
معنى الحياة في علم النفس
الباحثة / فاتن السكافي الجامعة اللبنانية،بيروت
مقال نشر في مجلة جيل العلوم الإنسانية والإجتماعية العدد 37 الصفحة 25.
ملخّص:هدفت هذه المقالة إلى توضيح مفهوم معنى الحياة كما تناوله علم النفس الفرد متمثلا بعالم النفس التحليلي “ألفرد آدلر” وعلم النفس الوجود متمثلا بالعالم الوجودي “فيكتور فرانكل” ، وتطرّقت إلى تحديد هذا المفهوم وعلاقته بالعلاج النفسي من خلال نظريات وآراء هذين العالمين ،وإعطاء أمثلة من خلال آرائهم ونظرياتهم، كما تم إظهار العلاقة بين هاتين المدرستين في تفسيرهما لهذا المفهوم من خلال التعقيب الذي شرحت فيه الباحثة العلاقة بين هاتين النظريتين في طرحمها لمعنى الحياة ودوره في العلاج النفسي.
الكلمات المفتاحية:معنى الحياة-علم النفس الفردي-علم النفس الوجودي- العلاج النفسي.
مقدمة:
يعدّ مفهوم معنى الحياة من أهم المفاهيم النفسية التي يتم درسها حالياً من قبل أصحاب الاتجاهين الإيجابي والإنساني في علم النفس، وقد جاء ليسدّ النقص في نظريات علم النفس التقليدية، الأمر الذي دفع بعلماء النفس التحليليين والوجوديين والإنسانيين إل ىدراسة هذا المفهوم وتفسيره،هادفين إلى تبلورهذا المفهوم عن معنى الحياة لديهم في علاقته بعلم النفس والعلاج النفسي .
يسعى كل فرد منّا للبحث عن معنى لحياته، ربما دون أن يعرف أنه يقوم بذلك، وقد حاول الكثيرون من العلماء في مجال علم النفس البحث عن معنى الحياة لكل إنسان يتصارع مع نفسه وأن يجدوا هذا المعنى الخاص به وبحياته، وربما المعنى الذي تشترك به الإنسانية جمعاء. كل منّا يمرّ بتجارب حيايتة تتنازعه فيها الأفكار والمشاعر والانفعالات،ولا يجد سبيلاً غير البحث عن الحلول التي تعيد إليه توازنه، وتؤمّن له الراحة النفسية التي يحتاجها ، خاصة عند تعرّضه لضغوط حيايتة معيّنة تُشعره إلى حدّ ما بالفراغ الداخلي مما يدفعه لهذا البحث. وقد حاول علم النفس أن يغوص في أعماق النفس البشرية، علّه يجد ما يدلّه على بداية الطريق نحو ذلك المعنى الحياتي العظيم ما يجعل الفرد يتجاوز مشكلاته الحيايتة وربما يتجاوز من خلاله ذاته الحالية نحو ذات أخرى هادئة مطمئنة. تهدف هذه المقالة إلى البحث في معنى الحياة مع علم النفس التحليلي وعلم النفس الوجودي، من أجل إيجاد هذا المعنى في آراء ونظريات وكتب عالمي نفس هما “ألفرد آدلر” صاحب نظرية علم النفس الفردي و”فيكتور فرانكل” صاحب نظرية العلاج بالمعنى ، وذلك بطريقة موضوعية وعلمية. يعتبر هذا البحث قراءة علمية لمعنى حياة مستوحى من نظريات فذّة في علم النفس وبالرغم من الاختلافات الجذرية بين هذين العالمين إلا أن الباحثة استطاعت أن تقارب بين نظرياتهم وفلسفاتهم وأن توثّق المسار الذي جمعهم أي إيجاد معنى للحياة من خلال معرفة الإنسان للنفس البشرية وفهمها.
مشكلة البحث وتساؤلاته :
لم يحظ مفهوم معنى الحياة بالدراسات الكافية خاصّة من قبل علماء النفس حتى ظهور نظرية “فرانكل ” في العلاج بالمعنى، وقد تناوله “آدلر” في كتابه “معنى الحياة ” من وجهة نظر تحليلية ، طبعته بتأثّره بنظرية فرويد في التحليل النفسي. كما أن هذا المفهوم حديث نسبياً خاصة لجهة البحث فيه من قبل علماء النفس العرب، كما لم تتم دراسة العلاقة التي تتناوله من خلال مقاربات نظرية بين علم النفس التحليلي وعلم النفس الوجدوي، مما استدعى دراسته وإجراء هذه المقاربة النظرية حوله من خلال ما طرحه هذين العالمين الفذّين.
تتبلور مشكلة الدراسة في السؤال الرئيسي التالي:
– هل يتلاقى علم النفس الفردي (التحليلي) وعلم النفس الوجودي في تفسيرهما لمفهوم معنى الحياة؟
وينبثق عن هذا السؤال الأسئلة التالية:
– ما هو مفهوم معنى الحياة ؟
– كيف تم تفسير مفهوم معنى الحياة في علم النفس الفردي وعلم النفس الوجودي؟
– هل لمفهوم معنى الحياة دور في العلاج النفسي؟
– ما هي العلاقة بين علم النفس الفردي وعلم النفس الوجودي في تناولهما لمفهوم معنى الحياة ؟
1- مفهوم معنى الحياة :
ارتبط معنى الحياة بتساؤلات ذاتية: هل يعرف الإنسان ذاته؟ سؤال يطرحه الإنسان أو لا يطرحه على ذاته، ولكن من المؤكد أنه السؤال الذي تناوله الفلاسفة والعلماء النفسيون والاجتماعيون من خلال دراساتهم وكتاباتهم ونظرياتهم . إن معرفة الذات من المواضيع التي طُرحت ولا زالت تُطرح وعلى مختلف الأصعدة لأن معرفة الذات تعتبر بنظر الكثيرين هي الطريق الذي يؤدي إلى فهم هذه الذات وبالتالي الوصول لمعنى الحياة الحقيقي. ويعتبر مفهوم معنى الحياة مفهومًا غامضاً ومتعدّد المعاني بحدّ ذاته، تبعاً لفلسفة الفرد ومعتقداته وتجاربه وخبراته، وقد اتفّق معظم العلماء على أهمية أن يشعر الفرد بأن هناك معنى لحياته، ولوجوده مما يشعره بالتالي بقيمته وإنسانيته، وقد ارتبط مفهوم معنى الحياة بمفهوم الذات بطبيعة الحال، فمن خلال معرفة الذات يصير معنى الحياة واضحاً لدى الإنسان. إن طرح هذه المفاهيم ليس جديداً فهو قديم بقدم الفلسفة وقد ذُكر لدى عديد من الفلاسفة وعلماء النفس من مختلف الاتجاهات نظراً لأهميته في فهم الوجود، فعندما تفهم ذاتك هذه الذات التي لا نعرف مصدرها ولا مصيرها، من أين أتت وإلى أين ستؤول؟ قد نستطيع أن نتقبّل وجودنا ونتجنّب الخوف الذي يعترينا، فالإنسان الفارغ من المعنى قد يصبح مضطرباً مفعماً بكثير من المشكلات والاضطرابات النفسية، بل ربما تراوده أفكار حول التخلّص من الحياة.
يعد “فيكتور فرانكل” من أوائل المنظرين لمصطلح معنى الحياة، حيث تولدت لديه هذه الفكرة من خلال معاناته مع مجموعة من المعتقلين في معسكرات الاعتقال في فيينا (سجون النازية) بعد الحرب العالمية الثانية، فقد رأى أن معنى الحياة وليد الظروف والعوامل المحيطة بالفرد، فهو لا يوجد بالتساؤل عن الهدف أو الغرض من الحياة [1]، ولكنه يظهر من خلال استجابات الفرد للمواقف والمطالب التي تواجهه في الحياة[2].
وقد عرّف “فرانكل” (1982)معنى الحياة بأنها: ” حالة يسعى الإنسان للوصول إليها لتضفي على حياته قيمة ومعنى يستحق العيش من أجله، وتحدث نتيجة لإشباع دافعه الأساسي المتمثل بإرادة المعنى”. وهي حالة تجعل الإنسان غير قادر على العيش في نفس الوقت من دون الوصول لمعرفة هذا المعنى الذي يشبع هذا الدافع الأساسي نحو الحياة [3].
