
مقال نشر بالعدد الثاني من مجلة جيل العلوم الإنسانية والاجتماعية ص 123 من إعداد الباحث بمرحلة الدكتوراه الأستاذ بن سولة نورالدين / إعلام واتصال تخصص : لغة وتحليل نقدي لوسائل الإعلام – جامعة عبد الحميد بن باديس، مستغانم، الجزائر
للإطلاع على العدد كاملا اضغط على الغلاف:

ملخص:
يعتبر ظهور السيبرنطيقا ثورة علمية خاصة في ميدان التكنولوجية ، وقد أدت إلى ظهور الآلات والأجهزة الدكية التي بامكانه تعويض الإنسان في عمله ووظائفه ، ويعود اكتشاف هدا العلم الدي يعد حديث النشأة إلى الأربعينيات من القرن الماضي من طرف عالم الرياضيات الأمريكي نوربرت فيينر (1894-1964 مـ) ،وكان ظهور السيبرنطيقا كنتيجة لحل مشكلة عسكرية خلال الحرب العالمية الثانية ،حيث كانت القوات العسكرية الأمريكية تواجه صعوبة كبيرة في إسقاط الطائرات الألمانية التي كانت تراوغ بسرعة كبيرة ، وأسندت مهمة حل المشكلة إلى العالم نوربرت فيينر مع فريق من العلماء من مختلف التخصصات كالطب ، الرياضيات ،علم النفس ،وغيرها ,,,وتمكن توربت فيينر من إنشاء جهاز مكون من مدفعية أرضية وآلة حاسبة ،حيث يتم تزويد الآلة الحاسبة بمعلومات مستمرة حول موقع الطائرة ومن تم يتم الكشف عن موقعها اللاحق ، وكانت هده بداية السيبرنطيقا التي تقوم على التغدية المرتدة أو رجع الصدى ، أو رد الفعل .
من خلال هده الفكرة قام نوربرت فيينر بتطوير أبحاثه والوصول إلى البرمجة الآلية من الجيل الأول للسيبرنطيقا والتي تقوم على الفعل ورد الفعل ،وحاول تطبيق هده الفكرة على الإنسان قصد التحكم في الإنسان وتوجيهه بناءا على الأفعال ردود الأفعال ،وظهر ما يعرف بالسيبرنطيقا الإجتماعية ، غير أن نوربرت فيينر سرعان ما اكتشف أن الإنسان معقد في سلوكاته وردود أفعاله ،مما دفعه مجددا إلى العمل على تطوير أبحاثه والوصول إلى الجيل الثاني من السيبرنطيقا ،حيث ظهرت الآلات الدكية التي لها عدة ردود أفعال .
إن مفهوم السيبرنطيقا يعني التحكم والضبط ،إستنادا إلى المعنى اللغوي اللاتيني للمصطلح والدي يعود إلى kubernetike وهو المصطلح الدي أطلقه أفلاطون على موجه السفينة ،والسيبرنطيقا كما سبق الدكر تقوم على التغدية المرتدة من خلال متابعة وضع ما خلال فترات زمنية معينة لتحديد الوضع اللاحق ، أي أنها تقوم أساسا على المعلومة ،وعليه نجد أن هناك السيبرنطيقا تتداخل مع وسائل الإعلام من حيث المبدأ الدي هو المعلومة ومن حيث الهدف الدي هو التحكم والضبط ،وكل من السيبرنطيقا ووسائل الإعلام يشكلان ظاهرتين مهمتين تلعبان دور رئيسي في تحديد وتوجيه السلوكات الإجتماعية .
فقد قام ماكلوهان بتقسيم مراحل المجتمع البشري وفق الوسيلة الرئيسية المستخدمة في نقل المعلومات إلى ثلاث مراحل :مرحلة الإتصال الشفوي ، مرحلة المطبوع بظهور الطباعة على يد جوتنبرغ عام 1436،وأخيرا مرحلة العقول الإلكترونية والمعلومة الرقمية .
