
سؤال النقد وفعل التجريب في شعرية الرواية “إبط السفينة” لأحمد ختاوي.نموذجاً
حمزة مساعدي طالب سنة ثانية دكتوراه ل.م.د.جامعة مولود معمري – تيزي وزو.الجزائر
مقال نشر في :مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية العدد 37 الصفحة 133.
مقدمة:تستند الرواية على عناصر مهمة هي الشخصية، الحدث، اللغة، الفضاء، الزمن، وتبقى اللغة أهم هذه العناصر، إذ تتطلب التجربة الإبداعية الحديثة وعيا لغويا فنيا وجماليا كبيرا، ينطلق من مفارقات الخطاب الروائي الحديث ومن الواقع اليومي المعيش، ومن لغته وقضاياه، ليقدمها في شكل لغوي يتميز بالفنية والجمالية والشعرية، فتتحول وظيفة النثر من مباشرة عادية إلى إيحائية شعرية، وبهذا تحول الفرق بين الشعر والنثر إلى أمر متجاوز في ضوء نظرية تداخل الأجناس الأدبية.
فهي تستثمر كل تلك الأنواع كأساليب خطابية تثري بها مادتها الروائية، وقد وقف العديد من الدارسين عند هذه الظاهرة(التجريب) التي يتجاور فيها الشعر مع السرد، واعتبروها جوهر الرواية المعاصرة، وهنا يمكن الحديث عن شعرية للغة الروائية أو الرواية الشعرية، التي ارتقت لغتها وتماست مع لغة الشعر، محاولة تحقيق مطلب فني جمالي، بتسخير أدوات الشعر لخدمتها وأصبح التساؤل يطرح حول طبيعة التعامل مع هذا الخطاب النثري الشعري الجديد، وكيفية قياس شعريته في ظل المفاهيم الحديثة التي تعمل على حذف الحدود بين الأجناس الأدبية، خاصة بين الشعر والنثر مما يقودنا للبحث عن كيفية توسل النثر بالشعر، أو استثمار الشعر في النثر أو المجال الروائي.
يعد”أحمد ختاوي”من الروائيين الذين نجحوا في استثمار طاقة اللغة، لتوليد نصوص روائية ذات صبغة شعرية منها:”إبط السفينة”الصادرة عام 2011عن منشورات ليجو ند في الجزائر، وهي من ضمن رواياته التي كانت تحت عنوان: المدينة بدم كذب، بلح الليل، أطياف الرخام، نهيق المقهى، ومجموعته القصصية وغيرها من الأعمال التي نسج بناءها اللغة الشعرية واللغة التقريرية في أن واحد، فكانت بذلك نموذجا ملائما لاستنطاق الظاهرة فيها، من خلال هذه المداخلة الموسومة بـ: شعرية اللغة في رواية”إبط السفينة”لـ”أحمد ختاوي”.
فما هي طريقة”أحمد ختاوي”في استثمار السمات الشعرية في رواياته ؟
وكيف ظهر البعد الشعري في روايته”إبط السفينة”؟
1-اللغة الشعرية في الرواية:
تثير كلمة”شعري”عند النقاد الكثير من الغموض خاصَة”إذا استعملت صفة لعمل ما، فإنها تحمل معها عادة موجة من الإبهام وخاصَة عندما يُطلق على الرواية”([1]).والمقصود باللغة الشعرية في الرواية، تلك اللغة-الفنية التي نلتمس فيها جانبا من الإبداع-، حيث تتقاطع مع لغة الشعر، “فيكون النص ذا طبيعة تقترب به من الكلام المنظوم بلغة ذات تكثيف مجازي، و استعاري، وتوخَي الإيقاع في السرد وتضمين الكلام الكثير من الإيحاء الذي تتصف به لغة الشعر”([2])، وتتعين الكتابة التي يتماس فيها السرد بالشعر بأنها”القصة القصيدة”، وحين استعمال هذا المصطلح فإننا نقيم للنص هوية في منطقة وسط بين عالم الرواية وعالم الشعر، “وتشكل هذه النصوص المتقاطعة هوية النص الأدبي المنفتح على أفاق المعاني والدلالات والتأويل”([3]).فتتحول لغة الرواية بذلك إلى لغة شعرية.
