
مقال نشر بالعدد الثالث من مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية ص 57 من إعداد الباحث سماح بن خروف/جامعة برج بوعريريج (الجزائر)
للاطلاع على كل العدد يرجى الضغط على غلاف المجلة:

ملخص
لطالما اعتبر الشعر وعاء يستجمع شظايا الألم والحنين، ويرسل عبر صوره المتباينة آهات الشجون وغصص الرزايا، وذلك حال العديد من الشعراء الذين صاروا يتجرعون الأحزان عبر كلمات جريحة تشدو بموسيقى الحسرة ما ألم بهم من مفارقات استدعت هي الأخرى تتابع الإيقاعات المعاتبة لغدر السنين، و القلم السائل بدماء الأبرياء جعل الشاعر محمود درويش يمتطيه ركبا لمواساتهم وتعزيتهم ونعي القلوب المليئة بالزفرات المقموعة، إنه الشاعر الأبي الذي ناهض الآخر بكل ما امتلك من ملكات ميّزت نظمه عن غيره من الشعراء.
وقد فطر الإنسان على التأثر بملابسات العصر وبخاصة الشاعر الفنان الذي خالف البشر العاديين في شدة انفعاله ومصاحبة الحوادث لأن رهافة الحس قد فرضت عليه هذا التماهي مع التأزمات وفقا لما تقتضيه خبرته الشعورية. خدمة للذوق العام وقد اجتهد درويش على أن توائم نتاجاته الشعرية الذوق العربي وإن كلّفه الأمر العودة إلى التراث لإبراز مدى حضور التجربة الإنسانية وبمختلف أبعادها “فتعامل مع التراث باستغلال المادة الأسطورية والرموز والشخصيات والمواقف الإنسانية الغنية بالدلالة والمغزى فهو سلسلة من التراث الإنساني الشعري خلال هذا الترابط المعنوي بين رؤية الشاعر المعاصر وكل التراث”[1]، حتى يسمو بخطابه الشعري إلى أفق أرحب تستفحل معها الأحاسيس وتدخل عالم التاريخ بما هو ذاكرة جماعية تسعى إلى حفظ الوقائع المهمة بغية تشكيل سجل يعود إليه المرء ليفيد من خبرات سابقيه.
وبذلك يصبح المنطلق إنسانيا من أجل الإنسان وبهذا تستنطق خبايا النفس على الصعيد الباطني ويكشف المسكوت عنه على الصعيد الخارجي وهذا ما فعله محمود درويش الذي ساير معاناة الأنا وكابد ظلم الآخر بقلمه، ونتاجه الشعري المفعم بالترنيمات الأليمة المتفائلة في الآن نفسه.
الكلمات المفتاحية للبحث:
-سيرة الشاعر محمود درويش الذاتية، ومدى تعالقها بتشكيله الأدبي وفي شعره بخاصة.
-الألم كشعور وحيرات الأنا التائهة في قصيدة مديح الظل العالي، والقتل الرمزي للآخر المحتل.
-حقيقة الصراع بين الأنا الفلسطينية والآخر الصهيوني، ومدى إسهام الصورة الشعرية في إبراز الجدل.
-المتخيل الشعري وآهات الإيقاع وتفعيل قراءة الذات عبر التكرار كظاهرة تشد انتباه أي قارئ وتستوقفه، والبعد الفلسفي والأسطوري والديني كملامح وأبعاد فنية جمالية.
1-درويش في نقاط:
لا يغيب عن الأذهان هذا الاسم الذي سجّل بصمته في تاريخ الشعر قبل رحيله عنا فقد ولد محمود سليم درويش في قرية البروة سنة 1941م من أسرة متوسطة الحال[2]، أما عن طفولته فقد كانت مرحلة عذاب شأنه شأن أطفال الشعب الفلسطيني الذين أجبرهم واقعهم المأساوي أن يكونوا سابقين لأوانهم سنا وتفكيرا والطفولة “لم تكن تعني بالنسبة له مجرد مرحلة متميزة من العمر، وإذا كان موضوع الطفولة والأطفال قد شغل الكثير من الشعراء خاصة شعراء الأمم التي عانت من ويلات القهر والاضطهاد”[3]، وقد تلقى درويش دراسته الابتدائية في قرية الأم ليكمل دراسته الثانوية بقرية كفر “ياسيف” حيث انظم إلى الحزب الشيوعي وسجن بسبب نشاطه عدة مرات ولم يتجاوز العشرين من عمره ثم رحل إلى الاتحاد السوفياتي وعمل في الصحافة الشيوعية، وقد كان الشاعر يحلم منذ طفولته بكتابة الشعر فهو يلفي الشاعر فارسا متمردا يسكن الريح.
