
التخييل التاريخي في صخرة طانيوس[1] : المغامرة الفردية، الذاكرة الجماعية والمتخيل الإجتماعي
د. عثماني الميلود ، أستاذ التعليم العالي، المغرب.
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية العدد 41 الصفحة 77.
الملخص:يكمن الهدف الأساس لهذه المقالة، في أن نبين، من خلال دراسة الاستراتيجيات السردية، كيف يتم تجديد الحوار ما بين الفردي والاجتماعي؛ وكيف نصل، من خلال علاقة توتر مع المجتمع، بسبب ثغرة في الهوية الفردية، إلى إرساء علاقة منسجمة مع الجمعي ولربما التمكن من فداء الجماعة؛ وأخيراً، كيف تتحدد الرؤيا الاجتماعية لدى أمين معلوف في روايته”صخرة طانيوس”.
- الكلمات المفاتيح:التخييل التاريخي، المغامرة الفردية، الذاكرة الجماعية، الذاكرة الاجتماعية، الذاكرة الثقافية، الهوية، المتخيل الاجتماعي.
- Abstract :
The main objective of this article is to show, through the study of narrative strategies, how to renew the dialogue between the individual and the social; and how, through a relationship of tension with society, we come to a harmonious relationship with the community and perhaps to be redeemed Finally, how is Amine Maalouf’s social vision defined in his novel Tanios Rock.
- Keys Words :Historical fiction, Individual adventure, Collective Memory,social memory,cultural memory,identity,social imaginary
إذا كان منْ أمر يمكن أن نستهل به مقالتنا، فهو قولنا: إن أمين معلوف، من وجهة نظر كتاباته، هو من كتاب الذاكرة الكبار أمثال والتر بنيامين وجبران خليل جبران وعبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا ومي زيادة ورضوى عاشور ويوسف إدريس ومحمد برادة وعبد الكبير الخطيبي وحسن أوريد وعبد الكريم الجويطي وشعيب حليفي وربيعة ريحان وغيرهم كثير. ومع ذلك، فإن ذاكرة معلوف هي ذاكرة تاريخية. ولقد أكد الكاتب نفسه هذا الأمر، إذ يقول:
“لم يكنّ همي أبدا[…]أن أعثر، داخل ذاتي، على انتماء معين وأصلي، حيث يمكنني داخله أن أتعرف نفسي، بل الموقف المضاد هو الذي أتبناه: أفتش في ذاكرتي كي أُخرج أكبر عدد من مكونات هويتي، أجمعها، وأرتبها، ولا أتنكر لأي واحد منها.” (معلوف،24:2006).
لهذه الأسباب، تقع نصوص معلوف، بين تقاطع الرواية العائلية والتخييل التاريخي. فنصوصه تعالج إشكالية عائلية كبرى، وفي الوقت نفسه، نجده يعدو خلف مغامرة سوسيو- تاريخية. ولو قلنا إن الكاتب يمثل مغامرة شخصية، غير أنه لم يكن قط، غير مبال بالسياق الاجتماعي. لهذا نلاحظ أن كتاباته تفاوض، من جديد، الروابط الممكنة بين ما هو فردي وما هو جماعي، بغرض تشييد متخيل اجتماعي وتاريخي جديد . لهذا نجد العلاقة بين الفردي والجماعي قائمة على الصراع والتوتر، لأن الفرد يشعر بأن هويته لقيطة مقارنة بهوية جماعته. وحصيلة هذا المجهود، قدرة الفرد على إخراج تاريخ الجماعة من أتون النسيان، ومن ثمة القدرة على تركيب الذاكرة مجددا.
- مدخل إبستمولوجي:
قبل أن نشرع في التواصل مع “صخرة طانيوس”، يجمل بنا أن نضع أمام أعين القراء سلالة من المفاهيم والمصطلحات التي وإن صارت مألوفة، نظرا لارتباطها بالمد الإنساني والحقوقي وتحولها أحيانا إلى مفاهيم تكاد تكون عامة ومعومة، بسبب استخدامها المفرط في أكثر من قطاع أو مجال. وعلاوة على ذلك، فإن انقطاع الصلة بين الجذور الإبستمولوجية لهذه السلسلة من المفاهيم والمصطلحات، نجم عنه فراغ في المحتوى والإشكالية وانقطاع شبه تام بين المفهوم والبيئات والأنساق والسياقات الواجب استحضارها حتى لا يفقد هذا الكائن الدلالي والتداولي والتأويلي راهنيته وإشكاليته وقيمة نتائجه التطبيقية.
1.1.التخييل التاريخي
إن العلاقة بين التاريخ والتخييل هي علاقة متجددة[2]، ومع تجددها تتنامى الأسئلة على الدوام، نقصد الخط الفاصل، أو الحد الذي يفصل تخصصا غايته المعرفة بالوقائع التاريخية، وأعمال تخييلية تحبك تلك المعرفة، ولكن وفق منطق خياليّ. صور التقارب أضحت منذ أكثر من نصف قرن، من الزمن، أسئلة للذاكرة وجزءاً من أرشيف تاريخ المعرفة والفكر. ويبرز هذا الاختلاف، في ضوء وقائع هي كتابات المؤرخين، والكتابات التخييلية، كما يؤكد ذلك أوزوف(13:2011) Ozouf,M)). وقد نشأ هذا الإشكال وتطور، في ضوء قراءة الروايات التي شهدتها الآداب الكونية، خاصة على الصعيد الأوروبي، مكسرة جوهر الأطروحة الوضعانية، أذكر جونتان ليطل(2006) J.Little))،وجان كارسكي ويانيك هينل(J.Karski etYanick Heanel)(2010) أو HHhH للورن بيني(Laurent Binet)(2011)،أو روايات عبد الله العروي وبنسالم حميش وأحمد التوفيق وحسن أوريد وسعيد بنسعيد العلوي وعز الدين التازي وزكية داود ومحمد الأشعري وعبد الكريم الجويطي والبشير الدامون.
وقد استندت هذه التخييلات( الأدبية) التاريخية إلى تغيير في صيغ الخطاب والانتقال من ضمير الخطاب الغائب أو المخاطب إلى ضمير المتكلم، مع مزج التخييل بالوثائق وتوظيف الخطاب التخييلي-المتعالي الأسطوغرافي، مع خرق ما يمكن أو ما يسمح به التمثيل التاريخي الحرفي، وجعل التخييل يغير العوائد والقواعد والمسلمات. كما صرنا نلاحظ وجود كتابات المؤرخين التي شرعت في تغيير خطوط التماسّ، حيث نجد الفرنسي ألان كوربن(Alain Corbin)، في سنة 2011، يعيد صياغة المحاضرات الضائعة لمدرس من نهاية القرن 19. ومثله ما نجده لدى كتاب التخييل التاريخي المغاربيين( خاصة المغاربة والجزائريين)،الذين اختاروا مواقع تميزهم عن مواقع المؤرخين؛ فاختار حميش منظورين مختلفين(ابن خلدون وابن سبعين) لبعث رسائل إلى عصره، من خلال التشديد على أهمية المثقف، خاصة في فترات الشدة والأزمة. وهو ما صنعه أوريد في مورسكيه، قاصدا تصحيح الماضي، وتوجيه النقد للسلطة، والتنصيص على استمرارية غياب الإنصاف والعدل. في حين زاوج بنسعيد بين إطلالتين ؛الأولى على الماضي(سيرة المهدي بن تومرت) والثانية على الحاضر(ثورة 25 يناير 2011بمصر)، والتأكيد على طابع الانتظار الذي يميز حركية التاريخ العربي-الإسلامي. في حين اختار محمد عز الدين التازي منظورا نوستالجيا لواقعة تاريخية قريبة( تهجير اليهود المغاربة باتجاه أرض فلسطين)، والتنقيب في صور هؤلاء المغاربة وذكرياتهم وآلام الفراق. وهو الصنيع نفسه الذي قام به واسيني لعرج في معالجة مأساة الأمير عبد القادر الجزائري، إذ لم يعرض للواقعة من زاويتها التاريخية الصرفة( وهو أمر يتنافى وخصوصية التخييل)، وسرد صورة المأساة على لسان شخص تابع، لم تفد المعطيات الوقائعية أنه كان له دور من الأدوار في ترحيل الأمير وسجنه. وقد وازى هذا الإبدال، تطور في مجرى التاريخ الوقائعي، فأصبح يتخيل، يحكي ما حصل فعلا وما لم يحصل.
يتميز التخييل التاريخي بهذه الثنائية اللفظية ما بين” تخييل”و”تاريخي”.هناك تعريف أولي وبدئي للتخييل التاريخي، باعتباره تمثيلا( تخييليا) للماضي، كما يقول ك،بيرنارBernard,C) 1996). وقد ربط لوكاتش،ج(Luckas,G) نشأة التخييل التاريخي(الرواية التاريخية، بتعبيره) مع والتر سكوت[3]( Scott,W )، مع تأكيده على “خصائص الشخصيات المشتقة من الخصائص التاريخية لعصرها”(لوكاتش،17:2000). وقد صارت هذه الخاصية، ما بعد الثورة البلشفية، جزءا من “تجربة معيشة للجماهير”(ص.21)، وفهم للوجود باعتباره” أمرا مشروطا تاريخيا”(نفسه). وبتعبير آخر، فإن الحضور التاريخي، في الحُبكة، هو ما يحدد الجنس والوظيفة السردية، ويوسع الوظائف الأخرى المعرفية والأنثروبولوجية.
وتبعا لما سلف، نستطيع أن نعرف التخييل التاريخي على أنه تقاطع( تهجين) عنصر ما ، من الماضي، بصيغة من الصيغ، وبلورة رهان معين، قد يكون جزءاً من فهم الماضي، يصلح أن يكون بمثابة إضاءة للحاضر[4]. والتخييل التاريخي، يميل إلى اللعب بالتاريخ حينما يفشل هذا الأخير في عرض حقيقة الماضي. وقد يكون ذلك بهدف التسلية والترفيه، أو معرفة الماضي وإضاءته. وقد يكون الهدف الطعن في شرعية الحاضر، بالطعن في شرعية الماضي(نموذج التخييل التاريخي ما بعد كولونيالي). ولهذا يمكن أن نعرّف التخييل التاريخي، في مقابل الحكاية التاريخية؛ فالأول يحبك شخصيات ووضعيات قد تكون، في مجملها، تخييلية في حين يُطلب من الثاني أن يكون قريبا، ما أمكن، من أحداث الماضي، بحيث لا يسمح بأي تفصيل تخييليّ، فليس المؤرخ حرا في ذلك، إذ هو ملزم بتدوين ما هو موجود في الوثائق، بشكل أمين، كما يؤكد ذلك جورج دوبي(185:1996)(Duby,G). كما أن الحكاية في التاريخ، يضيف شارتيي،ر(Chartier,R) )(2006)، تمتلك خاصية جوهرية كونها”نصا” مرخصا له، همُّهُ مساءلة الحقيقة. وبهذا يصبح التاريخ”نصا فوق نص”، أو ما اصطلح عليه دو سارتو،م(De Certeau,M) ([1978]، 111:2002)، بـ”البنية المضاعفة”.
وإذا سعينا، الآن، إلى تعريف أكثر دقة للتخييل التاريخي المعاصر، نقول إنه سرد قصة تجري أحداثها، في عالم ذي مرجعية ماضوية، فإذا كان قراؤه شبابا، فلا شك أن وظيفته تعليمية( ديداكتيكية). وإذا كان موجَّها للكبار، فإن وظيفته تصبح جدالية( إن لم نقل إيديولوجية).
2.1 .الذاكرة الجماعية
تدل الذاكرة الجماعية على القيم والمشاعر والأحداث التي توحد الجماعات البشرية خلال الزمن. وقد ظهر مفهوم الذاكرة غداة الحرب العالمية الثانية، لكنه لم يفرض وجوده إلا خلال الثمانينات في تخصصات عدة؛ السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والعلوم السياسية، وفي كل ما له صلة بالموروث الوطني والعائلي والوطني[5]: فما المقصود بالذاكرة الجماعية؟
نجد في المعجم الثقافي للغة الفرنسية( Dictonnaire culturel en langue française)، وفق مدخل “الذاكرة الجماعية”، التعريف الآتي:
“الذاكرة ظاهرة اجتماعية لأنه في المجتمع حيث يكتسب الإنسان ذكرياته. والذكريات هي حصيلة التجربة والتنشئة الاجتماعية، وقد تقاسمها الكثيرون، فأصبح لها معنى داخل الفئات والجماعات. فهم يكملون بعضهم البعض، يتساندون، يتبادلون، ويتشابهون. فلا يمكن للواحد أن يتذكر بدل الآخر ،يقيناً، غير أن الآخرين يتذكرون إلى جانبنا. ونظرا لكون الفرد ينشىء نفسه في علاقته بالآخرين، فإنَّ ذاكرته ليست برجا عاجيا، ولكنها مكون يندمج في شبكاتها وأنسجتها. في مثل هذه الحالة الدقيقة حيث يصبح بمقدورنا الحديث عن” الذاكرة الجماعية”[6].
في مؤلف موريس هالبفاكس(1950)(M.Halbwachs ) برز للوجود مفهوم “الذاكرة الجماعية”. يقر هالبفاكس أن ثمة نوعين من الذاكرة؛ ” ذاكرات فردية” و”ذاكرات جماعية” (35:1950 ). وتكمن أصالة فكرة هالبفاكس في الأهمية التي يوليها لمساهمة الفرد في حياة الجماعة. إنَّ الفرد، حسب هالبفاكس، يُشيِّد ذاكرته بالموازاة مع احتكاكه بالمجموعات، ذلك أنه يثبت تذكراته إبان تماسه مع الجماعة:
“لا يكفي أن نعيد تشكيل صورة حدث معين مضى، قطعة قطعة، كي نحصل على ذكرى، بل يلزم أن يشتغل هذا البناء الجديد اعتمادا على معطيات أو تصورات مشتركة، توجد في عقلنا كما في عقول الآخرين، وتمر، دون توقف، من هذه إلى ذاك، بشكل متبادل. ومثل هذا الأمر لن يكون ممكنا إلا كانوا طرفا للمجتمع نفسه واستمروا في ذلك. وهكذا فقط، يمكن أن نفهم كيف تكون الذكرى معترفا بها ومشيدة من جديد ، في الآن نفسه. “(13:1950).
وعليه، فإن عملية تثبيت الذكرى، في الذاكرة، يستدعي تفاعلا مع قيم الجماعة. يتساءل هالبفاكس عن دور الماضي في إدامة ذاكرة الجماعة. فهو يُعرِّف التاريخ باعتباره”لوحة تغيرات”، ويعرف الذاكرة على أنها” لوحة تشابهات”(77:1950-78).
” كيف لأمَّة، مهما كانت، أن تكون موجودة، وتبقى على قيد الحياة، واعية بنفسها إذا لم تُكوِّنْ نظرةً على مجموعة أحداث حالية أو ماضية، وإذا لم تكنْ قادرة على إعادة الزمن إلى الوراء، وأن تمرَّ مجددا، ودون توقف، على الآثار التي خلفتها هي بنفسها؟ ” (129:1950).
ومن أجل تشكيل ذاكرة الجماعة وإدامتها، يضفي هالبفاكس على “آثار” الماضي دورا خاصا. إن تأثير الأجداد أمر حاسم، ذلك لأنهم يمثلون”طرق العيش والتفكير في ما مضى” (51:1950). ويؤكد هالبفاكس، فضلاً عن ذلك، على أهمية المكان في الذاكرة الجماعية للمجموعة:
“المكان يتأثر ببصمة الجماعة، والجماعة تتأثر ببصمة المكان”
وسعى هالبفاكس، في نهاية المطاف، إلى مساءلة دور الأزمة في تشكل الذاكرة الجماعية للمجموعة، وسجل أن:
“حدثا جسيما ، بالفعل، ينجم عنه تغير في روابط الجماعة بالمكان، سواء بتغير الجماعة في توسعها، بسبب الموت مثلاً، أو تغيير المكان”(149:1950).
وقد لاحظَ بول ريكور(Paul,Ricoeur) في كتابه” الذاكرة ،التاريخ والنسيان”(2000)(La mémoire, l’histoire et l’oubli) ، أنه زيادة على الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية، يجب الإقرار بالدور التوسطي الذي تضطلع به ذاكرة الأقارب:
“ألا يوجد بين قطبي الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية حقل مرجعي وسط حيث تتم التغييرات، بشكل فعلي، ما بين الذاكرة الحية للأفراد والذاكرة العامة للجماعات التي ننتمي إليها؟ هذا الصعيد هو صعيد العلاقة بالأقرباء الذين يحق لنا أن نمنحهم ذاكرة من طراز مختلف…إن الأقرباء هم القريبون الآخرون، والآخرون المفضلون”(2000: 161-162).
