الحرب على غزّة: المركزية الغربيّة والذّاكرة الاستعماريّة تطيحان بالسرديّة الغربيّة لحقوق الإنسان
Western focal point and colonial memory overthrow the Western narrative of human rights
د. محمّد بالرّاشد ( أستاذ باحث في علم الاجتماع، جامعة جندوبة تونس)
Dr Muhammad Berrashed; Research professor in sociology at the University of Jendouba, Tunisia
مقال منشور في مجلة جيل حقوق الإنسان العدد 47 الصفحة 11.
مستخلص:
أبانت حرب الاحتلال الصهيوني على غزّة وما تبقّى من أراضي للفلسطينيّين عن هشاشة السّرديّة الغربيّة لحقوق الإنسان. فالدّول الغربيّة النّافذة اختارت تبنّي الموقف الصهيوني، فتمسّكت ب “حقّ الكيان المحتل في الدّفاع عن نفسه” واختزلت وضع الإنسان الفلسطينيّ الذي يعاني ويلات الاستعمار في دعوات إلى ضمان تقديم المساعدات الإنسانيّة وحماية المدنيّين، فتنكّرت بذلك تلك الدّول لحقّ الشعب الفلسطينيّ في تقرير مصيره، وحقّ الإنسان الفلسطينيّ في الحياة – خاصّة بالنّسبة إلى الأطفال والنّساء-، وفي العيش الكريم. وقد بدأ هذا الموقف مفارقا لشعار عالمية حقوق الإنسان الذي كثيرا ما رفعته تلك الدّول مؤسّسة بذلك سرديّة غربيّة لحقوق الإنسان لا سيما بعد انهيار الاتّحاد السوفياتي مع نهاية القرن الماضي. وعليه يحتاج هذا الموقف الغربيّ إلى محاولة فهم وتفسير الخلفيّة التّي وجّهته والتّي تجد لها جذورا في المركزيّة الغربيّة وفي الذّاكرة الاجتماعيّة الاستعماريّة وهما عاملان كفيلان بجعل حقوق الإنسان مجرد إيديولوجية، وليس مُثل عليا لتحقيق العيش المشترك.
الكلمات المفاتيح: حقوق الإنسان، الحقّ في تقرير المصير، الذّاكرة الجماعيّة، المركزيّة الغربيّة، عالمية حقوق الإنسان.
Abstract:
The Zionist occupation war on Gaza and the remaining Palestinian lands demonstrates the fragility of the Western narrative on human rights. Influential Western countries choose to adopt the Israeli claim, so they adhere to “The right of the occupying entity to defend itself” and shorten the situation of the Palestinian human being that suffers from the scourges of colonialism to calls to ensure the provision of humanitarian aid and the protection of civilians. Thus, these countries deny the right of the Palestinian people to self-determination, life and also decent living, especially for children and women. This position seems to contradict the slogan of the universality of human rights that these countries often raise, thus establishing a western narrative for human rights, especially after the collapse of the Soviet Union at the end of the last century. Accordingly, this Western position needs an understanding and an explanation of the background that guided it, which finds its roots in western centralization and colonial social memory, which are the two most sufficient factors to make human rights an ideology, not an ideal for coexistence.
