
دلائلية القصة الجزائرية القصيرة – قراءة سيميائية لقصة “دروب” للطّاهر وطّار-
د. لطيفة أحمد عمار ـ جامعة تلمسان ـ الجزائر
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية العدد 41 الصفحة 67 .
ملخّص:عُنيت القصّة القصيرة في الجزائر في عهد الثورة وبعد الاستقلال بأحداث الثورة المظفّرة، وبذلك تركّزت دلالاتها حول نشدان الحرّيّة ومواجهة ظلم المستعمر الغاشم، فإذا اهتمت الحكومة الجزائرية آنذاك بحلّ المشاكل الاجتماعية والاقتصادية للشعب الجزائري، فإنّ القاصّ الجزائري اهتمّ بتضميد الجراح النفسية والعاطفية لهذا الشعب المكلوم، الذي حاول الاستعمار أن يبيده بأكمله، ولكن أنّى له ذلك مع هذا الشعب المناضل الأبيّ. وهذا ما حاولت قصّة “الدروب” للأديب الجزائري “الطاهر وطار” أن تجسّده، من خلال تصوير شخصيّات قصصيّة تحاكي شخصيات واقعية عانت ويلات الاستعمار، ودافعت بالمقابل عن أرضها ببسالة لتنال حرّيّتها.
الكلمات المفتاحية: القصّة- دلالات- شخصيات- الثورة- الظلم- الحريّة.
Summary:
The story in Algeria at the moment of revolution and after independent was preoccupied with events of the revolution; in this reason all of its meanings have interested about realize the freedom and facing injustice of the colonist. as soon as the Algerian authority concerned about their nation, from socials and economics difficults, then the Algerian narrator was anxious to strike the psychology and affection of this nation. when the colonist wanted to eleminit them, but they didn’t with this combator nation. This is what the story “Adoroub” of Algerian author “Taher Wattar” tried to translate, by illustrate characters those imitate real persons who’s suffered haughty of the colonist. However it defended from it’s land, to get it’s liberty.
Key words:
Story- meanings- characters- revolution- injustice- freedom.
مقدمة:
عرف ظهور القصّة الجزائرية القصيرة تأخّرًا مقارنةً مع نظيرتها في البلدان العربية الأخرى، حيث شهدت هذه الأخيرة رواجًا لفنّ القصّة في بداية القرن العشرين ولاسيما في مصر، بحيث خطت خطوات واسعة على يد كلّ من: “محمود تيمور”،و”طه حسين”، و”المازني”، و”محمد حسين هيكل”، وغيرهم من الأدباء؛ في حين كانت القصة القصيرة في الجزائر لاتزال تتلمّس طريقها، وتبحث عن شخصيّتها التي حاول الاستعمار الفرنسي طمسَ معالمها والقضاء عليها[1]، بتضييق الخناق على المثقّفين الجزائريين.
إذ لم يكن في صالح الاستعمار أن يشجع على الثقافة والعلم، بل كان حريصا على بقاء الأمية وانتشار الجهل. وبمحاربته اللغة العربية حارب آدابها ليس بهدف إحلال اللغة الفرنسية مكانها وحسب، بل لأنها لغة القرآن، فهي تمثّل الدين الإسلامي وبالتالي هويّة الشعب الجزائري،[2] وبالقضاء عليها يضمن القضاء على أساس هذا الشعب.
ذلك لم يُضعِف القاصّ الجزائري قيد أنملة، ولاسيما بعد اندلاع الثورة المظفرّة، بل زاده إصرارا على الكتابة إلى هذا الشعب، بل وإلى العالَم العربي والغربي، ليسمعهم صوت هذا الشعب الذي يتعذب تحت وطأة الاستعمار الفرنسي. وبذلك اتّخذ القاصّ الجزائري لكتابته القصة القصيرة أرضيةً لها مميّزاتها، حتى تصل رسالته إلى القارئ، فنجِد أنّ أوّل ما يميز اتّجاهَ هذه القصة الأرضيةُ الاجتماعية والوطنية والقومية التي تنطلق منها.[3] والتي من خلالها سُمع صدى هذا الشعب الأبيّ الذي رفض الذّلّ والهوان.