وهكذا يستخلص بول ريكور” ثلاث مهام تضطلع بها الذاكرة بإزاء النفس والأقرباء والآخرين”(2000 : 162). وعُني بيير نورا (Pierre ,Nora)بأماكن الذاكرة(1984، 1986)، في أربعة مجلدات، وسجل أن العالم المعاصر قد فقَدَ الذاكرة الحية وطقوس الماضي (ذاكرة الأمكنة ممثلة في الكنيسة والمدرسة والعائلة). ويرجع الفضل في بروز “أمكنة الذاكرة” أو”بقايا” الماضي إلى هذا الطقس المتجدد للعالم( نفسه، م.1،صصxvii-xviii)[7] غير أن السؤال الذي لا يفتأ يلح هو كيف يمكن أن نطبق على الأدب، أفكار هالبفاكس وريكور وبيير نورا؟
يؤكد كل من الأنثروبولوجي فنتريس والمؤرخ ويكام(Fentress,J and Wickham,Ch) ، في مؤلفهما “الذاكرة الاجتماعية”(Social Memory)، أن الذاكرة تبنى بموازاة قواعد تأليف الحكاية. لهذا نجدهما يميزان الذاكرة الاجتماعية من ذاكرة الفرد وذاكرة المجموعة، مما يجعلهما في تعارض تام مع فكرة هالبفاكس القائلة بأن ذاكرة الفرد لا تنمو إلا في علاقتها بالمجموعات. الذاكرة الاجتماعية تتحالف مع الفرد والمجموعة، وتصبح الذاكرة” اجتماعية” في الوقت الذي نمنحها الحق في الكلام:
“لا تصبح الذاكرة اجتماعية إلا إذا كان ممكنا نقلها. وكي يتم نقلها يجب مفصلتها، فالذاكرة الاجتماعية ذاكرة ممفصلة”[8].
وقد عمل كل من فنتريس وويكام على تفسير نظريتهما بالتركيز على نمطين محكيين يروجان للذاكرة الجماعية. فقد أوضحا أن الحكاية الملحمية(شأن أنشودة رولان، من القرن 11) والحكايات العجيبة لغريم(Grimm) تثيران قضايا مهمة في ما يخص دراسة الذاكرة الاجتماعية.
ففي حالة الحكاية الملحمية، تحتفظ الذاكرة الاجتماعية بمواد حكائية على شاكلة صور مترابطة” مثل جواهر مصفوفة على حبل”(1992: 55). تتتابع هذه الصور كرونولوجياً دون أن تكشف عن روابط عِليَّةً أو منطقية. فمحكي رولان، مثلاً، يتكون من عدد من الأحداث تنقلها صور وجمل مخصوصة، شأن خيانة غانلون، موت رولان أو انتقام شارلمان. فالصور التي توظفها الحكاية تنقل، في الآن نفسه، دلالات ومعلومات تاريخية، وتوحي أيضا إلى تقليد طويل عن أزمنة كثيرة. فوفق هذا المعنى حيث تضمن أنشودة رولان عملية انتقال الذاكرة الجماعية. وعلى النقيض من ذلك، فإن الحكاية، في خرافات الجنيات( كما أوضح ذلك بروب في كتابه”مورفولوجيا الخرافة”)، تنتظم حول روابط منطقية( السبب والنتيجة). وقد لاحظ كل من فنتريس وويكام أن دور الشخصيات الرئيسة، في الحكاية، ينحصر في بعض الوظائف، وأن الحكاية بنيت حول الفعل ونتائجه. إن الخرافات تمثل إذاً، بالنسبة لفنتريس وويكام، ذاكرة مفصولة عن سياقها، بالإضافة إلى أن الحبكة في الخرافات هي عبارة عن:
“سلسلة من التيمات المترابطة؛ فذاكرة حُبكة مشابهة تستدعي الذاكرة وليس التيمات فقط، بل والروابط القائمة بينها كذلك. وفق هذا المعنى، فإن الحبكة تعمل، في الذاكرة ، على هيئة صورة مركبة “(1992 :72)[9].
أما بخصوص مشكلة القوة الاستدلالية التاريخية للحكاية، يرجع فنتريس وويكام إلى أنشودة رولان(chanson de Roland)، وفيها يوصَفُ رولان وهو يخوض غمار صراع مع صارازان(Sarrazane)، وهي حادثة لا تطابق أي واقعة تاريخية معروفة. أما بخصوص الأحداث التي حصلت فعلاً، فتَضْعفُ الذاكرة، كما يجزم المؤلفان. غير أنه، في الوقت، الذي نعتبر فيه الحكايةُ حكايةً، نكتشف أن الذاكرة” صلبة” و”متماسكة”. قدْ توجد، عادةً، روايات أخرى للحكاية، في العالم، غير أن الحكاية تحافظ على” سلسلة من الأفكار تستمر موجودةً في كل تأويل”(1992 :59).
3.1.الهوية
يوظف مفهوم الهوية، في مجال العلوم الإنسانية، باعتباره مفهوما شموليا وفق دلالات مجازية شديدة التنوع. إذاً ثمة طرق عدة لتعريف الهوية وتحليلها كما يقول ميكشيللي(1986 :6)(Mucchelli )، غير أننا نجد هناك عينة من المظاهر ذات الطبيعة المركزية خلال التحليل: إن الهوية ذات طبيعة سياقية وعلائقية، دوماً، ولا يجب فهمها أبداً منعزلة. كما يؤكد كل من كاروسيلا وسوروندو(2008 :13)( Carosella,E and Saint-Sernin,B ). في السياق الحالي للعلوم الإنسانية، فإن تعريفا عاما لمفهوم الهوية يقوم على تصورها باعتبارها “معنى مدركاً ومعطى من لدن كل فاعل أو فرد عن نفسه أو بقية الفاعلين.”(ميكشيللي،1986 :39)، والمقصود بالفاعل هنا، الفاعل الإجتماعي الذي من المحتمل أن يكون فردا أو جماعة وفق صفات كثيرة ومختلفة؛ الوعي بالذات، ووجدان معبر عنه في مواجهة الوضعيات المختلفة(ميكشيللي،1986: 39). و يقصد بالمعنى المدرك ، حسب السيكولوجي والسوسيولوجي أليكس ميكشللي،” مجموعة من الدلالات”(نفسه) يدركها فاعل من خلال السياق، يعطيها لنفسه أو لفاعل آخر. فتصبح الهوية، وفق ميكشيللي،” ظاهرة مكونة من معنى ينبثق في وضعية معينة”(1986: 39-40). وبناء عليه، نلاحظ وجود عملين مركزيين إثنين منبثقين عن فعل التحديد، ويرتبطان بأهمية الآخر: تحديد شيء ما أو شخص ما، بمعنى” الاعتراف لشيء ما ببعض العلامات ، حتى نتمكن من ترتيبه في مقولة معرفية”(1986: 56)، وتحديده بإزاء شيء ما أو شخص ما، أي تحديد الذات بإزاء شخص ما أو شيء ما. وسيكون من الأفيد، هنا، أن نسجل بأن خصائص الذات هذه، لا وجود لها سوى على الصعيد الفردي، غير أنها تسهم كذلك، في بناء الهوية الجماعية(1986: 6). إن الهوية تزاوج الفرادة بالإنتماء الفئوي والجماعي(روكول، 2009: 12) (Roucoules,A) ، مما يسمح ، وفق تحليل ميكشيللي، بنشوء عملية ذهاب وإياب بين هذه المستويات(1986: 8). فتعريف الهوية وتحليلها، لدى ميكشيللي، يمكن أن يشتملا، في الآن نفسه، على روابط الذات بالآخر، أفضل من التعريف والتحليل اللذين يركزان على الفرد والفئة والجماعة.
الهوية ، حسب هذا التحليل، ظاهرة من المعاني، ومجموعة من الدلالات يتم إنتاجها عبر فعل التحديد الهوياتي. وجوابا عن سؤال لماذا يجب أن تصل الفاعلَ ظاهرةُ المعنى هذه ، يلاحظ ميكشيللي أن سبب ذلك “حتى يجد الآخر[…] معنى؛ ولا يبقى هذا الآخر دون دلالة”(1986: 11).
ترتبط الهوية بالذاكرة ارتباطا إشكاليا، ذلك أن “تعبئة الذاكرة تكون في خدمة البحث، والاعتراض والمطالبة بالهوية”، كما يضيف ميكشيللي(1986: 37). توجد الذاكرة، باعتبارها مكونا ممكنا للهوية، في نسق سردي سماه بول ريكور بالهوية السردية(ريكور،1990: 140)، ودعاه العرفانيون الأمريكيون والإنجليز بـ”محكيات الحياة”(life narratives)[10]. وتتأسس العلاقة بين الذاكرة والهوية هنا، على الكيفية التي تتيح بها الذاكرة للذات تملُّكَ المعنى، والاستمرار في سرد هذه الذات. وفق هذا الإجراء يكون المحكي والقصة المروية حاسمين بالنسبة للهوية:
“يشيد المحكي هوية الشخصية، أي ما يمكن أن ندعوه بالهوية السردية، في الوقت الذي يشيد القصة المروية. فهوية القصة هي ما يصنع هوية الشخصية”(ريكور،1990: 175).
4.1.المتخيل الاجتماعي
سواء أتصورنا الجماعة بنية اجتماعية أو وحدة سيكولوجية أو فضاء انتقاليا، فإنها موضوع يثير الاهتمام والنقاش لأنها مفهوم قادر على تمكيننا من إدراك الصوغ الاجتماعي وهو يفعل فعله.
كما أن العناية التي نوليها للمتخيل باعتباره ملكة أصلية قادرة على طرح أمر وعلاقة، لم يسبق أن وجدا، على نموذجنا التمثيلي . إن هذا المتخيل الاجتماعي، حسب كاسطورياديس(Castoriadis.C )، هو ركيزة ما هو سوسيو-تاريخي ونفسي.
وعليه، إذا كان مؤلف ك.كاسطورياديس[11] يمثل شكلا تقدميا من أجل فهم الظواهر الاجتماعية الكبرى، خاصة على مستوى إبراز الدلالات الخيالية المركزية البانية والمؤسساتية للمجتمعات من خلال التاريخ، فمن الواجب أن نوضح معنى الرابط الاجتماعي الأصغر(micro). وفي هذا الاتجاه حيث سينصب اهتمامنا على استخلاص الدلالات الخيالية الفردية والجماعية لشخصيات “صخرة طانيوس”، مع السعي إلى اقتراح نموذج لفهم إشكالية المجموعات المؤسساتية من منظور مصاحبتها. مدلول المصاحبة غني بتعريفه ووظائفه ومصادره المعلوماتية، غير أننا لن نعنى بجوانب المصاحبة العلاجية أو التكوينية، ولكن مصاحبة شخصيات في وضعيات فعل ، داخل عوالم تخييلية، لكن بموازاة سياقات سوسيو-ثقافية محددة في التخييل. إن المجموعات التي سنصاحبها في رواية أمين معلوف ذات طبيعية وخبرة مؤسساتية، تعيش وفق نمط عيش متساو، تعرف بعضها البعض لكونها تشترك في “أنا” جماعية، وهي وحدة ذات معنى بالنسبة إليها. ورغم اشتراك هذه المجموعات في قواسم مشتركة، فإن الروابط بينها تتأثر بالسياقات والديناميات الذاتية-المشتركة. ويهمنا، في هذا التحليل، أن نوجه عنايتنا إلى هذه الذاتية المشتركة التي تفعل فعلها على الصعيد الاجتماعي، حول مشروع مشترك يعد الناظم المولد لخيالها الإجتماعي.
- منظورات المغامرة والبحث
يشيد أمين معلوف إطارا سردياً، لرواياته، وفق منظورات البحث والاستكشاف، من خلال مظاهر مختلفة؛ الأصل المتنازع حوله بين الشخصيات الرئيسية، والتحديات الشخصية، ووضعيات ما بين الجدال والتحدي أو روح التعدي.
فيما يتعلق بالمظهر الأول، يمكن ان نسجل أن طانيوس له أصول دموية غير متيقن منها. فهو شاب يجهل هوية أبيه. ومنذ مراهقته كان يعلم أنه موضوع سخرية القرويين الذين أثقلوه بكنية تؤكد كونه لقيطا.
وهكذا تعمل الحيل السردية، والصدف الحكائية، على أن تلتقي الشخصية، بطريقة واعية أو غير واعية، في وضعية بحث عن الأب. ويتجلى ذلك في اقترابها من شخصيات وصية، مثل حالة الموقر ستولتون الذي علَّم طانيوس ، وحماه كما يحمي الأب ابنه، أو حالة روكوز، مضيف سيد كفريبدا الذي ارتبط بطانيوس ارتباط صديق لصديق، وجعل منه وريثا كي يعوض عن حرمانه من الابن. وأخيرا، هناك نادر، سائس البغال، الذي محض طانيوس عاطفة خاصة، ربما بسبب وضعهما غير النمطي، وبسبب الخصال التي تميز المراهق: عطشه الكبير إلى المعرفة وخيبة أمله في ثبات وجمود ورجعية مدبري القرية. لهذا عمل نادر على استقطاب طانيوس، ونمى قدراته، بعيدا عن القرية، حتى يتمكن المراهق من بناء تصور ووجود مختلفين.
وهكذا تقوم رواية أمين معلوف، على بنية البحث القائم على تحديات الشخصيات: الانتصار على الخوف من الصخرة، والحفر في الأساطير المؤسسة للمدن الكبيرة البيضاء وتفكيكها خطاباتها. لهذا نجد السارد يشير، منذ بداية مغامرته، إلى أن المغامرة ولدت لديه، منذ أن منعه جده من الصعود على إحدى الصخور التي تحيط بالقرية، والجلوس فوقها. وكانت هذه الصخرة هي الوحيدة التي تحمل إسم رجل “صخرة طانيوس”…تلوح كمقعد جليل، متقعر، كأنه اهترأ في موقع المؤخرة، بمسنده الشاهق والمستقيم المنسدل على الجانبين كالمرفق”. واضح إذاً، أن المكان كان جذابا، غير أنه ارتبط، في أذهان الناس، باعتقاد ينذر بالشر كل من يقترب منه. وهكذا يشيد السارد محكيه باعتباره امتحانا شخصياً يستلزم الحفر في سر هذه الصخرة والانتصار على التطير الذي ولده اختفاء طانيوس لدى السارد وبقية الصبية الذي كانوا في مثل سنه:
“وكان الصبية الآخرون يظلون مثلي على مسافة منها، ويشعرون نحوها بالرهبة المتطيرة نفسها، ولعلهم مثلي قد قطعوا وعداً، ويدهم على زغب شاربهم، وحصلوا على التبرير عينه: “كان يلقب بطانيوس الكشك. وقد جلس على هذه الصخرة، ثم توارى عن الأنظار”[12].
من الواضح أن ما يمكن تسجيله، أن الحكاية موضوع تحليلنا، في صخرة طانيوس، قد بنيت على أساس منظور البحث القائم على تحدٍّ شخصي: الاِنتصار على فكرة التَّطير والبحث في ماضي القرية.
تبرز دلالة البحث والمغامرة من خلال الموقف الوسط للبطل(طانيوس): كيف يجب أن نصوغ موقفنا؟ هذا هو السؤال الذي يبدو أن طانيوس سعى إلى طرحه؛ فقد طرح هذا الأخير السؤالَ حينما اكتشف فجأة، أن جرجيس الذي كان يعتبره أباه الشرعي، ليس سوى أب مزعوم. وخلال هذه الفترة كان يجب على المراهق أن يفكر في الموقف الذي سيتخذ بإزاء الشيخ الذي قد يكون أباه الحقيقي، وجرجيس الذي تحمل تبعات أبوته.
إن سؤال النسب ومعضلة الطفل اللقيط تلحان بقوة على ذاكرة طانيوس. والوعي بهما يبدو كما لو أنه قطيعة مع الأصول، وهذا ما يفسر انجذابه إلى شخصيات أخرى ذات ثقافة مختلفة، وخاصة الثقافة الإنجليزية. وهو أمر يفتح نافذة على إشكالية قدوم البعثات الفرنسية والإنجليزية إلى الشرق. وهكذا نجده ينمو بين لغتين وبلدين وثقافتين. والأمر، عندنا، يتعلق بتطور الشخصية بين ” الإثنين بشكل ممكن”، حيث تكون مطالبة باجتياز اختبار تواجه فيه الأصل المفقود أو المرمم، مجزءا أو مجمعا. فهي تواجهه قصد استعادته والتخلص منه في الآن نفسه. والأصل هو معطى دينامي يواجهه طانيوس كلما تنقل بين الأمكنة. ونحن نرى ذلك ، بشكل جلي، في مسارات طانيوس الذي أجبر في الأخير أن يعود إلى طيه، بالإضافة إلى أن هذا البحث عن موقع، يندرج في سياق شكل مزدوج ، هو جزء لا يتجزأ من بنية الرواية :
- الثنائية الفضائية: المشرق والغرب؛
- ثنائية العصر: الماضي والحاضر؛
- الثنائية الثقافية: التقليد والحداثة؛
- ثنائية السلطة: الخضوع والاستقلال؛
- ثنائية القيم : العبودية والحرية.