Keywords: human rights, the right to self-determination, collective memory, Western focal point, universality of human rights
مقدّمة:
يعدّ الموقف الذي تبنّته دول غربيّة في مقدّمتها الولايات المتّحدة الأمريكيّة من انتهاكات حقوق الإنسان الفلسطينيّ باعثا على الحيرة والتّساؤل ومن ثم على البحث. فهذه الدّول الغربيّة، رفعت – منذ نهاية الحرب العالميّة الثانيّة وخاصّة منذ نهاية الحرب الباردة بين دول المعسكر الغربيّ بقيادة الولايات المتّحدة الأمريكيّة ودول المعسكر الشّرقي بقيادة الاتّحاد السّوفياتي- راية حقوق الإنسان في العالم قاطبة. وعلى ضوء معيار احترام حقوق الإنسان الذي حدّدته السّرديّة الغربيّة لحقوق الإنسان، يتمّ التّعامل مع سائر دول العالم، فتُسند إعانات لدول وتُحجب عن دول أخرى بتعلّة احترام /انتهاك حقوق الإنسان. وبالاستناد إلى ذات المعيار الحقوقيّ الذي أنتجته السّرديّة الغربيّة لحقوق الإنسان، تُصنّف الدّول إلى دول ديمقراطيّة تحترم مواطنيها وتعمل على حماية حقوقهم، وإلى أخرى مارقة تنتهك حكوماتها حقوق مواطنيها. وقد بلغ الأمر بالولايات المتّحدة الأمريكيّة وحليفاتها من الدّول الغربيّة حدّ التّدخّل في دول أخرى تحت شعار الدّفاع عن حقوق الإنسان والوقوف في وجه أنظمة دكتاتوريّة، شموليّة لا تُقيم وزنا لحقوق الإنسان بالمعيار الغربيّ. والحروب التّي شُنّت في العراق وأفغانستان وقبل ذلك في البلقان شاهد على ذلك[1].
وقد جعلت السّرديّة الغربيّة لحقوق الإنسان الكثيرين يقتنعون بما لا شكّ فيه أنّ الغرب حامي حقوق الإنسان، وهي قناعة ترجمها الكثيرون من معارضين سياسيّين ومن فئات اجتماعيّة أخرى (مجتمع الشواذ) إلى الهجرة إلى الغرب هروبا من اضطهادات يتعرّضون لها في دولهم الأصليّة بسبب آرائهم وأفكارهم السياسيّة أو بسبب ميولاتهم الجنسيّة …الخ. ولعلّ الأهمّ في ذلك كلّه هو أنّ أولئك اللاجئين إلى الغرب رأوا فيه أرضا توفّر الحماية لمن انتهكت حقوقهم في بلدانهم. ولكنّ السرديّة الغربيّة- التّي تمّ التّرويج إليها والعمل على تسويقها- أظهرت ضعفا وهشاشة كبيرين لا نظير لهما بعد أحداث 7 أكتوبر 2023 التّي شهدتها الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، وبالتّحديد قطاع غزّة. فقد سارعت الدّول الغربيّة إلى تبنّي سرديّة الكيان المحتل لما حدث دون أي تشكيك فيها. وانتصرت تلك الدّول – بما لا لبس فيه- ل “حق الكيان المحتل في الدّفاع عن نفسه”، وغضّت تلك الدّول الغربيّة بقيادة الولايات المتّحدة الأمريكيّة الطّرف عن الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان الفلسطينيّ، وهو الذي يُعاني من ويلات استعمار استيطانيّ غاشم منذ سنين طويلة. فتنكّرت تلك الدّول بذلك لحقّ أصليّ من حقوق الإنسان ألا وهو “حقّ الشّعوب في تقرير المصير”. وبدا هذا الموقف الغربيّ غير المتحمّس للدّفاع عن حقوق الإنسان الفلسطينيّ مناقضا -على سبيل المثال- للموقف الذي تبنّته الدّول الغربيّة عند اندلاع العمليّة العسكريّة الخاصّة الرّوسيّة في أوكرانيا، حيث بادرت تلك الدّول إلى إدانة التدخّل الرّوسي وانتهاكه لحقوق الإنسان، وهو الأمر الذي يسترعي الاهتمام ويدعو إلى التّساؤل عن العوامل المفسّرة لهذا الموقف الغربيّ الذي يكشف بوضوح لا لبس فيه هشاشة السّرديّة الغربيّة لحقوق الإنسان، والذي سيلقي – لا محالة- بظلاله على مستقبل حقوق الإنسان في أصقاع كثيرة من العالم، باعتبار أنّ الصمت الغربيّ على جرائم انتهاك حقوق الإنسان سيفقد العالم الغربيّ ريادته لحقوق الإنسان، ويجرّده من كونه نموذجا لاحترام حقوق الإنسان، بل قد يضع مسيرة حقوق الإنسان بأسرها موضع شكّ.