بذلك خَطَت القصّة الجزائرية خطوات خجولة للوصول بها إلى مرحلة النّضج، فشهدت محاولات قصصيّة في بداياتها الأولى سنة ألف وتسعمائة وخمسة وعشرين (1925م) على يد “محمّد السّعيد الزّاهري” الذي نشر قصّته في جريدة الجزائر تحت عنوان “فرانسوا والرّشيد”، إلى جانب روّاد آخرين يُعَدّون الجيل الأوّل للقصة الجزائريّة، ومن بينهم “أحمد بن عاشور” الذي نشر في جريدة “البصائر الثانية”، و”أحمد رضا حوحو”، والذي يُعَدّ بحقّ مؤسّس القصّة الجزائرية الفنّيّة، وذلك من خلال مجموعاته الثّلاث: “صاحبة الوحي وقصص أخرى”، و”نماذج بشرية”، و”مع حمار الحكيم”، وظهرت المجموعات الثّلاث في سنتي ألف وتسعمائة وأربعة وخمسين وألف وتسعمائة وخمسة وخمسين(1954م و 1955م)، ثمّ “أبو القاسم سعد الله” الذي نشر قصّة واحدة في جريدة البصائر الثانية، تحت عنوان “سعفة خضراء”. فإذا ساهمَ هؤلاء الرّوّاد في تأسيس المرحلة الأولى للقصّة الجزائريّة مع تفاوتٍ في الرّؤية الخياليّة، والمعالجة الفنّيّة فيما بينهم، فإنّ المرحلة الثّانية عرفت تطوّرًا وازدهارًا لعالَم القصّة في الجزائر، وذلك تزامنًا مع اندلاع ثورة التّحرير الوطنيّة سنة ألف وتسعمائة وأربعة وخمسين (1954م)[4]. ونجد من أبرز ممثّلي هذه الحقبة: “عبد الحميد بن هدوقة”، و”أبوالعيد دودو” في مجموعته القصصية “بحيرة الزيتون”، و”عبد الله خليفة ركيبي” في مجموعته القصصية “نفوس ثائرة”، و”الطاهر وطار” في مجموعته القصصية “الطعنات”، و”زهور ونيسي” في مجموعتها القصصية الأولى “الرصيف النائم” و”الشاطئ الآخر”،[5] وغيرهم من القصّاص الذين أبوا إلّا المشاركة في توعية الشعب الجزائري المغلوب على أمره.
. بحيث جسّدت القصةُ القصيرة الحركةَ الشعبية، والشموليةَ في النّظرة، اللتان وَسَمَتا الثورة الجزائرية، فقد كان الشعب الجزائري بمجاهديه ومثقّفيه مدرِكون للأوضاع، التي آلت إليها البلاد في ظل الاستدمار الغاشم، وما يستلزم القيام به للتحرّر من قيوده، وهذا ما شكّل المميّز الثاني لهذه الثورة والذي ألحّ عليه بعض القصاص، وهو مميّز الاستمرارية في العمل الثوري، فالثورة الجزائرية لم تتوقّف باسترجاع الشعب الجزائري لسيادته، بل استمرت بشكل مغاير نوعا ما،[6] وهذا راجع إلى الفوضى والدمار الذي كان يعمّ الوطن الجزائري، عدا عن الفقر والأمراض والتّشرّد الذي كان يعانيه معظم الجزائريين، وهذا ما استلزم ثورة كبرى يتضامن فيها كلّ المواطنين، للنهوض باقتصاد الجزائر.
ولن تنتهي هذه الثورة حتّى تختفي جميع الفوارق وأشكال التّعسّف الاجتماعي، وهذا ما عبّر عنه “الطاهر وطّار” في قصة “الخناجر”(ضمن المجموعة القصصية الطعنات)، فهو يرى بأنّ الاستعمار رغم اختفائه إداريا وعسكريا، إلّا أنه ظلّ قائما في بداية الاستقلال من خلال المصالح الاقتصادية، والعقليات البورجوازية والإقطاعية[7]، والتي تطمح إلى حيازة جلّ ثروات البلاد. وبذلك جاءت أغلب قصص “الطاهر وطار” مؤيّدة للإيديولوجية الاشتراكية التي تمثّل الطبقة الكادحة الفقيرة [8]، والتي كانت في زمن الاستعمار جدارَ صدٍّ جعلَته الطبقةُ البورجوازية في وجه الاستعمار الفرنسي.
البناء الفنّي للقصّة الجزائرية القصيرة :
أوّلًا: الحدث الفنّي
الحدث الفنّي هو سلسلةٌ من الوقائع المرتبطة برباطين: رباط الزّمن الذي ينظّمها، ما يجعل القارئَ يعلم أيّ حدث وقع قبل الآخر؛ وأمّا الرّباطُ الآخر فهو رباط الحبكة المنطقي، والذي يبيّن علاقةَ الأحداث بعضها ببعض، من حيث أنّ أحدها سبب للآخر، فليس هناك حادث عرضي مستقلّ عن الآخر، فكلّها موسومة بدقّة، ومترابطة بعناية بواسطة الحبكة[9]، وهذا ما يتميّز به معظم القصّاص الجزائريون، فنجِد تدرّجا في تحليل أحداث القصة، كما هو الحال مع “أبو العيد دودو” في قصة “الرحلة” و قصة “يدي على صدري” من مجموعته القصصية “دار الثلاثة”، والنظرة نفسها يمكن أن تُنظَر إلى بعض قصص “عبد الحميد بن هدوقة”[10]، وغيرهما من الكتّاب الجزائريين لأنّ أهدافهم كانت تكاد متماثلة، وهي محاكاة ما كانت تمرّ به الجزائر من أحداث جرّاء الاستعمار الفرنسي.