وهكذا يخضع المعلوف بطله لسلسلة من الاختبارات واضعا، في طريقه، مجموعة عوائق قد تبدو، للوهلة الأولى، متمنعة ومستحيلة. بهذه الكيفية ينال طانيوس حريته في مجابهة ثقافته الأصلية ذات المحتوى التقليداني. فقد طلب حريته، في كل مكان وحال. فحينما قرر الشيخ، في إشارة لحصول تفاهم بينه وبين البطريرق الماروني، أن يخرج صبيان كفريبدا من المدرسة الإنجليزية للموقر ستولتون، خاض طانيوس إضرابا عن الطعام. وأخيرا أفلح في إعادة إدماج هذه المدرسة البروتستانتية ضدا على إرادة طائفته المارونية. كما عبر عن موقف شجاع وتحرري إبان السعي إلى إيجاد حل مع أمير الجبل من جهة، والقوى العظمى والإمبراطور العثماني من جهة ثانية. وبتحول طانيوس جاسوسا لهذه القوى العظمى، تم اختياره، رغم كونه مسيحيا، كي يضطلع بدور الناطق الرسمي الذي يوجب عليه إخبار أمير الجبل بالمصير الذي ينتظره. على أن الشاب تجاوز هذا الدور، وأفصح عن نوع من التعاطف تجاه الأمير، بالرغم من أن هذا الأخير هو من أمر بقتل أبيه. فقد عدَّل الكلمات التي كتبها له الديبلوماسيون، وأخفى “رغبته في الانتقام”:
“سار طانيوس وحيداً على الجسر، بمواجهة الريح. ما هذه الحيلة الغريبة التي يرتبها له القدر؟ فهو الذي فرَّ من بلده للإفلات من براثن الأمير الموهوب الجانب، هو الذي أعدم والده بأمر من الطاغية، ها هو في طريقه إلى بيت الدين لمقابلته، وإبلاغه برحيله إلى المنفى ! هو ، طانيوس، بسنواته التسع عشرة، يتحتم عليه أن يقف في حضرة الأمير ذي اللحية البيضاء الطويلة والحاجبين الكثين، الأمير الذي ترتعد أمامه فرائص كل أهالي الجبل، فلاحين ومشايخ، منذ نصف قرن، وسوف يقول له : “أنا مكلف بطردك من هذا القصر !”
“ترتعد فرائصي على متن هذه السفينة الإنكليزية، فماذا أفعل في حضرته”[13].
ألغى طانيوس، في المجتمع الذي حل فيه، مفهوم العدالة القائم على الانتقام،. ولهذا حينما أصبح سيد كفاريبدا، تراجع عن قتل روكوز العدو اللذوذ للقرية. وبذلك أظهر الشاب من الصفات الحميدة الكثير، وتصرف بتحرر ملحوظ بإزاء الرأي العام لقريته؛ غير أنه سيغادر البلدة إلى الأبد، دون أن يدري أحد سبب ذلك.
بذلك اختتمت رواية “صخرة طانيوس” على إيقاع تحرري ندركه من خلال قرار السارد الجلوس على الصخرة، من جهة، ومن جهة أخرى من خلال قرار طانيوس الاختفاء، بشكل نهائي، مفسحا المجال لآفاق أخرى وآمال جديدة.
واضح مما سلف، أن رواية “صخرة طانيوس” تكشف عن مسار بحث، لم يصل إلى مستوى بحث بوليسي، ولم يشر إلى أية تلميحات من شأنها رفع الغموض عن المسارات والأحداث. تنتظم الرواية حول متاهة يطلب من السارد والقارئ أن يجدا لها حلا، وذلك بجمع كل العناصر التي من شأنها ضبط الصورة وتحديد المعالم. فكل مواد البحث وعناصره( فك لغز الصخرة)، لم تقد الساردين والقراء إلا إلى مجرد شهادة وجمع للأدلة. إن صخرة طانيوس تتحرك كما لو كانت جريمة ارتكبت في حق المجتمع، من جهة أولى. ومن جهة أخرى، فإن القارئ لا يدري فعلا إن كان السارد قد نجح في الانتصار على مخاوفه وكل الرهانات المرتبطة بمغامرات طانيوس. ومن أجل فك لغز الجبل، عمد السارد إلى المرور بأربع شهادات:
- جبرائيل مخاطب السارد؛
- القس إلياس، قس كفاريبدا، حيث نلاحظ أن الحكاية متضمنة في يومياته الجبلية؛
- الموقر ستولتون و نادر سائس البغال اللذان قدما شهادتهما، تباعا، عبر أسلوب رمزي وملغز؛
إن هذه الشهادات تغرق السارد، والقارئ على وجه الخصوص، في عوالم أخرجت الحكي من مسار البحث( لغز الجبل) وقذفت بهما إلى قلب كفريبدا ، مع زعيمه التافه ومغامراته التي لا تنتهي، والقضايا السياسية لمجتمع الجبل مع نهاية القرن 19.
من الملاحظ أن المغامرات التي قام بها طانيوس لا تترابط فيما بينها بروابط سبب-نتيجة حقيقية ومعتبرة، فثمة دوماً أمور هي أشبه ما تكون بالمفاجآت التي تحصل وتغير مجرى الأحداث حينما تميل الأكور إلى الاستقرار، شأن اكتشاف لا شرعية ميلاد طانيوس التي انهى فصلا من براءته. بالإضافة إلى رفضه مغادرة المدرسة البروتستانتية. وهو رفض مثل أولى سمات مجابهة ستحصل بين طانيوس وسلطة الشيخ( سيد فيودالي)، وعودته من منفاه باعتباره ناطقا رسميا، مع ملاحظة أن سنه ووضعه ومنزلته لا تؤهله لهذا النوع من النبالة.
يمكن أن نعثر على حل لألغاز الرواية من خلال تناوب الحكايات التي تشكل بنية الحبكة. وبفضل هذه التناوبات نجد تعددا وتنوعا لوجهات النظر والسبل المفضية إلى بلوغ الحقيقة. ولهذا السبب، نجد الرواية ترسم مسارات لبحث ومغامرة فردية، لكن مع تفعيل خفي لمنظور الذاكرة الجماعية، تماما مثلما حدد ذلك موريس هالبفاكس(26:1950) معتبرا الذاكرة الفردية” ليست معزولة ولا منغلقة كليا[…] وأن نمط اشتغالها ليس ممكنا دون وجود هذه الوسائل التي هي الكلمات والأفكار ، وهي أمور لم يخترعها الفرد، ولكنه اقترضها من بيئته”.
- إعادة بناء الذاكرة الجماعية
لا نشك لحظة أن مسار طانيوس يبرز من ناحية أخرى مسار جماعته؛ فمن خلال مساره يمكن أن نقرأ تاريخ مجتمع كفريبدا، مبدئيا، ولكننا نقرأ أيضا تاريخ الجبل كله. ففي سعي أمين معلوف إلى وصف مصائر الأفراد، هناك، في المقابل، وصف لمنظور الجماعة، ومحاولة لإعادة صياغة ذاكرتها الجماعية من خلال جعلنا نعيد اكتشاف هذه الجماعة، من جهة، وإعادة كتابة التاريخ، من جهة ثانية.
من الواضح، من حيث عمق الأشياء، أن الشهادات الأربع التي جمعها السارد تحمل قيما مختلفة، بل يمكن أن نقول إنها في وضع صراع مع بعضها البعض. فهي تشكل مجتمعة تاريخ القرية الذي استأنف السارد الحديث عنه. ثم إن جمع الوثائق المختلفة يفتح بابا واسعة أمام منظورات جديدة، منها إعادة كتابة التاريخ، ذلك لأن السارد استفاد من القيمة الاستثنائية لطانيوس، وكل الرهانات التي وجد نفسه في مواجهتها. زد على ذلك، أنه بواسطة حكاية القرية المتضمنة في الوثائق، حاز السارد عناصر مسعفة على فهم أعمق “للثورة الاجتماعية الكبرى”[14]:
“ما كان يجدر بي أن أصف تلك الثورة الاجتماعية الكبرى التي حدثت في ضيعتي آنذاك بهذا الأسلوب. ولكن مصادري تذكرها على هذا النحو، وهكذا ظلت محفورة في ذاكرة العجائز”(نفسه).
بحصول هذه الثورة، انتقلت أهمية الحكاية من تحد شخصي، جعله السارد نصب عينيه، إلى تركيز على فضائل طانيوس الطفل الذي ولد جراء علاقة منحرفة، فولد ملعونا، منذ ولادته، غير أنه أعاد بناء هويته بفضل ذكائه وشجاعته.
وعلاوة على ذلك، فإن هذه الشخصية التي كان ميلادها مصدر كل مآسي كفريبدا وآلامها ، في مستهل الأمر، لم تسبب أي ألم للقرية، بل أسهمت في رسم معالم قدر تلك القرية التي ولدت من جديد مع ذهاب الشاب:
“على خطى طانيوس الخفية، كم من رجل رحل عن الضيعة منذ ذلك الحين، لتلك الأسباب؟ بل للدافع نفسه، والحافز عينه. فجبلي على هذا النحو. التصاق بالأرض وتوقٌ إلى الرحيل. ملاذٌ ومعبرٌ. أرض اللبن والعسل والدم. لا جنةٌ ولا جحيمٌ بل مطهر”[15].
وعلى إثر هذا المقطع، بدا السارد كما لو أنه عثر على مسوغات لسبب تسمية الصخرة باسم طانيوس. فليس لهذا الاسم صلة بالذي تسبب فيه طانيوس لقريته، ولكنه شديد الصلة بمغادرته المفاجئة للقرية لما قرر الجلوس على الصخرة، دون أن تنجلي الأسباب أمامنا، غير أن السارد اكتفى بتخمينها:
“…ألم أسع وراء الحقيقة أبعد من الأسطورة؟ ولما ظننتُ أنني بلغت لبها، ألفيته من نسج أسطورة.
ولقد بلغ بي المطاف أن تساءلتُ عن احتمال وجود نوع من السحر المرتبط بصخرة طانيوس. فحين عاد للجلوس عليها، لم يشأ التفكير، أو استعراض الوضع بمساوئه ومنافعه. فقد كان يشعر بالحاجة لأمر مغاير تماماً. التأمل؟ التملي؟ بل أكثر من ذلك، كان بحاجة إلى انعتاق الروح، ويعلم غريزياً أن مصيره سوف يتقرر بجلوسه على ذلك العرش الحجري، مستسلماً لسحر ذلك الموقع”[16].
يتضح مما سلف ذكره سعي السارد إلى العثور على خصال أخرى لطانيوس؛ القوة الكهنوتية، مع افتراض أن هذا الجبل كان إشارة لمصير تبينت ملامحه حينما وقع بينه وطانيوس تماس قوي.
ولعل وجود الوثائق في محكي السارد، دليل آخر على الرغبة في تجديد كتابة التاريخ الاجتماعي والسياسي لقريته، والجبل ضمنه، لأنهما يمثلان صورة طبق الأصل للطبيعة المعقدة للروابط السياسية والآليات الاجتماعية لتلك الفترة؛ غير أن هذه الحكاية تركز على عنصر مهم، يؤثر، بشكل بالغ، في طبيعة قراءة الصورة الاجتماعية لتلك المنطقة، إذ ينبهنا السارد، ضمنيا، إلى أن الجبل كان موضوع رغبة المصريين والعثمانيين والإنجليز والفرنسيين. ونظراً لانهيار كفريبدا، والكيفية التي انهزم بها الأمير، فإن الأمور تنم، بل تشي ، بأن القرية والبلد كلهما قد انهزما واستسلما. ومما زاد الأشياء قتامة، مطالبة الدول العظمى إذاك إلى قول كلمتها بخصوص مصير الأمير ونفيه إلى اسطنبول؛ لكن طانيوس غير المصائر وخفف من وقع الحقائق التاريخية، لدلالة مخصوصة يمكن لأي قارئ أن يستنتجها بنفسه، فأحدث تغييرا في النص بموجبه صار الأمير مخيرا في مكان منفاه معاكسا رغبة الإنجليز والعثمانيين. وهو ما سيجعل الشيخ يختار باريس ثم فيينا وروما. وعلى إثر الاعتراضات التركية والإنجليزية، وضع تدخل لطانيوس نهاية لهذا الجدل: سيذهب الأمير إلى مالطا.
لا تشير هاتين الحادثتين فقط إلى إرادة طانيوس بالحرص على حريته بمنأى عن أي كان، لكنها تترجم بالإضافة إلى ذلك أن الجبل مكث ، من الناحية الرمزية، سيد قدره، لأن طانيوس، سليل الجبل، لم يقبل قط أن يسلم أميره للقوى الكبرى الأجنبية، بالرغم من مصلحته في ما حصل للأمير. وتفسير ذلك أن السارد قدم وجها آخر لبلده المحتل واقعيا، والمالك لسلطته رمزيا. إن التخييل والواقع يتطابقان لدى أمين معلوف، تطابقا لاشك فيه، ويجعل من استعانته بالتخييل التاريخي ضربا من انخراطه في كتابة ذات منظور شرقي، على العكس من كثير من فرانكفونيّي المشرق والمغرب. وعلى العكس من أطروحة إدوارد سعيد[17]، فإن الغرب لم يعد قادرا على خلق الشرق. الشرق هو الذي صار يخلق صوره وكينونته.
وبالإضافة إلى ما سلف ذكره، وبمنأى عن مصير طانيوس، فإن استقصاءات السارد وبحوثه في ماضي الشخصيات المتصارعة هي، بمثابة، أسفار للاكتشاف والفداء الجماعي؛ ذلك أن السارد وهو يعرض أمام أعيننا الشخصيات، في وضع جديد ومختلف، إنما يوفر لنا كل الوسائل التي تسعفنا على رد الأحكام المسبقة والقاسية، وكل أنواع الجهل والجهالة والخوف. ففي الوقت الذي أرسى فيه طانيوس قيمه الفردية وقناعاته الشخصية، كان يركب من جديد عناصر الذاكرة الجماعية. وحينما قرر السارد أن يترك مشكلة اختفاء طانيوس معلقة ودون حل، فقد اقترح علينا، في المقابل، أمرين ربما كانا وراء هذا الاختفاء:
- رفض النظام الاجتماعي الصارم وميله إلى تهميش الخصوم؛
- الرغبة في تقرير المصير بعيدا عن جماعته.
وحينما أثار أمين معلوف أمر جماعة طانيوس، فإنه لم يكتف بتفكيك الذاكرة وإعادة اكتشافها، بل سعى إلى الاستدلال على أن أفضل طريقة لتأهيل الذاكرة الجماعية يكمن في أشكال التمفصل الأصيلة بين الأسطورة الشخصية والأسطورة الجماعية، أو بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية[18] باعتبارها صفة ووظيفة امتثال وتوحد بإزاء الجماعة. وعليه، فإن إعادة تركيب الذاكرة التاريخية من جديد، من خلال أعمال الأفراد وأفعالهم، لا تقود القارئ إلى أعادة اكتشاف الذاكرة من جديدة، ولكنها تفضي إلى تأويل متجدد لهذه الذاكرة ومعيشها، مما يساعد الفاعلين، داخل جماعتهم، إلى تجديد صورة الذاكرة الجماعية والنجاح في إرساء مشروع مجتمع بديل، حامل لقيم جديدة و تثمين جديدٍ للماضي. فإعادة تشكيل الذاكرة ليس تزويرا للتاريخ ولا للذاكرة، وإنما هو بحث عن عالم تسوده مبادئ اجتماعية بديلة.
- ملتقى العوالم
لقد سعى أمين معلوف، من خلال تتبع مسار الشخصيات ومنظورات الذاكرة الجماعية، إلى تمثيل عالمين من غير أن يكونا متقابلين. ويندرج هذان العالمان ضمن منظور ثقافي متداخل[19]، أي انخراط إرادي وشجاع للمجتمع ومكوناته في الانفتاح على الآخر والتنقل إليه. ويتجسد هذا اللقاء في سياق يطبعه الحوار بين الأفراد والجماعات والثقافات والأزمنة.
فنحن نجد، في صخرة طانيوس، من جهة أولى، حكاية تمثل الحياة اليومية، ومن جهة أخرى، حكاية ترفع الغطاء عن ماض تاريخي. وفي هذا المعنى، نلاحظ أن محكي طانيوس، يعنى كثيرا بحياة الناس، وما يطبعها من تشابك وصراع وحب وكراهية. وطانيوس، بالنسبة إلينا، هو جزء من الماضي التاريخي الذي يحدد شروط الحاضر دوما؛ وذلك بإثارة ماضي لبنان وحكاية طانيوس.
إن تجاور هذين العالمين ولقاءهما، ليس حصيلة بسيطة لحضور حكايتين في سياق متشابه، لأن الأمر ينعكس على الحوار الناشئ بينهما:
- حوار بين الأزمنة( زمن الماضي وزمن الحاضر)؛
- حوار بين مغامرات حكايتين، حيث كل حكاية تخبر عن الأخرى؛
- حوار بين تزمينين يضعان الحكاية، تارة، في أزمنة سحيقة، وتارة أخرى، يضعانه ضمن الزمن المجاور، في إطار جدلية تلون وتطبع كلا الحكايتين في سياقاتهما الزمنية.
