
سيمياء الامتزاجات اللونية في تشكيل فضاء القصيدة السياسية عند نزار قباني
الدكتورة نبيلة تاوريريت ـ جامعة بسكرة-(الجزائر)
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية العدد 39 الصفحة 49.
الملخص:لقد عملنا في هذا المقال على مقاربة الفضاء اللوني للقصائد السياسية عند نزار قباني، فضاء عُدّ علامة في الشعر النزاري بعامة، حيث امتزجت فيه الألوان في شكل علاقات سيميائية مختلفة غاية في الإتقان والاختراق، إلى أن غدت فيه القصيدة السياسية أفقا شعريا جديدا، اخترق به نزار قباني نواهي الذوق العام، وذلك حينما تم الامتزاج فيه بين الألوان ومختلف المستحضرات الأيقونية اللونية الأخرى، وذلك إثر تشكيلات شعرية أخّاذة (تشابها أو تضادا) تبوح بروح الجمال من جهة وبأبعاد سيميائية غاية في التدليل والإيحاء من جهة ثانية.
توطئة
لقد سعى نزار قباني في قصائده السياسية إلى صياغة جديدة، تعبّر عن جدة التشكيل من جهة، وغنى التدليل من جهة ثانية، تشكيلا شعريا تمتزج فيه الألوان وتتفاعل إلى حّدٍ اجتهد فيه الشاعر وجعل من ذلك لوحة لونية تقوم على الحوار، ولإثبات ذلك وجبَ استقراء الانسجام بين ما هو مرئي، المتمثل في ذكر لفظ اللون صراحة كالأزرق والأحمر وغيرهما مع اللامرئي المتمثل في الرؤى الدلالية اللامنتهية المنبعثة من الدوال الأخرى التي يتشكل منها فضاء القصيدة، وبهذا المسار « صارت القصيدة تشكيلا جديدا للوجود الإنساني»[1]، الذي يتجاوز فيه الشاعر تشكيل مدركات الواقع الكائن إلى مدركات الممكن، فيمتطي بذلك أجنحة الصوغ الجديد ليبني علاقات سيميائية تتخطى حدود التشكيل الشعري في صورته القديمة، ومن بين العلاقات التي حاولنا استقراءها من فضاء القصائد السياسية، التضاد والتشابه وذلك وفق سيمياء الامتزاج.
1- سيمياء الامتزاجات اللونية (المرئية واللامرئية) بين المتشابهات:
إن ظاهرة الامتزاجات اللونية في القصائد السياسية لنزار قباني ليست عبثا تشكيليا أو اعتباطا فنيا، بل عمد الشاعر إلى توظيفها لغرض محدد وفق نمط تشكيلي يتناسب فيه التعبير مع الإيحاء بالمعنى أو (الدلالة)، وهنا تظهر سيميائية اللون حينما تدخل مع دوال القصيدة في علاقة حميمية تبرز التقارب أو التشابه الحاصل بين ما هو بصري (مرئي) ولا بصري، وبالتالي يتحقق سيمياء الامتزاج، التي تمثل بؤرة الدينامية والإدهاش، مما أكسب التشكيل الشعري دلالات هائلة لا تعرف الثبات، بل إن حركيتها اللامنتهية تدهش القارئ إلى حد ينتقل فيه من مستوى القراءة الأولى إلى مستوى أعمق بُعدا، هو التأثر والامتزاج مع ما وراء مقصدية الشاعر، الذي هو في بحث دائم عنها، وبالوصول إلى هذا المستوى تنكشف المعايشة الحقيقية التي تفجّر مرة أخرى تداخلا وتمازجا ذاتيا يحدثه تماهي الذاتين مع بعضهما بعضا.