ثانيا: الخبر القصصي (الموضوع)
أ: المقدّمة (البداية)؛ بحيث تشكّل عنصرًا بنائيّا مهمًّا، فهي بمثابة عتبة ضروريّة تكشف للقارئ عن الأجواء القصصيّة العامّة؛ لِما تنطوي عليه من أجواء موحية، ومكثّفَة بالدّلالات المغرية بغية تتبّع، وعَرضِ نموّ وتصاعُد الأحداث؛ لأنّها تحمل مؤشّرات أوّليّة لها علاقة وثيقة بهذه الأحداث، والجوّ الذي تتحرّك فيه الشّخصيّات[11]، بشرط أن لا يَطول حجم هذه المقدّمة، نظرًا لطبيعة هذا العمل القصصي الذي لا يحتمل كثيرًا من التّفاصيل، حتّى إنّ من الأدباء مَن يجعل العنوان مقدّمةً لقصّته، فيَكون مثيرًا لانتباه القارئ، محفِّزًا له على المتابعة، وهذا ما يجعل أيَّ خلل في العنوان ينعكس أثره في القصّة[12]، وهذه النقطة يجد فيها “محمد مصايف” مآخذ حول بعض الكتاب الجزائريين، مثل “الطاهر وطار” الذي استغرقت إحدى مقدماته ما لا يقلّ عن ثلاث صفحات، و”زهور ونيسي” التي غالبا ما تقدّم لقصصها بتمهيدات منفصلة عن قصصها، وهذا ما لا يجده “محمد مصايف” ملائما لهذا النوع من القصص الذي يستلزم التركيز والتكثيف والاقتصاد في الكلام[13].
ب- العقدة (لحظة التّأزّم)؛ وهي النقطة التي يصل فيها توتّر الحدثِ المتصاعد إلى أقصاه[14]، وتسمّى الدّسيسة، بحيث تساهم في التّطوير والتّحويل الجذري للوضعيّة المبدئيّة للحدث[15].
ج- النّهاية (لحظة الانفراج)؛ بعد أن تتشابك الأحداث القصصيّة، وتبلغ ذروة التّعقيد تتّجه نحو انفراجٍ يتّضح من خلاله مصير الشّخصيّات، بشرط أن لا تكون هذه النّهاية مفاجئة، أو مُقحَمة غير مُقنِعة؛ وإنّما نهاية تستوعِب كلَّ العناصر المتقدِّمة، مِن بداية وحدث، وشخصيّات[16].
ثالثًا: النّسيج القصصي
نسيج القصّة أو الأسلوب هو بناء محكَم تُصبح فيه القصّة القصيرة وحدةً قائمةً بذاتها، وهو يتألّف من عدّة عناصر تؤطّر فنّيّته؛ بما في ذلك: السرد، والوصف، والحوار[17].
أ- السّرد؛ عنصر فنّي أساسي في فنّ القصص بشكل عامّ، يُسهِم في الرّبط بين أجزاء القصّة وتتابعها، تتابعًا فنّيّا مَتينًا[18]، والذي يمتاز عند معظم القصّاص الجزائريين بالوضوح والدّقّة والتركيز، وبالمباشرة لدى آخرين، كما يمتاز في كثير من الأحيان بقيامه على جمل فعلية قصيرة، ولعلّ ذلك راجع لقصد القاصّ الجزائري إلى حركة الحياة الاجتماعية أكثر من قصده إلى غيرها من المظاهر[19]، وهذا ما لا تتيحه الجمل الاسمية التي تبطئ من وتيرة السّرد.