أما “آدلر ” فيشير إلى أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش إذا لم يجد لحياته معنى ، فنحن لا نتعامل مع الأشياء باعتبار ما هي عليه ، لكننا نتعامل معها باعتبار ما تعنيه بالنسبة إلينا ، أي أننا لا نتعامل مع أشياء مجرّدة…بل نعرفها ونتعامل معها من خلال ذواتنا [4].
و قد عرّفه “ليث” (1999) بأنه قدرة الفرد على إدارك فرص مكافأة الخبرة الانفعالية،وقدرته على امتلاك شيء و التطلّع إليه[5].
وعرّفه “ريكر” (2004) بأنه معرفة الفرد لنظم أهدافه واتساقها في الحياة،وفهمه لوجوده،والسعي لبلوغ أهدافه،والإحساس المصاحب لتحقيقها[6].
كما عرّفه حافظ(2006)بالقدرة على اكتشاف المعنى أومنحه للمواقف والمصادر الحياتية المختلفة و الإيمان بأن للحياة معان وأهداف ومقاصد جديرةب الانجاز بروح المسؤولية العالية[7].
والبحث عن معنى الحياة ظاهرة وجودية مصاحبة للإنسان طوال مراحل حياته، بغض النظر عن العمر والجنس، والمستوى الاجتماعي والاقتصادي، وهذا المعنى وحيد ومتفرّد ونوعي يختلف من إنسان لآخر، ويختلف داخل الشخص الواحد من وقت إلى آخر، ويؤدي تحقيق الإنسان لمعنى الحياة إلى تحقيق وجوده الأصيل، أما عجزه عن تحقيق معنى لحياته فيؤدي إلى شعوره بحالة تعرف باسم الفراغ الوجودي أو الخواء المعنوي[8].
2-التفسير النظري لمفهوم معنى الحياة في علم النفس الفردي وعلم النفس الوجودي:
أ- معنى الحياة في علم النفس الفردي (التحليلي) :
أثبت التحليل النفسي وجوده في علم النفس، بل تجاوز علم النفس نفسه وتقدّم بخطى واثقة نحو عالم الطب النفسي! ولا نستطيع إنكار الخدمات الهائلة التي حققّها هذا العلم ، خاصة من خلال الكشف في أغوار النفس البشرية وما تنطوي، من خفايا خطيرة، وقد كان الفضل الأكبر يعود بذلك للعالم “سيغموند فرويد” ومدرسته التحليلية التي قدّمت مفاهيم غيّرت مجرى تاريخ علم النفس، وقد تعرّضت الفرويدية نفسها لاحقاً على يد فرويد نفسه أوّلاً، إلى بعض التعديلات، ذات الصّلة باللاشعور أو العقل الباطن وبالتحليل النفسي والعلاج النفسي، وأصبح هناك نوعان من الأفكار التي تُنسب إلى “فرويد”: أفكاره القديمة المبكرة وأفكاره المتأخرة عن اللاشعور.
ولاحقاً مع علماء التحليل النفسي والذين خالفوه وعارضوا وجهات نظره في اللاّشعور وفي التحليل النفسي وفي حجم تأثير العوامل البيولوجية والدافع الجنسي في تشكيل سلوك الفرد، وكذلك اختلفوا معه في تفسير الكثير من القضايا ذات الطابع “السيكو-فلسفي”، كالدين والحضارة والعادات والتقاليد والثقافة وغيرها ، خاصة مع الإضافات التي قام بها العديد من طلاب ومعاوني “فرويد” على هذه النظرية خاصة “ألفرد آدلر” و “كارل يونغ” و”إريك فروم” وغيرهم ، ورغم اختلافهم مع “فرويد” حول العديد من الأمور إلا أن هذه الاختلافات تعتبر اختلافات تكاملية تملأ ما قد يكون ناقصاً .
قدّم “ألفرد آدلر”أحد أعلام المدرسة التحليلية في كتابه “معنى الحياة ” أو ما الذي قد تعنيه لك الحياة؟ الذي شرح فيه كيف يستطيع الفرد التعويض عن شعوره بالنقص والوصول إلى هدفه بالتفوق. ويقوم “آدلر”-الخصم العنيد لفرويد والزميل والشريك له في نظرية التحليل النفسي – بشرح وجهة نظره أي “علم النفس الفردي” في معنى الحياة،وما يسميها المشكلات الثلاث الأساسية التي تواجه الفرد في حياته،وهي العمل والعلاقة مع باقي أفراد المجتمع والزواج، كما أنه يطلعنا على أهمية “التعاون” في مواجهة المشكلات الثلاث؛ وقد اعتبر أن علم النفس هو العلم الذي يعمل على معالجة القصور من خلال”التعاون”.
وقد حدّد “آدلر”في كتابه معنى الحياة[9]ثلاث مهام رئيسة تُشكِّل ماهية ومكونات معنى الحياة، أسماها الظروف الاضطرارية وهي: الظرف الاضطراري الأول: ويتمثل في أن نعيش حياتنا في ضوء ما يوفره لنا كوكبنا الصغير من موارد طبيعية محدودة، ونطورها ونحسن استغلالها في حدود معارفنا، وهذا يتطلب تطوير أجسامنا وعقولنا حتى تستمر حياتنا على الأرض، أما الظرف الاضطراري الثاني: يتمثل في أن كل واحد منا عضو في جماعة لا يمكنه أن يعيش بمعزل عنها، أو يحقق أهدافه بدونها، فنحن كأفراد مرتبطين ببعضنا ارتباطًا وثيقًا، وهي رابطة تمثل في أهميتها الحياة نفسها، وبدون هذه الرابطة فإن الحياة نفسها لن تستمر، وأما الظرف الاضطراري الثالث: يتمثل في أن الجنس البشري يتكون من رجل وامرأة، ولا يمكن للحياة أن تستقيم بأحدهما دون الآخر.ويتضمن معنى الحياة ثلاث مكونات فكرية ترتبط بإدراك الفرد لمعنى حياته، والخبرات التي تثري المعنى، ومكونات سلوكية ترتبط بما يقوم به الفرد من سلوك يترجم هدف حياته المدرك بشكل واقعي في حياته، ومكونات وجدانية ترتبط بإحساس الفرد بأن حياته لها قيمة، ورضاه عنها من خلال ما حققه من أهداف. ويعتبر آدلر أم معنى الحياة لأننا نتعامل مع كل شيء من حولنا تبعاّ للمعنى الذي نحمله بداخلنا عن هذا الشيء، فالأشياء التي توجد من حولنا لا نتعامل معها إلا من خلال ذواتنا نحن. وإذا نظرنا إلى حقيقة ما يحيط بنا نجده متأثراً بوجهة نظرنا نحن عنه، لأنه من العوامل المؤثرة في الحياة البشرية. فلن يستطيع أي إنسان الهروب من المعاني التي تحيط به من خلال كل شيء.
إن علم النفس الفردي قد اكتشف أن كل مشاكل البشر يمكن تصنيفها تحت هذه النقاط الثلاث الرئيسية: وظيفية، واجتماعية، وجنسية، وأن ردود أفعال البشر تجاه هذه المشاكل هي التي تكشف طبيعة فهمهم الشخصي لمعنى الحياة.
– المشكلة الأولى: علينا أن نجد وظيفة تمكننا من الحياة في ظل القيود المفروضة علينا بحكم وجودنا على الأرض.
– المشكلة الثانية: علينا أن نجد لأنفسنا موقعاً –تحت الشمس- يمكننا من التعاون مع باقي أفراد المجموعة، التي نعيش فيها بحيث نفيد ونستفيد من بعضنا البعض.