هكذا إذن يحدث التمازج اللوني – عند نزار- في تشكيل شعري يلعب فيه الأزرق دور أساسيا في إبراز علاقة المشابهة بين ما يدل عليه من « الوفاء والإخلاص والارتياح النفسي والهدوء والسكينة»[2]، وبين الدلالات المنبعثة من الدوال التي اختارها الشاعر في تشكيل قصيدته، ولتبيان هذا أكثر نستقرئ المقطع الآتي من قصيدة: رسالة إلى جمال عبد الناصر، قوله:
والدُنا جمال عبد الناصر
الزرع في الغيطان والأولاد في البلد
ومولد النبيّ والمآذن الزرقاءُ
والأجراس في يوم الأحَدْ..
وهذه القاهرة التي غفَتْ
كزهرة بيضاءَ… في شعر الأبدْ
يُسلّمون كلهم عليكْ
يقبّلون كلهم يديك
ويسألون عنك كل قادم إلى البلدْ
متى تعود للبلدْ؟.. [3]
أبرز ما يميز هذا المقطع الشعري أن التعبير بالألوان عند نزار في السياقات السياسية هو ضرب ومطية للبحث عن الأمن والاستقرار، ولهذا فقد أجاد في المقاربة أو المشابهة بين دلالات اللون الأزرق الذي « يعطي انطباعا بالهدوء والاطمئنان والذكاء، محافظ ومهدئ للأعصاب، كما أنه رمز الأمن والتعاون والرخاء، والعفة والمعرفة»[4] وبين ما توحي به لفظة( والدنا)، فهنا ندرك سيمياء الامتزاج الحاصل بين مرئية اللون وبين الدلالات التي نستقرؤها من كلمة (والدنا)، لأن الوالد حينما يعمل على حماية مسكنه العائلي فحتما ستعم الراحة، وكأن راحة واطمئنان المجتمع العربي عامة والمصري خاصة هو منح جمال عبد الناصر (الأب) إدارة الشؤون السياسية للبلاد ليعم الاستقرار والهدوء، نظرا لما يتحلى به جمال عبد الناصر من صفات الأبوة، وفي هذا السياق السياسي الذي يصف واقع السلطة، فإن الشاعر عمد إلى انتقاء اللون الأزرق الذي يمثل دالا سيميائيا على الصدق و الحكمة والإخلاص وصفاء السيرة عن الفرد .[5]
ولهذا السبب فإن اختيار الشاعر الألوان هو اختيار دال يتناسب مع ما توحيه الألفاظ التي تساعده على إنشاء علاقة التشابه بين الأطراف وتسهم في تأكيد عمق الدلالات السيميائية المتوصل إليها عن طريق الامتزاج.
ومما نلمسه في قصائد نزار السياسية أنه أجاد حرفة النسج بالألوان، حيث مزج في هذه اللوحة الشعرية بين ما يوحي إليه اللون الأزرق، الذي ذكره لفظا، وبين الصفات اللامرئية المتمثلة في الإخلاص والوفاء والهدوء والسكينة، التي لم يصرح بها الشاعر جهرا، وإنما جعل من (النبي) و(المآذن) لفظان يناسب مكانهما، وبقية القراءة لا تستدعي التردد في إطلاق الحكم[6]، فهما خير الألفاظ التي يحصل من خلالها الامتزاج، الذي نستقرئ منه سيميائيا تلك الدلالات المتوصل إليها، التي يسقطها الشاعر في النهاية تأويليا على جمال عبد الناصر.
وفي قمة لحظات الإبداع وذروة الانفعال، يلجأ الشاعر للسؤال، فيتخذ من فاعلية اللون عنصرا أساسا للتعبير عن الحالات النفسية التي تعتريه. هذا ما أدى به للتمركز حول شبكة لونين اثنين، أولهما الأزرق الذي « يمزج في إنتاج قيمته بين البعدين التشكيلي والسايكولوجي»[7]، مما خلق تناسبا بين التشكيل بالألوان والتدليل عن أهم القضايا السياسية التي كثيرا ما طرحها نزار في شعره، يأتي فيها جمال عبد الناصر زعيم أحد قصائده، وإذا كان الأزرق يمثل بؤرة الدلالة التي منه تتفجر وتتبدى دلالات الهدوء والسكينة والطهارة، فإنه يشارك الأبيض في صفاته، ولاسيما صفة الطهارة وعدم الخضوع والصفاء والنقاوة التي تبدو سامية، لذلك لا عجب أن يعني الصبر والانتظار والثقة والاحترام مثلما يعد قانونا ورشدا ورمزا عند كثير من الناس للوفاء والإخلاص[8].
