
سوسيولوجيا التغير الاجتماعي:رؤية نظرية تحليلية
الباجث محمد بو النعناع/كلية الآداب والعلوم الإنسانية ،الرباط،المغرب
مقال نشر في مجلة جيل العلوم الإنسانية والاجتماعية العدد 34 ص 85 .
ملخصتحاول هذه الورقة البحث في الأسس النظرية لمفهوم التغير الاجتماعي، باعتباره يشكل مبحثا رئيسيا من مباحث علم الاجتماع. وتعتمد الدراسة على مقاربة نظرية تحليلية، غايتها ضبط وتحديد مفهوم التغير الاجتماعي كما هو مطروح في الأدبيات و الدراسات السوسيولوجية، مع تحليل ومقارنة مختلف التحديدات الموجودة في هذا الباب. كما تهدف هذا المقاربة إلى دراسة ومناقشة أبرز الإسهامات النظرية والميدانية التي قاربت موضوع التغير الاجتماعي، وذلك بغية تقديم إطار نظري رصين يساعد على فهم ودراسات ظواهر التغير الاجتماعي والتحولات المرتبطة به في المجتمعات الراهنة.
الكلمات المفتاحية: التغير الاجتماعي، التحولات الاجتماعية، سوسيولوجيا التغير، النظرية السوسيولوجية.
تمهيد:
غني عن البيان أن التغير الاجتماعي من الظواهر الأساسية التي نالت اهتمام العديد من الباحثين في العلوم الاجتماعية. وذلك لكونه يتصل مباشرة بالحياة الاجتماعية، وتخضع له جميع المجتمعات البسيطة منها والمركبة. وفي هذا الإطار، يمكن القول بأن التغير الاجتماعي هو من أعظم المفاهيم التي احتلت موقعا جوهريا في بناء النظرية السوسيولوجية، ((بل إن هناك من الباحثين من اعتبره أساسا لميلاد علم الاجتماع))[1]. فقد شكل البحث في مختلف التغيرات الاجتماعية التي حلت بالمجتمعات المعاصرة منبع بروز وتطور الفكر السوسيولوجي، مما ساعد على ظهور وإنتاج تصورات ومقاربات نظرية و إمبريقية عديدة، تسعى كلها إلى فهم وتفسير حقيقة التغير الاجتماعي.
وعلى هذا الأساس، يأتي اهتمامنا في هذا المقال بمفهوم التغير الاجتماعي، نظرا لكونه يعتبر موضوعا يستحق المزيد من الدراسة والتحليل وإعادة القراءة من مختلف زوايا النظر. وفي هذا الاتجاه،يحسن بنا في البداية أن نتساءل عما معنى التغير؟ وماذا نقصد بالتغير الاجتماعي؟ وما هي التعريفات التي أعطيت لهذا المفهوم؟ وكيف تناولته المقاربات النظرية و الإمبريقية؟
- في معنى التغير والتغير الاجتماعي
يبدو في الوهلة الأولى أن مصطلح التغير يشير من الناحية اللغوية إلى:((التحول وينطوي على الاختلاف، ويقال غيرت الشيء أي جعلته على غير ما كان عليه، أو أصلح من شأنه أو بدله))[2]. أما في الدلالة الفلسفية، فنجد أن ((التغير يعني عمل أو فعل يتبدل بواسطته شيء دائم، أو يتبدل في واحدة أو في كثير من سماته، ويعني كذلك تحول شيء إلى آخر، أو إبدال شيء من شيء آخر))[3]. ويحتوي التغير أيضا من الناحية اللغوية على معاني أخرى مترابطة فيما بينها: ((مثل الاضطراب، التجديد، التبدل، التطور، التدرج، الانتقال والتحسن))[4].
وفي الواقع، إن مفهوم التغير ليس مفهوما حديثا، بل إن الفكرة ذاتها قديمة قدم الفكر البشري. ويكفي أن ننوه هنا بما ثبت عن الفيلسوف اليوناني القديم هيراقليطس (540-475 ق.م) حينما قال بأن ((التغير قانون الوجود والاستقرار “موت وعدم” ومثّل لفكرة التغير بجريان الماء فقال: “إنك لا تنزل النهر الواحد مرتين، فإن مياه جديدة تجري من حولك أبدا))[5].
