
باراديغم إعادة الإنتاج بالجامعة: الأسس الإبستمولوجية والمعرفية
نورالدين غزوان: باحث في سلك الدكتوراه/جامعة ابن طفيل، القنيطرة، المغرب
مقال نشر في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 43 الصفحة 117.
ملخص:نهدف من خلال هذه الورقة إثارة بعض جوانب النقاش المعرفي والابستمولوجي حول موضوع الجامعة، كما تبلور في الأدبيات السوسيولوجية. ولن نستكين في هذا الإطار إلى النمطية التي طبعت الكتابات السوسيولوجية حول الجامعة، والتي تؤرخ لهذا الحقل المعرفي عن طريق بسط أهم الأطروحات الأساسية التي طبعته، بمعزل سياقاتها وانتماءاتها الفكرية، بل سنعملعلى إعادة بناء هذه الأدبيات ضمن باراديغمات علمية تشترك نفس القضايا والمناهج والنتائج. وبما أن الإحاطة -في مقال واحد- بمجمل الباراديغمات التي طبعت مسار التفكير السوسيولوجي حول الجامعة تطرح تحديات موضوعية على الباحث، فإننا اقتصرنا في هذه الورقة على باراديغم إعادة الإنتاج الذي هيمن على المتون السوسيولوجية إلى غاية ستينيات القرن الماضي، مع توضيحنا لأبرز الأسس الإبستمولوجية التي بني عليها هذا الباراديغم، وأيضا الأسس المعرفية التي ترسم داخل حدوده العلمية (نقصد هنا التحليل الوظيفي، الاقتصادي، والثقافي).
الكلمات المفتاحية: الباراديغم، إعادة الإنتاج، الجامعة، البنيات الاجتماعية، الهابتوس.
مقدمة:
لقد شكلت الجامعة باعتبارها مؤسسة اجتماعية موضوعا بارزا للعديد من الدراسات في حقول معرفية مختلفة، نظرا للمكانة والأدوار والرهانات المنوطة بها داخل المجتمع؛ سواء بضرورة تحقيقها لتنمية مجتمعية تستجيب لمتطلبات الواقع المجتمعي في مستوياته المختلفة، أو بضرورة تحقيقها لحركية ورقي عموديين للأفراد المرتادين لها. إن الجامعة لا تنفصل عن تحولات المجتمع وتعقيداته وتمفصلاته–الذي لا ينفصل بدوره عن التحولات المجتمعيةالتي تعرفها المنظومة الكونية- بل تتداخل وتتفاعل مع هذه التعقيدات والتحولات، إذ إن رهاناتها وأدوارها نتيجة لرهانات المجتمع من جهة، وسبب في خلق رهانات جديدة للمجتمع من جهة أخرى.
من الناحية السوسيولوجية تعد الجامعة من أهم المواضيع التي حظيت باهتمام كبير في الاتجاهين الفرنكفوني والأنجلوساكسوني؛حيث تطرقا بالدراسة والتحليل والتفسيرلمجموعة من المواضيع والإشكالات التي تبلورت نظريا ضمن أطروحات علمية ونقاشات معرفية متعددة الأبعاد والمقارباتمست مواضيع من قبيل:المنهاج، طرق التدريس، الهدر الجامعي، مسارات الطلبة، التوجيه الجامعي، الاندماج الاجتماعي… إلخ، في إطار دراسة وكشف وظائفها وأدوارها الشاملة، الصريحة والخفية.
ولعل محاولة الوقوف عند هذه الأطروحات والتعامل معها في إطار باراديغمات علمية يتطلب منا منهجيا التعامل معها من زاوية القضايا والموضوعات التي تناولتها والمناهج التي اعتمدتها لمعالجة هذه القضايا، وأيضا مختلف التفسيرات والتأويلات التي انتهت إليها. إذ الباراديغم هو الصورة الأساسية لقضية الموضوع في العلم والمنطلق الذي يحدد القضايا التي ينبغي أن تدرس والأسئلة التي يجب أن تطرح وكذا القواعد التي ينبغي اتباعها في تأويل الأجوبة المحصل عليها، كما أنهيشكل العنصر الرابط بين النظريات والمناهج والأدوات التي يحتضنها[1]، والعدة المنهجية التي يعمل الباحثون (في أي تخصص) من خلالها على تفسير ظواهر أو إشكالات علمية[2]. وأيضا مجمل المعتقدات الضمنية التي يضع الباحثون على أساسها فرضياتهم ونظرياتهم.[3]
إن هذا التعريف الإجرائي لمفهوم الباراديغم يجعلنا في مواجهة للنصوص السوسيولوجية عبر عدة مداخل أساسية يجب توفرها والإجماع عليها، وهي: مدخل القضايا الذي يشكل موضوع اشتغال الباحث، ومدخل النظريات الذي يشكل الإطار المحدد لخلفيات اشتغال الباحث، ومدخل المفاهيم الذي يحيل إلى الانتماء النظري للباحث والبناء العلمي للخطاب السوسيولوجي، وأخيرا المدخل المنهجي الذي يشير إلى الوسائل العلمية التي يتبعها الباحث في إطار بنائه للمعرفة العلمية.
وفيما يخص الأدبيات السوسيولوجية حول الجامعة فإنه يمكننا إجمالها في ثلاث باراديغمات مهيمنة. يتعلق الأمر أولابباراديغم إعادة الإنتاج الذي كان سائدا في سنوات الستينيات، حيث كان الرهان الموجه لكتابات هذه الفترة هو كشفالوظيفة الماديةوالرمزيةلإعادة الإنتاجالتي تضطلع بها الجامعة، وإزالة اللثام عن أسطورة المساواة التي تسوق لها، بالشكل الذي لا ينفصل ابستمولوجيا ومنهجيا عن النظريات الشمولية كأسس أكسيومية في عمليات التحليل والتفسير (كالمدرسة الوظيفية، والماركسية، والبنيوية).
ثانيا؛ يتعلق الأمربباراديغم الفاعل الاجتماعي الذي لا يعتقد في إمكانية تفسير اللامساواة الحاصلة بالجامعة استنادا إلى بنيات متعالية عن الأفراد وخارجة عنهم أو متحكمة في سلوكاتهم شعوريا ولاشعوريا. ويتوسلمقابل ذلك مفاهيم جديدة تستجيب لتحولات المجتمع وتعقيداته وأيضا للأسس النظرية والابستمولوجية التي ينهل منها؛ من قبيل “استراتيجيات الفاعل، السلوك العقلاني، السلوك المقصود، منطق الفوائد والأرباح، رهانات الفاعلين…” ليؤكد على دور الفاعلين في اختياراتهم وسلوكاتهم العقلانية اللاسلبية-غير الخاضعة.