وعلى هذا فإن نزار يبث في المقطع الشعري السابق تشكيلا لونيا يمتزج فيه الأزرق مع الأبيض، وما عمق دلالة امتزاج اللونين هو ما تشير إليه الأسطر الشعرية السابقة [7، 8، 9، 10]، فالسلام على جمال وتقبيل يديه رمز يدلّ على أنه أهل للثقة والاحترام، كما أن سؤال البحث عن عودته للبلاد علامة على الصبر والانتظار، لذلك فإن اللون الأبيض يشكل سيميائيا معادلا لصفاء ونقاوة جمال عبد الناصر.
وإلى جانب اللون الأزرق تأتي ظلال اللون الأخضر، التي أسعفت الشاعر على التشكيل الأمثل والتدليل الأكمل حتى« يبلغ الجوهر الشعري، مسهما في تشكيله وبناء نموذجه، فضلا عن امتزاجه باللغة الشعرية واشتغاله على توجيه حيواتها بطاقتها السيميائية المكونة في بؤرة اللغة»[9]، إذ أن ظهوره في فضاء القصيدة السياسية لا يقف عند حدود التشكيل السيميائي بالمعنى النصي المجرد، وإنما ارتكز على طاقة رمزية عالية وفضاء دلالي سيميائي واسع، كأن يدل على التجدد والنمو، ولون الطبيعة الخصبة[10] واستمرارية الحياة، كما أنه « يأتي في بعض الأحيان دليلا على الغيرة»[11]، إلا أنه في كثير من الأحيان يدل – الأخضر- على لون الطبيعة، الذي يشعر الإنسان بالراحة والمفاجأة والانبهار، وهذا ما أراده نزار في هذه اللوحة الطبيعية ذات الحضور الجمالي، الذي يمتزج فيه اللون الأخضر مع دلالات التجدد واستمرارية الحياة المنبعثة من الدوال الموحية لذلك، ومن هذا قوله في قصيدة (تقرير سري جدا):
يا أصدقائي:
ما هو الشعر إذا لم يُعلن العصيانْ؟
وما هو الشعر إذا لم يسقطِ الطغاةَ .. والطغيانْ؟
وما هو الشعر إذا لم يُحدث الزلزال
في الزمان والمكان
باسم الملايين التي تجهل حتى الآن ما هو النهار
وما هو الفارق بين الغصن والعصفور
وما هو الفارق بين النهد والرمانة
وما هو الفارق بين القمر الأخضر والقرنفلة
وبين حد كلمة شجاعة
وبين حد المقصلة
من أجل هذا أعلن العصيان[12]
المتأمل في هذه الأسطر الشعرية، يكشف اللعب القائم على الامتزاج بين المتشابهات أو المتقاربات التي تثير لونا من ألوان المفاجآت، المتمثلة في ارتداء القمر اللون الأخضر، حيث نجد أنفسنا أمام لوحة فنية يتمازج فيها جمال الطبيعة بجمال الرأي، وهذا الامتزاج يمثل في حقيقته بؤرة الانبهار والمفاجأة، لأن نزار قباني لم يعقد رابطا بين القمر ولونه على الطريقة المألوفة، ولهذا فهو يدخلنا إلى فضاء التشكيل القائم على الإيحاء والرمز، الذي يسعى من خلاله إلى استقرار الوضع، وطمأنينة النفس الإنسانية على واقع الأمة العربية، جاء ينادي أصدقاءه في خطاب سياسي يصرح فيه عن الاستمرار في الحياة، وسعيه وراء هذا المبدأ هو الوقوف أمام حالة غيرية عن حالة أمته العربية، من أجل رؤيته على نحو يحاكي فيه واقع الطبيعة، الذي لا فارق فيه بين الغصن والعصفور والقمر الأخضر والقرنفلة.