ودهب ماكلوهان إلى اعتبار وسائل الإعلام امتداد للحواس الإنسانية ، حيث يعتمد الإنسان خلال إتصاله بالعالم المحيط على وسائل الإعلام ، وبالتالي فوسائل الإعلام هي جزء لا يتجزأ من الإنسان، حيث انه يستخدمها في إدراكه لما حوله ، وما لا تنقله وسائل الإعلام فهو غير موجود ويتدعم موقف مكلوهان من خلال الفرنسي بوردو ،فحسب هدا الأخير التلفزيون ليس مجرد أداة لتقديم التسلية والثقافة ، إنما هو أداة للضبط والتحكم الاجتماعي ، وفقا للمصطلح الذي يستخدمه بوردو فالتلفزيون أداة للعنف الرمزي، لأن مشاهدة التلفزيون ستؤدي إلى اكتساب معاني وأفكار ومعتقدات وصور رمزية حول العالم الذي يقدمه التلفزيون بعيدا عن العالم الحقيقي أو الواقعي ، بمعنى آخر فإن التلفزيون يقود إلى بناء اعتقاد حول طبيعة العالم الاجتماعي من خلال تقديم الصور النمطية ووجهات النظر المنتقاة التي يتم وضعها في الأخبار والأعمال التلفزيونية ، والأحداث التي لا يعرفها التلفزيون هي أحداث لا وجود لها.
وعليه نجد أن هناك قواسم مشتركة بين كل من السيبرنطيقا ووسائل الإعلام ، حيث أن كل منهما يقوم على المعلومة ، وكل منهما يسعى للتحكم والضبط ، كما أن هناك علاقة تبادلية بينهما ،حيث تطرح السيبرنطيقا التقنيات المتطورة المستخدمة في وسائل الإتصال في نفس الوقت تكون الوسية الإعلامية بمتابة آلية من آاليات التحكم السيبرنطيقي.
الكلمات المفتاحية: السيبرنطيقا – وسائل الإعلام – التغدية المرتدة –التحكم .
مقدمة:
عرف العالم عدة تغيرات وأنظمة سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة ومتتالية ، فبعدما كان الإنسان يعتمد على الصيد للبقاء ويعيش حياة الترحال ،استقر بأرضه بعدما اكتشف الزراعة ،هاته الأخير التي كانت النواة الأولى في ظهور النظام الإقطاعي والعبودية ،وبعد قرون من الزمن واكتشاف المكننة في القرن الثامن عشر (18 مـ) ،وبعده الثورة الصناعية التي غيرت مختلف معالم الحياة السابقة، من خلال دفع وثيرة الإنتاج بشكل لم يكن معروف سابقا ،وبدأت معالم العالم الجديد مع الثورة الصناعية ،حيث كانت سبب رئيسا في ظهور الحربين العالميتين الأولى والثانية من خلال سعي الدول المصنعة للحصول على المواد الأولية اللازمة في الصناعة ، وانتهت الحربين العالميتين بتحديد المعالم والقوى السياسية والإقتصادية للعالم الجديد .
إن هدا الإنتقال بين الأنظمة والمراحل التي عرفها العالم استغرق قرونا من الزمن ،غير أنه في عالمنا الجديد نعيش عدة تغيرات في فترات زمنية متتالية وقصيرة ، وتعود هده التغييرات لتدخل التكنولوجيا الجديدة والتقنية في نمط حياة الإنسان ،فعالمنا اليوم أصبح يقوم على أنظمة وقرارات معقدة تتحكم فيها التكنولوجية المتطورة ، والآلات الدكية ،وظهور مفاهيم لم تكن موجودة في العالم السابق على غرار الدكاء الإصطناعي l’intiligence artificiel ،ولم يعد دور الآلة دورا ثانويا في عمل الإنسان بل أصبح موازيا لدور الإنسان ومساويا إلى حد ما له كدلك.
إننا نعيش ثورة المعلومات والأجهزة فائقة الدكاء التي تساهم في تغيرات متتالية ومتسارعة في نمط الحياة والمجتمع البشري أو بمفهومها الأصلي الثورة السيبرنطيقية .
يشكل مفهوم السيبرنطيقا غموض كبير خاصة في الوسط العربي ، ويرجع هدا لكون السيبرنطيقا مفهوم حديث النشأة ،ولكونها كذلك تختلف عن المصطلحات اللاتينية التي غالبا ما تكون مكونة من « logy » والتي تعني العلم.