- مشكلة الدّراسة:
فقد تعاطت الدّول الغربيّة بقيادة الولايات المتّحدة الأمريكيّة مع حرب الكيان المحتل على غزّة بموقف مفارق لمنطق عالمية حقوق الإنسان التّي كانت ركيزة من ركائز السرديّة الغربيّة لحقوق الإنسان. لذلك كان من المنطقيّ والوجيه التّساؤل عن دلالات ومعاني تخلّي المعسكر اللّيبرالي الغربيّ عن حماية حقوق الإنسان الفلسطينيّ هو يواجه أبشع انتهاكات حقوق الإنسان (التشريد، التّجويع، منع الدّواء، التّعذيب، القتل، التّدمير…). وبعبارة أخرى، لماذا لم تبد الدّول الغربيّة ذات التّقاليد الدّيمقراطيّة ورافعة راية حقوق الإنسان في المحافل الدّوليّة، مثل الولايات المتّحدة الأمريكيّة، بريطانيا، ألمانيا، فرنسا…، ذات القدر من الحماس لحماية حقوق الإنسان في فلسطين المحتلّة، مثلما فعلت ذلك مع أوكرانيا؟ لماذا لم تنتصر تلك الدّول الغربيّة لحقوق شعب مستعمر تعرّض لكلّ ضروب الاضطهاد والتنكيل والحرمان من حقوق الإنسان منذ منتصف القرن الماضي؟ أليست حقوق الإنسان شاملة لكلّ البشر بغضّ النّظر عن اللّون والعرق والدّين واللّغة وعن وضع الدّولة مستقلّة أم غير مستقلّة…الخ؟ أليست الدّول الغربيّة وفي طليعتها الولايات المتّحدة الأمريكيّة من المنادين بحلّ الدّولتين ومن ثم باستقلال فلسطين؟ أم أنّ لحقوق الإنسان معنى خاصّا بالدّول الغربيّة يجعلها تنتصر إليها حينا وتتغاضى عنها أحيانا؟
إنّ غضّ الطّرف من قبل الدّول الغربيّة عمّا يجري في غزّة من انتهاكات فظيعة لجميع أصناف حقوق الإنسان، واختزال مجمل الأحداث في حقّ الكيان المحتل في الدّفاع عن نفسه وحقّ الفلسطينيّين في الحصول على مساعدات إنسانيّة – تكاد لا تسدّ الرّمق- يجعلان السّرديّة الغربيّة لحقوق الإنسان هشّة وفاقدة لتماسك لطالما ادّعته، كما يجعلان من البحث في دلالات تلك المقاربة الغربيّة أمرا لا مناص منه، لاسيّما وأنّ الغرب يقدّم نفسه دائما على أنّه القدوة في مجال حقوق الإنسان، بمعنى النّموذج الذي ينبغي الاقتداء به في إعمال حقوق الإنسان وتفعيلها.
- أهميّة الدّراسة:
ومقابل هذا التمسّك بعالمية حقوق الإنسان – الذي بلغ حدّ الرّغبة في فرضها على الآخر المغاير ثقافيّا- بدا تعامل الدّول الغربيّة مع انتهاكات حقوق الإنسان في غزّة أقرب إلى التّشجيع على تلك الانتهاكات بل وعلى الاستمرار فيها، الأمر الذي يعطي وجاهة للقول إنّ الدّول الغربيّة ” حوّلت حقوق الإنسان إلى أيديولوجيا[5]” أو بحسب عبارة فتحي التّريكي صارت حقوق الإنسان “رهانا سياسيّا عوضا عن أن تظلّ ايتيقا (غير مقسّمة) تنطبق على الإنسان بما هو إنسان[6]“. يعكس تمادي بعض الدّول الغربيّة في تبنّي الموقف الصهيوني وغضّ البصر عن انتهاكات حقوق الإنسان الفلسطينيّ ضعفا في السّرديّة الغربيّة لحقوق الإنسان، لأنّ هذه السرديّة بالاستناد إلى الموقف الأمريكي والبريطاني والألماني والفرنسي…الخ تُفاضل بين البشر ممّا يجعلها متعارضة مع مبدأ عالمية حقوق الإنسان وانسحابها على النّاس أجمعين مثلما تؤكّد على ذلك المادّة الثّانية من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بوضوح تامّ لا لبس فيه[7]. بمعنى أنّ الحرب على غزّة وكلّ الأراضي الفلسطينيّة أفقدت السّرديّة الغربيّة تماسكا لطالما ادّعته، ووضعتها تحت اختبار قاس وشديد خاصّة أمام تضارب الموقف الغربيّ من انتهاكات حقوق الإنسان في أوكرانيا وفي فلسطين.