أخيرا نجد الباراديغم الذي حاول النزول إلى قلب الجامعة “بفتحالعلبة السوداء” والتعاطي مع مواضيع ميكروسوسيولوجية كالعلاقات بين الطلبة، والعلاقات بين الطلبة والأساتذة، وأيضا مراحل وآليات وسيرورة الاندماج في الحياة الجامعية، وبعض الثقافات الفرعية التي تتشكل داخل الجامعة كفضاء للايقين واللاحتمالات، بالاستناد على الأسس النظرية والتراكمات المعرفية والابستمولوجية للمدرسة التفاعلية الرمزية، والإثنميتودولوجيا.
سنعمل في هذهالورقةعلى عرض باراديغم إعادة الإنتاج الذي ركز على مدراسة دور الجامعة داخل المجتمع، واللامساواة الاجتماعية داخل الجامعة كقضايا أساسية لاشتغاله. قضايا تشترك نتيجة إعادة إنتاج نفس آليات اشتغال المجتمع، ولو برؤى ومرجعيات نظرية مختلفة. فاللامساواة الاجتماعية داخل الجامعة شكلت في الواقع الخيط الناظم للمتون السوسيولوجية المنضوية تحت لواء هذا الباراديغم عبر بنائها وإعادة بنائها وأيضا تشكيلها وإعادة تشكيلها في إطار قوالب إشكالية وقضوية متعددة. ارتبطت هذه الإشكالات والقضايا في البداية بموضوع الولوج والنجاح بالجامعة، لتتخذ بعد ذلك مناحي إشكالية أخرى تمت فيها مساءلة دمقرطة التعليم الجامعي والانفتاح على مسارات الطلبة وآفاقهم المهنية بسوق الشغل (إشكالية الاندماج) واستراتيجياتهم المختلفة المبنية اجتماعيا، وأيضا علاقاتهم وتفاعلاتهم داخل النسق الجامعي.
تأسيسا على هذا سنتوقف بداية مع أبرز الأسس النظرية والابستمولوجية التي ينبني عليها الباراديغم كخطوط كبرى تسم اشتغاله الصريح والضمني، لننتقل بعد ذلك إلى مختلف التفسيرات والتأويلات التي أسندت لقضاياه الأساسية ضمن خطابالمدرسة الوظيفية في كل من فرنسا وأمريكا مع إيميل دوركايم(ÉmileDurkheim)وتالكوت بارسونز(Talcott Parsons)، ثم مع المدرسة الماركسية ذات الخلفية الاقتصادية، وبعد ذلك معالأطروحة المركزيةلهذا الباراديغم مع عالمي الاجتماع الفرنسيين بيير بورديو (Pierre Bourdieu) وجون كلود باسرون(J-C.Passeron)من خلال كتابيهما “الورثة: الطلبة والثقافة”« Les Héritiers : Les étudiants et la culture » و “إعادة الإنتاج”«La Reproduction». لنحيل في الأخير إلى بعض الدراسات التي كشفتعن اللامساواة الاجتماعيةداخل الجامعة بتبني نفس المقاربة التفسيرية والتحليلية في فترات متعددة، على أننا مع ذلك لا ندعي استنفاذ مجموع الدراسات والأطروحات التي يستوعبها هذا الباراديغم.
باراديغم إعادة الإنتاج بالجامعة: الأسس النظرية والإبستمولوجية .
إن الأساس النظري والإبستمولوجي الذي ينبني عليه باراديغم إعادة الإنتاج بالجامعة، بما هو باراديغم عرف وجاهته العلمية ومتانته المعرفية مع عالمي الاجتماع الفرنسيين “بيير بورديو”و “جون كلود باسرون” من خلال كتابيهما “الورثة: الطلبة والثقافة”و” إعادة الإنتاج “، وأيضا بما هو دراسات أخرى سابقة عن الكتابين وممهدة لهما بشكل أو بآخر، وأخيرا بما هو دراسات وكتابات لاحقة ومعززة لسيادة خلفية اشتغاله النظريةمن طرف السوسيولوجيين سواء في فرنسا أو بريطانيا أو أمريكا، يجد جذوره التحليلية والتفسيرية في السوسيولوجيا الماكروية مع المدرسة الوظيفيةالتي تعتبر أن الغاية المتحكمة في العلاقات والتفاعلات الحاصلة على مستوى النسق تحكمها فكرة استدامة المجتمع وإعادة إنتاجه مما يسمح لهذا النسق بالحفاظ على متغيراته البنائية[4]، والمدرسة الماركسيةوالتيارالبنيويالذي يرى أن البناء الاجتماعي المتشكل من مؤسسات وسلوكات متوافقة فيما بينها تحدده غايات معينة يجب الحفاظ عليها. نتحدث هنا عن الجانب المستقر(الستاتيكي) لقواعد الفعل الاجتماعي حيث أدوار ووظائف الأفراد محددة بشكل قبلي. إن السؤال الموجه بشكل عام لمجمل هذه الدراسات كان يروم إلى كشف وظيفة ودور المدرسة داخل المجتمع، باعتبارها مؤسسة اجتماعية تساهم إما في الحفاظ على استقرار المجتمع ونشر قيمه ومعاييره، وإما بالحفاظ علىمصالح فئة معينة داخله كشفا بنيويا شموليا. بمعنى آخر؛كانت المحددات الماكروية للمجتمع متحكمة في بناء المتون السوسيولوجية التي تنضوي في إطار هذا الباراديغم.إن فالمجتمع وبناؤه واستراتيجياته هي المتحكمة في عمله، لا استراتيجيات الأفراد (أي لا الفاعلين) كما هو الأمر مثلا مع الباراديغمات اللاحقة.يتجلى هذا التحديد أيضا على مستوى المفاهيم المعتمدة التي تعكس في جوهرها السوسيولوجيا الماكروية، حيث نجد مفاهيم من قبيل: “الطبقة، المجتمع، الهيمنة، الإيديولوجيا، إعادة الإنتاج، الفرد، النظام الاجتماعي، النسق الاجتماعي، البنية الاجتماعية، دور ووظيفة المدرسة، الانتماء الاجتماعي، ثقافة الطبقة…إلخ”.
من جهة أخرى، لا ينفصل الأساس الابستمولوجي لهذا الباراديغم الذي ترسم حدوده ضمن السوسيولوجا الماكروية، عن بعض الأسس الإبستمولوجية للسوسيولوجيا العامة؛ نقصد هنا التأثير البيّن لنتائج الفيزياء الكلاسيكية وعلم الفلك اللذان طغى عليهما التحليل الماكروي الحتمي، إذ أن علم الفلك كما يقول هنري بوانكاري (H.Poincaré)هو الذي علم الإنسان أن ثمة قوانين. فملاحظتنالسير الكواكب وحركات الأجرام السماوية والقدرة على التنبؤ بأوضاع الكواكب وحركاتها في المستقبل من خلال معرفة الوضع الراهن لكل كوكب من الكواكب جعل العلماء يعممون هاته الحتمية المشاهدة في نطاق الميكانيكا السماوية، فعمموا الحتمية الميكانيكية على العالم الطبيعي كله، ثم على الظواهر الحسية وأخيرا على الإنسان نفسه[5].
التحليل الوظيفي: الجامعة وإعادة إنتاج قيم ومعايير المجتمع.