ويشتغل هذا الحوار على مستوى بناء الفضاء كذلك، والروابط الناشئة بين الشخصيات، أي بين الثقافات أيضا، داخل هذا الفضاء. فكل حكاية طانيوس تجري في فضاء شرقي، على الرغم من الإشارة، في كثير من الأحياء، إلى أوروبا التي يشار إليها من خلال التلميح إلى تورط أنجلترا في شؤون الجبل. ومن هنا رغبة الرواية في تفكيك العلائق الملتبسة والشائكة بين أوروبا والمشرق. وحسب تقديرنا، فإن هذه المسرحة لا تهدف إلى مجرد فهم لهذه العلاقة، ولكن تتوخى تشييدها على أسس قيمية مغايرة. وهكذا نجد أن الفضاءات المختلفة تشيد بكيفية تلاحمية ومتصلة، دون حواجز ولا عوائق مرئية، إذ لا يكتفي السارد بالإشارة إلى حضورهما من خلال فضاء متعدد، ولكن يستدل على ذلك أيضا، بواسطة الشخصيات ذات الانتماءات المتباينة. ونظرا للطبيعة المعقدة بين هذين العالمين( الغربي والشرقي)، اضطر أمين معلوف إلى وضع كتابته في المنطقة الوسطى كي يجسر ما بين القطبين؛ ذلك أن كتابته هي مزيج من التاريخ والتخييل (التاريخ وظله). لهذا نجد أن الحوار يتوطد أيضاً، ما بين التاريخ والتخييل، ذلك أن الرواية تستند إلى تاريخ حقيقي يتمثل في قصة طانيوس التي دارت أحداثها بالجبل، لكن هذا العمق التاريخي يتم عرضه، مضمخا بتلوينات اسطيطيقية، عبر الوسائط السردية المختلفة( التناوب السردي أو التقعير). لهذا يسهل علينا أن نصنف رواية أمين معلوف ضمن دائرة التخييل التاريخي( الرواية التاريخية المعاصرة)، مستندين في ذلك إلى معايير لوسيان غيسو(3:1990)( ):
“تنمو الرواية التاريخية[…] بين يوتوبيا الصادق ونسبية الحقائق، إذ ينمو كما لو كان في ساحة حرة تفتح أمام التخييل توسعات ممكنة ولا متناهية، تمنحه حريات في التخييل، وإذاك علينا أن نتنبأ بكل أنواع الخروقات والهذيانات والتأويلات[…]والإضافات والشخصيات والأحداث التي ليس لها من التاريخيٍ سوى اندراجها ضمن محيط وأجواء و”لون محلي”، وفولكلور”.
قد يعتقد البعض من القراء، إنه ليس لهذا اللقاء من مزية سوى قيمته الجمالية؛ غير أن هذا الاعتقاد قد يلغي، من حسبانه، المضمر الثقافي الناجم عن تجاور التخييل والتاريخ، والمفضي إلى فهم جيد للمحكيات والمنظورات على المستوى التأويلي. ها هنا، قد نجد أنفسنا في قلب روابط تنافسية ومواجهة ما بين قصدية الحقيقة وادعاء صدق الذاكرة، فالواقعة التاريخية قائمة على التوثيق ، وموارد أخرى قد تكون كتابية أو شفوية؛ غير أن بول ريكور(2000) علمنا بأن الخطاب التاريخي عاجز تماما عن تمثيل حقيقة التاريخ، لأن التاريخ هو نتيجة لوجود حكاية، الأمر الذي قد يقودنا إما إلى النسيان أو الوقوع في خدع الذاكرة. وعلى الرغم من عودة أمين معلوف إلى أصول الوقائع المروية، معطيا الانطباع بوجود حقيقة( مثال الشهادات الأربع، في صخرة طانيوس)، فإن الأمر لا يعدو أن يكون ادعاء لا يعكس، بالضرورة، واقعية الماضي. لكن هذه التشكيلات التخييلية، من جهة أخرى، لها مزية فتح باب على الحاضر، والتطلع إلى المستقبل. وهكذا يبلور التخييل التاريخي، في صخرة طانيوس، حوارا بين هذه الأنظمة الزمنية، التي لا تشكل لا صياغة مثالية للماضي، ولا وضعية لتنسيب المطلق.
. خلاصة
تمثل “صخرة طانيوس” لأمين معلوف، من ضمن رواياته الكثيرة والمثيرة، سعيا إراديا وحثيثا إلى فتح حوار جديد بين الفرد وماضيه، بقصد تفكيك النزعات الرجعية والدعوات الأصولية والدفاع عن عالم يلتقي فيه الناس ويتمددوا بإزاء بعضهم البعض. وهكذا وجدنا الروائي، من خلال مسار الشخصيات ومحكياتها، يعمل على الكشف عن الجماعات والحكايات المنحرفة في كثير من الأحيان، ورفع الحجب عن التاريخ، بغرض إرساء رؤية مغايرة للعالم. فقد خاض طانيوس بحوثا ومغامرات هوياتية، نظرا لتوترات المجتمع وهواجسه، وقضايا الأصل ومواجعه، والميلاد والتباساته، أفضت، حتما، إلى تأهيله واندماجه شخصيا، والأمر نفسه حازته جماعته. ومن خلال إعادة تركيب التاريخ يقترح علينا أمين معلوف، رؤية مختلفة للعوالم الموروثة لمصلحة عالم اليوم. ورغم قيام حكاية “صخرة طانيوس” على خطاطة ثنائية (غرب/ مشرق)، فلا شك أن أمين معلوف هو من طينة الكتاب الساعين إلى استكشاف ثقافات وشعوب يمكن أن تقوم العلائق فيما بينها على الوحدة والحوار.
- المراجع
1-باللغة العربية:
- الروايات:
- الأشعري، محمد : ثلاث ليال، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،المغرب، 2017.
- أوريد، حسن : الموريسكي ، ت.عبد الكريم جويطي، دار ابي رقراق للطباعة و النشر، الطبعة الاولى، الرباط، المغرب. 2011.
- اوريد، حسن : سينترا ، دار توسنا، الرباط، المغرب ، 2015.
- أوريد، حسن :ربيع قرطبة، المركز الثقافي العربي،المغرب،2017.
- الدامون البشير : هديل سيد حرة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 2015.
- التازي، عز الدين : أنا المنسي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب.2015.
- التوفيق، أحمد : جارات أبي موسى، المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء، المغرب، 2017[1997].
- التوفيق، أحمد : شجيرة، حناء وقمر، دار القبة الزرقاء،ط.1، سلسلة جواهر الأدب(2)، مراكش.1998
- جويطي، عبد الكريم : المغاربة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 2016
- حميش، بنسالم : العلامة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب.1997
- حميش، بنسالم : هذا الأندلسي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاْء، المغرب.2009.
- داود، زكية :
- Zaynab,Reine de Marrakech,Ed. de
l’Aube ;Poche,Ed. de l’Aube,2008,Poche,Ed.Le Fennec,Casablanca,2012
- داود، زكية : Les petits-enfants de Zaynab, Fennec Poche, Casablanca
- العروي، عبد الله : الغربة، دار النشر المغربية، ط3، الدار البيضاء، المغرب،1971
- العروي، عبد الله : أوراق ، المركز الثقافي العربي،ط2، الدار البيضاء، المغرب.1996
- العلوي،بنسعيد سعيد: ثورة المريدين، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب.2016
- لعرج، واسيني : كتاب الأمير: مسالك أبواب الحديد، ط2، دار الآداب،بيروت ،2008
- :البحوث:
- أليكس ميكشللي: الهوية، ترجمة علي لطفي، ط1،دار الوسيم للخدمات الطباعية، دمشق، 1993(صص38،100،129-168)
- الكتابة التاريخية: التاريخ والعلوم الإجتماعية ، التاريخ والذاكرة- تاريخ العقليات،ترجمة محمد حبيدة، إفريقيا الشرق، المغرب، 2015(صص:83-126)
- لطفي عيسى، بين الذاكرة والتاريخ: في التأصيل وتحولات الهوية، إفريقيا الشرق، المغرب، 2015(صص5،117،217)
- لورون بوتي، الذاكرة، ترجمة عز الدين الخطابي، منشورات كلمة وهيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، أبو ظبي، ط1 ،2012، (صص13-48)
- ميري ورنوك، الذاكرة في الفلسفة والأدب، ، ترجمة فلاح رحيم، دار الكتاب الجديد المتحدة، لبنان،ط1،[1987]، 2007(صص:9-28،117،159،193)
ج-اللغات الأجنبية:
-1Ain,J(éd),Identités. Entre etre et avoir : qui suis-je ?. Toulouse :Eres, 2009
-2Ain,J(éd.),Réminiscences. Entre mémoire et oubli. Toulouse :Eres,2010
-3Bernard,C, Le passé recomposé, Le roman historique français du dix-neuvième siècle, Paris :hachette, 1996
-4Bernié J.-P, « L’approche des pratiques langagières scolaires à travers la notion de « communauté discursive » : un rapport à la didactique comparée ? », Revue française de pédagogie,N°141 ,2002
-5Bruner, J, »Life as narrative », Social Research : An International Quarterly, 71, 2004,pp.691-710.
-6Carosella,E and Saint-Sernin,B et al.(dir),L’identité changeante de l’individu.La constante construction de Soi,Paris :L’Harmattan,2008.
-7 De Certeau ,M, L’écriture de l’histoire, Paris :Gallimard,rééd.1975,coll. « Folio Histoire ».2002 |
-8Chartier R,« Récit et histoire »,in Mesure S. et Savidan P.(dir)LE dictionnaire des sciences humaines,Paris :PUF, 2006,pp.954-958. |
-9Dayna Oscherwitz, « Decolonising the Past :Re-visions of History and Memory and the Evolution of (Post)Colonial Heritage »,dans Hargreaves(sed.),Memory, Empire and Postcolonialism :Legacies of French Colonialism
-10Dictionnaire Culturel en langue française. Tome3.Paris,Dictionnaire Le Robert,c2005
-11Duby G,« L’art, l’écriture et l’histoire.Entretien »,Le Débat,N°92,1996,pp.174-191. |
-12James Fentress and Chris Wickam,Social Memory ,Oxford, U.K : Cambridge,Mass. : Blackwell,1992
-13Linda Hutcheon,A Poetics of Postmodernism :History,Theory,Fiction,Londres-N-Y :
Routledge,1988
-14Mucchielli, A,L’Identité. Paris : Presse Universtaire de France, 1986.
–Neisser,U et Fivush,R(eds),The Remembring Self :Construction and Accurancy in the Self-narrative. Cambridge : Cambridge University Press,2008
-15Nora,Pierre,Les lieux de mémoire.4 Vols.Paris :Gallimard,c1997
-16Ozouf,M, « Récit des romanciers, récit des historiens », Le Débat,N°165,pp13-25,2011
-17Paul, Connerton,How Societies Remember, Cambridge : Cambridge University Press,1989
-18Péltier,M, « Histoires et littérature de jeunesse »JDI, N°1587, 2005
–Propp,Vladimir,Morphologie du conte. Paris :Editions du Seuil,1965
-19Ricoeur,P,Temps et Récit III,Paris :Eds .Seuil,1985
-19Ricoeur,P, Soi-meme comme un autre,Paris,Eds.Seuil,1990.
-19Ricoeur,P, La Mémoire,l’Histoire,l’Oubli, Paris :Eds. Seuil,2000a
-20Ricoeur,P « Fragile identité :Respect de l’autre et identité culturelle »,]Texte prononcé au Congrés de la fédération Internationale de l’Action des chrétiens pour l’Abolition de la Torture, à Prague en Octobre 2000[ ]en ligne[ consulté le 18 aout 2017
http://www.fondsricoeur.fr/uploads/medias/articles_pr/fragile-identite-v4.pdf
-21Riceur,P,Anthologie. Textes choisis et présentés par Michael Foessel et Fabien Lamouche. Paris : Eds.Seuil, 2009
-22Roucoules, A, « Introduction », dans Ain,J.(ed),Identités. Entre Etre et Avoir :qui suis-je ? Toulouse :Eres,(11-15), 2009.
[1] . أمين معلوف، صخرة طانيوس، ترجمة نهلة بيضون، دار الفارابي، ط.1،2001، ص.09( ونكتفي بالإشارة إليها بالترجمة العربية).
[2] . بخصوص الروابط ما بين التاريخ والتخييل، نحيل على واحد من أعداد مجلة”Débat “، العدد165، 2011، وكتاب ليندا هيتشيون:
Linda Hutcheon,A Poetics of Postmodernism :History,Theory,Fiction,Londres-N-Y :Routledge,1988
[3] . جورج لوكاتش، الرواية التاريخية، ترجمة صالح جواد الكاظم، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد- العراق، ط2، 1986
[4] . وأفضل مثال لذلك، موريسكي حسن أوريد؛ فقد انتقى الفاعل التخييلي، عنصرين إثنين، أحدهما أندلسي( مأساة المغاربة إبان محاكم التفتيش)، والآخرإسلامي( أخذ السعديين بمكونات البروتوكول العثماني)، كل ذلك قصد الإشارة إلى إستمرارية مظاهر عدم إنصاف المكون الأمازيغي وانتقاد دولة المخزن ومغالاتها في البروتوكول( البيعة والأعياد). تماما كما سعى حميش إلى إبراز إخلاص المثقف في فترات الأزمات مقارنة بجبن السياسي.
[5] . Dayna Oscherwitz, « Decolonising the Past :Re-visions of History and Memory and the Evolution of (Post)Colonial Heritage »,dans Hargreaves(sed.),Memory, Empire and Postcolonialism :Legacies of French Colonialism,p.191
[6] . Dictionnaire culturel en langue française,sous la direction d’Alain Rey,Tome3,Paris :Dictionnaire Le Robert,c.2005,p.522
ولمزيد من التعريفات والإضاءات على مفهوم الذاكرة أحيل على الكتابين الآتيين:
- ميري ورنوك، الذاكرة في الفلسفة والأدب، ، ترجمة فلاح رحيم،دار الكتاب الجديد المتحدة، لبنان،ط1،[1987]، 2007(صص:9-28،117،159،193)
- لطفي عيسى، بين الذاكرة والتاريخ: في التأصيل وتحولات الهوية، إفريقيا الشرق، المغرب، 2015(صص5،117،217)
- الكتابة التاريخية: التاريخ والعلوم الإجتماعية ، التاريخ والذاكرة- تاريخ العقليات، ترجمة محمد حبيدة، إفريقيا الشرق، المغرب،2015(صص:83-126)
[7] . وقد صاغ بول كونيرتون في كيف تتذكر المجتمعات(How Societes Remember)، مجموعة ملاحظات على دور المؤرخ في إعادة بناء الماضي، وذكر مثال الحروب الصليبية بغرض التدليل على كيف تنظر مجموعتان بشريتان إلى الذكرى نفسها بطريقتين مختلفتين؛ فالأمر، بالنسبة للغزاة الغربيين، كان صراعا بين المسيحية والإسلام، أما بالنسبة للمؤرخين العرب، فإن الحرب في الأرض المقدسة ليس سوى اجتياح للكفار.
–Paul Connerton, How Societes Remember, Cambridge : Cambridge University Press,1989,p.15
لهذا يؤاخذ كونيرتون هالبفاكس(1989 :38) على أنه لم يقدم ما يكفي من القرائن الدالة على انتقال الذاكرة الجماعية من جيل إلى آخر، وركز اهتمامه على قدرة الفرد على إعادة إنتاج عينة من التصرفات غير الواعية لأن الذاكرة تندرج في الجسم(نفسه، ص.72)
وتجدر الإشارة إلى وجود نوع آخر من الذاكرة سمته كيت ميتشل بـ”الذاكرة الثقافية” في كتابها الرائد والمترجم إلى اللغة العربية ترجمة جيدة(ترجمة أماني أبو رحمة):
كيت ميتشل، التاريخ والذاكرة الثقافية: في الرواية الفكتورية الجديدة، ترجمة أماني أبو رحمة، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، دمشق، 2015 (صص:31،201 ،243). وقد جمع الكتاب بيبليوغرافيا مفيدة وشاملة.
[8] . James Fentress and Chris Wickham,Social Memory,Oxford, U.K :Cambridge,Mass. :Blackwell,1992
« A memory can be social only if it is capable of being transmitted, and to be transmitted, a memory must first be articulate.Social memory, then , is articulate memory »,p. 47
[9] . « A fairy tale plot is a sequence of linked themes ;the memory is mutual reinforcing.In this sens, a plot functions as a complex memory image »(p.72)
[10] . Neisser,U and Fivush,R(eds),The Remembering Self :Construction and Accuracy in the Self- narrative.Cambridge :Cambridge University Press,2008 :9.
[11] . Cornelius Castoriadis :
- L’Institution imaginaire de la société, Seuil , 1975
- L’imaginaire comme tel, Hermann, – 2008
[12] . الترجمة العربية، ص.10.
[13] . الترجمة العربية ، ص.254
[14] . – ثمة جملة أزعجت أميرنا، وقد وعدته بتعديلها.
- يجب التباحث مع السيد وود بهذا الشأن.
لم يصغ الآخر إلى هذا الاعتراض وتوجه إلى المكتب، وجلس على وسادة، وبسط الوثيقة.
ألا ترى أن عبارة”يجب أن يرحل إلى المنفى” صيغة قاسية جافة”.
[15] . الترجمة العربية، ص254.
[16] . الترجمة العربية، ص.233
[17] . ملخص أطروحة إدوارد سعيد
[18] . الذاكرة الجماعية هي الذاكرة التي تتقاسمها جماعة أو شعب أو أمة أو بلد، إلخ. فهي تشكل هوية الجماعة وتبلورها.
[19] . التداخل الثقافي أو تلاقح الثقافات، هو نوع من انفتاح الثقافات والأفراد على بعضهم البعض. وستدعي التداخل الثقافي وحدة جوهرية بين الرجال والنساء باعتبارهم كائنات بشرية قبل أن يشرعوا في اكتشاف ما يميزهم من فروق واختلافات.