من خلال هدا المقال الذي جاء بعنوان : » السيبرنطيقا ووسائل الإعلام « نسعى إلى إعطاء لمحة تزيل الغموض حول السيبرنطيقا من جهة وتوضيح العلاقة بينها وبين وسائل الإعلام من جهة أخرى .
وسنتطرق في هدا المقال إلى الإطار التاريخي لمفهوم السيبرنطيقا ونشأتها ،وتطبيقاتها في الميدان الإجتماعي ، كما سنتناول العلاقة بين وسائل الإعلام والسيبرنطيقا ،وتطرقنا للتلفزيون كنموذج لتوضيح العلاقة التي تجمع بين السيبرنطيقا ووسائل الإعلام في الأخير ،وعليه نسعى من خلال هدا المقال للإجابة على الإشكالية التالية :
ما هي السيبرنطيقا ؟ وماهي استخداماتها في حقل العلوم الاجتماعية ؟ وما موقع وسائل الإعلام والاتصال في المفهوم السيبرنطيقي؟
إن ظهور السيبرنطيقا يعود للحرب العالمية الثانية ، حيث ظهرت الحاجة لجهاز قادر على حل المشاكل العسكرية بأكبر سرعة ممكنة ، على رأس هده المشاكل كيفية إسقاط الطائرات التي كانت تقذف القنابل والتي كانت تراوغ بسرعة كبيرة مما يجعل مهمة تحديد موقعها في مدة 02 إلى 03 ثواني أمرا مستحيلا .
وهدا ما طرح الحاجة إلى آلة تستطيع حل المشكلة في أقل وقت ممكن ، وتم إسناد مهمة تطوير المدفعية المضادة للطائرات إلى العالم الأمريكي نوربرت فيينر Norbert Weiner بمساعدة فريق عمل مكون من باحثين من مختلف التخصصات طب ،رياضيات ، اتصالات ، تكنولوجيا ، علم الاجتماع ، علم النفس …[1]
وكان المنطلق هو كيف يمكن توقع موقع الطائرة اللاحق من أجل تحديد سرعة واتجاه القذيفة ، أو بمعنى آخر فإن نوربرت فيينر Norbert Weiner* الذي ينسب إليه علم السيبرنطيقا كان يهدف إلى تحديد السبل العلمية الدقيقة التي يستطيع من خلالها مدفع أرضي أن يصيب هدفا متحركا يسير بسرعة فائقة .[2]
وتمكن نوربرت فيينر Norbert Weiner في الأخير من تصميم جهاز إلكتروميكانيكي مكون من آلة حاسبة machine a calcul تستطيع حل المعادلات الرياضية ،وهده الآلة الحاسبة متصلة بمدفع .
من خلال تزويد هدا الجهاز بالمعلومات حول موقع وسرعة الطائرة يستطيع التنبؤ بالموقع اللاحق وبالتالي القدرة على إسقاطها، وهدا ما يعرف بالتغذية المرتدة.
بمعنى أن حل المشكل كان من خلال دراسة رد فعل الطائرة ،وهده الفكرة كانت بسيطة في بدايتها إلا أنها حققت نجاحا كبيرا في مختلف ميادين العلم .
ففي مجال العلوم التطبيقية فتحت مجال البحوث للوصول إلى آلات ذكية وظهر ما يعرف بالذكاء الاصطناعي الذي يتمثل في الروبوتات ، وأجهزة الكمبيوتر وغيرها من الآلات التي أصبحت تنافس الإنسان إلى حد ما .
فاستخدام »التغذية المرتدة « أو »رد الفعل « سيمكن من التنبؤ بالظواهر أو السلوكات المستقبلية سواء كانت تخص كائن حي أو آلة ، مما يسمح بمراقبة وتوجيه تلك الظواهر والسلوكات والتحكم فيها ،وبالتالي فإن كل نتيجة تؤثر بشكل إرجاعي في سبب وجودها .
وقد تداخلت السيبرنطيقا مع العديد من العلوم فظهرت مثلا السيبرنطيقا العصبية neuro cybernétique ، السيبرنطيقا الحيوية bio cybernétique .