وفي ذلك إشارة إلى أن التغير مسألة طبيعية، وحقيقة اجتماعية عامة تشهدها كل المجتمعات الإنسانية بجميع ظواهرها ووقائعها. إذ لا وجود لمجتمع ثابت ثباتا كليا أو مطلقا بحكم تفاعل مجموعة من المتغيرات داخل بنياته الأساسية. كما أنالتغير ((لا يخضع لإرادة معينة، بل إنه نتيجة لتيارات وعوامل ثقافية واقتصادية وسياسية، يتداخل بعضها في بعض، ويؤثر بعضها في بعض))[6].
وفي هذا الإطار يذهب عالم الاجتماع الإنجليزي أنتوني غدنز (Antoni Gidnz) إلى القول بأن ((التغير الاجتماعي هو تحول في البنى الأساسية للجماعة الاجتماعية أو المجتمع، ويرى غدنز أن التغير الاجتماعي هو ظاهرة ملازمة على الدوام للحياة الاجتماعية))[7]. ولعل ما نفهم من ذلك أن التغير ينطوي في عمقه على نوع من الاستمرارية، لأن التغير على مستوى الواقع الاجتماعي هو عملية مستمرة ومتجددة في آن واحد. كما أن هذا التغير يطال بصفة رئيسية البنيات الاجتماعية الأساسية التي يتشكل منها المجتمع. ومع ذلك، فإنه في حقيقة الأمر هو من الصعب تعريف التغير الاجتماعي كظاهرة ذات دلالة.
وعلى أية حال فإن التغير الاجتماعي يمكن أن يعني ((ظهور اختلاف يمكن ملاحظته في “البناء الاجتماعي” أو في “العادات المعروفة” أو في “معدات أو آلات” لم تكن موجودة من قبل))[8]. ولعل ما يمكن أن نستشفه من خلال هذا التعريف أنه يركز بالأساس على عنصر الاختلاف، وهو اختلاف في الأشياء، الأدوار،العلاقات، وفي العادات الاجتماعية…إلخ. وأي اختلاف يطرأ على هذه العناصر على مر الزمن يعتبر في نظر هذا التعريف تغيرا اجتماعيا.
ومن نفس المنطلق عرف سالفادور جينر (Salvador Giner) التغير الاجتماعي بأنه ((الاختلاف الملاحظ بين الحالة السابقة والتالية لمنطقة محددة من الواقع الاجتماعي، أو بالأحرى ما يحدث بين مرحلتين بمرور الوقت))[9]. وهنا يظهر عامل الزمن كعنصر أساسي في حدوث التغير الاجتماعي. لأن التغير في الواقع، وعلى الأقل بالنسبة لإميل دوركايم (Emil Durkheim)، ((هو قبل كل شيء مرحلة تاريخية انتقالية بين حالتين مستقرتين للمجتمع))[10].
وعلى نفس المنوال يرى الباحث السوسيولوجي الفرنسي غريغوري لازاريف (Grigori Lazarev) من جهته أن التغير الاجتماعي ((هو التحول القابل للملاحظة الذي يؤثر في بنية ووظيفة التنظيم الاجتماعي لجماعة ما، ويغير مجرى تاريخها))[11].ومما يعني ذلك أن التغير الاجتماعي عند لازاريف يكون مرئيا وملموسا ويمكن ملاحظته، كما أنه يمس أساسا عناصر التنظيم الاجتماعي، وله القدرة على تغيير سياقات التحول ومجالاته.
وهو نفس المعنى الذي سبق أن ذهب إليه عالم الاجتماع الفرنسي غي روشي (Guy Rocher) عندما قال ((بأن التغير الاجتماعي يتوقف إلى حد ما على التحولات الملحوظة والقابلة للتحقق على مدى فترات زمنية قصيرة. حيث يمكن لنفس الملاحظ أثناء حياته أو حتى فترة وجيزة من حياته، أن يتتبع التطور ويعرف نتيجته، أو ما يمكن اعتباره مؤقتا كنتيجة))[12]. وعلاوة على ذلك، يعرف غي روشي التغير الاجتماعي باعتباره ((كل تحول ملحوظ في الزمن، والذي يؤثر بطريقة غير مرحلية أو سريعة الزوال، في بنية أو وظيفة التنظيم الاجتماعي لجماعة معينة ويقوم بتعديل مجرى تاريخها))[13].