هذا ما تدل عليه سيميائية الدال اللوني الذي تمظهر تمظهرا دلاليا ورمزيا عالي الحضور، بل هي سيميائية لا متناهية من كون اللون الأخضر أدى وظيفة تشكيلية تشرح المعادلة القائمة بين دلالته وبين إعلان العصيان المؤدي للمنفعة والاستقرار، الذي يقف على مرتكزات التحلي بالشجاعة في كتابة شعرية يأمل من خلالها إسقاط الطغاة والطغيان لكي تضاء الشعلة الأبدية للأمة العربية، ولا تستسلم للفشل الذي يضعف مقاومتها أو يشل قواها، هذه إذن الإيحائية الرمزية للون الأخضر، وتلك هي الخاصية التشكيلية التي يتخصّب فيها، إذ تعمل في نطاق نتاج الدلالة الشعرية على الأمل والتفاؤل لما يتمتع به من تمثيل تاريخي لروح الإنسان وتاريخه ومزاجه وحساسيته، وعلاقته المصيرية الأبدية بمعاملات الطبيعة، كما يتمتع أيضا بقوة لونية مكثفة تنعكس على رمزية التدليل الشعري لتشحنه بطاقة سيميائية مفتوحة ومتجددة[13]، فالشاعر لم يمزج بين الألوان، وإنما لجأ إلى طريقة المزج بين لفظ اللون (الأخضر)، الذي تتناسب دلالته الإيجابية مع الرؤى الدلالية التي تنشطر من دوال تشكيله الشعري، وذلك في علاقة وثيقة تربط بين المتشابهات.
إذا كانت الألوان مكونا من المكونات الفاعلة في البناء السيميائي والتشكيل الشعري، فإن الامتزاج اللوني احتل حضورا عالميا يعكس بشكل أو بآخر رؤيا الشاعر وقدرته على التشكيل والتعبير، ومن ذلك قوله في قصيدة “المهرولون”:
كم حلمنا بسلام أخضر..
وهلال أبيض..
وببحر أزرق.. وقلوع مُرسله.. [14]
السلام الأخضر والهلال الأبيض والبحر الأزرق، فضائل أوشمائل إنسانية ثمينة حلم بها نزار، لذا أتى في هذا المقطع ليجسدها في معادلة شعرية تشكيلية تمتزج فيها الألوان الثلاثة مع بعضها بعض، فكل من الزرقة والخضرة والبياض تحمل دلالات إيجابية تتمثل في (العطاء)، هذا من جهة، كما أنه ربط اللون الأخضر بالسلام والأبيض بالهلال والأزرق بالبحر من جهة ثانية، وهذا دليل على أن الصفة اللونية تتلون بتلون الموصوف.
فاختيار الشاعر لهذه الألوان، إذن، كان مناسبا لجو خصب معطاء ملؤه الهدوء والسكينة، وهذا ما زاد من قوة ودقة التشكيل الشعري تعبيرا وتدليلا، حيث نقل عن نزار قوله: « إنني أكتب لتصبح مساحة الفرح في العالم أكبر ومساحة الحزن أقل، أكتب لأغير طقس العالم… وأجعل الشمس أكثر حنانا… والسماء أكثر زرقة، والبحر أقل ملوحة..»[15] ، فالسلام والطهر والصفاء مؤشرات دالة على الفرح، ولهذا السبب ربط الشاعر بين الزرقة والبحر وبين البياض والهلال وبين الأخضر والسلام، وذلك في جو سيميائي قائم على الامتزاج بين المتشابهات، الذي يغلب عليه رمز الخير والطهر والنقاء والصفاء.
2- سيمياء الامتزاجات اللونية المرئية واللامرئية بين المتضادات:
على نحو امتزاجي آخر تفتح القصيدة السياسية على تشكيل شعري جديد، يثار فيه التنافر وتقلب فيه المتشابهات على نحو يقوم فيه نزار قباني بكسر رتابة الإسناد وكذا مألوفية التشكيل، فيحاول المزج بين المتضادات، بغية تحفيز التركيب الشعري ومفاعلته باسنادات متنافرة أو غير معهودة في الإسناد، وغايته في ذلك تحطيم عنصر المشابهة والمماثلة[16]، والتحليق بهذا المزج إلى سيمياء التضاد المفعم بدينامية تسهم بدورها في تفعيل دلالات هذا المزج وانفتاح التشكيل الشعري على دلالات جديدة تولدُ مع كل قراءة جديدة له.