كما تدخلت في الوصول إلى الآلات ذاتية الحركة كألعاب الفيديو ، وفي هدا الصدد يرى فيينر Norbert Weiner أن العلوم التي تبدو منفصلة هي في الحقيقة تتلاقى وتتشابه في نتائجها مما يجعل في الإمكان إعادة توحيدها ، ويرى فيينر Norbert Weiner أن الأمر يستدعي وجود فريق من العلماء المتخصصين في فروعهم العلمية ، ولكنهم في نفس الوقت يعرفون لغة وأفكار العلوم الأخرى ، وهكذا أنشأ نوعا جديدا من العلماء المتخصصين في الطب والرياضيات في نفس الوقت ،وهؤولاء هم علماء السيبرنطيقا .[3]
رغم أن السيبرنطيقا لا تزال عبارة عن مفهوم يشوبه الغموض إلا أنه يوجد اتفاق مبدئي على أن السيبرنطيقا تعني التحكم ،وهدا استنادا على المعنى اللغوي للمصطلح ،فقد أطلق أفلاطون مصطلح kubernetike على موجه السفينة .[4]
وينطوي مفهوم التحكم على الثلاث عمليات التالية أو كلها:
- الحساب الدقيق للنتائج أو العواقب المترتبة عن سلسلة من الأحداث سواء كانت طبيعية أو اجتماعية أو آلية .
- تحريك الأحداث أو المعطيات الموجودة حسب خطة أو مسار محدد.
- التنبؤ بالأحداث التي يمكن أن تقع عن طريق القيام بعمليات ذهنية أو حسابية.[5]
كما يشمل هدا المفهوم ثلاث عناصر رئيسية وهي :
- الاتصال communication : ونجاح العملية الاتصالية يستوجب نجاح
العملية الاتصالية وجود اتفاق بين المرسل والمتلقي على المعنى الذي تتضمنه الرسالة ، فإذا حدث خلل في الإتفاق على المعنى ،حدث سوء الاتصال.
كذلك فإن المرسل والمستقبل يتبادلان الأدوار معنى أن المستقبل يغدو مرسل والعكس.
والتحكم في المفهوم السيبرنطيقي يستوجب أن تكون الرسالة محددة و مضبوطة ويكون الرد كذلك عبارة عن رسالة محددة ومضبوطة ، فكلما أرسل» س « الرسالة » أ « فإن » ع « يرد بـ » ب «دائما ،وهدا ما يطلق عليه بالبرمجة في أبسط معانيها.[6]
ولتوضيح المعنى أكثر يمكن أن نقدم مثال حول مبدأ عمل الثلاجة التي هي عبارة عن نظام سيبرنطيقي من الجيل الأول .
لنفترض أننا أردنا أن نرفع درجة البرودة في الثلاجة ، وبالتالي سنستخدم زر تعديل البرودة ، الذي يقوم بدوره بإصدار أمر للمحرك الذي يبدأ في العمل ،وعند بلوغ درجة البرودة المطلوبة سيتنبأ جهاز قياس الحرارة بدلك وسيصدر أمر إلى المحرك بالتوقف.
وعند ما تقل درجة البرودة عن الدرجة المرغوبة ، فإن جهاز قياس البرودة سيتنبأ بدلك ويصدر أمر للمحرك ، وهدا الأخير سيبدأ في العمل مجددا .[7]
فالثلاجة هي عبارة عن تطبيق للمفهوم السيبرنطيقي من الجيل الأول ، الذي يشمل الآلات التي تكون لها استجابات آلية .
أما الجيل الثاني فيشمل الآلات التي تعرف بالآلات الذكية ،كالروبوتات وأجهزة الكمبيوتر ،والتي تكون لها استجابات متعددة .
- التغذية الراجعة feed back: وتعني الرد الذي يصدر بناءا على منبه ما ،ولقد تمت الإشارة إلى أن الرسالة الجواب هي نوع من التغذية الراجعة ،كذلك بالنسبة لمبدأ عمل الثلاجة،فجهاز قياس درجة البرودة thermostat،يقوم آليا بفتح الدارة الكهربائية عندما ترتفع درجة الحرارة .