إن محاولة التأريخ لأبرز الأطروحات السوسيولوجية التي حاولت الكشف عن وظيفة الجامعة (أو وظيفة المدرسة بشكل عام*) بالمجتمع من خلالمدخل إعادة الإنتاج؛ بما هي إعادة إنتاج شاملة ومعقدة لبنيات المجتمع ككل، يفرض على الباحث في حقل السوسيولوجيا التعامل مع الإسهامات السوسيولوجية في هذا المجال بشكل تجميعي تصنيفي ولو على حساب الحمولة النظريةللمفهوم. فالعديد من علماء اجتماع المدرسة كماري ديري بيلا(Marie Duru-Bellat)وفان زانتن(VanZanten) مثلا تجاوزوا الحمولة الدلالية لمفهوم إعادة الإنتاج -كما تبلور مع بيير بورديو-في تصنيف أبرز الأطروحات التي تنضوي تحت هذا الباراديغم. وعلى نفس المنوال سنعمل في إطار تقديمنا لبراديغم إعادة الإنتاج في علاقته بوظيفة الجامعة،-من خلال التنظيرات المتراكمة في الإرث السوسيولوجي داخل سيرورته التاريخية-، على توسيع المعنى السوسيولوجي للمفهوم، ليشمل بجانب التحليل النقدي للمجتمع والثنائيات المتصارعة داخله بنيويا وتاريخيا، بعض الأطروحات الوظيفية التي تروم التجانس والاستقرار والحفاظ داخل المجتمع.
إن التيار الوظيفي الذي ظلمهيمنا إلى غاية الستينات، والذي يشكل استمرارا لأطروحات إيميل دوركايم، اتخذ من إشكالية دور المدرسة داخل المجتمع القضية الأساسية في اشتغاله. وهو يسعى في مجمل تحليله للمؤسسة الجامعية إلى التأكيد على الدور الوظيفي الذي تحتله داخل النظام الاجتماعي.بمعنى آخر؛ فالمؤسسة الجامعية (أو المدرسة بشكل عام) لها دور أساسي، كما هو الشأن بالنسبة لباقي مؤسسات المجتمع، في الحفاظ على استقرار واستمرار المجتمع. ”فوفق النظرة الوظيفية؛ أو بشكل أدق البنيوية الوظيفية، يتألف المجتمع من عناصر مترابطة، ثابتة نسبيا، تساهم كل منها حسب وظيفتها الخاصة في استبقاء واستدامة النظام ( مجموعات، تنظيمات، مؤسسات…) ويمارس فيه الأفراد أدوارا ويحتلون مكانات محددة “[6] إنها رؤية تنبني على أساس عضوي في تفسير الواقع الاجتماعي، حيث يحدد تكامل الوظائف والأدوار المعنى الكلي للمجتمع، المختلف نوعيا عن أجزائه، من خلال التنشئة الاجتماعية كسيرورة وعملية يتم من خلالها الحفاظ على استمرار واستقرار المجتمع، وأيضا كمقولة تفسيرية يستنجد بها الوظيفيون في تحليلهم للواقع الاجتماعي ككل.
بناء على هذه الرؤية الوظيفية، تضطلع الجامعة أو المدرسة بشكل عام -باعتبارها مؤسسة من المؤسسات الاجتماعية في نظر إيميل دوركايم”- بدور غرس القيم الأخلاقية، السائدة بالمجتمع وتهيئ الأفراد إلى احتلال مكانات خاصة داخل التقسيم الاجتماعي للعمل. إنها تقوم بوظيفة التجانس عن طريق إدماج الأفراد داخل المجتمع، وأيضا وظيفة التنويع تبعا للتقسيم الاجتماعي للعمل، دون الوصول إلى مستوى التقسيم”[7]؛ أي دون الوصول إلى مستوى العزل والإقصاء الممنهج لطبقات دون أخرى، فهي بهذا المعنى مؤسسة محايدة تستجيب للغايات الجوهرية الثاوية خلف النظام الاجتماعي وذلك بإعادة إنتاج قيمه ومعاييره، وأيضا الاستجابة لتحولاته المجتمعية بضمان إعداد وتكوين أفراد يستجيبون للأدوار والمكانات المحددة اجتماعيا.
إن منحى التفكير السوسيولوجي الوظيفي لاينطبق فقط على الاتجاه الفرنسي كما دشنه دوركايم بشكل معمق؛ إذ هيمنت الوظيفية كذلك على التفكير السوسيولوجي حول التربية بالدول الأنجلوساكسونية خلال فترة الخمسينيات والستينيات من خلال مجموعة من الدراسات الإمبريقية المهمة حول الطبقات الاجتماعية والتمدرس، وقد كان السؤال الجوهري آنذاك ينصب حول مساهمة التمدرس في المجتمعات المعاصرة على مستوى تعليم القيم والمعايير والأدوار الاجتماعية، وأيضا العلاقة المشتركة التي يمكن تأسيسها بين المدرسة والعائلة والوسط المهني والإعلام. ففي الخمسينات بالسياق الأمريكي مثلا نجد مقال« The School Class as a Social System » لتالكوت بارسونز ينسجم مع الطرح الوظيفي. فالمدرسة “أو وكالة التنشئة الاجتماعية” بتعبير بارسونز تحتل في المجتمعات المعاصرة وظيفة التنشئة الاجتماعية، ووظيفة الانتقاء الاجتماعي في آن واحد، والتعلمات الدراسية في هذه المجتمعات هي إحدى القواعد المهمة للسيرورة التي من خلالها يكتسب الشاب الكفايات والحوافز التي تسمح له بالإبقاء والحفاظ على دور محدد في حياته[8].
إن بارسونز رغم محاولته كشف الدور الانتقائي الذي تفرضه المدرسة من خلال ديمقراطية الاستحقاق التي تمكن من شرعنة التراتبات الاجتماعية، فهو ظل وفيا للتحليل الوظيفي؛ إذ رأى أن المدرسة بشكل عام هي مؤسسة تنشئوية تتصدى لاحتلال دور ترسيخ القيم السائدة في المجتمع، أو ما يسميه بارسونز ” المعيار”،وأنه لا مجال لمساءلة مبادئ التنشئة الاجتماعية والانتقاء المسطر داخلها[9]، وهي نفس فكرة روبير دريبن(Robert Dreeben)الذي شدد على القول بأن المدرسة تلعب دورا مهما في نقل القيم والمعايير المميزة للمجتمع المعاصر[10].