توفي محمود درويش في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2008 بعد إجراء عملية القلب المفتوح في مركز طبي بهيوستن مما دفع برئيس السلطة الفلسطينية إعلان الحداد ثلاثة أيام في كافة الأراضي الفلسطينية[4]، فرحل عنا تاركا وراءه: أوراق الزيتون، عاشق من فلسطين، آخر الليل، حبيبتي تنهض من نومها محاولة رقم سبعة، وبعض المؤلفات النثرية كـ :يوميات الحزن العادي، شيء عن الوطن وغيرها فكانت وبحق أعمالا تستحق القراءة لمزجها بين الواقع المتمرد المقاوم والعناصر الجمالية والثقافية المغذية لأوطارها المرجوة من تفاؤل وأمل لازمين…
ومعروف عن درويش التزامه وتقديسه لمعطى الثورة والكفاح، وتبنى الانتماء مبدءا لنيل روح الحرية إذا تمّ منع الفوز بها حقيقة وواقعا.
2-بين الألم و الإبداع: قهر الذات بين الواقع والتخييل
لقد فتح الغضب الذي تجرّعه درويش والتشرد باب المجابهة بما يعرف بشعر الثورة الذي كان حليفه طوال حياته الأدبية وقد احتل هذا النمط الشعري مكانة جد هامة في شعره، وقد توسل بالثورة وكل ما يحيط بها لاستنهاض الهمم وإيقاظ الغافلين عما يجري بفلسطين أو حتى العالم العربي إذا أخذنا بالاعتبار قوميته.
وقد باتت قصائد درويش عصارة للتحدي ومرتعا للجلد والعنفوان لأن الآخر مقتول رمزيا، ومهمّش حينا أو مرحّب به لالتزامات حتّمتها الأخلاقيات المسلمة والعربية ومنه فقد كان لزاما على مكونات الشعر هي الأخرى أن تتأثر من روي وإيقاع وقافية ” أصبحت أنسب وقفة موسيقية يسند عليها السياق المعنوي، والموسيقي والنفسي”[5]، وكما هو معروف فالشاعر لم يلتزم في غالبية أعماله بالقافية الواحدة بحثا عن التحرر واستشرافا للوحدة والفلاح للأمة، فهاهو يطرب الآذان مردفا:
كم كنت وحدك يا ابن أمي[6]
يا ابن أكثر من أبي
القمح مرّ في حقول الآخرين
والماء مالح
والغيم فولاذ
وهذا النجم جارح
وعليك أن نحيا
فتنويع القوافي ظاهر من رويّها وحركاتها وتنوعها هي الأخرى بين مقيّدة(مالحْ) ومطلقة (أمي) وهي توحي بالبعثرة والخلاف الذي يتخبط فيه مجتمع الشاعر، وهذا المقطع يفصح بدوره عن نغم حزين كئيب يناجي الحياة جسدته القافية “فهي ذات صلة وثيقة بالمعنى وإيرادها راجع إلى الطابع التعبيري للمبدع”[7]، فقد تجاوزت فكرة حصرها في صوامت أو صوائت متكررة لتوفي بغرض الإيقاع أو النغمة الموسيقية بل تقوم على إيقاع داخلي يفسّر بدوره التموجات النفسية المنفعلة والمنكسرة للشاعر.