ومن أمثلة هذا المزج التضادي قول الشاعر في قصيدة بلقيس:
.. بلقيس
.. مذبوحون حتى العظم
.. والأولاد لا يدرون ما يجري
ولا أدري أنا.. ماذا أقول؟
هل تقرعين الباب بعد دقائق؟
هل تخلعين المعطف الشتوي؟
..هل تأتين باسمة
.. وناضرة
ومشرقة كأزهار الحقول؟
..بلقيس
..إن زروعك الخضراء
..مازالت على الحيطان باكية[17]
تمتزج في هذا المقطع الشعري لوحتان متضادتان، تتجسد الأولى فيما نستقرؤه من الأيقونات اللونية المستحضرة للون الأخضر المتمثلة في: (باسمة، ناضرة، أزهار، زروع، خلع المعطف الشتوي)، وكلها تتطابق واللون المبهج، لأنها مرتبطة بزوجته، التي تمثل المحور الأساسي والمركز اللوني الذي تدور حوله القصيدة، لذا جاءت هذه الأيقونات الدالة على اللون الأخضر كخلفية لصورة بلقيس، لتهبها الإشراق وتجعلها تمتلك أسرار الجمال ويكون قتلها جريمة كبرى[18]، وأما الثانية فتتبدى في قوله (ما زالت على الحيطان باكية): فالبكاء يتضاد ويتنافر مع الابتسامة والإشراق، ولتوضيح مقصدنا أكثر، ينظر التحليل الآتي:
البكاء= ذرف الدموع |
امتزاج المتشابهات |
المعطف الشتوي= مطر |
خلع المعطف الشتويÜ تحول |
دخول فصل الربيع= زروع خضراء |
باسمة، ناضرة |
فـــرح |
امتزاج تضادي |
حزن |
¹ |
فالشاعر لم يقصد باللون الأخضر هنا معناه الظاهري، وإنما أتى به كفيصل مهم يفتح به ممكنات التشكيل على فضاء دلالي أوسع، والهدف من ذلك هو خلق دينامية شعرية تنبثق عن تمازج المتشابهات، التي يتولد عنها في النهاية ديالكتيك التضاد، الذي يسهم في الكشف عن بنية اللغة الشعرية ومداليلها السيميائية، لأن اللغة الشعرية « لا تنقل العالم بحرفيته، بل تساهم في إعادة صياغة الحياة وتشكلها بلغة نافرة من المألوف العادي»[19]، فباللون استطاع نزار أن ينتج تشكيلا شعريا يتمتع بلغة نافرة، أسهمت في إظهار قيمة لغوية لها تأثيرا قويا وفعالا في حضور شبكة من الاحتمالات والتأويلات، هذه القيمة تكمن في التضاد الذي لعب هو الآخر دورا سيميائيا في خلق نوع من الامتزاجات اللونية الجامعة بين مرئية الأشياء ولا مرئيتها.