د. عثماني الميلود ، أستاذ التعليم العالي، المغرب.
الملخص:
يكمن الهدف الأساس لهذه المقالة، في أن نبين، من خلال دراسة الاستراتيجيات السردية، كيف يتم تجديد الحوار ما بين الفردي والاجتماعي؛ وكيف نصل، من خلال علاقة توتر مع المجتمع، بسبب ثغرة في الهوية الفردية، إلى إرساء علاقة منسجمة مع الجمعي ولربما التمكن من فداء الجماعة؛ وأخيراً، كيف تتحدد الرؤيا الاجتماعية لدى أمين معلوف في روايته”صخرة طانيوس”.
- الكلمات المفاتيح:التخييل التاريخي، المغامرة الفردية، الذاكرة الجماعية، الذاكرة الاجتماعية، الذاكرة الثقافية، الهوية، المتخيل الاجتماعي.
- Abstract :
The main objective of this article is to show, through the study of narrative strategies, how to renew the dialogue between the individual and the social; and how, through a relationship of tension with society, we come to a harmonious relationship with the community and perhaps to be redeemed Finally, how is Amine Maalouf’s social vision defined in his novel Tanios Rock.
- Keys Words :Historical fiction, Individual adventure, Collective Memory,social memory,cultural memory,identity,social imaginary
.التمهيد:
إذا كان منْ أمر يمكن أن نستهل به مقالتنا، فهو قولنا: إن أمين معلوف، من وجهة نظر كتاباته، هو من كتاب الذاكرة الكبار أمثال والتر بنيامين وجبران خليل جبران وعبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا ومي زيادة ورضوى عاشور ويوسف إدريس ومحمد برادة وعبد الكبير الخطيبي وحسن أوريد وعبد الكريم الجويطي وشعيب حليفي وربيعة ريحان وغيرهم كثير. ومع ذلك، فإن ذاكرة معلوف هي ذاكرة تاريخية. ولقد أكد الكاتب نفسه هذا الأمر، إذ يقول:
“لم يكنّ همي أبدا[…]أن أعثر، داخل ذاتي، على انتماء معين وأصلي، حيث يمكنني داخله أن أتعرف نفسي، بل الموقف المضاد هو الذي أتبناه: أفتش في ذاكرتي كي أُخرج أكبر عدد من مكونات هويتي، أجمعها، وأرتبها، ولا أتنكر لأي واحد منها.” (معلوف،24:2006).
لهذه الأسباب، تقع نصوص معلوف، بين تقاطع الرواية العائلية والتخييل التاريخي. فنصوصه تعالج إشكالية عائلية كبرى، وفي الوقت نفسه، نجده يعدو خلف مغامرة سوسيو- تاريخية. ولو قلنا إن الكاتب يمثل مغامرة شخصية، غير أنه لم يكن قط، غير مبال بالسياق الاجتماعي. لهذا نلاحظ أن كتاباته تفاوض، من جديد، الروابط الممكنة بين ما هو فردي وما هو جماعي، بغرض تشييد متخيل اجتماعي وتاريخي جديد . لهذا نجد العلاقة بين الفردي والجماعي قائمة على الصراع والتوتر، لأن الفرد يشعر بأن هويته لقيطة مقارنة بهوية جماعته. وحصيلة هذا المجهود، قدرة الفرد على إخراج تاريخ الجماعة من أتون النسيان، ومن ثمة القدرة على تركيب الذاكرة مجددا.
- مدخل إبستمولوجي:
قبل أن نشرع في التواصل مع “صخرة طانيوس”، يجمل بنا أن نضع أمام أعين القراء سلالة من المفاهيم والمصطلحات التي وإن صارت مألوفة، نظرا لارتباطها بالمد الإنساني والحقوقي وتحولها أحيانا إلى مفاهيم تكاد تكون عامة ومعومة، بسبب استخدامها المفرط في أكثر من قطاع أو مجال. وعلاوة على ذلك، فإن انقطاع الصلة بين الجذور الإبستمولوجية لهذه السلسلة من المفاهيم والمصطلحات، نجم عنه فراغ في المحتوى والإشكالية وانقطاع شبه تام بين المفهوم والبيئات والأنساق والسياقات الواجب استحضارها حتى لا يفقد هذا الكائن الدلالي والتداولي والتأويلي راهنيته وإشكاليته وقيمة نتائجه التطبيقية.
1.1.التخييل التاريخي
إن العلاقة بين التاريخ والتخييل هي علاقة متجددة[2]، ومع تجددها تتنامى الأسئلة على الدوام، نقصد الخط الفاصل، أو الحد الذي يفصل تخصصا غايته المعرفة بالوقائع التاريخية، وأعمال تخييلية تحبك تلك المعرفة، ولكن وفق منطق خياليّ. صور التقارب أضحت منذ أكثر من نصف قرن، من الزمن، أسئلة للذاكرة وجزءاً من أرشيف تاريخ المعرفة والفكر. ويبرز هذا الاختلاف، في ضوء وقائع هي كتابات المؤرخين، والكتابات التخييلية، كما يؤكد ذلك أوزوف(13:2011) Ozouf,M)). وقد نشأ هذا الإشكال وتطور، في ضوء قراءة الروايات التي شهدتها الآداب الكونية، خاصة على الصعيد الأوروبي، مكسرة جوهر الأطروحة الوضعانية، أذكر جونتان ليطل(2006) J.Little))،وجان كارسكي ويانيك هينل(J.Karski etYanick Heanel)(2010) أو HHhH للورن بيني(Laurent Binet)(2011)،أو روايات عبد الله العروي وبنسالم حميش وأحمد التوفيق وحسن أوريد وسعيد بنسعيد العلوي وعز الدين التازي وزكية داود ومحمد الأشعري وعبد الكريم الجويطي والبشير الدامون.
وقد استندت هذه التخييلات( الأدبية) التاريخية إلى تغيير في صيغ الخطاب والانتقال من ضمير الخطاب الغائب أو المخاطب إلى ضمير المتكلم، مع مزج التخييل بالوثائق وتوظيف الخطاب التخييلي-المتعالي الأسطوغرافي، مع خرق ما يمكن أو ما يسمح به التمثيل التاريخي الحرفي، وجعل التخييل يغير العوائد والقواعد والمسلمات. كما صرنا نلاحظ وجود كتابات المؤرخين التي شرعت في تغيير خطوط التماسّ، حيث نجد الفرنسي ألان كوربن(Alain Corbin)، في سنة 2011، يعيد صياغة المحاضرات الضائعة لمدرس من نهاية القرن 19. ومثله ما نجده لدى كتاب التخييل التاريخي المغاربيين( خاصة المغاربة والجزائريين)،الذين اختاروا مواقع تميزهم عن مواقع المؤرخين؛ فاختار حميش منظورين مختلفين(ابن خلدون وابن سبعين) لبعث رسائل إلى عصره، من خلال التشديد على أهمية المثقف، خاصة في فترات الشدة والأزمة. وهو ما صنعه أوريد في مورسكيه، قاصدا تصحيح الماضي، وتوجيه النقد للسلطة، والتنصيص على استمرارية غياب الإنصاف والعدل. في حين زاوج بنسعيد بين إطلالتين ؛الأولى على الماضي(سيرة المهدي بن تومرت) والثانية على الحاضر(ثورة 25 يناير 2011بمصر)، والتأكيد على طابع الانتظار الذي يميز حركية التاريخ العربي-الإسلامي. في حين اختار محمد عز الدين التازي منظورا نوستالجيا لواقعة تاريخية قريبة( تهجير اليهود المغاربة باتجاه أرض فلسطين)، والتنقيب في صور هؤلاء المغاربة وذكرياتهم وآلام الفراق. وهو الصنيع نفسه الذي قام به واسيني لعرج في معالجة مأساة الأمير عبد القادر الجزائري، إذ لم يعرض للواقعة من زاويتها التاريخية الصرفة( وهو أمر يتنافى وخصوصية التخييل)، وسرد صورة المأساة على لسان شخص تابع، لم تفد المعطيات الوقائعية أنه كان له دور من الأدوار في ترحيل الأمير وسجنه. وقد وازى هذا الإبدال، تطور في مجرى التاريخ الوقائعي، فأصبح يتخيل، يحكي ما حصل فعلا وما لم يحصل.
يتميز التخييل التاريخي بهذه الثنائية اللفظية ما بين” تخييل”و”تاريخي”.هناك تعريف أولي وبدئي للتخييل التاريخي، باعتباره تمثيلا( تخييليا) للماضي، كما يقول ك،بيرنارBernard,C) 1996). وقد ربط لوكاتش،ج(Luckas,G) نشأة التخييل التاريخي(الرواية التاريخية، بتعبيره) مع والتر سكوت[3]( Scott,W )، مع تأكيده على “خصائص الشخصيات المشتقة من الخصائص التاريخية لعصرها”(لوكاتش،17:2000). وقد صارت هذه الخاصية، ما بعد الثورة البلشفية، جزءا من “تجربة معيشة للجماهير”(ص.21)، وفهم للوجود باعتباره” أمرا مشروطا تاريخيا”(نفسه). وبتعبير آخر، فإن الحضور التاريخي، في الحُبكة، هو ما يحدد الجنس والوظيفة السردية، ويوسع الوظائف الأخرى المعرفية والأنثروبولوجية.
وتبعا لما سلف، نستطيع أن نعرف التخييل التاريخي على أنه تقاطع( تهجين) عنصر ما ، من الماضي، بصيغة من الصيغ، وبلورة رهان معين، قد يكون جزءاً من فهم الماضي، يصلح أن يكون بمثابة إضاءة للحاضر[4]. والتخييل التاريخي، يميل إلى اللعب بالتاريخ حينما يفشل هذا الأخير في عرض حقيقة الماضي. وقد يكون ذلك بهدف التسلية والترفيه، أو معرفة الماضي وإضاءته. وقد يكون الهدف الطعن في شرعية الحاضر، بالطعن في شرعية الماضي(نموذج التخييل التاريخي ما بعد كولونيالي). ولهذا يمكن أن نعرّف التخييل التاريخي، في مقابل الحكاية التاريخية؛ فالأول يحبك شخصيات ووضعيات قد تكون، في مجملها، تخييلية في حين يُطلب من الثاني أن يكون قريبا، ما أمكن، من أحداث الماضي، بحيث لا يسمح بأي تفصيل تخييليّ، فليس المؤرخ حرا في ذلك، إذ هو ملزم بتدوين ما هو موجود في الوثائق، بشكل أمين، كما يؤكد ذلك جورج دوبي(185:1996)(Duby,G). كما أن الحكاية في التاريخ، يضيف شارتيي،ر(Chartier,R) )(2006)، تمتلك خاصية جوهرية كونها”نصا” مرخصا له، همُّهُ مساءلة الحقيقة. وبهذا يصبح التاريخ”نصا فوق نص”، أو ما اصطلح عليه دو سارتو،م(De Certeau,M) ([1978]، 111:2002)، بـ”البنية المضاعفة”.
وإذا سعينا، الآن، إلى تعريف أكثر دقة للتخييل التاريخي المعاصر، نقول إنه سرد قصة تجري أحداثها، في عالم ذي مرجعية ماضوية، فإذا كان قراؤه شبابا، فلا شك أن وظيفته تعليمية( ديداكتيكية). وإذا كان موجَّها للكبار، فإن وظيفته تصبح جدالية( إن لم نقل إيديولوجية).
2.1 .الذاكرة الجماعية
تدل الذاكرة الجماعية على القيم والمشاعر والأحداث التي توحد الجماعات البشرية خلال الزمن. وقد ظهر مفهوم الذاكرة غداة الحرب العالمية الثانية، لكنه لم يفرض وجوده إلا خلال الثمانينات في تخصصات عدة؛ السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والعلوم السياسية، وفي كل ما له صلة بالموروث الوطني والعائلي والوطني[5]: فما المقصود بالذاكرة الجماعية؟
نجد في المعجم الثقافي للغة الفرنسية( Dictonnaire culturel en langue française)، وفق مدخل “الذاكرة الجماعية”، التعريف الآتي:
“الذاكرة ظاهرة اجتماعية لأنه في المجتمع حيث يكتسب الإنسان ذكرياته. والذكريات هي حصيلة التجربة والتنشئة الاجتماعية، وقد تقاسمها الكثيرون، فأصبح لها معنى داخل الفئات والجماعات. فهم يكملون بعضهم البعض، يتساندون، يتبادلون، ويتشابهون. فلا يمكن للواحد أن يتذكر بدل الآخر ،يقيناً، غير أن الآخرين يتذكرون إلى جانبنا. ونظرا لكون الفرد ينشىء نفسه في علاقته بالآخرين، فإنَّ ذاكرته ليست برجا عاجيا، ولكنها مكون يندمج في شبكاتها وأنسجتها. في مثل هذه الحالة الدقيقة حيث يصبح بمقدورنا الحديث عن” الذاكرة الجماعية”[6].
في مؤلف موريس هالبفاكس(1950)(M.Halbwachs ) برز للوجود مفهوم “الذاكرة الجماعية”. يقر هالبفاكس أن ثمة نوعين من الذاكرة؛ ” ذاكرات فردية” و”ذاكرات جماعية” (35:1950 ). وتكمن أصالة فكرة هالبفاكس في الأهمية التي يوليها لمساهمة الفرد في حياة الجماعة. إنَّ الفرد، حسب هالبفاكس، يُشيِّد ذاكرته بالموازاة مع احتكاكه بالمجموعات، ذلك أنه يثبت تذكراته إبان تماسه مع الجماعة:
“لا يكفي أن نعيد تشكيل صورة حدث معين مضى، قطعة قطعة، كي نحصل على ذكرى، بل يلزم أن يشتغل هذا البناء الجديد اعتمادا على معطيات أو تصورات مشتركة، توجد في عقلنا كما في عقول الآخرين، وتمر، دون توقف، من هذه إلى ذاك، بشكل متبادل. ومثل هذا الأمر لن يكون ممكنا إلا كانوا طرفا للمجتمع نفسه واستمروا في ذلك. وهكذا فقط، يمكن أن نفهم كيف تكون الذكرى معترفا بها ومشيدة من جديد ، في الآن نفسه. “(13:1950).
وعليه، فإن عملية تثبيت الذكرى، في الذاكرة، يستدعي تفاعلا مع قيم الجماعة. يتساءل هالبفاكس عن دور الماضي في إدامة ذاكرة الجماعة. فهو يُعرِّف التاريخ باعتباره”لوحة تغيرات”، ويعرف الذاكرة على أنها” لوحة تشابهات”(77:1950-78).
” كيف لأمَّة، مهما كانت، أن تكون موجودة، وتبقى على قيد الحياة، واعية بنفسها إذا لم تُكوِّنْ نظرةً على مجموعة أحداث حالية أو ماضية، وإذا لم تكنْ قادرة على إعادة الزمن إلى الوراء، وأن تمرَّ مجددا، ودون توقف، على الآثار التي خلفتها هي بنفسها؟ ” (129:1950).
ومن أجل تشكيل ذاكرة الجماعة وإدامتها، يضفي هالبفاكس على “آثار” الماضي دورا خاصا. إن تأثير الأجداد أمر حاسم، ذلك لأنهم يمثلون”طرق العيش والتفكير في ما مضى” (51:1950). ويؤكد هالبفاكس، فضلاً عن ذلك، على أهمية المكان في الذاكرة الجماعية للمجموعة:
“المكان يتأثر ببصمة الجماعة، والجماعة تتأثر ببصمة المكان”
وسعى هالبفاكس، في نهاية المطاف، إلى مساءلة دور الأزمة في تشكل الذاكرة الجماعية للمجموعة، وسجل أن:
“حدثا جسيما ، بالفعل، ينجم عنه تغير في روابط الجماعة بالمكان، سواء بتغير الجماعة في توسعها، بسبب الموت مثلاً، أو تغيير المكان”(149:1950).
وقد لاحظَ بول ريكور(Paul,Ricoeur) في كتابه” الذاكرة ،التاريخ والنسيان”(2000)(La mémoire, l’histoire et l’oubli) ، أنه زيادة على الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية، يجب الإقرار بالدور التوسطي الذي تضطلع به ذاكرة الأقارب:
“ألا يوجد بين قطبي الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية حقل مرجعي وسط حيث تتم التغييرات، بشكل فعلي، ما بين الذاكرة الحية للأفراد والذاكرة العامة للجماعات التي ننتمي إليها؟ هذا الصعيد هو صعيد العلاقة بالأقرباء الذين يحق لنا أن نمنحهم ذاكرة من طراز مختلف…إن الأقرباء هم القريبون الآخرون، والآخرون المفضلون”(2000: 161-162).