وبالتالي يمكن القول أن التغذية الراجعة هي عبارة عن معلومات صادرة بناءا على معلومات سابقة.
ويمكن التمييز بين نوعين من التغذية الراجعة :
أولا : تغذية راجعة سلبية
وهي الرد بشكل خطي liniear كما هو الحال بالنسبة لـ thermostat، بمعنى أن التغذية الراجعة السلبية هي عبارة عن استجابة آلية لمنبه ما ،وهدا النوع من الاستجابة موجود في الجيل الأول من الأنظمة السيبرنيطيقية .
ثانيا :التغذية الراجعة الإيجابية
وهي النوع الغير خطي nolinear ويقصد بدلك أنه يمكن أن يكون الرد متنوعا ،فهو رد دكي يتبدل حسب إمكانات متعددة .
فمثلا إدا كان المدفع مضاد للطائرات يعمل بتغذية راجعة سلبية فإنه سيقوم بإطلاق النار على أي جسم طائر يدخل في نطاق أنشطته ،إما إدا كانت تغذيته موجبة فإنه سيطلق النار على أجسام طائرة محددة دون أخرى .
وقد سمحت التغذية الراجعة الموجبة بالوصول إلى آلات تستطيع التمييز بين الفروق كالسيارة التي تعمل أبوابها آليا، لكنها لا تفتح إلا لصاحبها، أو المنشار الآلي الذي يقطع الخشب والحديد لكنه لا يتوقف عندما يمد صاحبه ذراعه.[8]
- المنظومة system : يمكن تعريف المنظومة على أنها مجموعة العناصر المرتبطة مع بعضها أو مجموعة المتغيراتvariables المرتبطة مع بعضها ،وتعمل بانتظام لتحقيق هدف محدد.
ومن هدا التعريف نجد أن المنظومة تقوم على توفر عاملين وهما الأشياء والعلاقة التي تربط بين تلك الأشياء .
وأول شكل من أشكال المنظومة هو الصندوق الأسود الذي يسمح للباحث بتحديد المدخلات input والمخرجات output انطلاقا من معرفته المسبقة بالعلاقة التي تربط بينها.
وعليه يتضح جليا أن المنظومة هي عنصر مهم في المفهوم السيبرنطيقي لأن تحديد العناصر المكونة للمنظومة وتحديد العلاقة التي تربط بين تلك العناصر سيسمح بالتحكم والتوجيه والتنبؤ بالمراحل اللاحقة.[9]
تطبيق السيبرنطيقا في العلوم الاجتماعية :
إن دراسة تطبيق السيبرنطيقا في الميدان الاجتماعي تدفعنا إلى التعرض لزاويتين مختلفتين ،فالزاوية الأولى تتمثل في النتائج المترتبة عن السيبرنطيقا كفكرة علمية تقنية والتي فتحت المجال لتطوير الآلة ، وأفرزت ما يعرف بالذكاء الاصطناعي ،الذي تمثل في أجهزة الحاسوب ، والرجل الآلي وغيرها من الوسائل وتكنولوجيا المعلومات .
وقد فرضت هده الأجهزة والتكنولوجيا نفسها على المجتمع وأصبحت تعرف بالثورة السيبرنطيقية ، cybernétization of society وهو مفهوم استخدم لوصف الانتشار الواسع للأنظمة السيبرنطيقية في المجتمع.
فهناك من يرى أن السيبرنطيقا تمكن الإنسان من تنظيم عالمه و بيئته تنظيما محكما ،كالاعتماد على الحاسوب الإلكتروني الذي يستطيع أن يقوم بأفعال وعمليات عقلية بصورة سريعة ومدهشة من خلال استخدام المعلومات بطريقة يعجز عنها العقل البشري.
فالسيبرنطيقا ستتيح للإنسان قدرة هائلة على مواجهة مشكلاته وإمكانية إيجاد الحلول بناءا على تراكم المعلومات من جهة وعلى التحكم بالبيئة الفيزيقية والاجتماعية من جهة أخرى .