يضاف إلى ما تقدم، إن التغير الاجتماعي بحسب كل من جيرث (Gerth) وميلز (Mills) ((هو ذلك التحول الذي يطرأ على الأدوار الاجتماعية التي يقوم بها الأفراد، وكل ما يطرأ على النظم الاجتماعية، وقواعد الضبط الاجتماعي التي يتضمنها البناء الاجتماعي في مدة معينة من الزمن))[14]. وهذا يعني أن التغير الاجتماعي هو تحول في النظام الاجتماعي، وبموجب هذا التحول فإن ((الأفراد يمارسون أدوار اجتماعية مختلفة عن تلك التي كانوا يمارسونها خلال حقبة من الزمن))[15]. ومن ثم فإن التغير الاجتماعي في واقع الأمر، يشير إلى ((نمط من العلاقات الاجتماعية في وضع اجتماعي معين يظهر عليه التغير خلال فترة محددة من الزمن))[16].
وبناء على كل ما سبق عرضه، يمكن اعتبار التغير الاجتماعي هو ((كل تحول يقع في التنظيم الاجتماعي سواء في بنائه أو في وظائفه خلال فترة زمنية معينة. وينصب على كل تغيير يقع في التركيب السكاني للمجتمع، أو في بنائه الطبقي، أو نظمه الاجتماعية، أو في أنماط العلاقات الاجتماعية أو في القيم والمعايير التي تؤثر في سلوك الأفراد والتي تحدد مكاناتهم وأدوارهم في مختلف التنظيمات الاجتماعية التي ينتمون إليها))[17].
كما يمكن تعريف التغير الاجتماعي من منظور هذه الدراسة، باعتباره كل ما يطرأ على البنيات والعلاقات والأدوار والتصورات والممارسات والعادات والقيم والمعايير التي يتكون منها النظام الاجتماعي من تحولات ظاهرة وجوهرية، نتيجة تفاعل عدد من المؤثرات والعوامل الداخلية والخارجية. وهي تحولات يمكن ملاحظتها بصور مختلفة ومتنوعة، انطلاقا من متغيرات اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية وديموغرافية ومجالية محددة.
- إسهامات نظرية وميدانية في فهم التغير الاجتماعي
مما لا مرية فيه أن فهم سؤال التغير الاجتماعي كان من أهم الإشكالات الكبرى التي شغلت تفكير العديد من المفكرين وعلماء الاجتماع على مر التاريخ. بحيث تعددت طرق فهم إشكالية التغير وتنوعت بحسب تنوع وتعدد زوايا النظر التي ينطلق منها كل اتجاه معرفي على حدة.وقد تبين في هذا الشأن أن دراسة التغير الاجتماعي ((يطرح إشكالات كثيرة سواء على المستوى النظري حيث تعدد النظريات وإحالاتها المرجعية أو على مستوى منهجي صرف، وعلى مستوى كذلك المقاربة والتفسير حيث نصادف تعدد المنظورات والنماذج التفسيرية))[18].
وبناء عليه، فإن البحث في موضوع التغير الاجتماعي يفترض الكثير من الحذر المنهجي، وخصوصا أثناء التعامل مع الإرث النظري الذي خلفه لنا التراث الأنثروبولوجي والسوسيولوجي. فالمقاربة الرصينة للتغير الاجتماعي تبدأ في الوهلة الأولى من التأصيل النظري للظاهرة. وفي هذا المستوى يكشف لنا تصفح الأدبيات المعاصرة عن زخم كبير من المحاولات الفكرية والعلمية التي تناولت إشكالية التغير. وههنا، تجدر الإشارة إلى أن الاختلاف بين الباحثين وعلماء الاجتماع في تعرضهم للتغير الاجتماعي لم يكن حول التغير كحقيقة أو كمسلمة في حد ذاته، وإنما كان الاختلاف حول طرق تفسير هذا التغير وتحديد عوامله وأسبابه.
وفي هذا الصدد، حاول هربرت سبنسر (HerbertSpenser) أن يفسر تغير (نمو) المجتمعات انطلاقا من تصور وظيفي للمجتمع، حيث يرى أنه ((لا يمكن أن يتم التغير في البناء التركيبي دون حدوث تغيرات في الوظائف والأدوار… نظرا لأن كثيرا من تغيرات البنية في المجتمع تبرزها التغيرات الوظيفية أكثر مما تمكن رؤيتها مباشرة))[19]. ففي هذا الاتجاه بلور سبنسر نظريته الاجتماعية حول التغير أو التطور الاجتماعي، حيث اعتبر أن المجتمع يتطور من حالة المجتمع البسيط مجسدا في الأسرة إلى حالة المجتمع المركب، مجسدا في المجتمعات الصناعية المعاصرة، وبين الحالتين تتمظهر تنظيمات اجتماعية أخرى كالعشيرة والقبيلة.