وهكذا يستخلص بول ريكور” ثلاث مهام تضطلع بها الذاكرة بإزاء النفس والأقرباء والآخرين”(2000 : 162). وعُني بيير نورا (Pierre ,Nora)بأماكن الذاكرة(1984، 1986)، في أربعة مجلدات، وسجل أن العالم المعاصر قد فقَدَ الذاكرة الحية وطقوس الماضي (ذاكرة الأمكنة ممثلة في الكنيسة والمدرسة والعائلة). ويرجع الفضل في بروز “أمكنة الذاكرة” أو”بقايا” الماضي إلى هذا الطقس المتجدد للعالم( نفسه، م.1،صصxvii-xviii)[7] غير أن السؤال الذي لا يفتأ يلح هو كيف يمكن أن نطبق على الأدب، أفكار هالبفاكس وريكور وبيير نورا؟
يؤكد كل من الأنثروبولوجي فنتريس والمؤرخ ويكام(Fentress,J and Wickham,Ch) ، في مؤلفهما “الذاكرة الاجتماعية”(Social Memory)، أن الذاكرة تبنى بموازاة قواعد تأليف الحكاية. لهذا نجدهما يميزان الذاكرة الاجتماعية من ذاكرة الفرد وذاكرة المجموعة، مما يجعلهما في تعارض تام مع فكرة هالبفاكس القائلة بأن ذاكرة الفرد لا تنمو إلا في علاقتها بالمجموعات. الذاكرة الاجتماعية تتحالف مع الفرد والمجموعة، وتصبح الذاكرة” اجتماعية” في الوقت الذي نمنحها الحق في الكلام:
“لا تصبح الذاكرة اجتماعية إلا إذا كان ممكنا نقلها. وكي يتم نقلها يجب مفصلتها، فالذاكرة الاجتماعية ذاكرة ممفصلة”[8].
وقد عمل كل من فنتريس وويكام على تفسير نظريتهما بالتركيز على نمطين محكيين يروجان للذاكرة الجماعية. فقد أوضحا أن الحكاية الملحمية(شأن أنشودة رولان، من القرن 11) والحكايات العجيبة لغريم(Grimm) تثيران قضايا مهمة في ما يخص دراسة الذاكرة الاجتماعية.
ففي حالة الحكاية الملحمية، تحتفظ الذاكرة الاجتماعية بمواد حكائية على شاكلة صور مترابطة” مثل جواهر مصفوفة على حبل”(1992: 55). تتتابع هذه الصور كرونولوجياً دون أن تكشف عن روابط عِليَّةً أو منطقية. فمحكي رولان، مثلاً، يتكون من عدد من الأحداث تنقلها صور وجمل مخصوصة، شأن خيانة غانلون، موت رولان أو انتقام شارلمان. فالصور التي توظفها الحكاية تنقل، في الآن نفسه، دلالات ومعلومات تاريخية، وتوحي أيضا إلى تقليد طويل عن أزمنة كثيرة. فوفق هذا المعنى حيث تضمن أنشودة رولان عملية انتقال الذاكرة الجماعية. وعلى النقيض من ذلك، فإن الحكاية، في خرافات الجنيات( كما أوضح ذلك بروب في كتابه”مورفولوجيا الخرافة”)، تنتظم حول روابط منطقية( السبب والنتيجة). وقد لاحظ كل من فنتريس وويكام أن دور الشخصيات الرئيسة، في الحكاية، ينحصر في بعض الوظائف، وأن الحكاية بنيت حول الفعل ونتائجه. إن الخرافات تمثل إذاً، بالنسبة لفنتريس وويكام، ذاكرة مفصولة عن سياقها، بالإضافة إلى أن الحبكة في الخرافات هي عبارة عن:
“سلسلة من التيمات المترابطة؛ فذاكرة حُبكة مشابهة تستدعي الذاكرة وليس التيمات فقط، بل والروابط القائمة بينها كذلك. وفق هذا المعنى، فإن الحبكة تعمل، في الذاكرة ، على هيئة صورة مركبة “(1992 :72)[9].
أما بخصوص مشكلة القوة الاستدلالية التاريخية للحكاية، يرجع فنتريس وويكام إلى أنشودة رولان(chanson de Roland)، وفيها يوصَفُ رولان وهو يخوض غمار صراع مع صارازان(Sarrazane)، وهي حادثة لا تطابق أي واقعة تاريخية معروفة. أما بخصوص الأحداث التي حصلت فعلاً، فتَضْعفُ الذاكرة، كما يجزم المؤلفان. غير أنه، في الوقت، الذي نعتبر فيه الحكايةُ حكايةً، نكتشف أن الذاكرة” صلبة” و”متماسكة”. قدْ توجد، عادةً، روايات أخرى للحكاية، في العالم، غير أن الحكاية تحافظ على” سلسلة من الأفكار تستمر موجودةً في كل تأويل”(1992 :59).
3.1.الهوية
يوظف مفهوم الهوية، في مجال العلوم الإنسانية، باعتباره مفهوما شموليا وفق دلالات مجازية شديدة التنوع. إذاً ثمة طرق عدة لتعريف الهوية وتحليلها كما يقول ميكشيللي(1986 :6)(Mucchelli )، غير أننا نجد هناك عينة من المظاهر ذات الطبيعة المركزية خلال التحليل: إن الهوية ذات طبيعة سياقية وعلائقية، دوماً، ولا يجب فهمها أبداً منعزلة. كما يؤكد كل من كاروسيلا وسوروندو(2008 :13)( Carosella,E and Saint-Sernin,B ). في السياق الحالي للعلوم الإنسانية، فإن تعريفا عاما لمفهوم الهوية يقوم على تصورها باعتبارها “معنى مدركاً ومعطى من لدن كل فاعل أو فرد عن نفسه أو بقية الفاعلين.”(ميكشيللي،1986 :39)، والمقصود بالفاعل هنا، الفاعل الإجتماعي الذي من المحتمل أن يكون فردا أو جماعة وفق صفات كثيرة ومختلفة؛ الوعي بالذات، ووجدان معبر عنه في مواجهة الوضعيات المختلفة(ميكشيللي،1986: 39). و يقصد بالمعنى المدرك ، حسب السيكولوجي والسوسيولوجي أليكس ميكشللي،” مجموعة من الدلالات”(نفسه) يدركها فاعل من خلال السياق، يعطيها لنفسه أو لفاعل آخر. فتصبح الهوية، وفق ميكشيللي،” ظاهرة مكونة من معنى ينبثق في وضعية معينة”(1986: 39-40). وبناء عليه، نلاحظ وجود عملين مركزيين إثنين منبثقين عن فعل التحديد، ويرتبطان بأهمية الآخر: تحديد شيء ما أو شخص ما، بمعنى” الاعتراف لشيء ما ببعض العلامات ، حتى نتمكن من ترتيبه في مقولة معرفية”(1986: 56)، وتحديده بإزاء شيء ما أو شخص ما، أي تحديد الذات بإزاء شخص ما أو شيء ما. وسيكون من الأفيد، هنا، أن نسجل بأن خصائص الذات هذه، لا وجود لها سوى على الصعيد الفردي، غير أنها تسهم كذلك، في بناء الهوية الجماعية(1986: 6). إن الهوية تزاوج الفرادة بالإنتماء الفئوي والجماعي(روكول، 2009: 12) (Roucoules,A) ، مما يسمح ، وفق تحليل ميكشيللي، بنشوء عملية ذهاب وإياب بين هذه المستويات(1986: 8). فتعريف الهوية وتحليلها، لدى ميكشيللي، يمكن أن يشتملا، في الآن نفسه، على روابط الذات بالآخر، أفضل من التعريف والتحليل اللذين يركزان على الفرد والفئة والجماعة.
الهوية ، حسب هذا التحليل، ظاهرة من المعاني، ومجموعة من الدلالات يتم إنتاجها عبر فعل التحديد الهوياتي. وجوابا عن سؤال لماذا يجب أن تصل الفاعلَ ظاهرةُ المعنى هذه ، يلاحظ ميكشيللي أن سبب ذلك “حتى يجد الآخر[…] معنى؛ ولا يبقى هذا الآخر دون دلالة”(1986: 11).
ترتبط الهوية بالذاكرة ارتباطا إشكاليا، ذلك أن “تعبئة الذاكرة تكون في خدمة البحث، والاعتراض والمطالبة بالهوية”، كما يضيف ميكشيللي(1986: 37). توجد الذاكرة، باعتبارها مكونا ممكنا للهوية، في نسق سردي سماه بول ريكور بالهوية السردية(ريكور،1990: 140)، ودعاه العرفانيون الأمريكيون والإنجليز بـ”محكيات الحياة”(life narratives)[10]. وتتأسس العلاقة بين الذاكرة والهوية هنا، على الكيفية التي تتيح بها الذاكرة للذات تملُّكَ المعنى، والاستمرار في سرد هذه الذات. وفق هذا الإجراء يكون المحكي والقصة المروية حاسمين بالنسبة للهوية:
“يشيد المحكي هوية الشخصية، أي ما يمكن أن ندعوه بالهوية السردية، في الوقت الذي يشيد القصة المروية. فهوية القصة هي ما يصنع هوية الشخصية”(ريكور،1990: 175).
4.1.المتخيل الاجتماعي
سواء أتصورنا الجماعة بنية اجتماعية أو وحدة سيكولوجية أو فضاء انتقاليا، فإنها موضوع يثير الاهتمام والنقاش لأنها مفهوم قادر على تمكيننا من إدراك الصوغ الاجتماعي وهو يفعل فعله.
كما أن العناية التي نوليها للمتخيل باعتباره ملكة أصلية قادرة على طرح أمر وعلاقة، لم يسبق أن وجدا، على نموذجنا التمثيلي . إن هذا المتخيل الاجتماعي، حسب كاسطورياديس(Castoriadis.C )، هو ركيزة ما هو سوسيو-تاريخي ونفسي.
وعليه، إذا كان مؤلف ك.كاسطورياديس[11] يمثل شكلا تقدميا من أجل فهم الظواهر الاجتماعية الكبرى، خاصة على مستوى إبراز الدلالات الخيالية المركزية البانية والمؤسساتية للمجتمعات من خلال التاريخ، فمن الواجب أن نوضح معنى الرابط الاجتماعي الأصغر(micro). وفي هذا الاتجاه حيث سينصب اهتمامنا على استخلاص الدلالات الخيالية الفردية والجماعية لشخصيات “صخرة طانيوس”، مع السعي إلى اقتراح نموذج لفهم إشكالية المجموعات المؤسساتية من منظور مصاحبتها. مدلول المصاحبة غني بتعريفه ووظائفه ومصادره المعلوماتية، غير أننا لن نعنى بجوانب المصاحبة العلاجية أو التكوينية، ولكن مصاحبة شخصيات في وضعيات فعل ، داخل عوالم تخييلية، لكن بموازاة سياقات سوسيو-ثقافية محددة في التخييل. إن المجموعات التي سنصاحبها في رواية أمين معلوف ذات طبيعية وخبرة مؤسساتية، تعيش وفق نمط عيش متساو، تعرف بعضها البعض لكونها تشترك في “أنا” جماعية، وهي وحدة ذات معنى بالنسبة إليها. ورغم اشتراك هذه المجموعات في قواسم مشتركة، فإن الروابط بينها تتأثر بالسياقات والديناميات الذاتية-المشتركة. ويهمنا، في هذا التحليل، أن نوجه عنايتنا إلى هذه الذاتية المشتركة التي تفعل فعلها على الصعيد الاجتماعي، حول مشروع مشترك يعد الناظم المولد لخيالها الإجتماعي.
- منظورات المغامرة والبحث
يشيد أمين معلوف إطارا سردياً، لرواياته، وفق منظورات البحث والاستكشاف، من خلال مظاهر مختلفة؛ الأصل المتنازع حوله بين الشخصيات الرئيسية، والتحديات الشخصية، ووضعيات ما بين الجدال والتحدي أو روح التعدي.
فيما يتعلق بالمظهر الأول، يمكن ان نسجل أن طانيوس له أصول دموية غير متيقن منها. فهو شاب يجهل هوية أبيه. ومنذ مراهقته كان يعلم أنه موضوع سخرية القرويين الذين أثقلوه بكنية تؤكد كونه لقيطا.
وهكذا تعمل الحيل السردية، والصدف الحكائية، على أن تلتقي الشخصية، بطريقة واعية أو غير واعية، في وضعية بحث عن الأب. ويتجلى ذلك في اقترابها من شخصيات وصية، مثل حالة الموقر ستولتون الذي علَّم طانيوس ، وحماه كما يحمي الأب ابنه، أو حالة روكوز، مضيف سيد كفريبدا الذي ارتبط بطانيوس ارتباط صديق لصديق، وجعل منه وريثا كي يعوض عن حرمانه من الابن. وأخيرا، هناك نادر، سائس البغال، الذي محض طانيوس عاطفة خاصة، ربما بسبب وضعهما غير النمطي، وبسبب الخصال التي تميز المراهق: عطشه الكبير إلى المعرفة وخيبة أمله في ثبات وجمود ورجعية مدبري القرية. لهذا عمل نادر على استقطاب طانيوس، ونمى قدراته، بعيدا عن القرية، حتى يتمكن المراهق من بناء تصور ووجود مختلفين.
وهكذا تقوم رواية أمين معلوف، على بنية البحث القائم على تحديات الشخصيات: الانتصار على الخوف من الصخرة، والحفر في الأساطير المؤسسة للمدن الكبيرة البيضاء وتفكيكها خطاباتها. لهذا نجد السارد يشير، منذ بداية مغامرته، إلى أن المغامرة ولدت لديه، منذ أن منعه جده من الصعود على إحدى الصخور التي تحيط بالقرية، والجلوس فوقها. وكانت هذه الصخرة هي الوحيدة التي تحمل إسم رجل “صخرة طانيوس”…تلوح كمقعد جليل، متقعر، كأنه اهترأ في موقع المؤخرة، بمسنده الشاهق والمستقيم المنسدل على الجانبين كالمرفق”. واضح إذاً، أن المكان كان جذابا، غير أنه ارتبط، في أذهان الناس، باعتقاد ينذر بالشر كل من يقترب منه. وهكذا يشيد السارد محكيه باعتباره امتحانا شخصياً يستلزم الحفر في سر هذه الصخرة والانتصار على التطير الذي ولده اختفاء طانيوس لدى السارد وبقية الصبية الذي كانوا في مثل سنه:
“وكان الصبية الآخرون يظلون مثلي على مسافة منها، ويشعرون نحوها بالرهبة المتطيرة نفسها، ولعلهم مثلي قد قطعوا وعداً، ويدهم على زغب شاربهم، وحصلوا على التبرير عينه: “كان يلقب بطانيوس الكشك. وقد جلس على هذه الصخرة، ثم توارى عن الأنظار”[12].
من الواضح أن ما يمكن تسجيله، أن الحكاية موضوع تحليلنا، في صخرة طانيوس، قد بنيت على أساس منظور البحث القائم على تحدٍّ شخصي: الاِنتصار على فكرة التَّطير والبحث في ماضي القرية.
تبرز دلالة البحث والمغامرة من خلال الموقف الوسط للبطل(طانيوس): كيف يجب أن نصوغ موقفنا؟ هذا هو السؤال الذي يبدو أن طانيوس سعى إلى طرحه؛ فقد طرح هذا الأخير السؤالَ حينما اكتشف فجأة، أن جرجيس الذي كان يعتبره أباه الشرعي، ليس سوى أب مزعوم. وخلال هذه الفترة كان يجب على المراهق أن يفكر في الموقف الذي سيتخذ بإزاء الشيخ الذي قد يكون أباه الحقيقي، وجرجيس الذي تحمل تبعات أبوته.
إن سؤال النسب ومعضلة الطفل اللقيط تلحان بقوة على ذاكرة طانيوس. والوعي بهما يبدو كما لو أنه قطيعة مع الأصول، وهذا ما يفسر انجذابه إلى شخصيات أخرى ذات ثقافة مختلفة، وخاصة الثقافة الإنجليزية. وهو أمر يفتح نافذة على إشكالية قدوم البعثات الفرنسية والإنجليزية إلى الشرق. وهكذا نجده ينمو بين لغتين وبلدين وثقافتين. والأمر، عندنا، يتعلق بتطور الشخصية بين ” الإثنين بشكل ممكن”، حيث تكون مطالبة باجتياز اختبار تواجه فيه الأصل المفقود أو المرمم، مجزءا أو مجمعا. فهي تواجهه قصد استعادته والتخلص منه في الآن نفسه. والأصل هو معطى دينامي يواجهه طانيوس كلما تنقل بين الأمكنة. ونحن نرى ذلك ، بشكل جلي، في مسارات طانيوس الذي أجبر في الأخير أن يعود إلى طيه، بالإضافة إلى أن هذا البحث عن موقع، يندرج في سياق شكل مزدوج ، هو جزء لا يتجزأ من بنية الرواية :
- الثنائية الفضائية: المشرق والغرب؛
- ثنائية العصر: الماضي والحاضر؛
- الثنائية الثقافية: التقليد والحداثة؛
- ثنائية السلطة: الخضوع والاستقلال؛
- ثنائية القيم : العبودية والحرية.