وعلى هذا الأساس تعد لغة الألوان أداة تعبيرية فنية سعى إليها نزار في الجمع بين المرئي واللامرئي، الذي تجسد عنه مقابلة لونية تحمل في طياتها جدلية الأبيض والأسود، حيث تردد اختيارهما لدى الشاعر بدلالاتهما الصريحة وغير الصريحة كذا من مرة، ترددا يعد أكثر مطاوعة في بناء تشكيل شعري يعبر من خلاله عن واقع الأمة العربية بعامة، وبالتالي فقد منح الأبيض والأسود كثافة في التدليل نظرا لدرجة تأثيرهما «… في الأشياء والنصوص والظواهر، فضلا عن تجذر القيمة الثقافية والسيميائية والتشكيلية في حياة الشعوب»[20]، فهما القاعدة المرجعية، والجذر الأصل لفسيفساء الألوان جمعاء، إذ أن حقيقتها تكمن في هذين اللونين، وهذا ما هو متجذر في التصور الفكري والثقافي والنقدي العربي( القديم)، على أن « اللون في الحقيقة إنما هو البياض والسواد»[21]، وإذا كان الأسود هو ضد الأبيض في كل خصائصه، فإن نزار يمزج بين هذين اللونين المتضادين ليمنح التشكيل الشعري فاعلية سيميائية، ناتجة عن براعة الشاعر في كيفية اللعب على هذه المتضادات، وذلك « من أجل خلق فضاء من التوتر القرائي الذي يتطلب- من القارئ- فحص نتيجة هذه اللعبة التضادية للون (الأبيض- الأسود)[22] »، وذلك مما هو واضح في قصيدة “منشورات فدائية على جدران إسرائيل” قوله:
محاصرون أنتم بالحقد والكراهية
فمن هنا جيش أبي عبيدةٍ
ومن هنا معاوية
سلامُكم ممزقٌ
وبيتُكم مُطوّقٌ
كبيت أي زانيهْ…
نأتي .. بكوفياتنا البيضاء والسوداء
نرسم فوق جلدكُم إشارةَ الفداء
من رحم الأيّام نأتي كانبثاق الماء
من خيمة الذلِّ التي يعلكها الهواء
من وجع الحسين نأتي.. من أسى فاطمة الزهراء..
من أُحُدٍ، نأتي.. ومن بدر… ومن أحزان كربلاء… [23]
الواقع أن هذا المقطع يعد لوحة شعرية، نسجها الشاعر بلغة لونية تفسر« الخبرة العميقة الغنية بالحياة واللغة»[24]، فعبّر عن رؤياه الخاصة للواقع العربي، وذلك بالمزج المتناوب بين الأبيض، الذي يعد « رمزا للصفاء والعفة والنظافة والطهارة»[25]، والأسود الذي يعبر عن« الشر الداخلي المستفحل والجبروت النفسي الذي يوحي بالطغيان»[26] الذي نسقطه على السطر الشعري الأول؛ لأن الحقد والكراهية يشيران إلى اللون الأسود، وأسود القلب وصف يدل على الحقد والكراهية[27]، اللذين يمثلان عاملين أساسيين في سعي الكيان الإسرائيلي للطغيان، حيث امتزج هنا الأسود مع الأبيض الذي يعد أيقونة لونية تم استحضارها من أبرياء فلسطين تأويلا سيميائيا في الاستخدام المعنوي.
ضف إلى ذلك أن الملامح السيميائية للامتزاجات اللونية المرئية واللامرئية القائمة بين المتضادات تكمن في الثنائيات الآتية:
سلامكم (أبيض) + ممزق (أسود)
البيت (أبيض) + مطوق، زانية (أسود)
وجع، أسى( أسود) + الحسين، فاطمة (أبيض)
فالتشكيل الشعري القائم على الربط بين أحد، بدر (أبيض) + أحزان (أسود) وبين السلام والتمزق مزج بين الأبيض والأسود، لأن من دلالات الأبيض الطهارة والسلام، والتمزق دلالة على التشتت والدمار وغيرهما من الأفعال الدنيئة التي تصب في نهر الطغيان، كما أن الشاعر ربط بين (البيت) الذي تنخرط أهميته سيميائيا بالتدليل على الفكر الماضي الراسخ والأكثر ديمومة- عهد الصبا- إذ تترسخ صورته في الذهن لما يمدنا به من زاد ثمين عن معنى الحب والألفة ويبعدنا عن التشتت والانطواء، فالبيت علامة الطفولة[28]، التي تمثل السن المماثل والمعبر عن براءة الإنسان وصفائه، وبين( مطوق، زانية) الموحية على اللون الأسود، وذلك في علاقة تضادية يمتزج فيها الأبيض والأسود مثلما هو ماثل في الربط بين (وجع، أسى) و(الحسين، فاطمة)، حيث « يرتبط اللون الأسود بمعاناة الذات وهمومها ويعكس إحساسها بالغياب والفقد»[29]، فالشاعر هنا استحضر الحسين وكذا فاطمة كذاتين ترمزان للعفة والطهارة والبراءة ليدلل بهما على اللون الأبيض، الذي يمزج بينه وبين الأسود المتجذر في معاناة هذه الذات ووجعها، إلى أن يأتي في نهاية المطاف ليعمد إلى عنصر التضاد اللوني بالربط بين غزوتي(بدر وأحد) و(أحزان) ليعكس بذلك ثنائية الصراع بين النصر والانهزام، محققا بذلك مزجا بين اللونين الأسود والأبيض، الذي تكون الغلبة في صالحه، أي غلبة النصر.