– المشكلة الثالثة: يجب أن يتسّع صدرنا لحقيقة وجود نوعين-رجال ونساء- وأن استمرار الجنس البشري يعتمد على العلاقات بين النوعين[10] . يدعونا “آدلر” أن نقبل وجودنا ووجود الآخرين في حياتنا وأن هذا الوجود المشترك يفرض علينا التعاون مع بقية البشر، فمعنى حياتنا يكون في إيجاد طرق تمكننا من العمل وبتعاون مع الآخرين، وأن نتقبّل كذلك حقيقة جنسنا البشري وتقبّل الجنس البشري والتعايش معه. إن فكرة التقبّل هذه للوجود البشري ترجعنا لمفهوم القدر، فنحن كبشر لم نختار وجودنا بل وُجدنا علة الأرض من دون اختيار، وعلينا أن لا نحارب هذه الحقيقة بل أن نتقبلها وأن نبحث عن كل السبل للمحافظة على وجودنا من خلال العمل والتزاوج والتشارك، فالإنسان لا يستطيع أن يجد معنى لحياته من دون تكامل هذا المعنى بوجود آخرين في حياته. ونجده يتابع ضمن نفس الفكرة عندما يعتبر أن كل إنسان- أياً كان مكانه أو مكانته- في المجتمع يتطلّع إلى وجود معنى لحياته ولكننا نرتكب خطأ شنيعاً إذا ما اعتقدنا أنه من الممكن أن نجد هذا المعنى لحياتنا بمنأى عن الآخرين وأن حياتنا يكون لها معنى عندما نساهم مساهمة إيجابية في حياة الآخرين، وهو يقول ضمن هذا الإطار: “إن حياة الإنسان العبقري لن يكون لها معنى إلا إذا اعترف الآخرين بأن لها هذا المعنى”[11].
ب- معنى الحياة في علم النفس الوجودي :
يُنظر إلى معنى الحياة عند الوجوديين من خلال الوجود نفسه، أما عن أحوال الوجود أو شروطه عند الوجودية يمكن أن تُرد إلى أحوال ثلاث: ضرورة الالتزام والمخاطرة-أولوية الذاتية- ومكابدة اليأس والقلق. يقول “كيركجورد” :”لا بد لي، وأنا أعاني الحياة، أن أصير أنا نفسي، قاعدة لسلوكي، بفضل تلقائية عقل وقلب مؤاخين بالفطرة، للحق والخير. وبهذا وحدة، تصبح الحقيقة حقيقتي أنا ، إذ لا وجود لحقيقة بالنسبة إلى الفرد إلا ما ينتجه هو نفسه أثناء الفعل، فالحياة هي والحقيقة شيء واحد”. فالعاطفة عنده مرتبطة بالحقيقة والوجود وهي ذروة الذاتية وهي بالتالي أكمل تعبير عن الوجود[12].
ويُعدّ “فيكتور فرانكل” هو أول من أشار إلى هذا المفهوم أي معنى الحياة باعتباره الدافع الأساسي والجوهري لدى الإنسان، حتى عدّه المفهوم المحوري في نظريته عن الشخصية الإنسانية، وقد تبلورت أفكاره عن هذا المفهوم إلى ابتكار أسلوب فعال وجديد في العلاج النفسي أسماه العلاج بالمعنى، ولقد تأثر “فرانكل” في بادئ الأمر بالتحليل الفرويدي عند تفسيره للسلوك البشري، لكنه سرعان ما تحول إلى المفاهيم الوجودية، إيمانا منه بعدم كمال التحليل النفسي فالإنسان من وجهة نظره أكثر من مجرد جهاز نفسي محكوم بغرائزه الشهوية المكبوتة[13].
وتتلخص نظرية المعنى في الحياة لدى “فرانكل” في ثلاث ركائز أساسية هي: أ- حرية الإرادة وتعني أن الإنسان على الرغم من الحدود التي تحكمه مثل الوراثة والبيئة إلا أنه يمتلك حرية اتخاذ قراراته التي يواجه بها المواقف المختلفة التي يتعرض لها، ومن ثم فإن الحرية هنا تعني القدرة على الاختيار، وهي متغيرة من فرد لآخر ومن موقف لآخر. ب- إرادة المعنى وهي الركيزة الثانية للعلاج بالمعنى عند “فرانكل”، وتعني سعي الفرد للتوصل إلى معنى محسوس وملموس في الوجود الشخصي – أي إرادة المعنى- ولذا فإن على الإنسان أن يسعى ويجتهد في سبيل هدف يستحق أن يعيش من أجله؛ لأن هذا يساعده على البقاء بفاعلية حتى في أسوإ الظروف. جـ – معنى الحياة: وهي الركيزة الثالثة للعلاج بالمعنى وتنص على أن الحياة ذات معنى تام وغير مشروط في كافة الأحوال والشروط، ويتحقق معنى الحياة لدى الأفراد من خلال ابتكاراتهم، أو ما يكتسبونه من خبرات من العالم المحيط، أو من خلال مرورهم بمواقف مصيرية تمت مواجهتها[14].
يذكر “فرانكل” في كتابه الإنسان يبحث عن المعنى- وفي وصفه للعذاب في المعتقل -أن الوجود في عالم متوحش يطلب منك أن تكون وردي اللون باستمرار، يطلب منك أن تعمل بمقياسه الرقمي الوحيد: أن تُظهر قدرة كافية في العمل والإنتاج، والاستهلاك؛ وأن لا تعرج أثناء المشي، وإلا فلو لوحظ ذلك عليك فسيكون مصيرك غرف الغاز لتتبخّر مع تلك المداخن! كيف يواجه الإنسان هذا ب”إبتسامة”، تتسامى من غير سذاجة بحثاً عن المعنى! لم لا و”ردّ الفعل غير السوي،إزاء موقف غير سوي، هو هنا استجابة سوية!” من يُحوّل إلى مستشفى الأمراض العقلية، سيكون لهذا التحويل ردود أفعال غير سويّة هي: مقياس درجة سوائه! إنها ظروف تحاول أن تقتل كل قيم الأنا التي يجب أن تكافح لحفظها وتقديرها حتى الرمق الأخير.
في ظروف بئيسة ينتقل المُعذّب فيها إلى الطور الثاني من ردود الفعل: “طور البلادة والموت الانفعالي إزاء ردود الأفعال العقلية”، هكذا تجري إماتة أي رد فعل سوي لديك. ويتبلّد حينها الرائي والمرئي من كل شيء سوى الإحساس بالإهانة. ولكن هذه الإهانة تتخطى خدش قداسة ” معبد” الجسد المتسامي! إلى خدش معبد الروح الرباني. البلادة تصبح حيلة دفاع ذاتي ذات أسباب نفس-جسمية يتقوقع فيها المرء لينكص إلى الأحلام البيولوجية التي تدور حول”الخبز”[15].
والعجيب أن الاهتمام الديني ينمو بسرعة وبشدّة في هذه الظروف، فعمق الإيمان الديني كان مدهشاً لأي زائر لتلك المجموعات البشرية المعذّبة ذات الظروف العسيرة… “أليس في هذا الاهتمام الديني لهؤلاء البؤساء معنى وجدوا فيه التسامي الذي يخفّف عنهم آلامهم؟” … “ومن الحب وفي الحب يكون خلاص الإنسان.فالحب هو الخاتم الذي يبصم نفسه على القلب، وهو في قوته كالموت في وقعته”.إن الطريقة التي يتقبّل فيها الإنسان قدره ، هي التي تحدّد ماسيكونه من معنى؛ فكل شيء من الممكن أن يؤخذ من الإنسان عدا شيئاً واحداً هو آخر بوارق “حرّيته”: أن يختار اتجاهه في ظروف معيّنة، أن يختار طريقه! أن يختار المعنى والتسامي ! أن يختار الأمل كعلاج عندما تكون الآلام والمعاناة جزءاً من الحياة لا تكتمل بدونها، ولا يملك الإنسان تغييرها. يكون للوجود أهمية تستحق أن نحياها عندما يكون هناك معنى وهدف نسعى في هذه الحياة لمعايشته، وللاستمتاع بمغزاه، بل ونتخطاه دوماً في رحلة تسامي متعالية.والمحيط يوجد فيه جنس إنساني مهذّب وجنس إنساني سافل، وكلاهما يتغلغلان في كل الجماعات البشرية، ولا يوجد جنس نقي خالص،أو جنس سافل خالص، “والواجب هو اختراق الوجود بحثاً عن المعنى”! ليتم التسامي[16].