وهكذا يخضع المعلوف بطله لسلسلة من الاختبارات واضعا، في طريقه، مجموعة عوائق قد تبدو، للوهلة الأولى، متمنعة ومستحيلة. بهذه الكيفية ينال طانيوس حريته في مجابهة ثقافته الأصلية ذات المحتوى التقليداني. فقد طلب حريته، في كل مكان وحال. فحينما قرر الشيخ، في إشارة لحصول تفاهم بينه وبين البطريرق الماروني، أن يخرج صبيان كفريبدا من المدرسة الإنجليزية للموقر ستولتون، خاض طانيوس إضرابا عن الطعام. وأخيرا أفلح في إعادة إدماج هذه المدرسة البروتستانتية ضدا على إرادة طائفته المارونية. كما عبر عن موقف شجاع وتحرري إبان السعي إلى إيجاد حل مع أمير الجبل من جهة، والقوى العظمى والإمبراطور العثماني من جهة ثانية. وبتحول طانيوس جاسوسا لهذه القوى العظمى، تم اختياره، رغم كونه مسيحيا، كي يضطلع بدور الناطق الرسمي الذي يوجب عليه إخبار أمير الجبل بالمصير الذي ينتظره. على أن الشاب تجاوز هذا الدور، وأفصح عن نوع من التعاطف تجاه الأمير، بالرغم من أن هذا الأخير هو من أمر بقتل أبيه. فقد عدَّل الكلمات التي كتبها له الديبلوماسيون، وأخفى “رغبته في الانتقام”:
“سار طانيوس وحيداً على الجسر، بمواجهة الريح. ما هذه الحيلة الغريبة التي يرتبها له القدر؟ فهو الذي فرَّ من بلده للإفلات من براثن الأمير الموهوب الجانب، هو الذي أعدم والده بأمر من الطاغية، ها هو في طريقه إلى بيت الدين لمقابلته، وإبلاغه برحيله إلى المنفى ! هو ، طانيوس، بسنواته التسع عشرة، يتحتم عليه أن يقف في حضرة الأمير ذي اللحية البيضاء الطويلة والحاجبين الكثين، الأمير الذي ترتعد أمامه فرائص كل أهالي الجبل، فلاحين ومشايخ، منذ نصف قرن، وسوف يقول له : “أنا مكلف بطردك من هذا القصر !”
“ترتعد فرائصي على متن هذه السفينة الإنكليزية، فماذا أفعل في حضرته”[13].
ألغى طانيوس، في المجتمع الذي حل فيه، مفهوم العدالة القائم على الانتقام،. ولهذا حينما أصبح سيد كفاريبدا، تراجع عن قتل روكوز العدو اللذوذ للقرية. وبذلك أظهر الشاب من الصفات الحميدة الكثير، وتصرف بتحرر ملحوظ بإزاء الرأي العام لقريته؛ غير أنه سيغادر البلدة إلى الأبد، دون أن يدري أحد سبب ذلك.
بذلك اختتمت رواية “صخرة طانيوس” على إيقاع تحرري ندركه من خلال قرار السارد الجلوس على الصخرة، من جهة، ومن جهة أخرى من خلال قرار طانيوس الاختفاء، بشكل نهائي، مفسحا المجال لآفاق أخرى وآمال جديدة.
واضح مما سلف، أن رواية “صخرة طانيوس” تكشف عن مسار بحث، لم يصل إلى مستوى بحث بوليسي، ولم يشر إلى أية تلميحات من شأنها رفع الغموض عن المسارات والأحداث. تنتظم الرواية حول متاهة يطلب من السارد والقارئ أن يجدا لها حلا، وذلك بجمع كل العناصر التي من شأنها ضبط الصورة وتحديد المعالم. فكل مواد البحث وعناصره( فك لغز الصخرة)، لم تقد الساردين والقراء إلا إلى مجرد شهادة وجمع للأدلة. إن صخرة طانيوس تتحرك كما لو كانت جريمة ارتكبت في حق المجتمع، من جهة أولى. ومن جهة أخرى، فإن القارئ لا يدري فعلا إن كان السارد قد نجح في الانتصار على مخاوفه وكل الرهانات المرتبطة بمغامرات طانيوس. ومن أجل فك لغز الجبل، عمد السارد إلى المرور بأربع شهادات:
- جبرائيل مخاطب السارد؛
- القس إلياس، قس كفاريبدا، حيث نلاحظ أن الحكاية متضمنة في يومياته الجبلية؛
- الموقر ستولتون و نادر سائس البغال اللذان قدما شهادتهما، تباعا، عبر أسلوب رمزي وملغز؛
إن هذه الشهادات تغرق السارد، والقارئ على وجه الخصوص، في عوالم أخرجت الحكي من مسار البحث( لغز الجبل) وقذفت بهما إلى قلب كفريبدا ، مع زعيمه التافه ومغامراته التي لا تنتهي، والقضايا السياسية لمجتمع الجبل مع نهاية القرن 19.
من الملاحظ أن المغامرات التي قام بها طانيوس لا تترابط فيما بينها بروابط سبب-نتيجة حقيقية ومعتبرة، فثمة دوماً أمور هي أشبه ما تكون بالمفاجآت التي تحصل وتغير مجرى الأحداث حينما تميل الأكور إلى الاستقرار، شأن اكتشاف لا شرعية ميلاد طانيوس التي انهى فصلا من براءته. بالإضافة إلى رفضه مغادرة المدرسة البروتستانتية. وهو رفض مثل أولى سمات مجابهة ستحصل بين طانيوس وسلطة الشيخ( سيد فيودالي)، وعودته من منفاه باعتباره ناطقا رسميا، مع ملاحظة أن سنه ووضعه ومنزلته لا تؤهله لهذا النوع من النبالة.
يمكن أن نعثر على حل لألغاز الرواية من خلال تناوب الحكايات التي تشكل بنية الحبكة. وبفضل هذه التناوبات نجد تعددا وتنوعا لوجهات النظر والسبل المفضية إلى بلوغ الحقيقة. ولهذا السبب، نجد الرواية ترسم مسارات لبحث ومغامرة فردية، لكن مع تفعيل خفي لمنظور الذاكرة الجماعية، تماما مثلما حدد ذلك موريس هالبفاكس(26:1950) معتبرا الذاكرة الفردية” ليست معزولة ولا منغلقة كليا[…] وأن نمط اشتغالها ليس ممكنا دون وجود هذه الوسائل التي هي الكلمات والأفكار ، وهي أمور لم يخترعها الفرد، ولكنه اقترضها من بيئته”.
- إعادة بناء الذاكرة الجماعية
لا نشك لحظة أن مسار طانيوس يبرز من ناحية أخرى مسار جماعته؛ فمن خلال مساره يمكن أن نقرأ تاريخ مجتمع كفريبدا، مبدئيا، ولكننا نقرأ أيضا تاريخ الجبل كله. ففي سعي أمين معلوف إلى وصف مصائر الأفراد، هناك، في المقابل، وصف لمنظور الجماعة، ومحاولة لإعادة صياغة ذاكرتها الجماعية من خلال جعلنا نعيد اكتشاف هذه الجماعة، من جهة، وإعادة كتابة التاريخ، من جهة ثانية.
من الواضح، من حيث عمق الأشياء، أن الشهادات الأربع التي جمعها السارد تحمل قيما مختلفة، بل يمكن أن نقول إنها في وضع صراع مع بعضها البعض. فهي تشكل مجتمعة تاريخ القرية الذي استأنف السارد الحديث عنه. ثم إن جمع الوثائق المختلفة يفتح بابا واسعة أمام منظورات جديدة، منها إعادة كتابة التاريخ، ذلك لأن السارد استفاد من القيمة الاستثنائية لطانيوس، وكل الرهانات التي وجد نفسه في مواجهتها. زد على ذلك، أنه بواسطة حكاية القرية المتضمنة في الوثائق، حاز السارد عناصر مسعفة على فهم أعمق “للثورة الاجتماعية الكبرى”[14]:
“ما كان يجدر بي أن أصف تلك الثورة الاجتماعية الكبرى التي حدثت في ضيعتي آنذاك بهذا الأسلوب. ولكن مصادري تذكرها على هذا النحو، وهكذا ظلت محفورة في ذاكرة العجائز”(نفسه).
بحصول هذه الثورة، انتقلت أهمية الحكاية من تحد شخصي، جعله السارد نصب عينيه، إلى تركيز على فضائل طانيوس الطفل الذي ولد جراء علاقة منحرفة، فولد ملعونا، منذ ولادته، غير أنه أعاد بناء هويته بفضل ذكائه وشجاعته.
وعلاوة على ذلك، فإن هذه الشخصية التي كان ميلادها مصدر كل مآسي كفريبدا وآلامها ، في مستهل الأمر، لم تسبب أي ألم للقرية، بل أسهمت في رسم معالم قدر تلك القرية التي ولدت من جديد مع ذهاب الشاب:
“على خطى طانيوس الخفية، كم من رجل رحل عن الضيعة منذ ذلك الحين، لتلك الأسباب؟ بل للدافع نفسه، والحافز عينه. فجبلي على هذا النحو. التصاق بالأرض وتوقٌ إلى الرحيل. ملاذٌ ومعبرٌ. أرض اللبن والعسل والدم. لا جنةٌ ولا جحيمٌ بل مطهر”[15].
وعلى إثر هذا المقطع، بدا السارد كما لو أنه عثر على مسوغات لسبب تسمية الصخرة باسم طانيوس. فليس لهذا الاسم صلة بالذي تسبب فيه طانيوس لقريته، ولكنه شديد الصلة بمغادرته المفاجئة للقرية لما قرر الجلوس على الصخرة، دون أن تنجلي الأسباب أمامنا، غير أن السارد اكتفى بتخمينها:
“…ألم أسع وراء الحقيقة أبعد من الأسطورة؟ ولما ظننتُ أنني بلغت لبها، ألفيته من نسج أسطورة.
ولقد بلغ بي المطاف أن تساءلتُ عن احتمال وجود نوع من السحر المرتبط بصخرة طانيوس. فحين عاد للجلوس عليها، لم يشأ التفكير، أو استعراض الوضع بمساوئه ومنافعه. فقد كان يشعر بالحاجة لأمر مغاير تماماً. التأمل؟ التملي؟ بل أكثر من ذلك، كان بحاجة إلى انعتاق الروح، ويعلم غريزياً أن مصيره سوف يتقرر بجلوسه على ذلك العرش الحجري، مستسلماً لسحر ذلك الموقع”[16].
يتضح مما سلف ذكره سعي السارد إلى العثور على خصال أخرى لطانيوس؛ القوة الكهنوتية، مع افتراض أن هذا الجبل كان إشارة لمصير تبينت ملامحه حينما وقع بينه وطانيوس تماس قوي.
ولعل وجود الوثائق في محكي السارد، دليل آخر على الرغبة في تجديد كتابة التاريخ الاجتماعي والسياسي لقريته، والجبل ضمنه، لأنهما يمثلان صورة طبق الأصل للطبيعة المعقدة للروابط السياسية والآليات الاجتماعية لتلك الفترة؛ غير أن هذه الحكاية تركز على عنصر مهم، يؤثر، بشكل بالغ، في طبيعة قراءة الصورة الاجتماعية لتلك المنطقة، إذ ينبهنا السارد، ضمنيا، إلى أن الجبل كان موضوع رغبة المصريين والعثمانيين والإنجليز والفرنسيين. ونظراً لانهيار كفريبدا، والكيفية التي انهزم بها الأمير، فإن الأمور تنم، بل تشي ، بأن القرية والبلد كلهما قد انهزما واستسلما. ومما زاد الأشياء قتامة، مطالبة الدول العظمى إذاك إلى قول كلمتها بخصوص مصير الأمير ونفيه إلى اسطنبول؛ لكن طانيوس غير المصائر وخفف من وقع الحقائق التاريخية، لدلالة مخصوصة يمكن لأي قارئ أن يستنتجها بنفسه، فأحدث تغييرا في النص بموجبه صار الأمير مخيرا في مكان منفاه معاكسا رغبة الإنجليز والعثمانيين. وهو ما سيجعل الشيخ يختار باريس ثم فيينا وروما. وعلى إثر الاعتراضات التركية والإنجليزية، وضع تدخل لطانيوس نهاية لهذا الجدل: سيذهب الأمير إلى مالطا.
لا تشير هاتين الحادثتين فقط إلى إرادة طانيوس بالحرص على حريته بمنأى عن أي كان، لكنها تترجم بالإضافة إلى ذلك أن الجبل مكث ، من الناحية الرمزية، سيد قدره، لأن طانيوس، سليل الجبل، لم يقبل قط أن يسلم أميره للقوى الكبرى الأجنبية، بالرغم من مصلحته في ما حصل للأمير. وتفسير ذلك أن السارد قدم وجها آخر لبلده المحتل واقعيا، والمالك لسلطته رمزيا. إن التخييل والواقع يتطابقان لدى أمين معلوف، تطابقا لاشك فيه، ويجعل من استعانته بالتخييل التاريخي ضربا من انخراطه في كتابة ذات منظور شرقي، على العكس من كثير من فرانكفونيّي المشرق والمغرب. وعلى العكس من أطروحة إدوارد سعيد[17]، فإن الغرب لم يعد قادرا على خلق الشرق. الشرق هو الذي صار يخلق صوره وكينونته.
وبالإضافة إلى ما سلف ذكره، وبمنأى عن مصير طانيوس، فإن استقصاءات السارد وبحوثه في ماضي الشخصيات المتصارعة هي، بمثابة، أسفار للاكتشاف والفداء الجماعي؛ ذلك أن السارد وهو يعرض أمام أعيننا الشخصيات، في وضع جديد ومختلف، إنما يوفر لنا كل الوسائل التي تسعفنا على رد الأحكام المسبقة والقاسية، وكل أنواع الجهل والجهالة والخوف. ففي الوقت الذي أرسى فيه طانيوس قيمه الفردية وقناعاته الشخصية، كان يركب من جديد عناصر الذاكرة الجماعية. وحينما قرر السارد أن يترك مشكلة اختفاء طانيوس معلقة ودون حل، فقد اقترح علينا، في المقابل، أمرين ربما كانا وراء هذا الاختفاء:
- رفض النظام الاجتماعي الصارم وميله إلى تهميش الخصوم؛
- الرغبة في تقرير المصير بعيدا عن جماعته.
وحينما أثار أمين معلوف أمر جماعة طانيوس، فإنه لم يكتف بتفكيك الذاكرة وإعادة اكتشافها، بل سعى إلى الاستدلال على أن أفضل طريقة لتأهيل الذاكرة الجماعية يكمن في أشكال التمفصل الأصيلة بين الأسطورة الشخصية والأسطورة الجماعية، أو بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية[18] باعتبارها صفة ووظيفة امتثال وتوحد بإزاء الجماعة. وعليه، فإن إعادة تركيب الذاكرة التاريخية من جديد، من خلال أعمال الأفراد وأفعالهم، لا تقود القارئ إلى أعادة اكتشاف الذاكرة من جديدة، ولكنها تفضي إلى تأويل متجدد لهذه الذاكرة ومعيشها، مما يساعد الفاعلين، داخل جماعتهم، إلى تجديد صورة الذاكرة الجماعية والنجاح في إرساء مشروع مجتمع بديل، حامل لقيم جديدة و تثمين جديدٍ للماضي. فإعادة تشكيل الذاكرة ليس تزويرا للتاريخ ولا للذاكرة، وإنما هو بحث عن عالم تسوده مبادئ اجتماعية بديلة.
- ملتقى العوالم
لقد سعى أمين معلوف، من خلال تتبع مسار الشخصيات ومنظورات الذاكرة الجماعية، إلى تمثيل عالمين من غير أن يكونا متقابلين. ويندرج هذان العالمان ضمن منظور ثقافي متداخل[19]، أي انخراط إرادي وشجاع للمجتمع ومكوناته في الانفتاح على الآخر والتنقل إليه. ويتجسد هذا اللقاء في سياق يطبعه الحوار بين الأفراد والجماعات والثقافات والأزمنة.
فنحن نجد، في صخرة طانيوس، من جهة أولى، حكاية تمثل الحياة اليومية، ومن جهة أخرى، حكاية ترفع الغطاء عن ماض تاريخي. وفي هذا المعنى، نلاحظ أن محكي طانيوس، يعنى كثيرا بحياة الناس، وما يطبعها من تشابك وصراع وحب وكراهية. وطانيوس، بالنسبة إلينا، هو جزء من الماضي التاريخي الذي يحدد شروط الحاضر دوما؛ وذلك بإثارة ماضي لبنان وحكاية طانيوس.
إن تجاور هذين العالمين ولقاءهما، ليس حصيلة بسيطة لحضور حكايتين في سياق متشابه، لأن الأمر ينعكس على الحوار الناشئ بينهما:
- حوار بين الأزمنة( زمن الماضي وزمن الحاضر)؛
- حوار بين مغامرات حكايتين، حيث كل حكاية تخبر عن الأخرى؛
- حوار بين تزمينين يضعان الحكاية، تارة، في أزمنة سحيقة، وتارة أخرى، يضعانه ضمن الزمن المجاور، في إطار جدلية تلون وتطبع كلا الحكايتين في سياقاتهما الزمنية.