أما إميل دوركايم (EmilDurkheim) فقد انطلق، في تفسيره لظواهر التغير، من التأكيد على ضرورة التمييز بين الأسباب والوظائف. ((ويعتبر بأن الأسباب التي توجِد الظواهر مستقلة عن الغايات التي تخدمها. فوجود الأشياء لا يمكن أن يُردَ إلى حاجتنا إليها بل إلى أسباب من نوع آخر))[20]. وفي ذات السياق، اعتبر دوركايم أنه ((لتفسير ظاهرة حيوية لا يكفي أن نحدد سببها، بل ينبغي علاوة على ذلك، إيجاد القدر الذي تسهم به في إقرار الانسجام العام))[21].
ووفق هذا المنظور، كان دوركايم يعتقد أنه يمكن تفسير التغير الاجتماعي بالرجوع إلى العامل الديموغرافي، ويؤكد في كتابه “تقسيم العمل الاجتماعي” على أن الانتقال من التضامن الآلي الذي يميز المجتمع التقليدي، إلى التضامن العضوي الذي يميز المجتمع الحديث، رهين بعامل رئيسي هو ارتفاع الكثافة الديموغرافية في المجتمع.
وضمن نفس التوجه الوظيفي اعتبر عالم الاجتماع الأمريكي تالكوتبارسونز (TalcottParsons) أنه لتفسير حالة التغير ينبغي الرجوع إلى حالة عدم التغير أي فترة الثبات والتوازن. ويشير إلى ذلك بقوله ((لا يمكن أن تظهر مواصفات التغير إذا لم يكن هناك خلفية نسبية لعدم التغير التي يمكن ربطها به))[22]. ويضيف بارسونز قائلا: ((إن بنية النظام الاجتماعي وبيئته، يجب أن تُميَزا عن سيرورة التقدم التي تتم داخل النظام وعن التغير المتبادل بين النظام وبيئته))[23]. ((وهذا التمييز بالتأكيد هو تمييز نسبي ولكنه تمييز أساسي ومنظم))[24].
وههنا، يرى لويس كوسر (Lewis A. Coser) من جهته بأن ((التمييز بين تغيرات النظم والتغيرات داخل النظم هو بطبيعة الحال أمر نسبي. لأن هناك دائما نوعا من الاستمرارية بين الماضي والحاضر، أو بين حاضر النظام الاجتماعي ومستقبله))[25]. ولئن كان الأمر كذلك، فإن تفسيرات التغير الاجتماعي ((تتطلب من الباحث أن يحدد العناصر التي تظل ثابتة ومستقرة، باعتبارها المعيار الأساسي الذي تقاس على أساسه درجة التغير اللاحق وحتى في عالمنا الراهن الحافل بالتغيرات السريعة، حيث ثمة استمرارية ودواما بين ما نحن فيه اليوم من جهة والماضي البعيد من جهة أخرى))[26].
في حين أن نظرية الفعل الاجتماعي تذهب إلى القول بأن الأفعال تتمركز حول مختلف الفاعلين الاجتماعين، وبالتالي فالتغير يكون نتيجة حدوث فاعلين يقومون في فترات معينة بمجموعة من الأنشطة الاقتصادية أو السياسية التي تساهم في إحداث التغير الاجتماعي. كما تقف نظرية الفعل عند مستويين أساسيين من التغير الاجتماعي: الأول يعتبر أن التغير يقع على مستوى الماكرو أي المجتمع العام الكلي، والثاني يرى بأن التغير يحدث على مستوى الميكرو. وهنا يرى ماكس فيبر (Max Weber) ((بأن التغير الاجتماعي يمكن أن يحدث لأسباب عديدة، وبلغة أكثر دقة فإن التغير الاجتماعي متعدد العوامل وفقا لتحليل ماكس فيبر))[27].
بينما تنطلق النظرية الماركسية في تفسيرها للتغير الاجتماعي من اعتبار أن العامل الاقتصادي هو الموجه للحياة الاجتماعية. ومعنى ذلك أن المجتمع يتأسس على أساس اقتصادي يكمن في علاقات الإنتاج وأنماط الإنتاج السائدة في كل مرحلة تاريخية. وفي هذا المضمار يقول كارل ماركس(Karl Marx): ((إن شكل الإنتاج في الحياة المادية هو الذي يبت بالصفة العامة لعمليات الحياة الاجتماعية والسياسية والروحية))[28]. ومن ثمة فإن التغير الاجتماعي يحدث بفعل تغير في التركيب المادي والاقتصادي للمجتمع. بحيث أنه ((لما يتغير الأساس الاقتصادي تحدث تغيرات في البنية العليا الهائلة بكاملها وبنفس السرعة تقريبا))[29].