الحب هنا هو التسامي نحو الإله ، نحو الله صاحب الكمال ، فالحب هو الشعاع من الذات الصاعدة نحو الإله. والحرّية تكمن في الاختيار حتى في أصعب الظروف الحيايتة، وهذه الحريّة تحتاج للمسؤولية والتركيز على الحاضر والمستقبل.حين يواجه الفرد مشكلات الحياة، ينبغي أن يتسامى من خلال إرادة الحياة التي ذكرناها مسبقاً، وهي كما يعتبرها “فرانكل” ليست مجرّد ميكانزمات دفاعية بل هي قوّة أولية لأن الحياة أكبر من مجرّد ردود فعل! والمواجهة يجب أن تكون بأخلاق وضمير سليم،والصراع الداخلي لدى الإنسان ليس بالضرورة مرض نفسي يحتاج للعقاقير بل هو دليل على سويّة الإنسان وعلى إنسانيته.ما ذُكر سابقاً هو البلسم لحالة اللامعنى أو الفراغ الوجودي، قلقاً ومللاً في أوضاع أصبح الفتية فيها يعلنون بألسنتهم عن الجهاد في تضييع الوقت في …؟ بعد أن فقدوا كل جذوة وعي إنساني بله إيماني يُشعرهم بالإحساس بالزمن…الفراغ الذي يقع ضحاياه فريسة للمسايرة والامتثال والتدجين الجماعي،كما هو بارز في ظاهرة عالمية بشكل صارخ معلنة “الإحباط الوجودي”، العُصاب الجماعي، والعدمية المادية، التي لا ترى للوجود معنى! المنتهى غالباً في التعويض الجنسي الغفل! التعويض الذي يصبح متفشياً عند فقدان المعنى في هذا الفراغ الوجودي.
إذن البحث عن المعنى والتسامي إليه يحاولان أن يستثيرا روح المسؤولية للعثور على معنى للحياة التي يجب أن يكوّنها الإنسان من ذاته هو لا من إسقاطات الغير كل الغير، فالمعنى ليس نصائح أخلاقية ولا حتى تعليم منطقي-المعنى أعمق من المنطق لمن تأمل- وإنما حفر في الضمير” الحفر في اليابسة بدل الماء، والفارق بين المعالج بالمعنى وغيره هو الفارق بين الرسام وطبيب العيون”فالرسام يحاول أن يرينا العالم كما يراه! أما طبيب العيون فإنه يساعدنا أن نرى العالم بأعيننا نحن!… ومع ذلك فإن الوجود الحقيقي للإنسان ليس فيما يُسمى تحقيق الذات فحسب، وإنما في التجاوز لهذه الذات التجاوز الذي لا يمكن أن يتم إلا من معناها والتسامي لمعنى معناها! والمعاناة والألم يزولان بمجرّد أن تكتسب الحياة معنى متوالياً متسامياً[17]!
3- دور معنى الحياة في العلاج النفسي :
يشرح “آدلر” أن مهمة علم النفس هي أن تمدّ البشر بالقدرة على فهم “المعاني” والطرق التي تؤثر بها هذه “المعاني” على البشر ومقدراتهم، فهذا الدور يعتبر هو الدور الأساسي لعلم النفس بنظره. فالمعنى الذي نختاره لحياتنا سوف يلتصق بنا طوال وجودنا على الأرض، لذا سيكون علينا أن نفهم بمساعدة علم النفس، كيف تشكّل هذا المعنى، فتعريف معنى الحياة يختلف من فرد لآخر ويجب أن نعرف لماذا اختلفت المعاني، والعمل على التقويم وإصلاح التعريف الخطأ لمعنى الحياة. إذا كان حجم الخطأ كبيراً فلا يمكن التغاضي عنه بل يجب العمل على إصلاحه. يصرّ “آدلر” على معرفة لماذا تختلف التعريفات لدى الأفراد عن معنى حياتهم لأن اعتماد معنى حياة خاطىء لحياتك قد يكون له تأثير مدمّر على هذه الحياة، فأكبر مشكلة قد تعترض حياتنا هو فهمنا الخطأ لمعنى حياتنا، وكيف ندرك هذا المعنى من وجهة نظرنا نحن وبالتالي كيف نواجه الحياة انطلاقاً من هذا المعنى الخاطىء. وضمن هذا الإطار يشير “آدلر” في كتابه أيضاً إلى أن التعريف ل”معنى الحياة” عندما يكون شديد البعد عن الحقيقة وممتلئاً بالأخطاء الخطيرة، وعندما تكون طريقتنا الخاطئة في معالجة المشاكل والمواقف التي تواجهنا تؤدي إلى الفشل والخسارة في كل مرّة ،فإننا نكون غير مستعدين للتخلي عن تلك الطرق الخاطئة ولهذا فإن الأخطاء التي نرتكبها في فهمنا لمعنى حياتنا ، لا يمكن إصلاحها إلا من خلال إعادة النظر –بصورة شاملة- في الموقف الذي أدّى بنا إلى هذا الفهم الخاطىء ل”معنى الحياة”، لأنه من خلال التعرّف على الخطأ الذي ارتكبناه واستبدال نظام الماضي بنظام مخالف له فإنه يمكننا عكس طريقة عمل هذا النظام الإدراكي الترابطي[18].
ولكن كيف سيعرف الإنسان أن فهمه لمعنى حياته هو فهم خاطىء؟ وهل يستطيع وحده تغيير هذا الفهم الخاطىء؟ يذكر “آدلر” أنه في بعض الحالات النادرة، فإن النتائج الخطيرة-من فشل وخسارة-والتي تواجه الفرد قد تتسبب في أنه سيضطر إلى تغيير التعريف الذي قام بإلصاقه ب”معنى حياته” وعندها فإنه قد يتمكن من النجاح في تغيير طرقه الخاطئة في معالجة المشاكل بنفسه ودون مساعدة من أحد. لكنه يجب أن نذكر هنا أن مثل هذا النجاح لا يحدث إلا في وجود ضغوط اجتماعية أو عندما يصل الشخص إلى قرار بأن “الاستمرار في هذه الطرق الخاطئة ما هو إلا تدمير للذات”. يقول “آدلر”: “نحن نقرّر “معنى الحياة” بالنسبة إلينا، خلال السنين الخمس الأولى من وجودنا على الأرض، ورغم أن هذا ليس حقيقة مجرّدة مثل الحسابات الرياضية، فإن محاولات التحسّس الدائم في الظلام واختبار مشاعر جديدة لا نستطيع فهمها ومحاولة فهم تلميحات الآخرين وشرحها بطريقة مناسبة لنا، كلّها يؤدي إلى التعريف الفريد الخاص بنا”[19].
ويشير “فرانكل” ضمن نفس الإطار إلى أن لمعنى الحياة هدف مؤكد وهو أن ننطلق من ذواتنا بعد أن نفهم هذه الذات، ونفهم ما الذي تريده من الحياة، ننطلق بذات مُدركة لطبيعة الحياة والوجود ، ذات تعرف ما لها وما عليها، تُدرك أن حقيقتها الوجودية ترتبط بكل ما يحدث في الكون من حولها دون أن تترك تلك الأحداث تسيطر عليها، بل تتقبّل قدرها في الوجود وتسعى بكل حرّية نحو الوجود، تدرك ما حولها بصورة كلّية شاملة، ولكن لا تقيّد نفسها بتلك الأحداث ، والتجارب، بل تتخطاها نحو ما هو أسمى ، نحو اختيار حرّ لأهداف الحياة، أي كما يقول فرانكل ” يجب أن نترك له حريّة اتخاذ القرار بشأن إدراكه لنفسه كشخص مسؤول، يتحمّل مسؤوليته باختياره لأهدافه في الحياة”[20].
ويشير “فرانكل” ضمن نفس الموضوع إلى إن الطريقة التي يتقبّل بها الإنسان قدره ويتقبّل بها كل ما يحمله من معاناة، والطريقة التي يواجه بها محنه، كل هذا يهيء له فرصة عظيمة حتى في أحلك الظروف ، لكي يضيف لحياته معنى أعمق. فالإنسان الذي يترك نفسه للتجارب والظروف كي تصنعه أو بالأحرى تصنع له المعنى لحياته، سيبقى مقيّداً عبداً لتلك الظروف، أما الإنسان الذي يتجاوز تلك الظروف إلى المعنى الأعمق للحياة فإنه حتماً سيعثر على ضالته. فنلاحظ بأن التقيّد بالتجارب هو ما يعيق وصولنا للمعنى الحقيقي الذي نسعى نحوه ونجد “آدلر” يقدم الأسلوب الذي يساهم في إيجاد ذلك المعنى من خلال –التعاون والمساهمة- لمواجهة الصعاب بشجاعة والوصول نحو النجاح، في حين يرى “فرانكل” أن الجوهر الحقيقي للوجود الإنساني هو “بالالتزام بالمسؤولية”. فنجد أن معنى الحياة في علم النفس الفردي يرتبط بوجود الآخرين في حين أن معنى الحياة الوجودي يرتبط بالفرد نفسه، بإرادته ومسؤوليته واختياراته.