يجد التصور الوظيفي لدور المؤسسة الجامعية (أو مؤسسة المدرسة بشكل عام) في صيغته العامة، امتداداته كذلك ضمن مختلف فروع السوسيولوجيا التي اتخذت من النظرية الوظيفية أساسا للتحليل والتفسير. ويمكننا هنا أن نأتي على أطروحة شارل بيدويل(Charl Bidwell) الذي ينتمي إلى سوسيولوجيا التنظيمات بتصور وظيفي، حيث قام بتحليل المدرسة كتنظيم، ليؤكد على أن وظيفة المؤسسات الدراسية هي نتيجة لسيرورة العقلنة الموجهة للإجابة عن طلب التنشئة الممتدة، واسعة النطاق، والموجهة لجيل الشباب، وهو طلب انبثق عن المجتمع العام.كما يمكننا الإتيان كذلك على ما نميزه داخل النظرية الوظيفية تحت اسم “الوظيفية التكنولوجية” التي كانت حاضرة بقوة في سنوات الستينات، والتي ركزت بشكل أساسي على التطبيقات التربوية للتطور التكنولوجي. فالتطور التكنولوجي السريع والتوسع الاقتصادي وتكثيف المنافسة الدولية دفع للمرور إلى مشكل الحاجات الجديدة على مستوى اليد العاملة المؤهلة والرفع من الكفاءات وهو ما دفع للنظر إلى التمدرس كطريق نحو التحديث و التنمية[11]. إنهموقف يفيد بشكل صريح أن الوظيفية التكنولوجية ظلت متمسكة بالوظيفة الوظيفية لمؤسسة المدرسة، حيث كانالرهان عليها لخلق أفراد مؤهلين من الناحية الكيفية استجابة لتحولات المجتمع من جهة، وللحفاظ عليه من جهة أخرى،دون النبش في خلفيات الهيمنة والتمايز الثاوية خلف الوظيفة الأساسية للمدرسة بشكل عام. إنها إشكالات ستلاقي تفسيرات سوسيولوجية مغايرة مع المدرسة الماركسية التي تتعاطى مع الواقع الاجتماعي من خلال مدخل الصراع والهيمنة عوض الاستقرار والتجانس والاتفاق.
التحليل الاقتصادي: الجامعة وإعادة إنتاج الفوارق الاجتماعية.
لقد رأينا أنالجامعة شكلت وفقالمقاربة الوظيفيةموجّها للتحرر الفردي والرقي الجماعي، وأساسا للتنشئة الاجتماعية، عبر تقسيم المسالك والشعب وفقا لمتطلبات تقسيم العمل.أما الانتقاء الذي تفرضه فهوغير قابلللمساءلةبعد “الاتفاق” حول القيم الأساسية والثقافة المدرسية التي تسمح للمجتمع بالمضي قدما.[12] إنها رؤية محافظة تميل إلى رصد وتفضيل الاستقرار والانسجام والتكامل على حساب الصراع والتناقض، وهو ما دفع للتشكيك في تحليلاتها وتفسيراتها لدور الجامعة أو المدرسة بالمجتمع،وتوجيه الأسئلة المطروحة صوب منحى آخر مع مدرسة أخرى ووفق تحليل مغاير يستوعب ويكشف غايات خفية تعتمل داخل المدرسة.
يتعلق الأمر هنا بالمدرسة الماركسية التي اتخذت بعدا آخر في رسم القضايا الأساسية لاشتغالها. اتخذت الماركسية إلى جانب إشكالية دور الجامعة داخل المجتمع إشكالية اللامساواة الاجتماعية داخل الجامعة كقضايا أساسية تسم اشتغالها. والتحليل هنايقوم بالدرجة الأولى على نفي وجود أي اعتباط أو اتفاق بين أفراد المجتمع حول معايير أساسية مشتركة، وأيضا النفي الصريح لأسطورة المدرسة المحايدة. إنالتحليل الماركسي الذي سيأخذ أبعادا مختلفة في التحليل يقوم على مسلمة انقسام المجتمع إلى طبقتين؛ طبقة المهيمنين الذين يملكون وسائل الإنتاج، وطبقة المهيمن عليهم الذين لا يملكون وسائل الإنتاج. وأن كل ما تستوعبه البنية الفوقية للمجتمع هو انعكاس سلبي لبنيته التحتية.بمعنى آخر؛ فالمؤسسات المجتمعية والتي لا تشكل الجامعة استثناء منها تخدم مصالح الطبقة المهيمنة وتسعى إلى بث وترسيخ روحها داخل المجتمع. إنها جهاز إيديولوجي بتعبيرالفيلسوفالفرنسي لوي ألتوسير (Louis Althusser) يوزع الأفراد على مختلف مواقع التقسيم الاجتماعي للعمل؛ وفيما وراء هذا التوزيع الذي يأخذ طابعا تقنيا صرفا يتم نقل وتمرير الإديولوجيا البورجوازية[13].
في أمريكا،وعلى نفس المنوال، قام الباحثان بولز(Bowles) وجنتيس(Ginitis) بخلفيتهما الماركسية بتطوير ما يسمى “بنظرية المواصلة” La Théorie de la Correspondanceوالتي يرون من خلالها أن الوظيفة الجوهرية للمدرسة بشكل عام في المجتمعات الرأسمالية هي إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية، وذلك بإنتاج قوى عمل قادرة على الامتثال للنسق الاقتصادي والاجتماعي المؤسس على استغلال العمال[14] إنها نظرية تفسر اللامساواة الاجتماعية تفسيرا اقتصاديا، من منطلق التسليم بوجود علاقة بين تنظيم العمل وتنظيم التعليم الذي يعد النخبة لتقلد مناصبها في اقتصاد الطبقة، ويعد العمال لتقبل مكانتهم المتدنية ضمن اقتصاد الطبقة. فأبناء العمال يكتسبون معارفوتطبيقات مناسبة للعمل اليدوي وفي شعب مناسبة لذلك. وعلى العكس من ذلك،يتم وضع أبناء النخبةضمن شعب مشجعة على العمل بالوثيرة التي تناسبهم دون اخضاعهم للمراقبات الهرمية[15].
لقد حاولت هذه النظرية في مجملها إماطة اللثام عن الأدوار الإيديولوجية التي تقوم بها الجامعة داخل المجتمع الرأسمالي من خلال رصد التمايز الذي تسربهإلى المجتمع وسعيها الدائم للحفاظ على تراتباته الطبقية التي تستجيب لإعادة إنتاج نفس شروط الطبقية والهيمنة والضبط والمصالح السائدة، مستندة في ذلك إلى تفسيرات اقتصادية حتمية صرفة.
هذه التفسيرات الاقتصادية التي تنبني على مفهوم الطبقة في صيغته التجريدية سيتم تجاوزها والتشكيك فيها نظرا لطمسها للفاعلية الفردية للأفراد، واستنادها إلى مفاهيم و كيانات مجردة يصعب تحديدهاوالفصل بينها واقعيا. وسنشهد في مقابل ذلك انبثاقا لتحليلات وتفسيرات مغايرة بمناهج علمية وأسس ابستمولوجية جديدة مع عالمي الاجتماع الفرنسيين؛بيير بورديو وجون كلود باسرون، من خلال كتابهما “الورثة: الطلبة والثقافة” الصادر سنة1964، الذي اقترحا فيه تحليلا للتمايزات الاجتماعية على مستوى الولوج إلى الجامعة والنجاح فيها.
التحليل الثقافي: الجامعة وإعادة إنتاج علاقات الهيمنة والعنف الرمزي.