يختلف مفهوم اللغة الشعرية في الرواية التي يهدف البحث إلى دراستها، عن مفهوم النظرية السردية في تحديد مفهوم شعرية الرواية”الذي يتجه إلى ما فيها من الصياغة الأدبية المتخيلة، التي تحيل الحكاية من خبر أو مجموعة أخبار تحكى أو تروى، إلى عمل أدبي يخضع لقوانين تتعلق بطرائق ترتيب الحوادث وتوظيف الأشخاص ووصف المكان واستخدام المنظور و الراوي…” ([4]).
ومن خلال ما سبق يمكن القول أن مفهوم اللغة الشعرية في الرواية الحديثة يختلف عن مفهوم النظرية السردية في الرواية القديمة وذلك لأن اللغة الشعرية تتجه إلى اللغة التي فيها التخيل، والمجاز والاستعارة، على عكس اللغة العادية التي تحكي مجموعة من الأحداث والوقائع.
ولهذا فإن شعرية اللغة تعتمد على استخدام تقنيات الشعر-كالانزياح مثلا-، أما شعرية الرواية فهو مفهوم أعم كما أشار إلى ذلك محمد عبد الحليم غنيم لأنها”تدل على ذلك المجموع من التقنيات التي يخرج بها من عاداتها الموروثة وتصبح لغة النص هائجة ومفاجئة ومراوغة”([5]).
ولقد اقترن ظهور اللغة الشعرية في الرواية العربية، مع ظهور الرواية الحديثة التي جعلت من هذه اللغة علامة بارزة كان ذلك إثر التحول الذي عرفته الرواية بصورة خاصة، بظهور مجموعة من العوامل التي أسهمت في حداثة الرواية وبروز شعرية لغتها منها:
ولأن الخطاب الروائي الحداثي يقوم على بناء لغوي مشحون بالتضاد والمفارقات والرؤى العاطفية، والنبرة الغنائية وتعدد المستويات الأسلوبية، فهو جد قريب من البناء الشعري الذي يتسم بكثرة توظيفه للانزياحات، والتشبيهات، والاستعارات، التي تميز أصحاب هذا التوجه الروائي الحديث.
وبهذا التوظيف فقد صار قريبا من حدود الشعر، فإذا كان الشعر”نتيجة حتمية لكل جهد يبذل لتحسين الأسلوب”([7]).فالرواية الحديثة شعر غير منظوم ولا موزون، ذلك أن الروائيين يعملون على رفع مستوى الخطاب الروائي، انطلاقا من تحسين الأسلوب والارتقاء باللغة إلى ذرى جمالية شعرية، تغيب عندها الحدود بين لغة الشعر ولغة النثر.
وتقول”نتالي ساروت”متحدثة عن تجربتها اللغوية وكتابة الرواية الجديدة في فرنسا”إنني لم استطع قط وضع حدود بين الرواية والشعر”([8]).يقول”ميشال بوتور”انقطعت عن كتابة الشعر منذ اليوم الذي بدأت فيه كتابة روايتي الأولى، لأحتفظ لها بكل طاقتي الشعرية”([9]).وقد أشار إلى أن قِراءته لكبار الروائيين أشعرته بأن في أعمالهم طاقة شعرية مدهشة.
إن تأثير الاتجاه الرمزي في أوروبا”الذي ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، خاصة في مجال الشعر على يد بود لير، ومالا رميه، وبول فاليري، فقد أثاروا العديد من القضايا في مجال اللغة واستعمالاتها الشعرية، وحصروا مهمتها في الإيحاء لدى القارئ…ووجد الروائيون العرب الرمز أقوى في التعبير عن مكنونات الذات وما يعتريها من الآلام، والأحزان مصدرها قتامة الواقع وتعاسته”([10]).