ولكن هذا لا ينفي في الوقت عينه أن “آدلر” يدعو الفرد للعمل على تشكيل حياته بنفسه ودون مساعدة من أحد ، أي أن يكون الفرد مستقلاً بذاته وفي نفس الوقت يتعاون مع الآخرين، ويشرح فكرته [21] من خلال التساؤلات التالية : ما فائدة حياتي؟ وما جدواها؟ وما الذي أجنيه من هذه الحياة؟ ويطلب من الإنسان أن يفكّر قائلاً لنفسه :” إنه من الواجب عليّ أن أعمل على تشكيل حياتي بنفسي، فإن هذا هو واجبي وأنا قادر على القيام بهذا الواجب، فأنا أسيطر على أفعالي وأقيّمها ، وإذا ما احتجت إلى تغيير شيء قديم أو بناء شيء جديد فإنني الوحيد القادر على القيام بهذه الأعمال”. ويؤكد “آدلر” بدوره على أهمية الإرادة والاختيار والمسؤولية فهو يطلب من الإنسان أن يختار بإرادته أفعاله وأن يكون مسؤولاً عنها، ويشجّعه على المضي قدماً نحو تحقيق أهدافه وأن لا يترك نفسه رهينة للظروف والمواقف تأخذه أينما تريد، فهو من عليه أن يوجّه أعماله. ويضيف بأنه لو تم النظر إلى الحياة بهذه الطريقة ، أي لو تعاون الجميع من خلال ذوات مستقلّة عن الآخرين في نفس الوقت، فإن الحضارة الإنسانية لن يكون لتطورها حدود. وهو بهذا ورغم اهتمامه بمبدأ التعاون، ولكنه يؤكد من خلال نظريته في علم النفس الفردي على أهمية الذات المستقلّة التي تختار وتدير شؤون حياتها، انطلاقاُ من ذاتها ولكن ليس بمعزل عن الآخرين.
أما في العلاج بالمعنى فيعطي “فرانكل” صاحب هذه النظرية منزلة عالية للأبعاد العقلية والروحية للإنسان، على أنها من أهم الأبعاد المساهمة في صحته النفسية. أو كما يسميه الإحباط الوجودي لعدم معرفة الإنسان لبعده العقلي أو الروحي في الحياة حيث يقول ” قد تتعرض إرادة المعنى عند الإنسان أيضاً إلى الإحباط وهو ما يعرف (بالإحباط الوجودي) وفقاً لنظرية العلاج بالمعنى…. وقد يتمخض الإحباط الوجودي أيضاً عن المرض النفسي”. ويرى “فرانكل” أن العلاج بالمعنى يتميز بقدرته على التعامل مع النواحي الروحية للإنسان لذا فهو مناسب لعلاج حالات المرض النفسي المعنوي المنشأ. ويصف “”فرانكل الضيق والقلق المتعلق بالحياة وحتى اليأس منها بأنه راجع لضعف الناحية الروحية للإنسان. ويقول “فرانكل” في مقارنة للعلاج بالمعنى بالتحليل النفسي بأن” الخوف الواقعي، كالخوف من الموت مثلاً لا يمكن تهدئته وتفسيره إنطلاقاً من التفسير النفسي-الدينامي، ومن ناحية أخرى فالخوف العصابي (المرضي) لا يمكن علاجه بواسطة فهم فلسفي. فما قد يعتبر سببًا للعصاب ويعني به العقد والصراعات والصدمات، هو في بعض الحالات عرض للعصاب أكثر من أن يكون سبباً له، أما بالنسبة للتعليل الحقيقي للأمراض النفسية بصرف النظر عن العوامل التكوينية، سواء أكانت نفسية أو جسمية، من حيث طبيعتها، فإن ميكانيزمات التغذية الراجعة كالقلق التوقعي تبدو كأنها العامل الأكبر الذي يكمن وراء هذه الأمراض النفسية ويوجدها. فالعرض يستجاب عليه بواسطة خوف مرضي، والخوف المرضي يفجّر العرض، والعرض بدوره يدعم الخوف المرضي[22].
4- تعقيب : العلاقة بين علم النفس الفردي (التحليلي) وعلم النفس الوجودي (العلاج بالمعنى) في تفسيرهما لمفهوم معنى الحياة:
قامت نظرية “فرانكل” على أساس انتقاداته التي وجهها لكل من التحليل النفسي الفرويدي، وعلم النفس الأدلري، حيث يرى “فرانكل” أن مبدأ اللذة الفرويدي ودافع المكانة الأدلري غير كافيين لتفسير السلوك الإنساني، وفي هذا الصدد يقرّر “فرانكل” أنه وضع ما أسماه مبدأ إرادة المعنى Will to Meaning ليعارض به كلاً من مبدأ اللذة الفرويدي، ومبدأ إرادة القوة في علم النفس الأدلري، فالسعي إلى تحقيق اللذة أو الوصول إلى المكانة المهيمنة للحصول على القوة والنفوذ، لا يمكن أن يفسر كل صور النشاط الإنساني، في حين أن معنى الحياة لدى كل إنسان هو الذي يمكن أن يجعل من السعي الدؤوب وتحمل المعاناةشيئاً يرفع من قيمة الحياة ويجعلها تستحق أن تعاش[23]. ويرى “فرانكل” أن معنى الحياة يختلف من شخص لآخر، وعند الشخص نفسه من يوم إلى يوم، ومن ساعة إلى أخرى؛ لذا يجب ألا نبحث عن معنى مجرد للحياة، فلكل فرد مهمته الخاصة أو رسالته الخاصة في الحياة، التي تفرض عليه مهاما محدودة، عليه أن يقوم بتحقيقها، ولا يمكن أن يحل شخص محل شخص آخر، كما أن حياته لا يمكن أن تتكرر، ومن ثم تعتبر مهمة أي شخص في الحياة مهمة فريدة مثلما تعتبر فرصته الخاصة في تحقيقها فريدة كذلك[24].
أمّا بالنسبة ل”آدلر” ،فإن الإنسان عندما يتخذ معنىً خاطئاً لحياته وبعيداً عن الواقع، ويسيطر ذلك المعنى على حياته، يكون نهاية البداية للحياةـ ويطرح في نفس الوقت موضوع الماضيالذي يتثبّت معظم الناس عنده ولا يبذلون أي جهد للخروج من براثنه، ويقدّم لهم الحل من خلال النظرة الكلّية للمومقف وللحياة بشكل عام.فيشير إلى أهمية النظر للمشكلة التي تعترض الفرد بنظرة متكاملة وليس من وجهة نظر ذاتية ضيّقة ، فالمواقف الحيايتة هي مواقف لا ترتبط فينا وحدنا بل ترتبط بكل ما يحيط بنا، بوجودنا، وبحياتنا، وبالآخرين، وبالطريقة التي نقيّم بها المواقف من حولنا، وأحياناً بجمودنا الفكري الذي يجعلنا لا نعيد النظر بمدى فهمنا للأحداث التي تحيط بنا. ويؤكد على أن النظام الإدراكي الذي اعتدنا على اتباعه وتقييم الأمور وفقاً له قد يكون خادعاً، ولاكتشاف ذلك علينا أن نعيد النظر في ماضينا، وإن كانت طريقتنا في معالجة مشاكلنا تؤدي بنا إلى النجاح أم إلى الفشل؟ علينا الرجوع للماضي ليس للعيش فيه هناك، بل لتقييمه وتقويمه لمعرفة أساليبنا ومدى صحّتها في إدراك الأحداث ، والعمل على تغييرها وتعديلها وربما استبدالها بعكسها.
فالإنسان عندما يخطىء قد لا يعرف أنه أخطأ، ولكن عندما تكون نتائج قراراته السابقة خاسرة وفاشلة دائماً، عليه أن يحدّد الأسباب التي أدّت إلى ذلك لأنها قد تكون بكل بساطة في نظام إدراكه الذي يجعله يفهم المواقف بطريقة خاطئة تبعاً لمعنى حياة خاطىء، وتبعاً لفهم جزئي للكون من حوله، فالكون الذي نعيش فيه لا يرتبط فقط فينا وحدنا، بل هو نظام كوني متكامل. علينا لكي نعي الحياة أن نغيّرمن طريقة إدراكنا لتكون نظرة إدراكية كليّة، أن نقبل واقع الترابط البشري والكوني ونتخطىالنظرة السطحية للوجود من خلال فهم عميق لهذا الوجود ولمعنى الحياة. إذاً لا بد من معنى حياة يكون كلي النظري ، جوهري المنطلق، مرن الأسلوب.