أما نظرية وليام أجبرن (William Ogbern) فترتكز أساسا على العوامل الثقافية والتكنولوجية، ((ويفترض أوجبرن أن الجانب المادي من الثقافة أسبق في التغير، ومن ثم فهو عامل أول في كل التغيرات التي تحدث في البناء الاجتماعي))[30]. كما يرى أجبرن أن التغير الاجتماعي ((يحدث عندما يخلق اختراع هام في قطاع معين من الثقافة حالة من عدم التوازن، تتبعها تحولات في القطاعات الثقافية الأخرى من أجل التكيف مع هذا الاختراع الجديد قبل أن يعود التوازن من جديد))[31]. وفي نفس السياق تدخل كذلك نظرية لويس مامفورد (Louis Mumford) الذي كان يعتبر ((أن عامل التقدم التقني هو السبب الرئيسي الذي يفسر التغيرات التي تحدث في المجتمع))[32].
وفي الواقع، يمكن اعتبار روبرت ريدفيلد (Robert Redfield) من أهم الباحثين الذين حاولوا فهم إشكالية التغير الاجتماعي، حيث انطلق في ذلك من دراسة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي عرفتها المجتمعات القروية تحت تأثير المدينة الحديثة. وفي هذا الشأن يقول بأن ((فهم المجتمع بشكل عام، ومجتمعنا الحديث والمتمدن على الخصوص، يمكن أن يكون من خلال النظر إلى المجتمعات المتأخرة مثل المجتمعات البدائية والمحلية))[33]. ومن هذا المنطلق كان ريدفيلد يدرك التغير من الخارج، أي أنه يهتم قبل كل شيء بأثر المدينة على الأفراد والثقافة والتنظيم الاجتماعي، وعلى الأخص في نواحيها المباشرة والثنائية.
وفي نفس الإطار ذهب العديد من الباحثين المغاربة والأجانب إلى الاهتمام بدراسة آثار وانعكاسات التغير الاجتماعي في المجتمع المغربي. ومن أهم هؤلاء الباحثين نخص بالذكر: رحمة بورقية، المختار الهراس، عبد الجليل حليم، غريغوري لازاريف، فاطمة مسدالي… وغيرهم. وقد اعتبر بعض من هؤلاء الباحثين السالف ذكرهم، أن فهم إشكالات التغير في القرى المغربية خصوصا يسترعي من ناحية أولى التركيز على الكيفية التي يتم بها التحول، ثم تحديد وتفسير عوامل وميكانيزمات هذا التغير من ناحية ثانية. وفي هذا الشأن اعتبرت الباحثة رحمة بورقية أن ((تحليل التحول أو التغير لا ينبغي أن ينطلق من مقاربة معيارية، تطلق عليه حكما إيجابيا أو سلبيا، وإنما من مقاربة تعتبره ظاهرة تاريخية واجتماعية تتطلب الفهم والتفسير))[34].
ومن هذه المقاربة التاريخية الاجتماعية انطلق غريغوري لازاريف في دراسته للتغير الاجتماعي بالمغرب، حيث يرى لازاريف أن بوادر التغير الذي عرفته القرى المغربية ظهرت بشكل جلي بعد الاستقلال، ((لكن هذا لا يعني أن جميع عوامل التغير ظهرت خلال هذه الفترة، لأن بعضها بدأ في التأثير منذ زمن بعيد، وتفاعلت مع عوامل جديدة بعد الاستقلال لينتج عنها هذا التغير الاجتماعي الواضح في المجتمع القروي المغربي))[35].
وقد حدد لازاريف عوامل التغير الاجتماعي في أربعة عناصر أساسية، وهي[36]: الظواهر الإيديولوجية المرتبطة بالاستقلال، تغلغل الدولة واختراقها للمجال القروي، ثم المشاكل المرتبطة بالتزايد الديموغرافي، وأخيرا تنقيد القرى إن صحت ترجمة كلمة (la monétarisation des campanes). والتي تعني سيادة ثقافة النقود في العلاقات الاجتماعية وانتشار المعاملات النقدية في أداء الأجور بعد الانتقال من الاقتصاد المعاشي إلى اقتصاد السوق.