مع سنوات الستينات أصبحت سوسيولوجيا المدرسة إحدى أهم التخصصات المهيمنة على الممارسة العلمية في حقلالسوسيولوجيا الفرنسية، وذلك بعد صدور كتاب الورثة.لقد حاول بورديو وباسرون من خلال هذا الكتاب موضعة الجامعة داخل الحقل الثقافي وفي مجال القيم والدلالات، مع المزج بين الإرث الماركسي بالحفاظ على الطابع الأساسي لانقسام المجتمع إلى مهيمنين ومهيمن عليهم،والإرث الفيبيري الذي لا يقيد الهيمنة بالدائرة الاقتصادية بقدر ما يدرجها في إطار عنف رمزي يمارس من خلال الأفكار والقيم والميولات التي يضعها الفاعلون الحائزون على مواقع قوة، عبر فرضها كما لو كانت تحظى بشرعية جوهرية لشرعنة تحديد الأشخاص الذين من شأنهم شغل وضع الهيمنة داخل المجتمع بصفة مشروعة.[16]
لقد ظهر كتاب الورثة سنة 1964 في سياق نظام سياسي أحاديوهيمنة للحركة الماركسية، التي كان من تجلياتها العديدة معارضةالنقابة الطلابيةلسياسات العديد من الأحزاب السياسية،إضافة إلى الارتفاع الكبير في أعداد الطلبة وتوزيعهم المختلف على الشعب (حيث تستقطب كليات الآداب أعدادا أكثر من كليات العلوم..)[17] وهو ما ترافق بنقاشات عديدة تمس دمقرطة التعليم وأسئلة من قبيل علاقات الانتماء الاجتماعي بالولوج إلى الجامعة. إنه سياق اجتماعي وسياسي كان مواتيا لبروز نقاشات حول الجامعة الفرنسية في تلك الفترة.
من الناحية المنهجية، اعتمد بورديو وباسرون في كتابهماعلى المقاربة الإحصائية في كشف التمايزات الحاصلة داخل الجامعة، ودور إعادة الإنتاج الذي تضطلع به، على أن الابتكار الميتودولوجي الذي أتيا به هو اعتمادهما لجداول ومبيانات تقيس الحظوظ الموضوعية في الولوج إلى التعليم العالي حسب الفئات السوسيومهنية المختلفة[18] بطريقة سانكرونية Synchronique، حيث جندا اهتمامهما لكشف الحيثيات الثقافية الطلابية بعيدا عن مفهوم الزمن والتاريخ[19]. إن النهج المتبع هنا من طرف بورديو، وأيضا المتبع في أغلب الأدبيات السوسيولوجية التي تدخل في إطار باراديغم إعادة الإنتاج، هو بالأساس منهج إحصائي يقوم على المعطيات الإحصائية الرسمية وغير الرسمية الجاهزة، بحيث يروم تفسير الظواهر والإشكالات والقضايا المطروحة. التحليل هنا لا ينفصل عن أسس السوسيولوجيا الماكروية إذ يمر عبر الأرقام والنسب لا عبر المعاني والدلالات التي يضفيها الأفراد على سلوكاتهم كما هو الشأن مثلا بالنسبة لمقاربات الفهم والتأويل.
لقد انطلق بورديو وباسرون من مجموعة من المعطيات التي تم تجميعها عن طريقمركز السوسيولوجيا الأوربية والتي تناولت شروط الطلبة ومعيشهم، وبعض معطيات المكتب الجامعي للإحصاء، والمعهد الوطني للإحصاء، إضافة إلى بعض الدراسات التي أجراها الطلبة تحث إشرافهما. ليستخلصا من خلالها وجود تمثيل لا متكافئ للطبقات الاجتماعية في التعليم العالي؛ إذ إن حظوظ الولوج هي نتيجة لانتقاء يمارس بدقة وصرامة غير متكافئتين حسب الأصول الاجتماعية للطلبة. يتعلق الأمر حسب بورديو وباسرون باستبعاد للطبقات غير المحظوظة؛ فابن الأطر العليا له الحظ في الولوج إلى التعليم العالي أكثر بثمانين مرة من ابن الأجير الفلاحي، وبأربعين مرة من ابن العامل[20].
إن الهم المعرفي الذي شغل بورديو وباسرون في هذا الكتاب يتجلى في كشف ارتباط الولوج إلى الجامعة بالانتماء الاجتماعي للطالب، وإماطة اللثام عن اللامساواة الثاوية خلف مسارات الطلبة بمختلف الشعب، فالتفسير اجتماعي-ثقافي محض لهذه اللامساواة كما أراد ذلك الباحثين. فأبناء العمال والأجراء والزراعين يتوجهونبشكل كبير نحو شعب الآداب والعلوم، بينما يتجه أبناء الأطر العليا وأصحاب المهن الحرة صوب شعب الطب والصيدلة. هذا اللاتكافؤ لا يمس فقط التراتبات الاجتماعية وإنما يسم الاختلافات بين الجنسين أيضا؛ إذ أن هناك هيمنة ولا تكافؤ لصالح الذكور في الولوج إلى شعب العلوم والصيدلة داخل فئة أبناء العمال و الأجراء الزراعيين[21].
في إطار الاستبعاد الحاصل دائما على مستوى الولوج إلى الجامعة حسب الأصول الاجتماعية للطلبة، يكشف الباحثان بالأرقام أن أبناء الأجراء الزراعين المسجلين بالمدرسة العليا للأساتذة ENS لا يتجاوزون نسبة 0.7%في بينما تصل النسبة بالنسبة لأبناء المزارعين إلى 3.6%. أما بخصوص أبناء الأطر المتوسطة فهي تصل إلى 29.6%. وترتفع إلى 58.5% بالنسبة لأبناء الأطر العليا وأصحاب المهن الحرة[22].
إن طبيعة المؤسسات تساهم في ترسيخ هذه اللامساواة، وذلك باستيلاء أبناء الطبقات المحظوظة على حظوظ الولوج، فالمدرسة العليا للأساتذة والبولتكنيك تضمان على سبيل المثال 57% و 51% من أبناء المهن الحرة. و26% و15% من أبناء الأطر المتوسطة على التوالي[23].
إجمالا يميز بورديو وباسرون بين أربع فئات داخل الجامعة؛ فئات غير محظوظة تملك القليل من الحظوظ الرمزية في إرسال أبناءها للجامعة بأقل من 5% من الحظوظ. وفئات متوسطة (العمال، الحرفين، التجار) لها 15% من الحظوظ، وفئة الأطر المتوسطة التي لها ضعف نسبة الفئة السابقة ب30% من الحظوظ، ثم فئة الأطر العليا وأصحاب المهن الحرة بضعف نسبة الفئة السابقة أيضا ب60% من الحظوظ. إنها اختلافات جوهرية في الحدود الموضوعية للولوج إلى الدراسات الجامعية،والتي تعكس صورة الدراسات العليا حسب الأوساط الاجتماعية سواء كمستقبل ” مستحيل” أو ” ممكن” أو ”عادي”[24].