ويقول أيضا:
انتصف النهار
لرايات الحمام لظلنا، لسلاحنا الفردي
لسلاحنا المستعار
ليديك كم من موجة سرقت يديك
من الإشارة وانتظاري
ضع شكلنا للبحر عن أول صخرة
واحمل فراغك وانتظاري[8]
فإننا نحسّ الشاعر ساردا وناصّا ليوميات عاشها ولازال ويطمح لأن يعيشها، فقد انتقل في لحظة من النص الوجداني المعبّر عن تبرّمه من الحاضر إلى نداء اعتمد تتابعا للأحداث، فتغيرت مستويات الأداء الشعري تبعا لمضامينها المتباينة لتبحث عن الأنا التائهة وتواسيها بأسلوب جميل وكلمات موحية يعلو وينخفض الإيقاع معها حسب الحاجة السيكولوجية المفسرة لقهر الذات وحجم العواطف فهو يصف الزمن(الاحتلال/الثورة) والمكان (فلسطين) والشخصيات موجودة في واقعه هو أم رموزا تستلهم من التاريخ والأسطورة وقد يرمي من خلال بعض المقاطع إلى أن “يخلق مناخا حركيا يستعجل صورة الفعل الدرامي في النص مستخدما اللعبة السردية”[9] يقول في مقطعه الموضح لما سبق ذكره:
حاصر حصارك لا مفر
اضرب عدوّك… لا مفر
سقطت ذراعك فالتقطها
وسقطت قربك فالتقطني
واضرب عدّوك بي…فأنت الآن
حرّ وحرّ وحرّ[10]
فهو يسرد لنا أحداث المقاومة المتخيلة وهو بطل من أبطالها يسقط ويلاحم جسده جسد الشهداء، والأبرياء يتحسر على الفتنة وضياع الذات النفيسة بخيال جامح يخاطب اللاوعي في ظاهره وينتقم بشعره من الغاشم الذي لم يتمنّ له سوى الضرب والموت الأبدي فذاته تعادي الذات الضّديدة/الاحتلال فواجه بلغة شعرية عنيفة قاسية، وهذا هو سحر وسرّ الإبداع لدى درويش فكل” وصف أو مفردة أو مجاز هو حاضر لتوثيق عرى الصوت المتماسك المتسامح للسارد، في مقابل صوت الآخر المحتل الدوغمائي العنيف”[11]، وقد وسمناه بالسارد لأنه خلق فضاء خاص به عبر زمن أسطوري لا تضاهيه أي مادة معنوية مجردة، عالم يوتوبي يبحث عن الحقيقة بأسلوب تخييلي بارع.
وقد استدعى الأمر استحضار النصوص الغائبة أي باستخدام آلية التناص حتى يفصح عن عمق الألم الذاتي فنجد التناص الديني مثلا في قوله:
لست آدم كي أقول خرجت من بيروت متنصرا على الدنيا
ومنهزما أمام الله
أنت المسألة[12]
فقد استحضر قصص الأنبياء والنبي آدم عليه السلام كما نلفي التناص التراثي في استحضاره لعادات العرب وطرائق عيشهم من خيمة
ويسأل صاحبي: وإذا استجابت للضغوط فهل سيسفر موتنا؟
عن دولة أم خيمة؟
قلت: انتظر لا فرق بين الرايتين[13]
ويبرز الرّمز حاضرا وبقوة كوجه جمالي وكمثير بديل عكس قهر الذات والأمة في قصيدة محمود درويش، ليعتمد التلميح واللغة الفنية الرامزة التي تسعى إلى بث الإبداعية في النص الشعري من جهة وإلى التسامي بالذات التي باتت عليلة بفعل الظروف المزرية المحيطة بها فنجد الرمز الأسطوري مثلا:
عما تبحث يا فتى في زورق الأوديسة المكسور؟
عن جيش يحاربني ثم يهزمني، فانطق بالحقيقة ثمّ اسأل:
هل أكون مدينة الشعراء يوما؟[14]
فقد ارتأى أن يقبض بيد الجمال والاستلهام حتى يتساءل ويجيب ولو بسؤال عما يجوب بخاطره والقارئ العربي مستحضرا أسطورة طروادة واليونان عبر ملحمة الأوديسة لهوميروس التي حكت كفاح بطل وشعب وأعادت العزة للمقهور ومجّدت معها الذات البشرية وهذا ما يطمح إليه محمود درويش عبر رسالته الإنسانية السامية. كما برز النص الأسطوري-كجانب جمالي- بقوة مع الشاعر فذكر مثلا قضية الانبعاث، أدونيس وأوزيريس، والعنقاء وخضر وغيرها في غالب أعماله الشعرية وهذا دليل على تشربه الواسع من التراث، وانفتاحه على النتاج الغربي ، فيقاوم الحقيقة بالخرافة والحكايات المحفوفة بالمبالغات، عله يفضي إلى رفض المحتل الصهيوني الذي ترك له التعقل وسلب هذا الجانب اللاعقلاني من الموروث ليتفرد ويستقلل ولو للحظة من بطشه الرهيب والدافع الأكبر هو الفنية والجمال المميزين للشعر عموما.