أما المبدأ الوجودي فيشير إلى أن معرفة الذات وفهم معنى الحياة ينبثقان من شعور الفرد بالمعاناة، المعاناة الحقيقية التي تدفع الفرد ليفكّر، وبعمق، وليبدأ البحث عن معنى جديد لحياته، يدفعه نحو التغيير الداخلي الذي يعطي لحياته قيمة معيّنة تعينه على مواجهة الحياة. ويذكر “فرانكل” في كتابه “الإنسان يبحث عن المعنى” ، أن الشخص حينما يجد نفسه في موقف لا مفرّ منه، وحينما يكون عليه أن يواجه مقدراً لا يمكن تغييره، عندئذ فقد يكون أمام الشخص فرصة أخيرة لتحقيق القيمة العليا،لتحقيق المعنى العميق وهو معنى المعاناة، والمهم فوق كل ذلك هو الاتجاه الذي نأخذه نحو المعاناة والاتجاه الذي نجعل به معاناتنا فوق أنفسنا[25]. وإن كان “آدلر” يشير إلى الحقيقة ذاتها التي يشير إليها “فرانكل” في أن المعاناة هي التي تدفع الفرد للبحث عن المعنى لحياته، والتي يشير إليها “آدلر” بالنجاح وفرانكل بالقيمة. وربما يشعر القارىء بالعمق الوجودي الفلسفي عند “فرانكل” ولكن هذا لا يلغي العمق الواقعي العملي عند “آدلر” في نفس الوقت.
ف”آدلر” يركّز على الأفعال التي يعتبرها هي الطريقة التي يعبّر الناس فيها عن فهمهم للحياة، ويشير إلى إن أفعال البشر تعكّر فهمهم ل”معنى الحياة حتى أن هذه الأفعال لن تكون إلا تعبيراً عن الطريقة التي يفهمون بها الحياة، كما أنه سيكون من الصعب إحداث تغيير في أفعالهم إذا لم نتمكن من إحداث التغيير في طريقة فهمهم ل”معنى الحياة” أولاً. وهذا هو الاختلاف الأساسي بين علم النفس الفردي ونظرية الحتمية الفرويدية أيضاً، فإنه تبعاً ل”آدلر” لا توجد تجربة من التجارب-أياً كانت- تكون بالقوّة الكافية حتى إنها تتسبب –وحدها-في نجاح أو فشل فرد، فنحن لا نُصاب بالصدمة من جرّاء التجارب التي تمرّ بنا –وهو ما يسميه البعض بالصدمة العصبية – بل نحن من نسمح للتجربة بأن تتخذ الشكل الذي تؤول إليه في النهاية، وهو غالباً ما يكون شكلاً ملائماً لأغراضنا الخاصة، فنحن غير محدّدين بالتجارب التي تمرّ بنا ولكن نحن الذين نضع الحدود لهذه التجارب عندما نعطيها معنىً خاصاً، وعندما نقوم باختيار تجربة بعينها، ونجعل منها الأساس لحياتنا المستقبلية، فإننا نرتكب خطأً مؤكداً ، فإن المواقف التي نمرّ بها يجب أن لا تضع حدوداً للمعاني، وإنما نحن الذين نقوم بوضع حدود لأنفسنا عندما نلصق معنىً خاص بالمواقف التي تمرّ بنا.
في علم النفس الفردي يتم التركيّز على “النفس ذاتها، والعقل كوحدة، واختيار المعاني التي يلصقها الأفراد بكل شيء، من حولهم، يختبر علم النفس الفردي أهدافهم والطرق التي يختارونها، لتحقيق هذه الأهداف وأيضاً الطرق التي يعالجون فيها مشاكل الحياة، ومن وجهة نظر “آدلر” فإن: ” أحسن ما يرشدنا إلى فهم الفرد هو درجة ومستوى قدرته على التعاون”. فالأطفال الذين لم يتم تدريبهم على التعاون، متشائمون دائماً ويعانون من “عقدة نقص” ، كما أننا لا نستطيع أن نرى أن الحياة ستشكّل دائماً مشكلة صعبة حتى للذين درّبوا أنفسهم على التعاون مع الآخرين، وأنه لن يوجد أبداً ذلك الفرد الذي يستطيع تحقيق هدفه النهائي في إحراز”التفوّق” والسيطرة على البيئة المحيطة به، فالحياة قصيرة وأجسادنا شديدة الضعف، ومشاكل الحياة الثلاثة، ستدفع بنا دائماً في اتجاه الحصول على حلول أكثر إيجابية وشمولية، ولكننا لن نرضى أبداً بالإنجازات التي حققناها في الماضي، وسنسعى دائماً إلى إحراز إنجازات أكبر، وفي حالة هؤلاء الأفراد الذين درّبوا أنفسهم على التعاون، فإن السعي الدائم سيكون مفيداً وموجهاً إلى تحسينات حقيقية في وضعنا العام[26].
أمّا “فرانكل”فعندما يصفلحظات عذابه في المُعتقل وكيف واجهها، يذكّرنا بأنّ ما واجهه في المعتقل هو إلى حد ما ما نواجهه في هذه الحياة، ليست الحياة سوى معتقل كبير لمن اختار أن تكون كذلك، ففي لحظات الأزمات التي تستمر لفترة طويلة يفقد الإنسان شعوره بالسرور والجمال وتتجمّد مشاعره، عند الظروف القاسية لحدث ما وتتحول صدمة زوال الأزمة إلى حالة من تدني الانفعال من خلال ترويضها بشكل سالب ، ما يتطلّب الاهتمام لإعادة الفطرة السويّة إلى طبائعها الإنسانية. فتصبح المشاعر متبلّدة، وتصبح الأحلام البيولوجية هي وسيلة الإشباع الأولي لحاجات الإنسان الضرورية، والهدف هو أن في هذه اللحظات يجدر التوجّه للآني وليس الغائي، والسعي للإشباع في مواجهة العدم،هذا في المعتقل، ولكن ماذا عن الحياة خارج المعتقل؟ ألسنا نعيش في معظم الأحيان لمثل هذه الإشباعات الأساسية والتي ربما جعلناها هي الأساس أو جعلتها الحياة كذلك!
أمّا “آدلر”ومن هذا المنطلق فيشير في كتابه إلى أنّ كل فرد يمر بتجربة يعاني فيها إحساساً بالدونية، فيجاهد من أجل التغلب على مثل هذه الأحاسيس وفقا لأهداف محدّدة ومنتقاة وأن لكل فرد أيضاً طريقة متفردة في محاولته لتحقيق تلك الأهداف. ّلقد أكد أدلر على أهمية القوى الاجتماعية في تحديد السلوك، وبيّن أهمية التعويض الزائد كميكانيزم يلجأ إليه الفرد في محاولة لقهر عقدة النقص والوصول إلي تحقيق هدفه في التفوق.
إنّ وجهة نظر “علم النفس الفردي” في معنى الحياة، كما وصفها آدلر بأنها المشكلات الأساسية الثلاث التي تواجه الفرد في حياته .. ألا وهي .. العمل، والعلاقة مع باقي أفراد المجتمع، والزواج، في مشكلة المجتمع يتحدث عن الفرد والمجتمع، دور العقيدة الدينية، الشعور الاجتماعي ونجاح أو فشل التواصل بين الأفراد.
ولفهم أوضح لمعنى الحياة من خلال هاتين المدرستين النفسيتين علينا بالعودة إلى بعض أسباب الاضطرابات النفسية والتي توجّهت المدرسة التحليلية لمعرفتها من خلال الكشف عن الصراعات في الماضي والمشاعر المكبوتة وتفسيرها ، وفحصها فى ضوء الموقف الحاضر -وهنا أذكر عقدة النقص التي أشار إليها “آدلر”، أما المدرسة الوجودية فتركّز على الخبرة الفسيولوجية فى المكان وفي الزمان الحاضرين .