أما الموقف المعارض فيرى أن انتشار السيبرنطيقا على نطاق واسع يؤدي إلى الحد من حرية الإنسان من خلال نمدجة مساراته العقلية حسب أهداف محددة .[10]
كما يوجد تنبؤ بحصول ضعف عقلي عند الإنسان العادي بسبب الإفراط في استخدام الآلات.
أما الزاوية الثانية فتتمتل في استخدام المبادئ السيبرنطيقية في الدراسات الاجتماعية ،بمعنى أن الظواهر والسلوكيات الاجتماعية يتم التعبير عنها بطريقة رياضية تقنية قصد توجيهها والتحكم فيها ،وهدا ما أطلق عليه بالمقاربة السوسيوسيبرنطيقية.
ويعتبر نوربرت فيينر Norbert Weiner أو من حاول نقل السيبرنطيقا إلى دراسة الإنسان وقد طرح هده الفكرة من خلال كتابيه (02):
- The human use of human beings .
- Cybernétic or control and communication in the animal and machine .
وبالنسبة لفينر Norbert Weiner فإن الرسالة التي تصدر من مرسل سواء كان إنسان أو حيوان أو آلة تحدد ما يجب على المستقبل القيام به من خلال التحكم في مضمونها.
بمعنى أن التحكم في مضمون الرسالة الصادرة سيحدد سلوك المستقبل الذي سيظهر على شكل رد فعل أو تغذية راجعة كما سبق الذكر .[11]
ففينر Norbert Weiner يرى أن هناك تماثلا بين الإنسان والآلة ، فكل منهما يملك مستقبلات للمعلومات من العالم الخارجي على شكل رسائل يمكن تحديد محتواها ،و كل منهما يقوم بمعالجة المعلومات الواردة من خلال جهازه الداخلي (الدماغ بالنسبة للإنسان) ،كما أن كلاهما يقوم بالرد على شكل تغذية مرتدة (راجعة) بناءا على الرسائل الواردة ،أي أن Norbert Weiner رأى أن السلوك الإنساني عبارة عن ردود أفعال ميكانيكية ذات اتجاه خطي من الجيل الأول كما سبق الذكر.
وقد لقيت هده المقاربة اعتراض من طرف الكثير من علماء الاجتماع لأنها عبارة عن تبسيط مخل للسلوك الإنساني، فالإنسان هو منظومة حيوية لها وظائف وأنماط استعمال للمعلومات لا تعرفها الآلة.
حتى أن Norbert Weiner اكتشف سريعا محدودية التماثل بين الآلة والإنسان وأقر بأن هدا الأخير أكثر تعقيدا ،وتوجد عوامل عديدة تؤثر في أفعاله يصعب التحكم بها جميعا .
وهدا ما دفعه إلى تطوير الجيل الأول للسيبرنطيقا ، وينتج الجيل الثاني الأكثر تطورا.
وسائل الإعلام من المنظور السيبرنطيقي
يمكن تعريف الإعلام أنه عملية تزويد الناس بالمعلومات السليمة والحقائق الثابتة التي تساعدهم في تكوين رأي صائب حول واقعة من الوقائع ،وتتم هذه العملية باستخدام وسائل لها القدرة على نقل الرسائل التي تحمل الأفكار والمعلومات إلى عدد كبير من الناس.[12]
بمعنى أن وسيلة الإعلام هي ما تؤدي به الرسالة الإعلامية أو هي القناة التي تحمل مضمون الرسالة من القائم بالعملية الإعلامية إلى المستقبل ولكن لابد من الإشارة إلى أن الوسيلة لا تعني الآلة أو الجهاز في حد ذاته فقط ،وإنما تشخص في الهيكل التواصلي كله .
فالجريدة بدون مطبعة وبدون موزع ليست وسيلة إعلام لأنها لن تؤدي دور نقل المعلومات إلى المستقبل ، وفي هدا الصدد يقول مارشال ماكلوهان :الوسيلة هي الرسالة .
في إشارة إلى أن الوسيلة تشكل جزء هام من الرسالة في عملية التأثير على المستقبل، وقد يصل الأمر إلى جعل لكل وسيلة رسالتها.