هذا عن السياقات التعبيرية التي استطاع نزار أن يمزج فيها بين المتضادات معنويا، أما قوله (نأتي بكوفياتنا البيضاء والسوداء) في السطر الشعري السابع، نكشف من ورائه صراعا بين رمزين، متضادين فالأبيض دلالة على البراءة والصفاء، في حين نجد استحضاره للأسود بدلالة سلبية تعكس حال الواقع السياسي أو واقع السلطة المأساوي، وهذه الأمثلة تبرز مدى تحليق نزار قباني باللون في فضاء القصيدة السياسية، فضاء امتزج فيه وتداخل فن تشكيل الشعر بلغة الألوان، تشكيلا يتمركز على تقنية المزج بين المتشابهات حينا والمتضادات حينا آخر تمركزا سيميائيا، أصبح فيه اللون يحمل قيمة سيميائية منحته بدورها خصوصية علامية قابلة لأن يؤدي وظائف دلالية عديدة ومتنوعة، تختلف باختلاف السياق، ولهذا السبب اقتصرنا على ما توحي به الألوان المدروسة على حسب ورودها في القصيدة الشعرية، فالأبيض مثلا لا يدل دائما على الطهارة والتفاؤل وغيرها من الصفات الإيجابية، بل يحتمل طاقات دلالية أخرى، وذلك نظرا لاختلاف الثقافات والحضارات، وقس على ذلك الألوان الأخرى التي اعتمدها نزار في شعره.
و استحضار الشاعر في قصائده للون جاء لفظا صريجا حينا وغير صريح أحيانا أخرى ، لكن وعلى الرغم من ذلك فقد أجاد في اقتران الألوان، التي أسهمت في خلق تشابه وتوافق فيما بينها من جهة، وبين دوال التشكيل الشعري من جهة ثانية، مما تأكدت قوة حضور اللون بمعطياته السيميائية الجمالية، إذ « لولا تجانس الألوان لمات الشعر بين طيات البشاعة»[30]، فهي لا تتجانس أو تتشابه فحسب، بل قد يحتدم الصراع، كلما ازدادت حدة التنافر أو التناقض بينها، وتلك هي نتيجة بديهية تستأثر قوة الجدل الحاصل بين الألوان كنقطة اللقاء والامتزاج بين اللونين العجائبيين الأبيض والأسود، امتزاجا تتأسس منه معادلة لونية ضدية[31]، فتصبح القصيدة الشعرية « متحركا بصريا عن طريق تمازج الألوان»[32]، الذي يحولها إلى تشكيل لوني ينفتح في الآن بنفسه على تدليل سيميائي، لا بد من إدراك بلاغته.
[1] عز الدين إسماعيل، الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، دار العودة، لبنان، ط2 ،1972، ص241.
[2] صالح ويس، الصورة اللونية في الشعر الأندلسي، مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ط1، 2013، ص128.
[3] أنيس الدغيدي، القصائد الممنوعة لنزار قباني، كنوز للنشر و التوزيع ،القاهرة،ط3،2006ص87.
[4] ابن حويلي الأخضر ميدني، الفيض الفني في سيميائية الألوان عند نزار قباني،( دراسة سيميائية/ لغوية في قصائد من الأعمال السياسية الكاملة)، مجلة جامعة دمشق، مج21، ع(3، 4)، 2005، ص115.