ويشتغل هذا الحوار على مستوى بناء الفضاء كذلك، والروابط الناشئة بين الشخصيات، أي بين الثقافات أيضا، داخل هذا الفضاء. فكل حكاية طانيوس تجري في فضاء شرقي، على الرغم من الإشارة، في كثير من الأحياء، إلى أوروبا التي يشار إليها من خلال التلميح إلى تورط أنجلترا في شؤون الجبل. ومن هنا رغبة الرواية في تفكيك العلائق الملتبسة والشائكة بين أوروبا والمشرق. وحسب تقديرنا، فإن هذه المسرحة لا تهدف إلى مجرد فهم لهذه العلاقة، ولكن تتوخى تشييدها على أسس قيمية مغايرة. وهكذا نجد أن الفضاءات المختلفة تشيد بكيفية تلاحمية ومتصلة، دون حواجز ولا عوائق مرئية، إذ لا يكتفي السارد بالإشارة إلى حضورهما من خلال فضاء متعدد، ولكن يستدل على ذلك أيضا، بواسطة الشخصيات ذات الانتماءات المتباينة. ونظرا للطبيعة المعقدة بين هذين العالمين( الغربي والشرقي)، اضطر أمين معلوف إلى وضع كتابته في المنطقة الوسطى كي يجسر ما بين القطبين؛ ذلك أن كتابته هي مزيج من التاريخ والتخييل (التاريخ وظله). لهذا نجد أن الحوار يتوطد أيضاً، ما بين التاريخ والتخييل، ذلك أن الرواية تستند إلى تاريخ حقيقي يتمثل في قصة طانيوس التي دارت أحداثها بالجبل، لكن هذا العمق التاريخي يتم عرضه، مضمخا بتلوينات اسطيطيقية، عبر الوسائط السردية المختلفة( التناوب السردي أو التقعير). لهذا يسهل علينا أن نصنف رواية أمين معلوف ضمن دائرة التخييل التاريخي( الرواية التاريخية المعاصرة)، مستندين في ذلك إلى معايير لوسيان غيسو(3:1990)( ):
“تنمو الرواية التاريخية[…] بين يوتوبيا الصادق ونسبية الحقائق، إذ ينمو كما لو كان في ساحة حرة تفتح أمام التخييل توسعات ممكنة ولا متناهية، تمنحه حريات في التخييل، وإذاك علينا أن نتنبأ بكل أنواع الخروقات والهذيانات والتأويلات[…]والإضافات والشخصيات والأحداث التي ليس لها من التاريخيٍ سوى اندراجها ضمن محيط وأجواء و”لون محلي”، وفولكلور”.
قد يعتقد البعض من القراء، إنه ليس لهذا اللقاء من مزية سوى قيمته الجمالية؛ غير أن هذا الاعتقاد قد يلغي، من حسبانه، المضمر الثقافي الناجم عن تجاور التخييل والتاريخ، والمفضي إلى فهم جيد للمحكيات والمنظورات على المستوى التأويلي. ها هنا، قد نجد أنفسنا في قلب روابط تنافسية ومواجهة ما بين قصدية الحقيقة وادعاء صدق الذاكرة، فالواقعة التاريخية قائمة على التوثيق ، وموارد أخرى قد تكون كتابية أو شفوية؛ غير أن بول ريكور(2000) علمنا بأن الخطاب التاريخي عاجز تماما عن تمثيل حقيقة التاريخ، لأن التاريخ هو نتيجة لوجود حكاية، الأمر الذي قد يقودنا إما إلى النسيان أو الوقوع في خدع الذاكرة. وعلى الرغم من عودة أمين معلوف إلى أصول الوقائع المروية، معطيا الانطباع بوجود حقيقة( مثال الشهادات الأربع، في صخرة طانيوس)، فإن الأمر لا يعدو أن يكون ادعاء لا يعكس، بالضرورة، واقعية الماضي. لكن هذه التشكيلات التخييلية، من جهة أخرى، لها مزية فتح باب على الحاضر، والتطلع إلى المستقبل. وهكذا يبلور التخييل التاريخي، في صخرة طانيوس، حوارا بين هذه الأنظمة الزمنية، التي لا تشكل لا صياغة مثالية للماضي، ولا وضعية لتنسيب المطلق.
. خلاصة
تمثل “صخرة طانيوس” لأمين معلوف، من ضمن رواياته الكثيرة والمثيرة، سعيا إراديا وحثيثا إلى فتح حوار جديد بين الفرد وماضيه، بقصد تفكيك النزعات الرجعية والدعوات الأصولية والدفاع عن عالم يلتقي فيه الناس ويتمددوا بإزاء بعضهم البعض. وهكذا وجدنا الروائي، من خلال مسار الشخصيات ومحكياتها، يعمل على الكشف عن الجماعات والحكايات المنحرفة في كثير من الأحيان، ورفع الحجب عن التاريخ، بغرض إرساء رؤية مغايرة للعالم. فقد خاض طانيوس بحوثا ومغامرات هوياتية، نظرا لتوترات المجتمع وهواجسه، وقضايا الأصل ومواجعه، والميلاد والتباساته، أفضت، حتما، إلى تأهيله واندماجه شخصيا، والأمر نفسه حازته جماعته. ومن خلال إعادة تركيب التاريخ يقترح علينا أمين معلوف، رؤية مختلفة للعوالم الموروثة لمصلحة عالم اليوم. ورغم قيام حكاية “صخرة طانيوس” على خطاطة ثنائية (غرب/ مشرق)، فلا شك أن أمين معلوف هو من طينة الكتاب الساعين إلى استكشاف ثقافات وشعوب يمكن أن تقوم العلائق فيما بينها على الوحدة والحوار.
- المراجع
1-باللغة العربية:
- الروايات:
- الأشعري، محمد : ثلاث ليال، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،المغرب، 2017.
- أوريد، حسن : الموريسكي ، ت.عبد الكريم جويطي، دار ابي رقراق للطباعة و النشر، الطبعة الاولى، الرباط، المغرب. 2011.
- اوريد، حسن : سينترا ، دار توسنا، الرباط، المغرب ، 2015.
- أوريد، حسن :ربيع قرطبة، المركز الثقافي العربي،المغرب،2017.
- الدامون البشير : هديل سيد حرة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 2015.
- التازي، عز الدين : أنا المنسي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب.2015.
- التوفيق، أحمد : جارات أبي موسى، المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء، المغرب، 2017[1997].
- التوفيق، أحمد : شجيرة، حناء وقمر، دار القبة الزرقاء،ط.1، سلسلة جواهر الأدب(2)، مراكش.1998
- جويطي، عبد الكريم : المغاربة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 2016
- حميش، بنسالم : العلامة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب.1997
- حميش، بنسالم : هذا الأندلسي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاْء، المغرب.2009.
- داود، زكية :
- Zaynab,Reine de Marrakech,Ed. de
l’Aube ;Poche,Ed. de l’Aube,2008,Poche,Ed.Le Fennec,Casablanca,2012
- داود، زكية : Les petits-enfants de Zaynab, Fennec Poche, Casablanca
- العروي، عبد الله : الغربة، دار النشر المغربية، ط3، الدار البيضاء، المغرب،1971
- العروي، عبد الله : أوراق ، المركز الثقافي العربي،ط2، الدار البيضاء، المغرب.1996
- العلوي،بنسعيد سعيد: ثورة المريدين، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب.2016
- لعرج، واسيني : كتاب الأمير: مسالك أبواب الحديد، ط2، دار الآداب،بيروت ،2008
- :البحوث:
- أليكس ميكشللي: الهوية، ترجمة علي لطفي، ط1،دار الوسيم للخدمات الطباعية، دمشق، 1993(صص38،100،129-168)
- الكتابة التاريخية: التاريخ والعلوم الإجتماعية ، التاريخ والذاكرة- تاريخ العقليات،ترجمة محمد حبيدة، إفريقيا الشرق، المغرب، 2015(صص:83-126)
- لطفي عيسى، بين الذاكرة والتاريخ: في التأصيل وتحولات الهوية، إفريقيا الشرق، المغرب، 2015(صص5،117،217)
- لورون بوتي، الذاكرة، ترجمة عز الدين الخطابي، منشورات كلمة وهيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، أبو ظبي، ط1 ،2012، (صص13-48)
- ميري ورنوك، الذاكرة في الفلسفة والأدب، ، ترجمة فلاح رحيم، دار الكتاب الجديد المتحدة، لبنان،ط1،[1987]، 2007(صص:9-28،117،159،193)
ج-اللغات الأجنبية:
-1Ain,J(éd),Identités. Entre etre et avoir : qui suis-je ?. Toulouse :Eres, 2009
-2Ain,J(éd.),Réminiscences. Entre mémoire et oubli. Toulouse :Eres,2010
-3Bernard,C, Le passé recomposé, Le roman historique français du dix-neuvième siècle, Paris :hachette, 1996
-4Bernié J.-P, « L’approche des pratiques langagières scolaires à travers la notion de « communauté discursive » : un rapport à la didactique comparée ? », Revue française de pédagogie,N°141 ,2002
-5Bruner, J, »Life as narrative », Social Research : An International Quarterly, 71, 2004,pp.691-710.
-6Carosella,E and Saint-Sernin,B et al.(dir),L’identité changeante de l’individu.La constante construction de Soi,Paris :L’Harmattan,2008.
-7 De Certeau ,M, L’écriture de l’histoire, Paris :Gallimard,rééd.1975,coll. « Folio Histoire ».2002 |
-8Chartier R,« Récit et histoire »,in Mesure S. et Savidan P.(dir)LE dictionnaire des sciences humaines,Paris :PUF, 2006,pp.954-958. |
-9Dayna Oscherwitz, « Decolonising the Past :Re-visions of History and Memory and the Evolution of (Post)Colonial Heritage »,dans Hargreaves(sed.),Memory, Empire and Postcolonialism :Legacies of French Colonialism
-10Dictionnaire Culturel en langue française. Tome3.Paris,Dictionnaire Le Robert,c2005
-11Duby G,« L’art, l’écriture et l’histoire.Entretien »,Le Débat,N°92,1996,pp.174-191. |
-12James Fentress and Chris Wickam,Social Memory ,Oxford, U.K : Cambridge,Mass. : Blackwell,1992
-13Linda Hutcheon,A Poetics of Postmodernism :History,Theory,Fiction,Londres-N-Y :
Routledge,1988
-14Mucchielli, A,L’Identité. Paris : Presse Universtaire de France, 1986.
–Neisser,U et Fivush,R(eds),The Remembring Self :Construction and Accurancy in the Self-narrative. Cambridge : Cambridge University Press,2008
-15Nora,Pierre,Les lieux de mémoire.4 Vols.Paris :Gallimard,c1997
-16Ozouf,M, « Récit des romanciers, récit des historiens », Le Débat,N°165,pp13-25,2011
-17Paul, Connerton,How Societies Remember, Cambridge : Cambridge University Press,1989
-18Péltier,M, « Histoires et littérature de jeunesse »JDI, N°1587, 2005
–Propp,Vladimir,Morphologie du conte. Paris :Editions du Seuil,1965
-19Ricoeur,P,Temps et Récit III,Paris :Eds .Seuil,1985
-19Ricoeur,P, Soi-meme comme un autre,Paris,Eds.Seuil,1990.
-19Ricoeur,P, La Mémoire,l’Histoire,l’Oubli, Paris :Eds. Seuil,2000a
-20Ricoeur,P « Fragile identité :Respect de l’autre et identité culturelle »,]Texte prononcé au Congrés de la fédération Internationale de l’Action des chrétiens pour l’Abolition de la Torture, à Prague en Octobre 2000[ ]en ligne[ consulté le 18 aout 2017
http://www.fondsricoeur.fr/uploads/medias/articles_pr/fragile-identite-v4.pdf
-21Riceur,P,Anthologie. Textes choisis et présentés par Michael Foessel et Fabien Lamouche. Paris : Eds.Seuil, 2009
-22Roucoules, A, « Introduction », dans Ain,J.(ed),Identités. Entre Etre et Avoir :qui suis-je ? Toulouse :Eres,(11-15), 2009.
[1] . أمين معلوف، صخرة طانيوس، ترجمة نهلة بيضون، دار الفارابي، ط.1،2001، ص.09( ونكتفي بالإشارة إليها بالترجمة العربية).
[2] . بخصوص الروابط ما بين التاريخ والتخييل، نحيل على واحد من أعداد مجلة”Débat “، العدد165، 2011، وكتاب ليندا هيتشيون:
Linda Hutcheon,A Poetics of Postmodernism :History,Theory,Fiction,Londres-N-Y :Routledge,1988
[3] . جورج لوكاتش، الرواية التاريخية، ترجمة صالح جواد الكاظم، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد- العراق، ط2، 1986
[4] . وأفضل مثال لذلك، موريسكي حسن أوريد؛ فقد انتقى الفاعل التخييلي، عنصرين إثنين، أحدهما أندلسي( مأساة المغاربة إبان محاكم التفتيش)، والآخرإسلامي( أخذ السعديين بمكونات البروتوكول العثماني)، كل ذلك قصد الإشارة إلى إستمرارية مظاهر عدم إنصاف المكون الأمازيغي وانتقاد دولة المخزن ومغالاتها في البروتوكول( البيعة والأعياد). تماما كما سعى حميش إلى إبراز إخلاص المثقف في فترات الأزمات مقارنة بجبن السياسي.
[5] . Dayna Oscherwitz, « Decolonising the Past :Re-visions of History and Memory and the Evolution of (Post)Colonial Heritage »,dans Hargreaves(sed.),Memory, Empire and Postcolonialism :Legacies of French Colonialism,p.191
[6] . Dictionnaire culturel en langue française,sous la direction d’Alain Rey,Tome3,Paris :Dictionnaire Le Robert,c.2005,p.522
ولمزيد من التعريفات والإضاءات على مفهوم الذاكرة أحيل على الكتابين الآتيين:
- ميري ورنوك، الذاكرة في الفلسفة والأدب، ، ترجمة فلاح رحيم،دار الكتاب الجديد المتحدة، لبنان،ط1،[1987]، 2007(صص:9-28،117،159،193)
- لطفي عيسى، بين الذاكرة والتاريخ: في التأصيل وتحولات الهوية، إفريقيا الشرق، المغرب، 2015(صص5،117،217)
- الكتابة التاريخية: التاريخ والعلوم الإجتماعية ، التاريخ والذاكرة- تاريخ العقليات، ترجمة محمد حبيدة، إفريقيا الشرق، المغرب،2015(صص:83-126)
[7] . وقد صاغ بول كونيرتون في كيف تتذكر المجتمعات(How Societes Remember)، مجموعة ملاحظات على دور المؤرخ في إعادة بناء الماضي، وذكر مثال الحروب الصليبية بغرض التدليل على كيف تنظر مجموعتان بشريتان إلى الذكرى نفسها بطريقتين مختلفتين؛ فالأمر، بالنسبة للغزاة الغربيين، كان صراعا بين المسيحية والإسلام، أما بالنسبة للمؤرخين العرب، فإن الحرب في الأرض المقدسة ليس سوى اجتياح للكفار.
–Paul Connerton, How Societes Remember, Cambridge : Cambridge University Press,1989,p.15
لهذا يؤاخذ كونيرتون هالبفاكس(1989 :38) على أنه لم يقدم ما يكفي من القرائن الدالة على انتقال الذاكرة الجماعية من جيل إلى آخر، وركز اهتمامه على قدرة الفرد على إعادة إنتاج عينة من التصرفات غير الواعية لأن الذاكرة تندرج في الجسم(نفسه، ص.72)
وتجدر الإشارة إلى وجود نوع آخر من الذاكرة سمته كيت ميتشل بـ”الذاكرة الثقافية” في كتابها الرائد والمترجم إلى اللغة العربية ترجمة جيدة(ترجمة أماني أبو رحمة):
كيت ميتشل، التاريخ والذاكرة الثقافية: في الرواية الفكتورية الجديدة، ترجمة أماني أبو رحمة، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، دمشق، 2015 (صص:31،201 ،243). وقد جمع الكتاب بيبليوغرافيا مفيدة وشاملة.
[8] . James Fentress and Chris Wickham,Social Memory,Oxford, U.K :Cambridge,Mass. :Blackwell,1992
« A memory can be social only if it is capable of being transmitted, and to be transmitted, a memory must first be articulate.Social memory, then , is articulate memory »,p. 47
[9] . « A fairy tale plot is a sequence of linked themes ;the memory is mutual reinforcing.In this sens, a plot functions as a complex memory image »(p.72)
[10] . Neisser,U and Fivush,R(eds),The Remembering Self :Construction and Accuracy in the Self- narrative.Cambridge :Cambridge University Press,2008 :9.
[11] . Cornelius Castoriadis :
- L’Institution imaginaire de la société, Seuil , 1975
- L’imaginaire comme tel, Hermann, – 2008
[12] . الترجمة العربية، ص.10.
[13] . الترجمة العربية ، ص.254
[14] . – ثمة جملة أزعجت أميرنا، وقد وعدته بتعديلها.
- يجب التباحث مع السيد وود بهذا الشأن.
لم يصغ الآخر إلى هذا الاعتراض وتوجه إلى المكتب، وجلس على وسادة، وبسط الوثيقة.
ألا ترى أن عبارة”يجب أن يرحل إلى المنفى” صيغة قاسية جافة”.
[15] . الترجمة العربية، ص254.
[16] . الترجمة العربية، ص.233
[17] . ملخص أطروحة إدوارد سعيد
[18] . الذاكرة الجماعية هي الذاكرة التي تتقاسمها جماعة أو شعب أو أمة أو بلد، إلخ. فهي تشكل هوية الجماعة وتبلورها.
[19] . التداخل الثقافي أو تلاقح الثقافات، هو نوع من انفتاح الثقافات والأفراد على بعضهم البعض. وستدعي التداخل الثقافي وحدة جوهرية بين الرجال والنساء باعتبارهم كائنات بشرية قبل أن يشرعوا في اكتشاف ما يميزهم من فروق واختلافات.