أما المختار الهراس فقد حاول البحث في التحولات التي عرفتها مناطق أقصى شمال غرب المغرب خلال المرحلة الاستعمارية وفترة الاستقلال. وهي تحولات تركت آثارا بالغة على التنظيمات القبلية، التي عرفت جراء ذلك المزيد من التأزم والتفكك. ولعل من أبرز مظاهر هذا التحول، في نظر الهراس، ((انغلاق “الحياة القبلية” ضمن حدودها الدنيا، وتغير طبيعة الروابط الزبونية، إضافة إلى تقليص الحياة المشتركية، بما ترتب عنه من تصدر للنزعات الفردية وفسح المجال أمام تطور علاقات اجتماعية ذات صبغة طبقية متزايدة))[37].
ومما سبق، يظهر أن استنتاجات المختار الهراس تنم عن رؤية تحليلية نظرية عميقة للتغير الاجتماعي. ولعل ما يؤكد ذلك، هو ما يخلص إليه في مناسبات علمية أخرى حينما أشار إلى أن ((كل مجتمع إنساني يتضمن ديناميات تغير وقوى اجتماعية وسياسية تدفع به في اتجاه أوضاع جديدة، ويحتوي في طياته على ميل “طبيعي” إلى تعديل الكفة واستعادة التوازن، ضمانا للاستمرار وحفاظا على حد أدنى من التماسك الاجتماعي))[38]. ومن هنا يبدو أن الهراس قد تأثر بالنظريات الوظيفية وأصبح لديه توجه وظيفي في تحليلاته وتفسيراته السوسيولوجية. ويتأكد لنا ذلك من خلال طبيعة المفاهيم التي يستعملها، ثم كذلك سعيه إلى البحث عن أسباب قارة مفسرة للتغير الاجتماعي.
خاتمة:
ومجمل القول، إن أهم ما يمكن أن نختم به هذا المقال هو أن التغير الاجتماعي، كما أشارت إلى ذلك الباحثة فاطمة مسدالي، أصبح عنصرا أساسيا في مقاربة مختلف الظواهر الاجتماعية، نظرا لكون أن ((حالة السكون المطلق غير ممكنة بالنسبة إلى منظومة متعددة المكونات ومعقدة التركيب مثل: المجتمع))[39].وفي المقابل، لاحظ أحد الباحثين أن ((الاتجاه الغالب على دراسات التغير الاجتماعي كان ولا يزال ينصب على المجتمعات المتمدنة))[40]. وهو الأمر الذي جعل كثير من المجتمعات البدوية والواحية لم تعرف دراسات كثيرة حول تغيراتها الاجتماعية، باستثناء قلة قليلة من الكتابات التي حاولت مقاربة الموضوع من جوانب مختلفة.
قائمة المصادر والمراجع:
أولا: باللغة العربية :
- كتب ودراسات :
- استيتية دلال (2008). التغير الاجتماعي والثقافي. عمان: دار وائل للنشر والتوزيع. ط 2.
- الغامدي سعيد فالح (1981). البناء القبلي والتحضر في المملكة العربية السعودية. جدة: دار الشروق.
- الهراس المختار (1988). القبيلة والسلطة تطور البنيات الاجتماعية شمال المغرب. المركز الوطني لتنسيق وتخطيط البحث العلمي والتقني. الرباط: مطبعة الرسالة.
- امعمري لحبيب (2010). التغير الاجتماعي ورهانات العولمة. فاس: منشورات دار ما بعد الحداثة. الجزء الأول.
- بدوي أحمد زكي (1978). معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية. بيروت: مكتبة لبنان.
- بورقية رحمة (2004). مواقف: قضايا المجتمع المغربي في محك التحول. الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة.
- زايد أحمد (2001). التغير الاجتماعي. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية. ط 2.
- شرقي محمد (2009). التحولات الاجتماعية بالمغرب من التضامن القبلي إلى الفردانية. الدار البيضاء: أفريقيا الشرق.
- عبد الجواد مصطفى خلف (2002). قراءات معاصرة في نظرية علم الاجتماع. القاهرة: مركز البحوث والدراسات الاجتماعية.
- عبد المجيد حنان محمد (2011). التغير الاجتماعي في الفكر الإسلامي الحديث. فرجينا الأمريكية: المعهد العالي للفكر الإسلامي.
- غدنز أنتوني (2005). علم الاجتماع.ترجمة فايز الصياغ. بيروت: المنظمة العربية للترجمة.
- غيث محمد عاطف (1966). التغير الاجتماعي والتخطيط. الإسكندرية: دار المعارف. مطابع رويان. ط 2.
- غيث محمد عاطف (1967). دراسات في علم الاجتماع القروي.بيروت: دار النهضة العربية.