ومن خلال ما تطرق إليه (بوتور) في أن الشعر وسيلة حتمية لتحسين الأسلوب في الكتابة الروائية الحديثة، و(نتالي)التي لم تستطع أن تضع حداً فاصلا بين الكتابة الشعرية والكتابة الروائية الجديدة في تجربتها في فرنسا، يمكن القول بأن الكتابة الروائية عندما ترقى إلى المستوى الشعري فهي تحسينٌ للأسلوب بالدرجة الأولى وتجسيد الأحاسيس والآلام والأحزان التي تنبع من الواقع وتعاسته لتعبر عن شخصية الكاتب من جهة، وعن معانات القارئ أو المتلقي من جهة أخرى، وكل إبداع يكون صادراً من القلب بصدق فإن محله القلب لَا مَحالَ.
وفضلًا عن تأثير الاتجاه الرومانسي في الأدب العربي، وأدباء المهجر”الذين تتجه أعمالهم النثرية، الاتجاه الشعري في لغتها، وفي مقدمتهم جبران خليل جبران”([11]).
الذي أطلق تيار الرومانسية في الأدب العربي، ورسخ لغة شعرية انتقل بها إلى لغة العصر، وحملها معاني جديدة ارتفعت بها إلى شأو بعيد وبلغت قمة التفاعل بين الشعر والسرد تجلت في كتابه (الأجنحة المتكسرة).
ومما سبق يتضح لنا أن اللغة لدى أدباء المهجر تتسم بالشعرية من خلال كتاباتهم النثرية التي كان للتيار الرومانسي الحظ الأوفر فيها فكانت تحمل في طياتها معان إنسانية نبيلة تتجه بالخطاب إلى كافة البشر دون تمييز عرقي أو ديني، فجسدت الأشياء المعنوية في قوالب مادية محسوسة، وخاطبت مالا يخاطب من الجماد وبثت فيه الروح لتوصل وترسم للقارئ أجمل الصور الأدبية و الفنية الإبداعية، وبذلك استحقت أن ترقى إلى مصاف اللغة الشعرية التي تأخذ بالألباب وتسحر المشاعر في جو نثري روائي جديد.
2-شعرية اللغة الروائية:
إن الشعرية خاصية لغوية في الإبداع تكشف عن مدى قدرة المبدع في التعامل مع اللغة، فهي إحدى وظائف اللغة،”وهي ليست خاصة بنوع واحد من أنواع الخطاب كالشعر…، وترتبط بمدى قدرة الكاتب على التجريب في مجال اللغة، يُتجاوز فيه المألوف بإعطاء الألفاظ حمولات دلالية موحية”([12]).
“وتحرص الرواية على أن تكون لغتها شعرية، إذ وجدت أن ترقية لغتها يتم عبر تقليد لغة الشعر، ترفض أن تكون وسيلتها اللغوية هي اللغة النثرية وحدها، فتماست مع الشعر وطوعت لغتهُ لصالحها وبذلك أصبحت الرواية الشعرية”قص هجين يجمع بين السرد والشعر، ويستعين بالوسائل الشعرية على تحقيق بنائه”([13]).
“وقد بدأ التنظير لها في محاولة لإيجاد مميزات خاصة بها مع (رالف فريدمان) في كتابه “الرواية الغنائية”(lyric al Novell) و(جان إيف تادييه) في كتابه”القصة الشعرية”(le récit poétique)، وقد استأنس بعض النقاد العرب بهذين الكتابين في التنظير للرواية الشعرية”([14]).
إن التفات النقاد العرب إلى دراسة الرواية الشعرية، ومحاولة التنظير لها، كان من خلال تحديد خصائص وسمات تتميز بها عن باقي الأشكال الروائية، على غرار ما قام به (سعيد يقطين)في كتابه”القراءة والتجربة”وكذا ما قامت به الناقدة(فريال جبوري غزول) في دراستها”الرواية الشعرية العربية نموذجا لأصالة الحداثة”التي تعد صفة الشعرية فيها مؤشرا على حداثة الرواية.