وتقوم فكرة مارشال ماكلوهان* على أن الوسيلة التي تنقل المضمون الإعلامي تؤثر في المستقبل تأثير لا شعوري مما يؤدي إلى تغيير سلوكهم ،ويرى ماكلوهان أن لكل وسيلة جمهور من الناس الذي يفوق حبه لها اهتمامه بمضمونها .
كذلك حسب ماكلوهان فإن خصائص الوسيلة المسيطرة لها الأثر البالغ في كيفية التفكير وتنظيم المعلومات بل المجتمع كله ، وتشمل هده الخصائص التكنولوجيا المستعملة في الوسيلة المسيطرة .[13]
ويوصف هدا المنظور لماكلوهان والمدعم من طرف هارولد إنيس بالحتمية التكنولوجية ، وانطلاقا من هدا المنظور فإن ماكلوهان يقسم تطور المجتمع إلى ثلاث مراحل :
- المرحلة الأولى كانت تتم فيها عملية نقل المعلومات مباشرة من الفم إلى
الأذن ،مما دعم العلاقات الاجتماعية وتماسك المجتمع .
- المرحلة الثانية كانت بظهور الطباعة على يد جوتنبرغ عام 1436 مـ ،حيث أثرت الطباعة على العلاقات الاجتماعية حيث ظهرت نزعة الجنوح نحو الفردية والاستقلالية .
- المرحلة الثالثة تعرف بالحضارة الآلية ذات العقول الإلكترونية والأقمار
الصناعية ،وأصبحت فيها عملية نقل المعلومات تعتمد على وسائط هي بمثابة الامتدادات لحواس الإنسان فالكاميرا امتداد للعين ،والميكروفون امتداد للسمع.
وحسب ماكلوهان فإن هده الوسائل الراديو والتلفزيون أعادت النزوع إلى الاندماج وإلى الكلية ( الكل ).
فبينما أدى المطبوع إلى تقسيم المجتمع إلى فئات ، عملت الوسائل الحديثة على إرجاع الناس إلى الاندماج الاجتماعي.
كذلك فإن ماكلوهان يرى أن هده الوسائل الحديثة هي جزء لا يتجزأ من الإنسان ، لدلك فإن هدا الأخير سيعتمد عليها بالضرورة لإدراك ما يجري حوله.[14]
التلفزيون كأداة للتحكم الاجتماعي
انطلاقا من منظور ماكلوهان ،يتضح جليا أن لوسائل الإعلام الأثر البالغ في إدراك الناس للواقع ،خاصة الراديو والتلفزيون ، لأنها حسب تعبير ماكلوهان هي امتداد للحواس البشرية،ويتدعم هدا المنظور من خلال الفرنسي بوردو ،فحسب هدا الأخير التلفزيون ليس مجرد أداة لتقديم التسلية والثقافة ، إنما هو أداة للضبط والتحكم الاجتماعي ، وفقا للمصطلح الذي يستخدمه بوردو فالتلفزيون أداة للعنف الرمزي،[15] لأن مشاهدة التلفزيون ستؤدي إلى اكتساب معاني وأفكار ومعتقدات وصور رمزية حول العالم الذي يقدمه التلفزيون بعيدا عن العالم الحقيقي أو الواقعي ، بمعنى آخر فإن التلفزيون يقود إلى بناء اعتقاد حول طبيعة العالم الاجتماعي من خلال تقديم الصور النمطية ووجهات النظر المنتقاة التي يتم وضعها في الأخبار والأعمال التلفزيونية ،[16] والأحداث التي لا يعرفها التلفزيون هي أحداث لا وجود لها،وهنا يظهر مفهوم الضبط والتحكم من خلال جدب الانتباه نحو أحداث من أجل إخفاء أحداث أخرى.
أي استثمار ساعات البث الثمينة من أجل أشياء تافهة، ولكن هده الأشياء التافهة ستصبح هامة جدا بالقدر الذي تخفي فيه أشياء ثمينة بالفعل.
خاتمة :
من خلال هذا البحث حاولنا تحديد معالم السيبرنطيقا كمفهوم حديث النشأة وتم معالجة وسائل الإعلام من المنظور السيبرنطيقي التحكمي قصد الوصول إلى العلاقة التي تربط بينهما ،ويتضح أن كل من السيبرنطيقا ووسائل الإعلام يقومان على عنصر مشترك وهو المعلومة .