فالدّول الغربيّة التّي تبنّت موقف الكيان المحتل وتدافع عنه في المحافل الدوليّة وخاصّة في مجلس الأمن الدّولي هي ذاتها التّي أدانت انتهاكات حقوق الإنسان في أوكرانيا وعملت بمختلف الطرق والأساليب على مدّ يد المساعدة لأوكرانيا ولم يتجاوز موقفها بالنسبة إلى أهل غزّة الدّعوة إلى تسهيل وصول المساعدات الإنسانيّة للسكّان وأخرى لحماية المدنيّين. ومن هنا، فإنّ أهميّة الدّراسة تتأتّى من الرّغبة في فهم وتفسير العوامل التّي تقف وراء هذا الموقف المتضارب والمتناقض للدول الغربيّة المؤثّرة من حقوق الإنسان. وبلغة مغايرة، ما هي الخلفيّة التّي توجّه الموقف الغربيّ في التّعاطي مع انتهاكات حقوق الإنسان، والتّي جعلت حرب الكيان المحتل على غزّة تُفقِد السّرديّة الغربيّة صلابة ادّعتها لاسيّما بعد انهيار الاتّحاد السّوفياتي، وانتشار المقاربة الغربيّة لحقوق الإنسان في مختلف أرجاء المعمورة حتّى باتت مكوّنا رئيسيّا من مكوّنات صورة الغرب التّي رغب في نشرها عبر العالم، أو بالأحرى على تسويقها في العالم؟
- حقوق الإنسان:
وقد راكمت حقوق الإنسان في مسيرتها الطويلة رصيدا لا يُستهان به، فقد شملت فئات عديدة من قبيل الطفل والمرأة واللاجئ والمعاق…، ولعلّ الرّصيد الأكبر في تلك المسيرة هو أنّها “لم تعد من الشّؤون الدّاخليّة للدّول التّي يُحظر التدخّل فيها، بل أصبحت محلّ تدخّل واهتمام المجتمع الدّوليّ ككلّ، وإن كانت شروط ومعايير هذا التّدخّل لا تزال تثير الكثير من الجدل[14]“. بمعنى أن تحوّلا مهمّا حدث في مسيرة حقوق الإنسان، غدت على إثره شأنا دوليّا، أو إن شئنا صارت تحظى باهتمام يتعالى عن الحدود، وهو أمر وإن كان يثير الجدل، فإنّه يعكس وجود تيّار يرى في تلك الحقوق مسألة إنسانيّة تحتاج إلى حسن تدبير حتّى يتسنّى للبشر العيش مع بعضهم متساوين ومختلفين. فالعيش المشترك المبنيّ على المساواة التّي لا تلغي الاختلاف والتنوّع لا يستقيم دون احترام حقوق الإنسان بما هي حقوق متجذّرة في الطّبيعة الإنسانيّة ذاتها، فلا بديل عن الاهتمام الجماعيّ بإعمالها وحمايتها. فتلك الحقوق في المحصّلة، ليست إلاّ قواعد مؤطّرة للعيش المشترك بين البشر، ويفترض أن تكون محور التّعاقد الاجتماعيّ داخل الوطن الواحد وفي العالم. وبتعبير آخر، تؤسّس حقوق الإنسان لعيش مشترك يقوم على المساواة والعدالة واحترام كرامة البشر فردا كان أم جماعة، وكلّ انتهاك لها إنّما هو في نهاية المطاف زعزعة لقيم العيش المشترك وللتعاقد الاجتماعي محليّا وعالميّا. ومن هنا فإنّ عدم الدّفاع عن تلك الحقوق يعبّر في نهاية المطاف على الانتصار لعيش مشترك يقوم على الغلبة حسب عبارة ابن خلدون، ولا يقوم على التعايش المبنيّ على الحوار والتّفاهم، واحترام حقوق الإنسان وبما يعنيه ذلك من إقرار بالمساواة بين البشر في إطار تنوّعهم واختلافاتهم وحقّهم في العيش الكريم.