3-القتل الرمزي للآخر؛ بين تمجيد الأنا وسؤال المصير
قد نغوص نوعا ما في الجانب السياسي والأيديولوجي حتى نفسر حقيقة الانفعالات المتزايدة في القصيدة المختارة فوجود إيديولوجيا سياسية لسلطة ما يستتبع بالضرورة وجود صراع منبثق من طبيعة الموقع الذي تشغله هذه السلطة، باعتبارها “قوة اجتماعية تسعى إلى تحقيق مصالحها”[15] فهي ستستخدم وتسخر هذه القوة لحماية أيديولوجيتها، وهو ما يستلزم نفي مصلحة أخرى، لقوة مغايرة ستصبح فيما بعد إيديولوجيات نقيضة.
وقد عبّر محمود درويش في خطابه الشعري عن السلطة التي لا تقبل النّد، والتي تمثل إيديولوجيا الرفض والسعي نحو التغيير فيتم مناهضة أفعال السلطة القامعة ، خاصة بعد زرع الكيان الصهيوني في قلب الأمة لا بلاده فحسب، فأرادت أناه على غرار الأنات الفلسطينية أن تتجاوز حالة الغبن بالرغم من المحاولات الدؤووبة للتغيير، والتنديد بالظلم والفقر والجوع، وتجاهل الصهاينة واعتبارهم عدما معدما:
بعد شهر يلتقي كلّ الملوك بكل أنواع الملوك
من العقيد إلى العميد ليبحثوا خطر اليهود على وجود الله أما
الآن فالأحوال هادئة كما كانت
وإن الموت يأتينا بكل سلاحه الجوي والبري والبحري
مليون انفجار في المدينة[16]
فالأبيات تعبر عن خطر اليهود ليصرح الشاعر بالهدوء فيما بعد موظفا الحروف ذات النفس الطويل”الواو، اللام، الهاء…) وترنيمة مفعمة بالابتهال الجماعي ليعبر عن قوة التحدي والصبر على الشدائد صفات ميزت الأنا الفلسطينية، أما الآخر الصهيويني فرغم الهدوء الانفجار لا يزال يدوّي ورغم ذلك فالسكينة تقاوم الموت الذي يأتيهم من كل جهة، وهذا ما يعبر عن إنكار فكرة وجود المستعمر، ونفيه من الأراضي نفيا معنويا.
ويضيف في مقطع أخر:
صبرا تنادي من تنادي
كل هذا الليل لي والليل ملح
صبرا تنام وخنجر الفاشي يصحو
يمدد الأعضاء فوق الطاولة يجن من فرح[17]
فهو يحاور الأنا المتألمة ويعزيها في هذا الآخر الذي لم يصرح لا باسمه ولا بجنسيته كمظهر من مظاهر القتل الرمزي له، وعدم الاعتراف به. فقد نعته بالفاشي الذي لا يغيب عن القارئ المدلول العميق الذي تحمله هذه الكلمة، فهي التي امتدت عن النازية الألمانية وهي الحركة التي تؤمن بتقديس الذات وتجاهل الأجناس الأخرى تتبنى النظرة الفوقية، وشعارها القمع والعنف الأبدي، أما درويش فقد تحدث بلسان أناه والغريب في الأمر هو أن مواساته للمجازر المرتكبة في بيروت قد أخرجت هذه القصيدة إلى النور ليعترف بالتماهي والتلاحم بين العرب ومدى قوة وصلابة العلاقات الفلسطينية العربية حينذاك، ويكسب خطابه الشعري طابعا إنسانيا سما به وبحق على عكس الصهاينة الفاشيين.