إن أول الدراسات التنظيرية للناقد المغربي(سعيد يقطين)، حلل فيها أربع روايات في الأدب المغربي المعاصر، ما يجمع بينهما أنها تؤشر على تجربة جديدة في الخطاب الروائي المغربي في السبعينات،تتجلى فيها سمة الشعرية انطلاقا من انتمائها إلى الخطاب الشعري الحكائي، الذي يستعمل متخيل الرواية من شخصيات ومكان وزمان ولكنه يستعمل في الوقت نفسه طرائق السرد التي تعود إلى الشعر، وتوصل إلى أن اللغة الشعرية في الرواية تقوم على:
“اللغة المنزاحة عن اللغة الروائية المعتادة، تكسر عمودية السرد”([15])؛ ذلك أن للأحداث في هذه الروايات منطقها الخاص الذي لا يخضع للمنطق الواقعي، كما عهد ناه في الخطاب الروائي التقليدي، كحرية الشاعر الذي يحطم عمود القصيدة، حضور ذاتية الراوي في السرد، المقاطع المكتوبة بطريقة الشعر الجديد، حيث للبياض مكانه الخاص، تداخل الخطابات، بحيث تنفتح لغة هذه النصوص الروائية على وحدات أسلوبية مختلفة(سياسية، تاريخية، دينية، مسرحية، شعرية…إلخ).
“البعد العجائبي من خلال تقديم بعض الأحداث التي تخرج عن المعتاد الحكائي بسبب طابعها الغريب والعجيب”([16]).
فمن خلال دراسة (سعيد يقطين)لهذه الروايات واستنتاجه لأهم العناصر التي تكون الروية الشعرية، يكون من السهل التفريق بين ما هو سردي روائي يوظف أو يتوسل باللغة التي ترقى إلى مصاف الشعرية، وبين ما هو شعريٌ محض.
أما ثاني دراسة قامت بها (فريال جبوري غزول) و”تنطلق من الربط بين الغنائية والحداثة وتهدف الناقدة إلى تأسيس بويطيقا جديدة للإبداع والحداثة، وتأخذ في اعتبارها الثورة الجمالية الجديدة، التي جعلت قلب المعايير معيارا هاماً في حدِ ذاته، وتقدم تصورها للرواية الشعرية …راصدة آليات تسلل الوهج الشعري إلى بنية النسيج الروائي العربي من خلال تحليلها لثلاث نماذج روائية…وهي لا تميل لاستخدام عروض الشعر وأوزانه، ولا تلتزم بقوافيه وصوره المسكوكة، وإنما تستعير منه قدرته على خلق نسيج لغوي خاص، وجو إيحائي غني بالدلالات وبنية غنائية مرهفة و المقومات التي وضعتها للرواية الشعرية يمكن إجمالها فيما يلي:
استقلالية الفصول، تكرار الموتيفات، عدم استخدام علامات التنصيص والترقيم، لوصف باستخدام المجازات والتشبيهات، المحور الاستبدالي المميز عامة للشعر لا المحور السياقي المميز للخبر”([17]).
هذه بعض خصائص الرواية الشعرية التي توصلت إليها دراسة(سعيد يقطين)و(فريال غزول)، إن كانت الدراسات الأخرى التي قام بها نقاد آخرون قد أسفرت عن معالم جديدة، إذ توصلت هذه الدراسات إلى خصائص مشتركة يمكن أن تجمع بين الروايات العربية الشعرية، مع تفرد بعض الروايات بملامح خاصة، إن اللغة الشعرية ليست مفهوما ثابتا، له قواعده وقوانينه قبلية تحكمه، فالكتابة الأدبية إبداع يتعدد بتعدد الأساليب والتجارب المنتجة للخطاب، فيصبح لكل خطاب ما يميزه عن الآخر.
أ-شعرية اللغة في التقديم:
ب-تجاور الشعر والسرد:
إن الدارس لرواية”إبط السفينة”، يلاحظ أنها تنتمي إلى الكتابة الروائية الجديدة التي حظيت بنصيب وافر من مظاهر اللغة الشعرية وخصائصها الرئيسة، وهذه اللغة تعد الركيزة الأساسية التي اعتمد عليها الروائي في روايته حيث امتزج فيها الشعري بالسردي،”إذ يتداخل المستويان في عملية صناعة النص حد التماهي، إذ تغدو شعرية الخطاب الوجه الأخر لسرديته، ذلك أن الموقع الطبيعي للشعرية هو حيث أُريد لها ضمن منظومة العملية السردية، ومثل هذا الفعل يجعل أي محاولة للفصل بين الوجهين ضربا من العبث”([22])وبناءً على ذلك يمكن رصد وجهين تجسدت فيهما السمات الأساسية للغة الشعرية، وهما:الألفاظ، والشعر الذي يستعمله أحمد ختاوي في شكل تضمين، حيث يحتفظ بشكله المعهود ويرد في سياق معين في الرواية.