فللبحث عن معنى الحياة:هل يجدر بالفرد العودة للماضي أم البقاء في الحاضر؟ هل عليهتحقيق النضج السيكو – جنسي ، وتقوية وظائف الأنا وإضعاف الضوابط اللاشعورية والرغبات المكبوتة، أم عليهتقوية تقدير الذات ، والأصالة والتكامل من خلال إطلاق كوامن الشخص الداخلية وتوسيع دائرة الوعي؟ هل يهتمبشكل أكبر بالوعي ، وبالسؤالين “كيف” و “ماذا ” أكثر من السؤال “لماذا ” ؟ أم يركّز على الخبرات الانفعالية والدوافع والمشاعر واللاشعور؟ صحيح أن التحليلية عند “آدلر” ركّزت على عقد “النقص” والسعي نحو التعويض، ولكنها في الوقت ذاته ركّزت على إعادة النظر بإدراكاتنا للوصول للمعنى الذي يؤدي بنا نحو النجاح، فنحن نجد لها جذوراً فرويدية ولكن في الوقت نفسه نجدها تخاطب وجود الإنسان والعمل على توعيته، للانطلاق نحو أهدافه لتحقيق “التفوّق” . إن هدف “التفوّق ” تبعاً ل”آدلر” هو هدف شخصي وفريد، ويختلف من فرد لآخر، وهو يعتمد على تعريف” معنى حياة” واضح في أسلوب الحياة، والفرد لا يعبّر عن هدفه بطريقة واضحة ومقنعة تماماً بل هو يعبّر عن هدفه بطريقة ملتوية وغير مباشرة، ولهذا فإنه من الواجب علينا أن نخمّن هدفه من الدلائل التي يتركها لنا. وهنا نجد أن “آدلر” يعود للماضي وتركاته النفسية، التي تؤثر على حاضرنا والتي يجدر على المعالج النفسي اكتشافها ليساعد الفرد على معرفة معنى حياته وتحقيق “التفوّق ” الذي يرتبط بهذا المعنى؛ بينما نجد النظرة الوجودية تعتبر السعي نحو البحث عن المعنى القوّة الأولية في حياة الفرد وليست ” تبريراً ثانوياً” لحزافزه الغريزية،وهذا المعنى فريد ونوعي من حيث أنه يجب أن يتحقق من قِبل الفرد وحده ، ويمكن لهذا أن يحدث؛ وعندئذٍ فقط يكتسب هذا المعنى مغزىً يشبع إرادة المعنى عنده.أمّا “فرانكل”فيشير إلى أن بعض علماء النفس في إشارة منه للتحليلين ، يزعمون أن المعاني والقيم “ليست إلا ميكانزمات دفاعية” وتكوينات ردود أفعال وإعلاءات،ويكمل بأنه إذا تكلّم عن نفسه ومن وجهة نظره فإنه لا يبتغي العيش من أجل : ميكانزماته الدفاعية” وليس مستعداً للموت من أجل “تكوينات ردود أفعال” فحسب، فالإنسان قادر على أن يموت ويحيا من أجل مثله وقيمه وطموحاته[27]!إن الرجوع للماضي هو رجوع خاسر في معظم الأحيان، إلا إذا قصدنا من ورائه تقييم أفعالنا للخروج بنوع من التقويم أو النقد البنّاء للأمور التي ندركها ونعيها، أما العودة للاّوعي وللاّشعور ولكل تلك العقد والمكبوتات التي لم تكن أصلاً بإرادتنا، فهي قد تشكّلت وتبعاً ل”آدلر” في السنين الخمس الأولى من وجودنا على الأرض، فهل لتلك اللاوعيات تأثيرها علينا حتى هذه اللحظة؟
نعم، هو أمر صحيح وعلمي وواقعي، وينطلق من مدرسة عظمى في علم النفس هي المدرسة التحليلية؛ ولكن هل النبش فيها يعمل على فهمنا لها وعلاجها والتخلّص منها نهائياً؟ وهل سيتحقق النمو السوّي من خلال حل الصراعات و الأزمات من خلال الارتقاء بالمراحل السيكو – جنسية المتعاقبة ؟
هل تعذيب المريض بتشريح ماضيه وإظهار كل تلك المكبوتات إلى العلن سيؤدي لمعرفته لمعنى حياته؟ ولعل ما يجب أن نتعلّمه في الطفولة إضافة إلى مبدأ ” التعاون” ” الآدلري “، هو معرفة الحياة على حقيقتها من وجهة نظر وجودية، علينا أن نتعرّف على طبيعة الحياة وأن لا نعيش في الأوهام والأساطير!وعلى الأهل تعريف أبنائهم على الحياة الحقيقية،بأن في الحياة الألم يعادل أو يتفوّق على الفرح، وأننا يجب أن نكون أقوياء، وأن لا تصدمنا الحياة لمجرّد وقوع أحداث كونية،لا دخل لنا فيها. علينا أن نتعلّم كيف نواجه الحياة بقوّة وثبات، ربما يجدر بهم تعريفنا على الوجه الآخر للحياة، ذلك الوجه الحقيقي منها، الوجه الذي ليس بمقدور البشرية أن تتخطّاه، الوجه الذي سيصفعنا آلاف المرّات وسيصدمنا آلاف المرّات، وسيؤلمنا آلاف المرّات. يجب أن نعرف كل شيء عن الحياة كي لا نقع في براثن تلك الحياة. وما سيسهّل علينا ذلك هو معرفة المعنى من الحياة.
خاتمة:
ما هو المعنى الذي يوصلنا لمعرفة معنى الحياة ؟ وهل الاختلافات الفلسفية والنظرية هي طريق نحو معرفة هذا المفهوم؟ إن الاختلاف بين النظريات في تفسيرها لمعنى الحياة، يرجع للاختلافات أساساً بين مذاهبها ومنطلقاتها وأهدافها وعلاجاتها ؛ فلكلّ منها وجهة معيّنة ورؤية خاصة، نبعت من ظروف عالمية أو شخصية ، أو تجريبية أو ومن خلال معطيات علمية كذلك. ولكن كل منها تهدف نحو رؤية الإنسان “كفرد ” : كيف يفكّر، كيف يشعر، كيف يتصرّف، كيف يحقق ذاته، كيف ينظر للعالم من حوله؟ كيف يعيش حياته؟ ورغم الاختلافات بين هاتين المدرستين التين تم تناولهما في هذه المقالة إلا أنهما تكمّلان بعضهما بعضاً إلى حد ما، فهما تطرحان مشكلة الإنسان في بحثه عن عالمه الخاص الداخلي، وكيف يجعله متوازناً في مواجهة كل تلك الصراعات الداخلية والخارجية التي يواجهها، و قد غاصتا في أعماق الذات البشرية، في كل ما تحتويه تلك الذات من مجاهل، فالتحليل النفسي متمثلاً هنا ب”آدلر”، تناولها من ناحية “النقص” الموجود فيها والذي يسعى الفرد لتعويضه ، أما “فرانكل” فقد حاول إخراجها من عالم الحتمية نحو عالم الوجودية الفردية من خلال البحث عن المعنى الوجودي الحقيقي في حياة الفرد. فمدرسة التحليل النفسي والتي توغّلت في أعماق النفس الإنسانية لتبحث فيها وتتعرّف على مكنوناتها ، لم تكن تتجاهل معنى الحياة بل بحثت عنه من خلال أبحاثها تلك داخل النفس البشرية، كان هدفها الأول حلّ الصراعات داخل تلك النفس لإعادة التوازن النفسي للإنسان خاصة من خلال البحث في أعماق اللاشعور ولكن بطريقة يكون فيها للعقل دوره الفعّال. إنّ”آدلر” الذي استخلص من نظريات “فرويد” الكثير، أعطى لفمفهوم معنى الحياة القيمة الكبرى في أبحاثه ورغم أن مفاهيمه مغايرة ل”فرويد” إلا أنه لم يتخلّ عن الإطار الفكري ل”فرويد”، فقد أشار لدور الأسرة وكيف تؤثر العقد النفسية في السلوك البشري لاحقاً. أما الوجوديون خاصة “فرانكل” فقد كانوا أكثر اقتراباً بل ووضوحاً من هذا المفهوم ربما لأنهم تناولوه من ناحية فلسفية، وتعتبر نظرية “فرانكل” الأقرب من هذا المعنى والأكثر دقّة بين النظريات الوجودية خاصة في طرحها لمبادىء علاجية عملياً ، وقد عُرف علاجه بالمدرسة الثالثة للعلاج النفسي.