ب – الوصف؛ عرض وتقديم الأشياء، والكائنات، والوقائع، والحوادث، في وجودها المكاني عوضًا عن الزّماني، وأرضيّتها بدلًا من وظيفتها الزّمنيّة، ولحظتها الرّاهنة بدلًا من تتابعها، وهو تقليديّا يفترق عن السّرد والتّعليق[20]، وبذلك يمكن القول إنّ الوصف مرتبط بصفات وميزات الشخصية القصصيّة والفضاء الذي تستوطن فيه، فإذا كشف وصف الفضاءات والأماكن الخاصّة عن أمزجة وأذواق الأفراد، فإنّ الفضاءات العامّة تكشف عن أمزجة وأذواق الشعوب، ومستواها الثّقافي والحضاري[21]. وقد شاع لدى معظم القصّاص الجزائريين “الوصف عن طريق التّمثيل والتّشبيه”، ويتمثّل هذا الأسلوب في كون القاصّ يلتجئ إلى التشبيه العادي لتقريب الصورة من الأذهان، ونجد هذا الأسلوب عند “ابن هدوقة”، و”زهور ونيسي”، و”الطاهر وطار”[22]
ج- الحوار؛ يرتبط الحوار بالشّخصيّة القصصيّة، بحيث يكُون ملائمًا لمستواها الثّقافي، وللمواقف التي تتّخذها، معبّرًا بذلك عن حالتها النّفسيّة، وظروف حياتها[23]. وإن كان يقلّ استخدام الحوار المباشر في القصص القصيرة التي تزامنت مع أحداث الثورة المظفّرة وما أعقبها بعد استقلال الجزائر، فقد كان القاصّ الجزائري يُكثِر من استخدام المونولوج أو الحوار الدّاخلي، لتحليل الظروف النفسية للشخصية القصصيّة [24] التي كانت تعاني اضطرابات نفسية جرّاء الأوضاع المزرية التي تعيشها، والتي كانت تخاف من الإفصاح عمّا يعتلج صدرها لأيّ كان.
رابعًا: الشّخصيّة
تتحدّد الشّخصيّة القصصيّة من خلال الأوصاف الفيزيائيّة؛ من ملابس، وطريقة التّعبير، وعرضِ الحوافز والدّوافع النّفسيّة، والتي غالبًا ما تُدرَج في القصّة لتبرير أوإثبات التّناسق النّفسي والمعنوي للشّخصيّة، أوظهور حدث هامّ تصنعُه شخصيّات رئيسيّة، وشخصيّات ثانوية-إمّا شخصيات مساعدة أومعارضة- والتي تُعَدّ تحقيقًا وتجسيمًا لبعض ميزات الشّخصيّة الرّئيسيّة، أوخاصّيّاتها النّفسيّة والمعنويّة أوالفيزيائيّة[25]. وهذا ما يَشيع في قصص الكتّاب الجزائريين الذين يتوسّلون إلى وصف المتجمع بتحليل شخصياتهم تحليلًا نفسيا، متطرّقين إلى الوصف الشكلي لهذه الشخصيات. فنجد أنّ بعضهم يميل إلى الهدوء في التحليل كما هو الحال في قصص “مرزاق بقطاش”، وبعضهم يغالي وينفعل أكثر مما ينبغي كما هو الحال مع “زهور ونيسي”[26]. وإن كان التّأني في التحليل أنسب لوصف الشخصيات القصصيّة، حتّى يستوعبها القارئ.
خامسا: التّركيز (الإيجاز)
القصّة القصيرة عملٌ مركّز، ومكثَّف، ودقيق، ولا مجال فيها للحشو أو الزّيادة، وكلّ كلمة فيها تؤدّي دورًا يخدم فنّيّة القصّة أومضمونها، بحيث تحاول القصّة بلورةَ بعض المواقف الفكريّة، والاجتماعية، والسّياسيّة، والنّفسيّة من وجهة نظر الأديب وموقفه، سواء كان موقفًا فرديّا أو موقفًا جماعيّا[27]. وهذا ما حاول القصّاص الجزائريون أن يجسّدوه من خلال قصصهم، التي كانوا يهدفون من خلالها إلى توصيل أفكارهم أكثر من اهتمامهم بالمضمون الشكلي.
دلائلية قصة “الدروب” للطاهر وطار:
لعلّ التّطوّر والقفزة النّوعية التي عرفتها القصّة القصيرة بعد الاستقلال راجع إلى الاستقرار النفسي الذي عرفه الأدباء الجزائريّون- رغم ما شهدته الجزائر من اضطراب سياسي آنذاك- بعد مرور زمن طويل تجرّعوا فيه مرارة الاستعمار وجبروته، فكانت هذه المرحلة بمثابة نقطة تحوّل أعاد فيها الجميع حساباتهم لِما وقع في البلاد من جرائم، وتضحيات استشرفت بزوغ فجر جديد يضيئ الظلمةَ التي أحاط بها الاستعمارُ الفرنسيّ أرضَ الجزائر، وهذا ما حاول الأدباء الجزائريّون ترجمته من خلال قصصهم، وعلى رأسهم “الطّاهر وطّار” الذي ألّف روايات وقصصًا ثوريّة تزخَر بتقنيّات سردية راقية، بما في ذلك قصة “الدّروب”[28] والتي تشتمل دلالات ثورية توحي بها ملفوظات النّص، وهذا ما سيتوضّح بعد تقطيع النّص إلى مقاطع.