- لالاند أندريه (1996). موسوعة لالاند الفلسفية. تعريب خليل أحمد خليل. بيروت: منشورات عويدات. المجلد الأول.
- مدكور إبراهيم (1975). معجم العلوم الاجتماعية. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
- مسدالي فاطمة (2005). المجتمع القروي الدكالي والتغير المرتبط بتدخل الدولة الزمامرة نموذجا. الرباط: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع.
- مجموعة مؤلفين (2004). المعجم الوسيط. القاهرة: مكتبة الشروق الدولية. ط 4.
- مقالات
- المختار الهراس (1995). »الوظيفة والمجتمع : أية علاقة؟«. ضمن: المصطلح في الفلسفة والعلوم الإنسانية. منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. سلسلة ندوات ومناظرات رقم 42. الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة.
- تالكوت بارسونز (1984). »النظريات الوظيفية للتغير«. ضمن: التغير الاجتماعي: مصادره، نماذجه ونتائجه. إعداد أميتاي اتزيوني. ترجمة محمد أحمد حنونة. دمشق: منشورات وزارة الثقافة.
- كارل ماركس (1984). »موجز في المادية التاريخية«. ضمن: التغير الاجتماعي: مصادره، نماذجه ونتائجه. إعداد أميتاي اتزيوني. ترجمة محمد أحمد حنونة. دمشق: منشورات وزارة الثقافة.
- هربرت سبنسر (1984). »نمو المجتمعات«. ضمن: التغير الاجتماعي: مصادره، نماذجه ونتائجه. إعداد أميتاي اتزيوني. ترجمة محمد أحمد حنونة. دمشق: منشورات وزارة الثقافة.
- أطارح ورسائل جامعية
- المختار الهراس (1999/2000). بروز الفرد داخل العائلة في أنجرة: الهوية الاقتصادية، وصراعات الجنس والأجيال. بحث لنيل دكتوراه الدولة في علم الاجتماع تحت إشراف فاطمة المرنيسي. كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط.
ثانيا: باللغات الأجنبية:
Alexis Trémoulinas (2006).Sociologie des changements sociaux. Paris : édition la Découverte.Grigori Lazarev (1978). « Changement social et développement : Etudes sociologiques sur le Maroc ». In : B.E.S.M. Rabat : nouvelle édition.Grigori Lazarev (2014).Ruralité et changement social : Etudes sociologiques. Rabat : Editeur FLSH Rabat. Impression Bouregreg.Guy Rocher (1968). Introduction à la sociologie générale : Le changement social. Édition HMH. Ltée. Lewis A. Coser (1957).«Social Conflict and the Theory of Social Change». In: The British Journal of Sociology. Vol. 8. No. 3 (Sep. 1957). p 201. Accessed: 14/11/2013 12:31. http://www.jstor.org/stable/586859Robert Redfield (1947). « The Folk society ». In: The American journal of sociology. V 52. N° 4. (Jan 1947). Published by The university of Chicago press. p 293. Accessed: 08/08/2013 19:15. Stable URL:http://www.jstor.org/stable/2771457
[1]Alexis Trémoulinas (2006).Sociologie des changements sociaux. Paris : édition la Découverte. p 9.
[2]مجموعة مؤلفين (2004). المعجم الوسيط. القاهرة: مكتبة الشروق الدولية. ط 4. ص 692.
[3] أندريه لالاند (1996). موسوعة لالاند الفلسفية. تعريب خليل أحمد خليل. بيروت: منشورات عويدات. المجلد الأول. ص 167.
[4] فاطمة مسدالي (2005). المجتمع القروي الدكالي والتغير المرتبط بتدخل الدولة الزمامرة نموذجا. الرباط: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع. ص 4.
[5]سعيد فالح الغامدي (1981). البناء القبلي والتحضر في المملكة العربية السعودية. جدة: دار الشروق. ص 107.
[6]إبراهيم مدكور(1975). معجم العلوم الاجتماعية. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب. ص 165.
[7]أنتوني غدنز (2005). علم الاجتماع.ترجمة فايز الصياغ. بيروت: المنظمة العربية للترجمة. ص 743.
[8] حنان محمد عبد المجيد (2011). التغير الاجتماعي في الفكر الإسلامي الحديث. فرجينا الأمريكية: المعهد العالي للفكر الإسلامي. ص 32.
[9]المرجع نفسه. ص 35.
[10]Alexis Trémoulinas. Op. Cit. p 17.