في تفسيرهما لعلاقة الانتماء الاجتماعي بالولوج إلى الجامعة، لم يكتفي بورديو وباسرون بالحديث عن مفاهيم مجردة كالطبقة الاجتماعية أو الجوانب الاقتصادية الثابتة لدى الطبقات المحظوظة، بل حاولا الإحاطة بالحيثيات التي تجعل من اللامساواة قابلة للقياس ويسيرة الفهم. وقد اعتبروا بذلك -تجاوزا للتفسيرات التقليدية الاقتصادية السائدة قبلهم- أن الصفات الثقافية أو الإرث الثقافي المميز لكل طبقة هو المفسر للامساواة[25] من خلال انكبابهما على مدارسةالشروط الأنطلوجية للطلبة، وماضيهم الدراسي ومواقفهم حول الجامعة، مع إبرازهما للاختلافات الواضحة لصالح أبناء الطبقات المحظوظة[26]إن الرأسمال الثقافي الذي يملكه الشباب في الأوساط الثرية ( الكتب، الرحلات، الولوج إلى وسائل الاعلام..)؛ أو بشكل أوسع الإرث الثقافي هو العامل الحاسم في نجاحهم الدراسي. يشمل هذا الإرث العديد من الأوجه؛بحيثيعكس في المقام الأول التفاوت في إتقان الأدواتالفكرية التي يعود فيها الفضل إلى الوسط العائلي؛ إذ يتقن أبناء الطبقات الميسورة على سبيل المثال اللغة المطلوبة بالمدرسة بشكل أفضل،كما يعكس هذا الإرث الثقافي بعدا كيفياDimension qualitativeيتجلى في رؤى الأفراد المختلفة حول العالم والتي تدين إلى الرساميل الموروثة من العائلة بالمعنى الذي يدل عليه مصطلح ”الأخلاق ” “Ethos” الفيبيري أو بشكل أوسع “الهابتوس” ”Habitus”[27].
إن الهابتوس هو صلة الوصل -النظرية- المفسرة لكيفية اشتغال الرأسمال الثقافي وحيازته الدور الرئيس في إعادة الإنتاج. فهو يمثل البنيات الموضوعية التي يستدمجها الأفراد بشكل موضوعي، واع وغير واع، والمشكلة لمختلف الرساميل التي يحوزونها، المبنية على خبرات التاريخ وتجاربه والمتحكمة في بلورة سلوكاتهم الفردية معيدة بذلك البنيات الموضوعية سيرتها الأولى.ويتجلى الهابتوس في اليومي من خلال مايسميه بورديو ” الحس العلمي” Sens pratiqueأو ”حس التوجه الاجتماعي” الذي يتيح للفرد التحرك داخل الحقول الاجتماعية وتكييف ممارساته حسب مطالب المجتمع بطريقة تلقائية، دون الحاجة إلى تفكير واع. كما يشمل أيضا القيم والمعارف وهو بذلك له دلالة حاسمة في الحقل المدرسي. فالمدرسة رغم تصريحها عن لا مبالاتها اتجاه تنوع الإرث الثقافي، فهي تسمح ضمنيا بولوج الورثة فقط بما يمكن تسميته بيداغوجيا غياب البيداغوجيا أو البيداغوجيا اللامرئية بتعبير بازيل برنستاين (Basil Bernstein)فالمطالب المطلوبة داخل المدرسة كاللغة يتم اكتسابها من طرف العائلات بالنسبة للورثة، أما أبناء الطبقات غير المحظوظة فهم يحتاجون لأجل التعلم والنجاح إلى سيرورة حقيقية من التثاقف. إنها شروط معقدة تحدث تحث اسم المساواة والتي تعبر في الواقع عن اللامساواة وعن المتطلبات القبلية ذات الطبيعة الاجتماعية[28]كما تنم في نهاية المطاف على أن الممارسة التربوية هي بمثابة عنف رمزي، لأنها تفرض تعسفا ثقافيا يخدم مصالح الطبقات المهيمنة، التي تضعها علاقات القوة في موقع الهيمنة[29].
يكشف لنا بورديو وباسرون أيضا في كتاب إعادة الإنتاج على أن الأفعال والأعمال البيداغوجية داخل النسق الجامعي تحكمها نفس العلة الغائية–إعادة الإنتاج. فالامتحان على سبيل المثال، كفعل بيداغوجي،يفرض تعريفا اجتماعيا للمعرفة ولطريقة إظهارها على أنه الأهل للجزاء الجامعي، فإنه يهب عملية تلقين الثقافة المهيمنة وقيمة تلك الثقافة أحد أنجع أدواته، كما أن العرف الذي يتكون في فقه الامتحانات يدين بالجوهري من سماته إلى الوضعية التي فيها يتشكل، يقعد اكتساب الثقافة الشرعية والعلاقة الشرعية بالثقافة[30]. نفس الأمر ينطبق على طرق التدريس التي تسعى إلى تأبيد امتيازات ثقافية وتصديقها، امتيازات قائمة على احتكار شروط اكتساب العلاقة بالثقافة، والتي تنزع الطبقات المحظوظة إلى الاعتراف بها وفرضها على أنها شرعية على سبيل أن لهم، بالذات، احتكارها… لأن نمط التلقين الذي يقيمه (النسق التعليمي) يظل على الرغم من خصوصيته النسبية على صلة بنمط تلقين الثقافة الشرعية.[31]
إن مؤامرة الصمت هاته حول الشروط الاجتماعية للنجاح الدراسي، حسب بورديو وباسرون، مهمة للمدرسة في إنجازها لوظيفة شرعنة النظام الاجتماعي، إذ من الجائز القيام بكل مخاتلة اجتماعية للنظر إلى وظيفتها كأنها شرعية وبالتالي الحفاظ على حيادها[32].
تأسيسا على هذه التحديدات المعرفية والتفسيرية التي جاء بها بورديو و باسرون نستشف محاولتهما كشف إيديولوجية وظيفة الجامعة بالسياق الفرنسي خلال حقبةالستينيات.تتجلىالعلة الغائية المحركة لهذه الوظيفة في إعادة إنتاج التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية وأيضا الهيمنة وكل أشكال العنف الرمزي عبر مدخل الإرث الثقافي كتجسيد لمؤشرات طرق اشتغال إعادة الإنتاج، وعبر مفهوم الهابتوس كمقولة تحليلية تسمح بكشف العلاقات المبنية بين ”العناصر الثقافية كوسيط بين البنيات الاقتصادية والنسق الدراسي وحياة الأعوان”[33]؛ أي كبنية مبنية وبانية لسلوكات وممارسات الأفراد سواء بشكل واع أو غير واع.