ج-التوظيف الشعري للألفاظ:
تحمل مفردات اللغة طاقات إيحائية ذات دلالات متعددة، حيث تتحول المفردة في إطار الاستخدام والتوظيف في النص النثري إلى مفردة شعرية لها من الظلال كأنها في نص شعري، فتنقل للمتلقي تجربة الكاتب النثرية في سياقات شعرية، وتنتج شعرية اللغة التي تنسج بها الرواية من شعرية ألفاظها التي تشحن بمعاني تختلف عن دلالتها القاموسية، فالشعري في الخطاب الروائي كامن في كيفية إعادة تشكيله للألفاظ، وفق معايير جمالية فنية تدفع بالوظيفة الشعرية التأثيرية إلى أقصى فعاليتها، فتكتسب الألفاظ طاقة إيحائية عكست غنائية الرواية.
ولهذا لم يقتصر الطابع الشعري على المقاطع الشعرية فحسب بل تعداه للسرد، فجاءت الكثير من القاطع السردية ذات اللغة التقريرية مشحونة بوهج الشعر، منها قوله:”وتوهج بريق في عيني وأنا ألمحها..أرشقها بعيني..كان رذاذ المطر يختلط بدمعي..وكان المدى بعيدا..بعيدا..رميت جبهة البحر بناظري لالتقاط الجوكاندا ومجاهلها..أو على الأقل أمسك حفنة من ماء البحر..نظري كان صنارة(خائبة)” ([23]).
وقوله:”ردت جدتي…حين يداهمك الحنين…تداهمك تخوم… السربون…تداهمك(حرارة)صنهاجة…زناتة مرر خوذتك على رأس السفينة…وألجم طارق بن زياد…لم يحن وقت العبور…خذ حذرك من باريس التي يؤتمن جانبها…” ([24]).
يقول الروائي:”أحاجي الجدة لم تصلها القداسة ولا نفقات (الفاتيكان)ظلت طاهرة كالشمس وكعنقود عنب، لكن (دوفوكو)أماث اللثام عن وجهها، فصارت خوذة للعابرين نحو الصحراء”([25]).
جاء السرد في هذه المقاطع مشحونا بلغة الشعر، مستعيرا صوره ودلالاته، وهنا تكمن قدرة الروائي على المزج بين نثرية الاسترسال في الحكي، وغنائية الشعر فجاء المشهد ما زجاً بين الشعر والسرد في جو شعريٍ بهيج.
د-توظيف الشعر:
إن ظاهرة تضمين الأشعار ضمن نسيج الرواية ذاتها، أصبح من المظاهر البارزة في الرواية الجديدة كما أن”استخدام الشعر ضمن لغة الرواية يتطلب ألا يبدو غير منسجم”([26])، أي أنه لابد لموظف الشعر في المتن الروائي يجب عليه أن يعمل ويجتهد على جعل النص منسجماً، وذلك بذوبان الحدود الفاصلة بين الشعر والنثر فتبدو الرواية في صورتها الشعرية الجمالية.
ولقد توسل الروائي بقصائد شعرية لإشاعة المناخ الشعري في الرواية، وتنهض هذه المقاطع الشعرية التي انصهرت في الحكاية ببناء نسيج الرواية،واستدعاء، أحمد للشعر يدعم شعرية الرواية ويرفع درجة الغنائية و الجمالية فيها، حين يتحدث عن لحظات عزف جو ليا على البيانو بقوله:”في القرية كان العم..كان الخال..
كانت الدنيا ظل..
ثم قالت جوليا،دعني أقول همسا:
جاني الخير..جاتني لمعاني..
نطقت لحكايا..تبكم الظل..
واطفات نظرات عدايا..”([27]).
وختم أحمد في الأخير روايته بقوله:“الصفصاف يشرب الماء من الماء..ترتوي التلال و المداشر…وفي السفينة من كل زوج اثنين…”([28]).