حيث يرى “فلاديمير بروب” أنّ تقسيم النّصّ وتقطيعَه إلى مقاطع يُعدّ إحدى الخطوات الأولى في الوصف العلميّ للقصّة [29]، ويرى”تزفيتان تودوروف” أنّ أيّ تقطيع يكون خاضعًا لمنطق تتالي الأفعال السردية، فهو أكثر ملاءمةً لتحليل أشكال السرد البسيطة، وهذا ما أثبتَته الأبحاث التي قام بها المختصون في الفولكلور[30] مثل: “بروب” و”شترواوس”. بناءً على ذلك يمكن تقطيع قصّة “الدّروب” إلى ثلاثة مقاطع:
أوّلًا: المقطع الاستهلالي
يستهلّ الأديب “الطاهر وطّار” قصّته بوصف شخصيات القصّة، قصد تقديمها للقارئ، بما في ذلك الشّخصيّة الرئيسية “الباهي” وهو طفل لم يتجاوز الخامسة عشر، غير أنّه مسؤول على أسرته، بعدما توفّي والده. وتتشكّل الأسرة من الأمّ، و”الباهي”، وأختيه “معوشة” و”توتة”، وهم يقطنون بكوخ صغير، بخلاف عمّ “الباهي” الذي يملك بيتًا جميلًا، وثلاثة زوجات، إحداهنّ خالة الباهي، وهو يحبّها كثيرًا، كيف لا وابنتها “ربيعة” هي حلم “الباهي” فلطالما تمنّاها زوجة له، غير أنّ عملَ “الباهي” كراعي للأغنام عند عمّه يجعل زواجه منها أمرًا صعبًا، غير أنّ أمّ “الباهي” ترى أنّ العمل الجاد والدّؤوب إلّا ما يعطي ثماره، ويحقّق مرادَ “الباهي” وهذا ما حاوَلَت أن ترسّخه في ذهنه من خلال قصّة الجرو “بحباح المرتاح”[31]، الذي يسعى جاهدا لتعيد إليه جدّته “ملحاسة” ذيله، فيخوض تجارب عديدة يتأكّد من خلالها أنّ لا شيء يأتي بالرّاحة والكسل؛ وإنّما لابد من العمل لبلوغ المنال، وقد أعادت الأمّ سرد هذه القصّة الأسطورية لابنتها “توتة” مرارًا وتكرارًا تحت مسامع “الباهي”.
إنّ استرسال الأديب في سرده لقصّة “بحباح المرتاح” دليلٌ واضح على تأثّره بالتّراث الشّعبي، فالطاهر وطار كغيره من الأدباء الجزائريين الذين أسهمَ هذا المخزون الثّقافي في تكوين خيالهم ولغتهم، يستوحون منه الصور، ويترجمونها من خلال كتاباتهم القصصيّة، معبّرين بذلك عن حياة المجتمع الجزائري في ظلّ الاستعمار الفرنسي، الذي لم يدع لهم مجالًا لتطوير ثقافتهم سوى البحث فيما تحويه جعبة الشّيوخ والعجائز من حكمٍ وأمثال[32].
ثانيا: المقطع الوسطي
وهو يمثّل تصاعد الأحداث وتأزّمها، حيث يبدأ من تدخّل “الباهي” ومقاطعته لوالدته، وهي مستغرقةٌ في سردِ قصّتها لابنتها، فيقول: “أمي، أمي، أسكتي. إنّني أسمع حركةً غير عادية”[33]، فيستطلع “الباهي” الأمر، حيث يُفاجأ برؤية المجاهدين وهم يقصدون بيت عمّه طلبًا للمؤونة، وإخفاء مجاهدَين جريحين في إحدى مطمورات الشّعير، حتّى لا يعثر عليهما جنود الاستعمار، غير أنّ “الباهي” يدرك جيدًا أنّ عمّه خائن لوطنه، وحليفٌ للاستعمار الفرنسي، وسيشي حتمًا بالمجاهدين، وهذا ما زاد من قلق “الباهي”[34].
ثالثًا: المقطع النّهائي
إصرارُ “الباهي” على إنقاذ المجاهدَين من يدي عمّه الخائن، جعل أمّه وأخته “معوشة” يخرجان معه في جُنحِ الظّلام لنقلِ المجاهدَين إلى مطمورة الشّعير الخاصة بالمرحوم والد “الباهي” في الجبال، ومخافة اقتفاء المستعمِر لآثارهم خرجَ “الباهي” مبكّرًا وقادَ الأغنام إلى الجبال كي تمحو الآثار، وجلس أمام مخبأ المجاهدَين الجديد يترقّب ما سيحصل، وقد وقع ما كان يخشاه “الباهي”، فقد وشى عمّه بما جرى مع المجاهدين، وقاد المستعمِر إلى مطمورة الشعير الخاصة به، غير أنّه لم يجد شيئًا، وهذا ما جعل أحد الضبّاط يبصق على لحيته. كلّ ذلك على مرأى من “الباهي” الذي أخرج مزماره، وأخذ يرسل نغمات والده الحزينة، على أوضاع عمّه الذي باع وطنه وأهله مقابل الحصول على منصب “القايد” و”البرنس الأحمر”، غير أنّ حزنه انجلى لمّا اكتشف أنّ أحد المجاهدَين الجريحين هو ابن عمّه “مجيد”، الذي كان سيشي به والده إلى الاستعمار، فيكون سببًا في قتله دون أن يدرك ذلك[35].