[11]Grigori Lazarev (1978). « Changement social et développement : Etudes sociologiques sur le Maroc ». In : B.E.S.M. Rabat : nouvelle édition. p 130.
[12]Guy Rocher (1968). Introduction à la sociologie générale : Le changement social.Édition HMH. Ltée. p17.
[13]Ibid. p 22.
[14] دلال استيتية (2008). التغير الاجتماعي والثقافي. عمان: دار وائل للنشر والتوزيع. ط 2. ص 21.
[15] أحمد زايد (2001). التغير الاجتماعي. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية. ط 2. ص 19.
[16] محمد عاطف غيث (1966). التغير الاجتماعي والتخطيط. الإسكندرية: دار المعارف. مطابع رويان. ط 2. ص 17.
[17]أحمد زكي بدوي (1978). معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية. بيروت: مكتبة لبنان. ص 382.
[18] محمد شرقي (2009). التحولات الاجتماعية بالمغرب من التضامن القبلي إلى الفردانية. الدار البيضاء: أفريقيا الشرق. ص 25.
[19] هربرت سبنسر (1984). »نمو المجتمعات«. ضمن: التغير الاجتماعي: مصادره، نماذجه ونتائجه. إعداد أميتاي اتزيوني. ترجمة محمد أحمد حنونة. دمشق: منشورات وزارة الثقافة. ص 26.
[20] المختار الهراس (1995). »الوظيفة والمجتمع : أية علاقة؟«. ضمن: المصطلح في الفلسفة والعلوم الإنسانية. منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. سلسلة ندوات ومناظرات رقم 42. الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة. ص 84.
[21] المرجع نفسه. ص 84.
[22] تالكوت بارسونز (1984). »النظريات الوظيفية للتغير«. ضمن: التغير الاجتماعي: مصادره، نماذجه ونتائجه. إعداد أميتاي اتزيوني. ترجمة محمد أحمد حنونة. دمشق: منشورات وزارة الثقافة. ص 132.
[23] المرجع نفسه. ص 133.
[24] المرجع نفسه. ص 134.
[25]Lewis A. Coser (1957).«Social Conflict and the Theory of Social Change». In: The British Journal of Sociology. Vol. 8. No. 3 (Sep. 1957). p 201. Accessed: 14/11/2013 12:31. http://www.jstor.org/stable/586859
[26] غدنز. علم الاجتماع. ص 105.
[27] مصطفى خلف عبد الجواد (2002). قراءات معاصرة في نظرية علم الاجتماع. القاهرة: مركز البحوث والدراسات الاجتماعية. ص 56.
[28] كارل ماركس (1984). »موجز في المادية التاريخية«. ضمن: التغير الاجتماعي: مصادره، نماذجه ونتائجه. إعداد أميتاي اتزيوني. ترجمة محمد أحمد حنونة. دمشق: منشورات وزارة الثقافة. ص 63.
[29] المرجع نفسه. ص 63.
[30] محمد عاطف غيث (1967). دراسات في علم الاجتماع القروي.بيروت: دار النهضة العربية. ص 323.
[31] لحبيب امعمري (2010). التغير الاجتماعي ورهانات العولمة. فاس: منشورات دار ما بعد الحداثة. الجزء الأول. ص 99.
[32] المرجع نفسه. ص 99.
[33] Robert Redfield (1947). « The Folk society ». In: The American journal of sociology. V 52. N° 4. (Jan 1947). Published by The university of Chicago press. p 293. Accessed: 08/08/2013 19:15. Stable URL:http://www.jstor.org/stable/2771457
[34] رحمة بورقية (2004). مواقف: قضايا المجتمع المغربي في محك التحول. الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة. ص 38.
[35]Grigori Lazarev (2014).Ruralité et changement social : Etudes sociologiques. Rabat : Editeur FLSH Rabat. Impression Bouregreg. p127.
[36]Ibid. pp 127-132.
[37]المختار الهراس (1988). القبيلة والسلطة تطور البنيات الاجتماعية شمال المغرب. المركز الوطني لتنسيق وتخطيط البحث العلمي والتقني. الرباط: مطبعة الرسالة. ص 236.
[38] المختار الهراس (1999/2000). بروز الفرد داخل العائلة في أنجرة: الهوية الاقتصادية، وصراعات الجنس والأجيال. بحث لنيل دكتوراه الدولة في علم الاجتماع تحت إشراف فاطمة المرنيسي. كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. ص 244.
[39] مسدالي. المجتمع القروي الدكالي. ص 6.
[40] عاطف غيث. دراسات في علم الاجتماع القروي. ص 325.