ويقول في شأن بيروت:
يا فجر بيروت الطويلا
عجل قليلا
عجل لأعرف جيدا إن كنت حيّا أم قتيلا[18]
فبالرغم من الاعتداد الشامخ بالذات الذي ألفيناه في القصيدة إلا أن توضعها قد عكف بها للتألم مع باقي الشعوب رغم الرزايا والشجون التيي تتخبط بها البلاد، هي مرارة تكتسي بالتفاؤل الدفين، جعلت التسامي بالنفس إلى سفح النصر المفترض تتغلب على الحقيقة وهوان المصير قبل الحاضر…
3-التكرار وأثره الجمالي:
إن البواعث عديدة ومتباينة لحدوث التكرار في أي عمل أدبي لاسيما وقد يحس الأديب نفسه أمام مهمة عويصة تستدعي كشف المستور أو الصدق الفني فيتكئ على هذا الأسلوب التعبيري الدقيق الذي يفسر ما يعتمل في الوجدان من صراعات وتخوفات وإذا حاولنا إعطاء تعريف نفسي للتكرار”فهو مصدر من العمليات النفسية التي يرى فرويد أنها تتم دون وعي فتؤثر بذلك على سلوك الشاعر”[19] والتكرار قد انسحب على جل مكونات الجملة من حرف واسم وفعل وكلمة فتحس أثناء القراءة بالوقفات النفسية، وبصرخات الألم في ذات الشعر والعربي عموما، وحرف الـ”لا” قد تكرّر وتواتر لدرجة تلفت الانتباه، ولجأ إليها درويش لإعلان الرفض والنفي والنهي بالإضافة إلى التحدي والصمود ولكن بتكرار الحرف الذي ترك الوقع البالغ في نفوسنا فيقول:
ولكن… لا رصيف
ولا جدار
لا أرض تحتي كي أموت كما أشاء
ولا سماء
حولي
لأثقبها وأدخل في خيام الأنبياء[20]
فهو ينكر وجود سبل الحرية ووسائل الانتصار التي تحارب البطش والظلم المتسببين في هوان الأمة. كما نلفي تكرار اللفظ سواء كان اسما أم فعلا في قوله كذلك:
هيروشيما هيروشيما
وحدنا نصغي إلى عمق الحجارة
هيروشيما[21]
ويقول أيضا:
والبحر أرض ندائنا المستأصلة
والبحر صورتنا
ومن لا برّ له لا بحر له
بحر أمامك، فيك، بحر من ورائك
فوق هذا البحر بحر تحته بحر[22]
فقد كرّر هذا الدال التاريخي حتى يتكرّر مدلول المقاومة والحرب في ذهن القارئ، ويتفاعل مع الحدث إذا كان سردا أو الحلم إن كان الشاعر بعيدا عن لسان الواقع، زد على ذلك تكراره للعبارة رغم قصرها في غالبها، لذا فلن نحسّ بثقل التكرار والغاية من كلّ ذلك هو التأكيد على القضية والالتزام الصادق بنوع من العدول عن المألوف في استخدام اللغة المباشرة مثلا وهاهو البيان خير دليلا على ذلك وقد انتقينا أجملها وأشدها تأثيرا في النفوس:”تنكسر البلاد على أصابعنا كفخار، وقد غمس باسمك البحري أسبوع الولادة، ألف سهم شدّ خاصرتي ليدفعني أماما ، الغيم فولاذ، الطاعون أمريكا” هي مختارات قليلة إلا أن ما ترمي إليه عظيم في نظر الشاعر الذي أراد أن يحيك ثوبا مدّبجا بكلمات جريحة لا ترسو في مكانها النحوي ولا الدلالي بل تعلو بلاغيا إلى إيجاد صورة من التفاؤل التي يزين بها قصائده الحزينة وإن كلّفه الأمر التوسل بمفردات الحزن”وحدك، جارح، فراغك، انكساري ، الصحاري، الحزينة ، ظلاما ، أجهش، الصمت، غماما، الموت،الرماد ،حطام،الليل …”وغيرها من الكلمات الموحية بشدة الحزن والأسى على قهر الذات ومسخ الحريات ولكن بأسلوب جميل يعلو مع النفس إلى استشراف الحرية ويرتخي إلى استحضار ماضي الأمجاد ويكبت للحاضر الذي يعيشه الإنسان المسحوق.