ومن هنا يمكن القول أن الاهتمام بشعرية الرواية يكون بتحليل لغتها الشعرية، من خلال تقصي الظواهر الأسلوبية التي يتكرر ورودها في الرواية، بحيث شكلت ظاهرة بارزة أعطت للنص طابعه المميز، بالاعتماد على مقومات النص الشعري، للولوج إلى عوالم النص الروائي، وإن الكشف عن شعرية اللغة في رواية إبط السفينة لأحمد ختاوي يستدعي استنطاق بعض خصائصها متمثلة في التضاد اللفظي، الذي يتجاوز سطحية الأشياء إلى عمقها فشعريتهُ تكمن في التضاد نفسه، كما يمكن ملامسة هذه الشعرية في البنية الصوتية والمتجسدة في الإيقاع، الذي لا تخلو الرواية منه والمتمثل في السجع والتكرار، كما يظهر في تراكيب لغوية انزاحت عن مستوى اللغة اليومية التقريرية، وكذا الصورة الشعرية الجزئية .
ذ-الوزن الشعري المتعدد التفعيلات:
قد تخضع بعض النصوص النثرية لوزن شعري معين، ولكنه متعدد التفعيلات”وقد يقرب لغة السرد في الرواية من اللغة الشعرية الموزونة”([29])منه قول الروائي وهو يصف منظر المرفأ عند عودة عمي الطاهر من المهجر واستقبال الناس لأهاليهم:”حمائم المرسى…تتوسط السماء بين الحوضين…قوس قزح يشع نوره…تتوارى الأحاجي…يتوارى التقيؤ…وتندمل جراح الطفلة اللاهثة…هتافات الواقفين على الواجهة تتعالى…وتتوقف الجرائد عن الصدور…”([30])
ويظهر أن الكلام لا يخضع للتفعيلات خضوعا تاما لأنه ليس شعراً، بل جاء ليبين مدى اقترابه من الشعر حتى أن بعض الفقرات تأتي كالقصائد المستقلة يمكن انتزاعها من السياق.
ويظهر ذلك في قوله:
“أفتحت العار..العار..العار..
أملين الخير..
أغلقت منافذ الريح..
أغلقت منافذ البسمة..
وكبرت الحكاية ..
جاني الخير.. جاتني المعاني..
أضحيت أنا الظل..
أنا الشجرة اللي تحكم..
أنا خيوط الحكاية..
أنا البسمة..أنا العودة..”([31]).
ويظهر الإيقاع في هذا المقطع الذي جاء ليكسب لغة الرواية نغمة و موسيقى، لم يفسد نثريتها بل زادها تنوعا وجمالاً.
خاتمة:
قام الروائي- داخل الرواية الحديثة – بمزج جنسين أدبيين في نسيج واحد، هما أبعد ما يكون عن بعضهما الشعر والنثر، بعد أن تمكن النقد الحديث من إسقاط الحواجز بينهما في ظل الاتجاه الذي يدعو لتراسل الأجناس الأدبية والتحاور فيما بينها، وصار اهتمام الروائيين منصبا على اللغة التي أصبحت تشكل معلما من معالم الحداثة، وأصبحت الدراسات الحديثة ترتكز على جانبها الفني الجمالي، بعد أن أصبحت تلجأ إلى عدة تقنيات ترتقي من خلالها بلغتها من المستوى التبليغي الإيصالي النفعي إلى المستوى الفني الإبداعي لتصبح بذلك لغة الرواية شعرية، لقد تمكن الروائي بما يمتلكه من أدوات لغوية أن يعيد تشكيل لغته الروائية التي لامست لغة الشعر عبر استخدام التضاد، والإيقاع والتصوير الفني في الوصف، وهي المظاهر التي تجلت فيها شعرية اللغة عند أحمد ختاوي في روايته”إبط السفينة”، التي سعى البحث لدراستها، وتوصل إلى النتائج التالية:
– يظهر تمازج الشعري بالنثري في الرواية، فالحضور الشعري في الكتابات الروائية أصبح ضرورة حتمية و شكلا من أشكال التعبير الأدبي الفني.
