثقافيّة، تر: وجيه سمعان عبد المسيح، سلسلة الألف الكتاب الثاني، رقم 135، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة، سنة 1993، ص 21.
[20] عبد الوهاب المسيري – الصهيونيّة و النازيّة و نهاية التاريخ – رؤية حضاريّة جديدة – دار الشروق – القاهرة – 1997 – ص 251.
[21] ادوارد سعيد – تعقيبات على الإستشراق- تر: صبحي حديدي – المؤسّسة العربيّة للدراسات و النشر – بيروت – 1966 – ص 78.