تقطيع النصّ إلى مقاطع يُحِيلُ القارئَ إلى استنباط المحاور الدلالية التي تتمحور حولها شخصيّات الرّواية[36]، والتي تندرج في إطار تمفصلات “articulations” نصّيّة،أو حقول سيميائيّة، بحيث يتألّف كلّ تمفصلٍ من وحدات دلالية متجانسة [37]، وتتمثّل في العلامات السيميائية التي تصُبّ في مضمون دلالي واحد.
بناءً على ذلك يمكن استنباط التمفصلات الآتية من قصة “الدروب”:
التمفصل الأوّل: الوحدات السيميائية الدالّة على الفقر والمعاناة
يحمل عنوان القصة “الدروب” دلالات متعدّدة، بما في ذلك الحيرة، والمعاناة، والتّخبّط في هموم الحياة ومشاكلها، وهذا ما يوافق مضمون القصّة ببعدَيه الجمالي والإيحائي[38]، حيث يكشف السّارد عن الفقر الذي تعانيه شخصيّاته القصصيّة من بداية القصّة، فالشّخصيّة الرّئيسيّة “الباهي” هو راعي غنم يعمل لدى عمّه، وقد استخدم السّارد وحدات دلالية توحي ببساطة عيش “الباهي” وعائلته، بما في ذلك: “الزّريبة”، و”الكوخ” وهو منزل عائلة الباهي، إلى جانب الأكل المتواضع الذي يقتاتونه، حتّى أنّ خالة “الباهي” وهي زوجة عمّه الأولى بعثت لهم “بوهزّة” – وهو نوع من الجبن- اتّخذوه عشاءً لهم[39]؛ لأنّ مصدرَ عيشهم دراهمُ معدودة يجنيها “الباهي” من رعي الغنم لعمّه. تقول أمّ “الباهي” ترثي حال ابنها، وما يعانيه من مشقّة ليوفّر لهم قوتَ يومهم: “الباهي رجل، رجل منذ مات المرحوم والده بالتيفوس، رجل وعمره لايتجاوز العاشرة. واليوم وقد مرّت خمس سنوات، على مواجهته للحياة ومشاقّها…”[40].
معاناة شخصيّات القصّة ليست بسبب الفقر وحده، فهاهي ابنة عمّ “الباهي” “ربيعة” تعيش تحت رعاية والدها الذي يملك أراضي وأغنامًا، ولكنّها دائمة الحزن، ومن الوحدات الدالة على ذلك: “احمرار العينين”، و”البكاء”، و”الدموع”، ومرَدّ ذلك إلى الظّلم الذي تعانيه من زوجتَي أبيها.[41]
غير أنّ حزنَ “الباهي” ومعاناته كانا أكبر من أن يتحمّلهما طفل في الخامسة عشر، فهو مسؤول عن عائلة في زمن لم يترك فيه الاستعمار الفرنسي للشعب الجزائري ما يقتات به، إلى جانب الظّلم الذي يعانيه “الباهي” من عمّه، فتقول أمّ “الباهي” عن حماها: “أبناؤه يرسلهم إلى القرية ليقرأوا؛ بينما أبناء أخيه يرسلهم لرعي أغنامه”[42]، لذا كثيرًا ما يحاول “الباهي” التّخفيف عن آلامه ومعاناته بالعزف على المزمار، “فالمزمار” وحدة دلالية تعبّر عن قساوة الحياة في البادية، ومحاولة الانعتاق من جميع القيود، عندما تنقله الأنغام إلى أجواء الخيال[43].
التمفصل الثاني: الوحدات السيميائية الدالة على الخيانة والغدر
جاءت الخيانة في القصّة مقرونة بشخصية عمّ “الباهي”، الذي كان عميلًا لدى الاستعمار الفرنسي، ولعلّ أبلغ وحدة دلاليّة تعبّر عن ذلك هي لفظة “خائن”، وقد كرّر “الباهي” وصفه لعمّه بالخائن معبّرًا عن أسفه والمرارة التي يحس بها تجاه عمّه، الذي باع وطنه مقابل منصب “القيادة”، وبضعة أراضي[44]، بخلاف أخيه والد “الباهي” المتوفّى، الذي كان حريصًا على تنشئة ابنه تنشئة صالحة.