في الواقع، عمل بورديو وباسرون على تفكيك البنى الخفية المتحكمة في سير الجامعة، وما تعكسه هذه البنى من سير للمجتمع بشكل عام، عبر هدم التصورات البسيطة للامساواة وكل أشكال المخاتلة التي تحيلها إلى اختلافات طبيعية. فالأساس الذي تنبني عليه اجتماعي-ثقافي، وغاية الباحثين تنزعنحو نزع طابع الطبيعي عن الأشياء وإزالة الغموض واللبس عن السير المعتمل بشكل خفي ومقصود ضمن البنيات السياسية والاجتماعية والثقافية للجامعة في سبيل إرسائها للشرعنة والحياد والموضوعية التي لا تقبل الجدل أو النزول بها ووضعها موضع تساؤل.
إنتفكيك بورديو وباسرون وتهديمهمالمخاتلة الأدوار الخفية التي تقوم بها الجامعة داخل المجتمع يجد أساسه الابستمولوجيفي استنادهما لأول مرة على تصورات الآباء الثلاثة المؤسسين -في كتاب إمبريقي – في تحليلهم للوظائف الخفية للمؤسسة الجامعية، إذ اقترحا تحليلا لا يتأسس فقط على مقاربة عامة للعلاقات الطبقية (ماركس)، ولكن أيضا على مبادئ الشرعنة (فيبر) التي يتأسس وفقها النظام وتستقر علاقاته الموضوعية، عبر معطيات كمية (دوركايم)[34]، وأيضا استنادهمابشكل قوي على فلسفة العلوم من خلال محاولة القطع مع الحس المشترك، وذلك بالانطلاق من معطيات ميدانية واقعية على أساسها تم بناء التحليل الخاضع لموضعة الذات المموضعة للبحث، بالشكل الذي يقوم على التأويل والتفسير المتعدد الروافد في سبيل إعطاء معنى لواقع اشتغال الجامعة بعيدا عن أوهام الحس المشترك.
هذا دون أن ننسى كذلك نهلهما البين من نموذج الأنثربولوجيا البنيوية وذلك بالاتجاه صوب دراسة القوانين العامة المتحكمة في السلوكات الاجتماعية وتوضيحهما في كافة مستويات التحليل أن السلوكات والممارسات الاجتماعية الفردية تدين إلى انتمائها الطبقي[35] وأنه ليس من الضروري أن يعي الفرد بالمحددات البنيوية الرئيسية المتحكمة في سلوكه.
خاتمة:
من خلال التحديدات السابقة يتبين لنا أن إعادة الإنتاج داخل الجامعة شكلت باراديغما قائما بذاته في تفسير دور ووظيفة الجامعة داخل المجتمع، وهو ما يتبين من خلال الإجماع النسبي على طرق الاشتغال المنهجية والمفاهيم المعتمدة في التحليل والتفسير، سواء في الاتجاه الفرنسي أو الاتجاه الأنجلوساكسوني. وعلى الرغم من وجود تأويلات مختلفة لدور ووظيفة المدرسة في الأدبيات السوسيولوجية في كل من المدرسة الوظيفية والمدرسة الماركسية، وأيضا الكتابات البورديوية -التي حاولت المزج بين الإرث الدوركايمي والماركسي والفيبيري بمنهج بنيوي-، فهي في مجملها تنزع إلى تمثل الأفراد على أنهم يمتلكون حرية واستقلالية “نسبية” في ممارساتهم مقارنة بالبنيات، كما تشترك القولبإعادة الإنتاج كعلة غائية متحكمة في سير النسق الجامعي. فإذا كانت هذه العلة الغائية تتمثل في إعادة إنتاج نفس قيم ومعايير المجتمع والمحافظة عليها بما يضمن استقرار المجتمع حسب الرؤية الوظيفية بشكل عام، فهي في تصور المدرسة الماركسية وسيلة لإعادة إنتاج نفس منطق الهيمنة والتقسيم اللامتكافئ للرساميل الاقتصادية بين الطبقات الاجتماعية المهيمنة والمهيمن عليها،استنادالتفسيرات اقتصادية حتمية. وأخيرا فهي تشكل في رأي بورديو وباسرون وسيلة لإعادة إنتاج نفس الشروط والنتائج الاجتماعية المتضمنة للتفاوتات والهيمنة والتقسيم الطبقي، عبر الإرث الثقافي الذي يحمله الأفراد، المبني والباني للسلوكات الفردية والجماعية، أو بتعبير أدق عبر الهابيتوسات كمقولة تحليلية وتفسيرية لكيفية اشتغال واستمرار منطق إعادة الإنتاج داخل الجامعة.
في الواقع، إن باراديغم إعادة الإنتاج الذي هيمن على الأدبيات السوسيولوجية حول الجامعة–خصوصا في سنوات الستينيات- له أهمية معرفية ومنهجية في تفسير الواقع الاجتماعي ككل، إذ ظل محافظا على الروابط المفاهيمية والابستمولوجية التي تضمن التفاعل بين حقل تطبيقه وحقل السوسيولوجيا العامة. كما تتجلى أهميته العلمية في عدم انحسار مخزونه التأويلي بشكل نهائي إلى حدود الآن -رغم تبلور باراديغمات أخرى كانت لها القدرة على تفسير إشكالات جديدة اعتمادا على أسس نظرية وابستمولوجية جديدة تستجيب لتحولات الواقع الاجتماعي-، إذ لازال هناك استمرار في الزمن لدراسات حديثةحاولت تفسير اللامساواة واللاتكافؤداخل الجامعة بنفس المنطق التحليلي عن طريق رصد إشكالات جديدة للدراسة.
جدير بالذكر كذلك أن الباراديغمات التي تلت باراديغم إعادة الإنتاج في الجامعة لم تتبلور بمعزل عن هذا الباراديغم، إذ أن مجمل الدراسات والتنظيرات اللاحقة عليه كانت تمر عبره؛ إما تعزيزا وتأكيدا أو نقدا ومحاولة للتجاوز، بالشكل الذي يعكس تشابها وتطابقا في تطور الأدبيات والباراديغمات السوسيولوجية بشكل عام، والذي لا يتم بشكل متآني ومستقل بقدر ما يتم بشكل متداخل ومتفاعل. فالمعرفة السوسيولوجية تتطور منذ نشأتها داخل منطق التفاعل والأخذ والرد والنقد.
ختاما، يبدو لنا أن باراديغم إعادة الإنتاج داخل حقل الجامعة كانت له أهمية كبرى في تاريخ سوسيولوجيا المدرسة، خصوصا كما تبلور في ستينيات القرن الماضي مع كل من بيير بورديو وجون كلود باسرون، اللذان أخذا على عاتقهما-كعالمي اجتماع ملتزمين- تفكيك عناصر اشتغال الواقع الجامعي والخبايا الثاوية خلف أدواره بشكل نقدي يتجاوز الرؤية السطحية التي تسوّق لوظيفة الجامعة داخل المجتمع، مع إزالة طابع الطبيعي عن الأشياء التي تقدم نفسها بديهية ومحايدة.