[5] ينظر ، فاتن عبد الجبار جواد ، اللون لعبة سيميائية ، بحث إجرائي في تشكيل المعنى الشعري ، دار مجدلاوي ، عمان ، ط1، 2010، ص150.
[6] ينظر، ابن حويلي الأخضر ميدني، الفيض الفني في سيميائية الألوان عند نزار قباني، (دراسة سيميائية/ لغوية في قصائد من الأعمال السياسية الكاملة)، ص122.
[7] وسام محمد منشد الهلالي، اللون ودلالته في مجموعة(عبر الحائط في المرآة) لحسب الشيخ جعفر،ص6.
[8] ينظر، المرجع نفسه، ص5.
[9] فاتن عبد الجبار جواد، اللون لعبة سيميائية، بحث إجرائي في تشكيل المعنى الشعري ،ص29.
[10] ينظر، أحمد مختار عمر، اللغة واللون، عالم الكتب الحديث، نشر، توزيع، طباعة، القاهرة، ط3، 1430هـ/ 2009م، ص232.
[11] فاتن عبد الجبار جواد، اللون لعبة سيميائية، بحث إجرائي في تشكيل المعنى الشعري، ص91.
[12] أنيس الدغيدي، القصائد الممنوعة لنزار قباني، ص75-76.
[13] ينظر، فاتن عبد الجبار جواد، اللون لعبة سيميائية، بحث إجرائي في تشكيل المعنى الشعري، ص104.
[14] أنيس الدغيدي، القصائد الممنوعة لنزار قباني، ص203.
[15] ابن حويلي الأخضر ميدني، الفيض الفني في سيميائية الألوان عند نزار قباني، دراسة سيميائية/ لغوية في قصائد من الأعمال السياسية الكاملة، ص117.
[16] ينظر، عصام شرتح، مسار التحولات في فضاء القصيدة الحداثية، دار الينابيع، دمشق،ط1 ،2010ص201.
[17] أنيس الدغيدي، القصائد الممنوعة لنزار قباني، ص123-124.
[18] ينظر، سهام راشد، جماليات الصورة وهندسة اللغة في قصيدة بلقيس لنزار قباني، ص43.
[19] . عصام شرتح، مسار التحولات في فضاء القصيدة الحداثية، ص184.
[20] فاتن عبد الجبار جواد، اللون لعبة سيميائية، بحث إجرائي في تشكيل المعنى الشعري، ص43.
[21] المرجع نفسه، ص59.
[22] أثير محمد شهاب، الديكور الشعري، محاولات تأسيسية، دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، سوريا، دمشق، ط1، 2012، ص167.
[23] أنيس الدغيدي، القصائد الممنوعة لنزار قباني، ص345.
[24] صلاح فضل، شفرات النص، دراسة سيميولوجية في شعرية القص والقصيد، رؤية للنشر التوزيع،القاهرة،ط1،2014ص112.
[25] كلود عبيد، الألوان، دورها تصنيفها، مصادرها، رمزيتها، ودلالاتها، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط1، ص61.
[26] كمال نزار المحلاوي، إبداعات لونية وتأثيراتها النفسية، د ط، د ت، ص58.
[27] ينظر، أحمد مختار عمر، اللغة واللون، ص72.
[28] ينظر، منير الزامل، التحليل السيميائي للمسرح، سيميائية العنوان- سيميائية الشخصيات- سيميائية المكان، ص170.
[29] فوزي عيسى، تجليات الشعرية، قراءة في الشعر المعاصر، منشأة المعارف، الإسكندرية، ص195.
[30] فاتن عبد الجبار جواد، اللون لعبة سيميائية، بحث إجرائي في تشكيل المعنى الشعري، ص29.
[31] ينظر، بهاء بن نوار،الكتابة وهاجس التجاوز، قراءات نقدية، ص143.
[32] عصام شرتح، مسار التحولات في فضاء القصيدة الحداثية، ص76.