من الوحدات الدّالة على الغدر والخيانة في القصّة: “الذّئب” – والذي لطالما عُرِف بمكره وغدره-، و”حيّ الضّرائر الثّلاثة” وهو منزل عمّ “الباهي”، فكلّما أراد أن يخون زوجته تزوّج بأخرى وأحضرها للبيت حتّى تنغّص عيش الزّوجة السّابقة.
التمفصل الثالث: الوحدات السيميائية الدالة على الشرف وحبّ الوطن
رغم الفقر الذي يعانيه “الباهي” وعائلته إلّا أنّ الشّرفَ وحُبّ الوطن كانا شعار هذه العائلة، وهذا ما يتجسّد من خلال المقولة التي يكرّرها الباهي دائمًا، والتي استهلّ بها السّارد قصّته: “الليالي السّود ماتت، البيضاء تقول للبيضاء، والسّوداء تقول للسّوداء، اللّيالي السّود ماتت”[45]، وما ذلك إلّا تفاؤلًا منه بنصر الجزائر على الاستعمار الفرنسي، ونيل استقلالها وحرّيتها على أيدي المجاهدين الأبطال.
يتحقّق حبّ الوطن لدى عائلة “الباهي” عندما أنقذت المجاهدَين الجريحين من براثن الاستعمار، وذلك لمّا تأكّد “الباهي” من أنّ عمّه خائن، وسيشي لامحالة بمخبأ هذين المجاهدَين.
وبذلك تجد أنّ قصّة “الدروب” تزخر بالوحدات الدّالة على الشّرف، والصّلاح، والكفاح من أجل الوطن، بما في ذلك: “المجاهدون”، “جبل الأوراس”[46]– والذي لطالمَا كان رمزًا للكفاح والصّمود أمام العدوّ الغاصب-، و”الرّجولة” – حيث تقول أمّ “الباهي” لابنها: “أخرج لتتعلّم الحراسة، واقتحام الظّلمات… إنّك غير مسلّح يا الباهي يا ولدي، اتلُ آيات الكرسيّ قبل أن تخرج”[47]-.
من الوحدات الأخرى التي قد تدلّ على الكفاح “الكلب”، فمعروف عن الكلب وفاؤه وإخلاصه لصاحبه، ولعلّ ذلك ما دفع أمّ “الباهي” إلى الإلحاح على سرد قصة الكلب “بحباح المرتاح”، والتي أخذت قسطًا لا بأس به من النّسيج الفنّي للقصّة، ومفادها أنّ الإخلاصَ يجب أن يكون مقرونًا بالعمل الجادّ والدّؤوب لتحقيق العيش الكريم.
بناءً على ما سبق يمكن القول إنّ القصّة القصيرة في الجزائر عرفت تقدّمًا ملحوظًا في تقنيّاتها السّردية بعد الاستقلال، وهذا ما يتجسّد من خلال هذه القصّة – الدّروب- فقد حرص الأديب الطاهر وطار على إيجاز الأحداث، والتركيز على الوحدات الدلالية التي تصبّ في صميم الغرض المقصود من القصّة، والتي تمحورت حول ثنائيّة: الشّرف وحبّ الوطن/ الغدر وخيانة الوطن.
[1] . عبد الله ركيبي، القصّة الجزائرية القصيرة، دار الكتاب العربي للطّباعة والنّشر والتّوزيع، الجزائر، 2009م ، ص 11.
[2] . مخلوف عامر، مظاهر التجديد في القصة القصيرة بالجزائر – دراسة – ، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق (سوريا) 1998م، ص 35.
[3] . محمد مصايف، النثر الجزائري الحديث، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1983م، ص 10.
[4] . عبد الملك مرتاض، القصّة الجزائريّة المعاصرة، دار الغرب للنّشر والتوزيع، وهران (الجزائر)، ط4، 2007م، ص 7 وما بعدها.
[5] . محمد مصايف، النثر الجزائري الحديث، ص 16.
[6] . شريبط أحمد شريبط، تطوّر البنية الفنّيّة في القصّة الجزائريّة المعاصرة (1947- 1985م)، منشورات اتّحاد الكتّاب العرب، دمشق (سوريا)، 1998م، ص 110 و ما بعدها.
[7] . الطاهر وطار، الطعنات، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، ط3، 1968م.
[8] . مخلوف عامر، مظاهر التجديد في القصة القصيرة بالجزائر – دراسة – ، ص 61.