وبهذا يكون الشاعر قد بلّغ ببلاغة ساحرة عن قمع ذاته وذوات غيره من الفلسطينيين والعرب عندما تحدث في القصيدة عينها عن الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982م، بتسجيلة شعرية كانت أروع ما نظم للقارئ الذي يهتز وجدانه فخرا واعتزازا بمقاومة لأنه يترنم لبنية ملحمية جسّدت انتكاس الأمة والحضارة، ويؤكد على أن غاية الفرد في هذا الوجود هي العمل على إثبات ذاته والعيش بكل عفوية وحرية، إلا أن الملابسات القاهرة، والظروف المناقضة لمبادئه قد تزعزع فيه يقينه بمثالية ذاته أو قدرتها على إدراك حقيقتها، فينسلخ منها ويصبح غريبا عنها تماما، ممّا يجعل ذاته الفعلية التي تتضمن الأحاسيس والآراء مسلوبة منه وكذا الحقيقية من خلال السعي الدائم نحو النمو الفردي بشيء من الأصالة وقدر من القوة. ومن اللاّزم أن يتسامى المرء بذاته حتى يعزّز ثقته بنفسه وفي غيره أيضا لكنه يبقى حائرا لا يعي كنه ذاته ولا يرى للوجود أي معنى.وكرأي مدافع لما ذكرناه تعتبر “هورني” الاغتراب عن الذات”وضعا يتضمن قمع الفردية والعفوية لدى الفرد” [23] فيفقد الفرد بذلك روح الاطمئنان إلى كل ما يحيط به، ويفتقر إلى الأمن النفسي بل صار يتوسل بالحيطة والحذر حتى ينعم بالهدوء والاستقرار، وهذا ما فعلته ذات الشاعر المغتربة والتائهة إلا أنها اختارت حلّ الجمال للتنفيس عن غصة أبدية لن تمحو أوجاعها إلا أحلام السنين…
.[1] . عز الدين إسماعيل، الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره وظواهره الفنية والمعنوية، المكتبة الأكاديمية ، ط5 ، 1994، ص35.
[2] . هاني الخير، محمود درويش ، رحلة عمر في دروب الشعر، موسوعة أعلام الشعر العربي الحديث، دار فليتس للنشر والتوزيع، ط1 ، 2008 ص7.
[3] . فتحية محمود، محمود درويش، ومفهوم الثورة في شعره، المؤسسة الجزائرية للطباعة، دط، 1987، ص48.
[4] . محمد فكري الجزار، الخطاب الشعري عند محمود درويش، دراسة جامعية ، ص12.
[5] . عبد القادر فيدوح، الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، دار الصفاء للنشر والتوزيع، عمان، ط1 ، 1998 ،ص 468.
[6] . محمود درويش، مديح الظل العالي، دار العودة ، بيروت ، لبنان، ط2، 1984، ص68.
[7] . إبراهيم الرماني، بنية القصيدة في شعر محمود درويش، دار فارس للنشر، الأردن، ط1 ، 2002، ص229.
[8] . محمود درويش مديح الظل العالي ص6.
[9] . محمد صابر عبيد، جماليات القصيدة العربية الحديثة، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، سورية، دط، 2005، ص31.
[10] . محمود درويش مديح الظل العالي، ص21.
[11] . شرف الدين ماجدولين، الفتنة والآخر، أنساق الغيرية في السرد العربي، دار الأمان، الرباط ، ط1 ، 2012، ص123.
[12] . محمود درويش، مديح الظل العالي، ص 117.
[13] . المصدر نفسه، ص55.
[14] . المصدر نفسه ، ص 93.
[15] . فيصل دراج، الواقع والمثال، مساهمة في علاقات الأدب والسياسة، دار الفكر الجديد، بيروت، لبنان، ط1 ، 1989، ص302.
[16] . محمود درويش، مديح الظل العالي، مصدر سابق، ص58.
[17] . المصدر نفسه، ص88.
[18] . المصدر نفسه، ص102.
[19] . شعبان علي حسين السيسي، علم النفس، المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، دط، 2002، ص 71.
[20] . محمود درويش، مديح الظل العالي، ص 91.
[21] . المصدر نفسه ، ص 59.
[22] . المصدر نفسه، ص107.
[23] . فيصل عباس، الاغتراب،الإنسان المعاصر وشقاء الوعي،دار المنهل اللبناني،لبنان،ط 1،2008م، ص62.