قائمة المراجع:
المراجع العربية:
- جاك هارمان، خطابات علم الاجتماع في النظرية الاجتماعية، ترجمة العياشي عنصر، دار المسيرة للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الأولى 2010
- زكريا ابراهيم، مشكلة الحرية، مكتبة مصر دار الطباعة الحديثة، الطبعة الثالثة 1972
- عبدالكريم غريب، سوسيولوجيا المدرسة، منشورات عالم التربية، الطبعة الأولى 2009
- فاوبار محمد، المدرسة والمجتمع وإشكالية لا تكافؤ الحظوظ، منشورات عالم التربية، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2011
- بورديو بيير، باسرون ج. ك.، إعادة الإنتاج: في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم، ترجمة ماهر تريمش، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت، 2007
المراجع الأجنبية:
- George Ritzer , Sociological theory, Mc Graw- Hill, 8 édition, 2011
- Willet Gilles, « Paradigme, théorie, modèle, schéma : qu’est-ce donc ? », Communication et Organisation, Novembre, 1996
- Boudon R, et al, Dictionnaire de Sociologie, Larousse-Bordas, Paris,1998Forquin Jean-Claude, Les Sociologues de L’éducation américains et britanniques : Présentation et choix de textes, De Boeck Université, Paris, Bruxelles, 1997
- Marie Duru-Bellat et Van Zanten, Sociologie de L’école, Armand colin, Paris
- Mehan Hugh, « Comprendre les inégalités scolaire: La contribution des approches interprétatives » In: Forquin Jean-Claude, Les Sociologues de L’éducation américains et britanniques : Présentation et choix de textes, De Boeck Université, Paris, Bruxelles, 1997
- Fave-Bonnet Marie-Françoise, Clerc Nicole. « Des « Héritiers » aux « nouveau étudiants » : 35 ans de recherches » Revue française de pédagogie, Volume 136, 2001
- Bourdieu pierre, Passeron Jean-Claude, Les Héritiers: Les étudiants et la cultureLes Édition de Minuit, Paris
- Sarah Galdiolo, et Al, « Influence indirectes de l’origine sociale sur la réussite académique à l’université », L’orientation scolaire et professionnelle, Mars 2012
[1]George Ritzer , Sociological theory, Mc Graw- Hill, 8 édition, 2011, P. A10.
[2] Willet Gilles, « Paradigme, théorie, modèle, schéma : qu’est-ce donc ? », Communication et Organisation, Novembre, 1996, P.P. 2-3
[3] Boudon R, et al, Dictionnaire de Sociologie, Larousse-Bordas, Paris,1998, P.170.
[4]جاك هارمان، خطابات علم الاجتماع في النظرية الاجتماعية، ترجمة العياشي عنصر، دار المسيرة للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الأولى 2010، ص: 91.
[5]زكريا ابراهيم، مشكلة الحرية، مكتبة مصر دار الطباعة الحديثة، الطبعة الثالثة 1972 ص: 85.
*: نحاول في هذا الفصل تجميع الأفكار والأطروحات السوسيولوجية مع رسم تحديداتها العلمية ضمن باراديغم إعادة الإنتاج بالجامعة. بما هو باراديغم قائم بذاته معرفيا ومنهجيا (أي من حيث القضايا، والمفاهيم، والفرضيات، والتفسيرات..) ونشير إلى أن معالجة القضايا السوسيولوجية التي تتخذ من الجامعة موضوعا لها لا تنفصل عن باقي المستويات الدراسية. فالأطروحات الثاوية خلف الدراسات والمقالات والكتب التي تشير إلى الجامعة بشكل جزئي في إطار ما يصطلح عليه ” بالمدرسة” أو “سوسيولوجيا المدرسة” تدخل ضمن تحليلنا لمختلف المبادئ والقضايا المعرفية والمنهجية التي يقوم عليها باراديغم إعادة الإنتاج في الجامعة. إذ سوسيولوجيا الجامعة تنضوي تحت لواء سوسيولوجيا المدرسة، بل أحيانا لا يتم الإشارة إليها بشكل معزول بقدر ما يتم ذلك في إطار شمولي وعام.
[6]Forquin Jean-Claude, Les Sociologues de L’éducation américains et britanniques : Présentation et choix de textes, De Boeck Université, Paris, Bruxelles, 1997, p.p. 11-12.
[7] Marie Duru-Bellat et Van Zanten, Sociologie de L’école, Armand colin, Paris, p. 200.
[8] Forquin Jean-Claude, Ibid. p. p. 11-12.
[9] Marie Duru-Bellat et Van Zanten, Ibid. p. 201
[10] Forquin Jean-Claude, Ibid. p. 14
[11] Ibid. p.p. 15-16
[12]Marie Duru-Bellat et Van Zanten, Ibid. p. 201
[13]عبدالكريم غريب، سوسيولوجيا المدرسة، منشورات عالم التربية، الطبعة الأولى، 2009، ص: 56.
[14]Forquin Jean-Claude, Ibid. p. 32
[15]Mehan Hugh, « Comprendre les inégalités scolaire: La contribution des approches interprétatives » p. 323. In: Forquin Jean-Claude, Les Sociologues de L’éducation américains et britanniques : Présentation et choix de textes, De Boeck Université, Paris, Bruxelles, 1997
[16] عبدالكريم غريب، ص.ص: 55-56.
[17]Fave-Bonnet Marie-Françoise, Clerc Nicole. « Des « Héritiers » aux « nouveau étudiants » : 35 ans de recherches » Revue française de pédagogie, Volume 136, 2001, p.p. 10-11
[18] Masson Philipe, Ibid. p. 81.
[19] Ibid. p. 77.
[20] Bourdieu pierre, Passeron Jean-Claude, Les Héritiers: Les étudiants et la cultureLes Édition de Minuit, Paris, 1964, p. 11.
[21] Ibid. p. 16.
[22] Ibid. p. 13
[23] Ibid. p.p. 18-19.
[24] Ibid. p. 12.
[25]Sarah Galdiolo, et Al, « Influence indirectes de l’origine sociale sur la réussite académique à l’université », L’orientation scolaire et professionnelle, Mars 2012, p. 2.
[26] Bourdieu pierre, Passeron Jean-Claude, Ibid. p. 28.
[27] Marie Duru-Bellat et Van Zanten, Ibid. p. 203.
[28] Ibid. p. 203.
[29]فاوبار محمد، المدرسة والمجتمع وإشكالية لا تكافؤ الحظوظ، منشورات عالم التربية، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2011، ص. 42.
[30]بورديو بيير، باسرون ج. ك.، إعادة الإنتاج: في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم، ترجمة ماهر تريمش، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت، 2007، ص: 274.
[31]المرجع نفسه، ص:266.
[32]Marie Duru-Bellat et Van Zanten, Ibid. p. 204.
[33] Mehan Hugh, « Comprendre les inégalités scolaire: La contribution des approches interprétatives » p. 324. Cité par: Forquin Jean-Claude, Les Sociologues de L’éducation américains et britanniques : Présentation et choix de textes, De Boeck Université, Paris, Bruxelles, 1997
[34] Masson Philipe, Ibid. p. 86.
[35] Masson Philipe, Ibid. p.p. 81-88.