[9] . عبد الله خمّار، فنّ الكتابة: تقنيات الوصف- منهج مقترح لاستخدام الرّواية في إثراء نشاط التّعبير الكتابي- دار الكتاب العربي للطباعة والنّشر والتّوزيع، الجزائر، 1998م، ص239.
[10] . محمد مصايف، النثر الجزائري الحديث، ص 59.
[11] . باديس فوغالي، دراسات في القصّة والرّواية، عالم الكتب الحديث، الأردن، 2010م، ص 16.
[12] . شريبط أحمد شريبط، تطوّر البنية الفنّيّة في القصّة الجزائريّة المعاصرة (1947- 1985م)، ص 27- 28.
[13] . محمد مصايف، النثر الجزائري الحديث، ص 73.
[14] . جيرالد برنس، المصطلح السّردي، ترجمة عابد خزندار، مراجعة وتقديم: محمّد بريري، المجلس الأعلى للثّقافة، مصر، 2003م، ص 46.
[15] . Michel Raimond, Le roman, éd: Armand Colin, Paris (France), 2000, 186p, p154.
[16] . شريبط أحمد شريبط، تطوّر البنية الفنّيّة في القصّة الجزائريّة المعاصرة (1947- 1985م)، ص 29.
[17] . عبد الله ركيبي، القصّة الجزائرية القصيرة، ص 133.
[18] . شريبط أحمد شريبط، تطوّر البنية الفنّيّة في القصّة الجزائريّة المعاصرة (1947- 1985م)، ص30.
[19] . محمد مصايف، النثر الجزائري الحديث، ص 65.
[20] . جيرالد برنس، المصطلح السّردي، ترجمة عابد خزندار، ص 58.
[21] . عبد الله خمّار، فنّ الكتابة: تقنيات الوصف- منهج مقترح لاستخدام الرّواية في إثراء نشاط التّعبير الكتابي- ص 304.
[22] . محمد مصايف، النثر الجزائري الحديث، ص 66.
[23] . عبد الله ركيبي، القصة الجزائرية القصيرة، ص 132.
[24] . محمد مصايف، النثر الجزائري الحديث، ص 68.
[25] . Philippe Hamon, «Pour un statut sémiologique du personnage», Littérature, éd: Larousse, volume 6, n° 2, Paris, 1972, pp 86- 110, p109.
[26] . محمد مصايف، النثر الجزائري الحديث، ص 59 وما بعدها.
[27] . أحمد الزّعبي، التّيّارات المعاصرة في القصّة القصيرة في مصر، رسالة ماجستير بإشراف سهير القلماوي، دائرة المطبوعات والنّشر الجامعية، مديريّة المكتبات والوثائق الوطنيّة، مصر، 1995م، ص 1.
[28] . الطاهر وطار، الدروب (قصّة ضمن مؤلَّف الطعنات)، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، ط3، 1968م.
[29] . فلاديمير بروب، مورفولوجيا القصّة، ترجمة عبد الكريم حسن وسميرة بن عمّو، شراع للدّراسات والنّشر والتّوزيع، دمشق (سوريا)، 1996م، ص 20.
[30] . تزفيتان تودوروف، مقولات السرد الأدبي، ترجمة الحسين سحبان وفؤاد صفا، ضمن مؤلَّف طرائق تحليل السرد الأدبي – دراسات (لمجموعة من المؤلّفين)- منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط (المغرب)، 1992م، ص 47.
[31] . الطاهر وطار، الدروب، ص 51 وما بعدها.
[32] . عبد الحميد بورايو، منطق السّرد: دراسات في القصة الجزائريّة الحديثة، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1994م، ص 101 وما بعدها.
[33] . الطاهر وطار، الدروب، ص 56.
[34] . المصدر نفسه، ص 59 وما بعدها.
[35] . المصدر نفسه، ص 64.
[36] . Philippe Hamon, «Pour un statut sémiologique du personnage», Littérature, éd: Larousse, volume 6, n° 2, Paris, 1972, pp 86- 110, p99, 100.
[37] . J. Courtés, Intrduction à la sémiotique narrative et discursive, préface de A. J. Greimas, éd: Hachette Université, 1976, 144 p, p45.
[38] . باديس فوغالي، دراسات في القصّة والرّواية، عالم الكتب الحديث، الأردن، 2010م، ص 32.
[39] . الطاهر وطار، الدروب، ص 50.
[40] . المصدر نفسه، ص 56.
[41] . المصدر نفسه، ص 48- 49.
[42] . المصدر نفسه، ص 56.
[43] . عبد الحميد بورايو، منطق السّرد: دراسات في القصة الجزائريّة الحديثة، ص 103.
[44] . الطاهر وطار، الدروب، ص 61- 62.
[45] . المصدر نفسه، ص 47، و49، و62، و64.
[46] . المصدر نفسه، ص 50.
[47] . المصدر نفسه، ص 57.