فالسيبرنطيقا تقوم على المعلومة التي تتمثل في شكل ردود أفعال أو تغدية مرتدة ،في حين أن وسائل الإعلام وجدت أساسا لنقل المعلومة بين مختلف الفئات الاجتماعية .
كذلك نجد أن هناك علاقة تبادلية بين كل من السيبرنطيقا ووسائل الإعلام ،فمن جهة نجد أن السيبرنطيقا أدت على تطوير أداء الآلة بشكل غير متوقع لدرجة أنه أطلق عليها بثورة ما بعد التصنيع ،وهدا التطور شمل الجانب التقني للوسيلة الإعلامية ،ومن جهة أخرى نجد أن وسائل الإعلام تشكل آلية من آليات السيبرنطيقا فهي مصدر للمعلومة التي يمكن أن تستخدم في تسطير الأهداف السيبرنطيقية التحكمية.
قائمة المراجع :
- r astri gimmne ,p.gravé. :la cybernétique t’elle qui elle est .édition Moscou.
- د.خيرالله عصام .مدخل للسيبرنطيقا الإجتماعية .ديوان المطبوعات الجامعية.
- د.فضيل دليو.مقدمة في وسائل الإتصال الجماهيري.ديوان المطبوعات الجامعية.
- فايز محمود .السيبرنطيقا استيعاب وحدة المعرفة .(midouza.net.10.01.2010).
- د.سعيد بنكراد.مجلة واتا للترجمةواللغات.(watajournal.com.15.12.2009).
- د.سليمان جار الله .سلسلة الكتاب الإلكتروني لشبكة العلوم النفسية .(arabpsynet.com.13.12.2009)
- د.أروى عيسى الياسري .ثقافة المعلومات العلمية في وسائل الإعلام . (arabcin.net.19.02.2010)
- فاطمة الفقيه .التلفزيون أداة الضبط والتحكم الإجتماعي.(alwatan.com.19.02.2010).
- techno-science.net.10.01.2010.
- pressacademy.net..19.02.2010.
[1] .c.r.astri gumme,p.gravé.le cébernétique que t’elle qui elle est .edition air mouscou .p p 53-56.
* . نوربرت فيينر Norbert Weiner 1894-1964:عالم رياضيات أمريكي.
[2].د.سعيد بنكراد .مجلة واتا للترجمة واللغات www.wata journal.com .15.12.2009.
[3] .فايز محمود .السيبرنطيقا استيعاب وحدة المعرفة .www.midouza.net.مارس 10.01.2010.
[4] .www.techno-science.net .10.01.2010.
[5] .د,خير الله عصام.مدخل للسيبرنطيقا الإجتماعية.ديوان المطبوعات الجامعية .ص 31.
[6] .دخير الله عصام .مرجع سابق .ص ص 35.36.
[7] .د.سليمان جار الله .سلسلة الكتاب الإلكتروني لشبكة العلوم التقنية www.arabpsynet. com.,13.12.2009.
[8] .د.خير الله عصام .مرجع سابق .ص ص 37 -38.
[9] .د.خير الله عصام .مرجع سابق.ص ص 42 -38.
.د.خير الله عصام .مرجع سابق .ص ص 51 ،52.[10]
[11].د.خير الله عصام .مرجع سابق .ص ص 57،58.
[12] .د.أروى عيسى الياسري .ثقافة المعلومات العلمية في وسائل الإعلام .www.arabcin.net .(19.02.2010).
* . مارشال ماكلوهان 1911-1980 مـ.
.د.فضيل دليو .مقدمة في وسائل الإتصال الجماهيرية .ديوان المطبوعات الجامعية .ص ص 42-51.[13]
[14] .د.فضيل دليو.مرجع سابق . ص ص . 51،52.
[15] .فاطمة الفقيه.التلفزيون أداة للضبط والتحكم الإجتماعي .www.alwatan.com.19,02.2010.
[16] .wwwpressacademy.net .19.02.2010.