إن تناول مفهوم معنى الحياة عند هذين العالمين فقط لا يعني تفرّدهما في البحث عن معنى الحياة ، ولكن تركيزهما على أعماق النفس هو ما دفعني للبحث في نظريتهما ، فما أضافته الوجودية على معنى الحياة هو أن للإنسان قيمة كبرى في هذا الوجود كان قد أغفلها في ظلّ هذا العالم القاسي المليء بالصعوبات والذي تسيطر عليه الماديّات والمصالح والحروب؛ ومهما حاول الآخرون إنكار هذه الحقيقة من أجل تحطيمه أو استعباده أو إلغائه يجب عليه أن لا ينسى قيمة وجوده وأهميتها ، يجب عليه أن يعرف أنه يوجد بداخله طاقات وقوى قادرة على التحكّم بسلوكه وبردات أفعاله وبمصيره ، فهو يملك الحريّة للاختيار، مهما كانت الظروف الخارجية ترهقه وتؤلمه.إن معنى الحياة هو المعنى الذي يكوّن نمط حياة ومنهج يسلكه الفرد من أجل الوصول إلى المعرفة ، من خلال العودة للذات الباطنية، ونزع رداء الغيرية، والسيطرة على الانفعالات الغرائزية، والتسامي بالنفس عن كل الماديات الدنيوية،وقد ذكر “آدلر”،أنه على الفرد أن لا يدع الخارج يحتّل داخله فيصبح داخله عبارة عن مجرّد انعكاس لهذا العالم الخارجي بكل تناقضاته وثنائياته .
لمعرفة معنى الحياة يحتاج الفرد للوحدة والتفكّر، يحتاج للإرادة الحرّة، والاختيار ، يحتاج للشعور بقيمة وجوده، يحتاج للمعنى، يحتاج لذاته الخاصة ، ثم للآخرين،يحتاج لما تعلّمه من الماضي ولكن بتوجّه نحو الحاضر والمستقبل ، يحتاج لإعادة النظر في كل ما سبق، لإصلاحه من خلال التغيير والتطوير، لرسم أهداف جديدة، ضمن نظام إدراكي كلّي شامل يربطبه بالكون من حوله، وبتقبّل لأحداث الكون بطريقة تتخطّى الوجود المادي، نحو الوجود الفردي، وتوسيع دائرة الوعي، والتركيز على المكان والزمن الحاضرين، والتركيز على السؤالين: كيف؟ وماذا؟ أكثر من لماذا؟ كي يتجّه نحو الحياة بحريّة ذاتية تتخطّى المعاني الغيرية، ليكون لديه المعنى الخاص به ، لتحقيق الكمال الشخصي الذي لا يكتمل إلا بإدراك المعنى من حياته.
قائمة المراجع:
أولاً: المراجع العربية:
– آدلر، ألفرد (2005). معنى الحياة. ترجمة: عادل نجيب بشري، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة.
– بنت أسعد خوج، حنان (2011). معنى الحياة وعلاقته بالرضا عنها لدى طالبات الجامعة بالمملكة العربة السعودية. مجلة جامعة أم القرى، 3، (2)، 12 – 44.
– رحيم عبد الوائلي، جميلة (2012). المعنى في الحياة وعلاقته بنمط الشخصية (A,B). مجلة الأستاذ، (201)، 609- 664.
– ريجيس، جوليفيه(1988). المذاهب الوجودية. ترجمة: فؤاد كامل. بيروت : دار الآداب.
-عبد الحليم، أشرف (2010). قلق المستقبل وعلاقته بمعنى الحياة والضغوط النفسية لدى عينة من الشباب. المؤتمر السنوي الخامس عشر، مركز الإرشاد النفسي، جامعة عين شمس، 335- 368.
-عبد الرحمن، سليمان و فوزي، إيمان (1991). معنى الحياة وعلاقته بالاكتئاب النفسي لدى عينة من المسنين العاملين وغير العاملين. المؤتمر الدولي السادس ” جودة الحياة توجه قومي للقرن الحادي والعشرين”، مركز الإرشاد النفسي،جامعة عين شمس، في الفترة من 10- 12 نوفمبر، 1031- 1095.
-فيكتور، فرانكل (1982). الإنسانيبحث عن المعنى، مقدمة في العلاج بالمعنى والتسامي بالنفس. ترجمة: طلعت منصور، الكويت: دار القلم.
ثانيًا المراجع الأجنبية:
– Carlos, L.(2003). The “UltImate Meaning” of Viktor Frankl.A Demonstration Project in Partial Fulfillment of The Requirements for The Diplomate Educator, Adminstrator Credential, Viktor Frankl Institute of Logotherapy, 1 – 40.
– Eagleton, T. (2007). The Meaning of Life. Britian, Oxford University Press.
-Leath,Colin (1999): The experience of meaning in life from a psychological perspective.Junior Paper, Psychology Honors Program U of W.
-Olsen, Jakob V.(2008): Kierkegaard, kærlighedogkristendom,Credo, p.90-91
– Mauser, M., King, R., & Young, M. (2004). The Meaning of Life: Long Prison Sentences in Context. Washington, The Sentencing Project.
-Reker, G.T.(2004): Personal meaning in life and psychosocial Adaptation in Youth and Emerging Adulthood.Talk given at Brock Research lnstitue for Yot Studies.
[1]Carlos, L.(2003). The “UltImate Meaning” of Viktor Frankl.A Demonstration Project in Partial Fulfillment of The Requirements for The Diplomate Educator, Adminstrator Credential, Viktor Frankl Institute of Logotherapy, p.5.
[2]خوج، بنت أسعد حنان (2011). معنى الحياة وعلاقته بالرضا عنها لدى طالبات الجامعة بالمملكة العربة السعودية. مجلة جامعة أم القرى، 3، (2)، ص14.
[3]فيكتور، فرانكل (1982). الإنسانيبحث عن المعنى، مقدمة في العلاج بالمعنى والتسامي بالنفس. ترجمة: طلعت منصور، الكويت: دار القلم، ص131.
[4]آدلر، ألفرد (2005). معنى الحياة. ترجمة: عادل نجيب بشري، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ص19.
[5]– Leath,Colin (1999): The experience of meaning in life from a psychological perspective. Junior Paper, Psychology Honors Program U of W,p.7.
[6]– Reker, G.T.(2004): Personal meaning in life and psychosocial Adaptation in Youth and Emerging Adulthood.Talk given at Brock Research lnstitue for Yot Studies,p.13.
[7]حافظ (2006) ص15 في رحيم عبد الوائلي، جميلة (2012). المعنى في الحياة وعلاقته بنمط الشخصية (A, B). مجلة الأستاذ، (201)، ص614.
[8]عبد الحليم، أشرف (2010). قلق المستقبل وعلاقته بمعنى الحياة والضغوط النفسية لدى عينة من الشباب. المؤتمر السنوي الخامس عشر، مركز الإرشاد النفسي، جامعة عين شمس،ص 329.
[9]آدلر، (2005). مرجع سابق، ص-ص21-23.
[10]نفس المرجع،23.
[11]آدلر، المرجع نفسه، ص- ص 27 -26.
[12]ريجيس، جوليفيه(1988). المذاهب الوجودية. ترجمة: فؤاد كامل. بيروت : دار الآداب، ص36.
[13]رحيم، مرجع سابق، ص616.
[14]Eagleton, T. (2007). The Meaning of Life. Britian, Oxford University Press,p.135;&Mauser, M., King, R., & Young, M. (2004). The Meaning of Life: Long Prison Sentences in Context. Washington, The Sentencing Project,p.1-3.
[15]فرانكل، مرجع سابق، ص-ص38-41.
[16]نفس المرجع، ص- ص59-122، بتصرّف.
[17]آدلر، مرجع سابق، ص 32.
[18]آدلر، مرجع سابق، ص 32.
[19]آدلر، المرجع نفسه، ص 88.
[20]فرانكل، مرجع سابق، ص 146.
[21]فرانكل، ن.م.،ص 48.
[22]فرانكل،ن.م، ص-ص 167-168.
[23]عبد الرحمن، سليمان و فوزي، إيمان (1991). معنى الحياة وعلاقته بالاكتئاب النفسي لدى عينة من المسنين العاملين وغير العاملين. المؤتمر الدولي السادس “جودة الحياة توجه قومي للقرن الحادي والعشرين”، مركز الإرشاد النفسي،جامعة عينشمس، في الفترة من 10- 12 نوفمبر،ص1934.
[24]فرانكل، مرجع سابق، ص145.
[25]فرانكل، المرجع نفسه، ص 149
[26]آدلر،مرجع سابق، ص87.
[27]فرانكل، مرجع سابق، ص131.