– تحكم الكاتب في لغته الروائية، بحيث ظهر ذلك جليا في التوازن بين الجانب الإيحائي فيها وجانبها التقريري، فعلى الرغم من أن الروائي وظف فضاء خياليا واسعا، إلا أنه تخلى في بعض المقاطع عن لغته الشعرية، فجاءت بعض المشاهد بلغة تواصلية تبليغية، لأن الحدث الروائي يقتضي ذلك.
– اختيار الألفاظ المناسبة بوصفها الوسيلة الأكثر تعبيرا عن التجربة العاطفية من جهة والقدرة على التأثير في المتلقي من جهة أخرى.
– استخدام المؤثرات اللونية والحركية من خلال الوصف الدقيق للغوص في أعماق الشخصيات ومعرفة مكنوناتها.
[1]:بوتور ميشال،بحوث في الرواية الجديدة، ترجمة فريد أنطونيوس، منشورات عويدات، ط1982، بيروت لبنان، ص19.
[2]:خليل إبراهيم، بنية النص الروائي، الدار العربية للعلوم، ناشرون، منشورات الاختلاف، ط1،2010، ص255.
[3]:يقطين سعيد، الرواية والتراث السردي، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة،ط2006،1،ص6.
[4]:خليل إبراهيم،بنية النص الروائي،المرجع السابق، ص255.
[5]:محمد عبد الحليم غنيم،الفن القصصي عند فاروق خورشيد،دراسة نقدية،رسالة دكتوراه،جامعة المنصورة،قسم اللغة العربية،(2001-2002)،ص125.
[6]:يعقوب ناصر،اللغة الشعرية وتجلياتها في الرواية الجديدة (1980-2000)،المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت ،ط1،2004،ص14.
[7]:بوتور ميشال،بحوث في الرواية الجديدة،المرجع السابق، ص11.
[8]:مرتاض عبد المالك،في نظرية النقد،متابعة لأهم المدارس النقدية المعاصرة ورصد لنظرياتها ،للطباعة والنشر والتوزيع الجزائر،2002،ص187.
[9]:بوتور ميشال ،بحوث في الرواية الجديدة ،المرجع السابق،ص16.
[10]:يعقوب ناصر،اللغة الشعرية وتجلياتها في الرواية العربية (1980-2000)، المرجع السابق، ص16.
[11]:يعقوب ناصر،اللغة الشعرية وتجلياتها في الرواية العربية(1980-2000)، المرجع نفسه، ص16-ص17.
[12]:تحريشي محمد،في الرواية والقصة والمسرح،قراءة في المكونات الفنية والجمالية السردية،دحلب للنشر،2007،الجزائر،ص137.
[13]:محمد عبد الحليم غنيم،الفن القصصي عند فاروق خورشيد، المرجع السابق، ص17.
[14]:محمد عبد الحليم غنيم،الفن القصصي عند فاروق خورشيد، المرجع نفسه، ص144.
[15]:سعيد يقطين، القراءة والتجربة، حول التجارب في الخطاب الروائي الجديد بالمغرب، سلسلة الدراسات النقدية1985،دار الثقافة،الدار البيضاء،ص10.
[16]:سعيد يقطين،القراءة والتجربة،حول التجارب في الخطاب الروائي الجديد بالمغرب، المرجع نفسه، ص10.
[17]:محمد عبد الحليم غنيم،الفن القصصي عند فاروق خورشيد، المرجع السابق، ص146.
[18]:ختاوي أحمد، رواية إبط السفينة، ،منشورات ليجوند، الجزائر، 2011، ص5.
[19]:الرواية، ص6.
[20]:الرواية، ص9.
[22]:خليفة قرطي،النمذجة وشعرية السرد في “الأسود يليق بك”لأحلام مستغانمي،ص15.
[23]:الرواية، ص16.
[24]:الرواية، ص33.
[25]:الرواية، ص49.
[26]:حطيني يوسف،مكونات السرد في الرواية الفلسطينية، المرجع السابق، ص200-ص201.
[27]:الرواية، ص48.
[28]:الرواية، ص101.
[29]:إبراهيم خليل، بنية النص الروائي،المرجع السابق، ص256.
[30]:الرواية، ص98.
[31]:الرواية، ص84.