- حقّ تقرير المصير من حقوق الإنسان الأساسيّة:
- إنّ إخضاع الشّعوب لاستعباد الأجنبيّ وسيطرته واستغلاله يشكّل إنكارا لحقوق الإنسان الأساسيّة ويناقض ميثاق الأمم المتّحدة ويعيق قضيّة السّلم والتّعاون العالميين؛
- لجميع الشّعوب الحقّ في تقرير مصيرها، ولها بمقتضى هذا الحقّ أن تحدّد بحرّية مركزها السّياسيّ وتسعى بحرّية إلى تحقيق إنمائها الاقتصادي والاجتماعيّ والثّقافيّ؛
- لا يجوز أبدا أن يتّخذ نقص الاستعداد في الميدان السّياسي أو الاقتصاديّ او الاجتماعيّ أو التّعليميّ ذريعة لتأخير الاستقلال.
ونجد لهذا الاعتراف الدّولي بالحقّ في تقرير المصير حضورا في كلمة ممثّل الصّين “ماشين مين” في محكمة العدل الدّوليّة في جلسة 22 فبراير/شباط 2024 حين قال “في سعيه لتحقيق المصير، فإنّ استخدام الشّعب الفلسطينيّ للقوّة لمقاومة الاضطهاد الأجنبيّ واستكمال إنشاء دولة مستقلّة هو حقّ غير قابل للتصرّف ومبنيّ على القانون الدّولي[16]. وقد لجأت إليه بعد الحرب العالميّة الثّانية شعوب مختلفة للحصول على استقلالها. وتعترف العديد من قرارات الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة مثل القرار 3070 لعام 1973 بشرعيّة نضال الشّعوب من أجل التّحرّر من الهيمنة الاستعماريّة والاحتلال الأجنبيّ بكلّ الوسائل المتاحة بما في ذلك الكفاح المسلّح[17]“. وبناء على ما تقدّم، يكون الاحتلال انتهاكا لحقوق الإنسان وفي طليعتها الحقّ في تقرير المصير، ومن ثم فإنّ مقاومة المستعمِر مشروعة بناء على قرارات الأمم المتّحدة- الهيئة الدّوليّة الموكول إليها مهمّة تدبير العيش المشترك بسلام منذ انتهاء الحرب العالميّة الثّانية التّي ألحقت أذى كبيرا بملايين البشر من ديانات وأعراق وثقافات مختلفة، وخاصّة من اليهود الذين تعرّضوا إلى كلّ أنواع انتهاك حقوق الإنسان من طرف النّازيين. ونجد صدى لقرارات الجمعيّة العامّة الخاصّة بالحقّ في تقرير المصير – ومن خلالها منظّمة الأمم المتّحدة- في مواثيق بعض المنظّمات الاقليميّة من ذلك منظّمة الوحدة الافريقيّة التّي جاء في ميثاقها أنّه “لا يجوز اعتبار الكفاح الذي تخوضه الشّعوب وفقا لمبادئ القانون الدّوليّ من أجل التحرّر أو تقرير المصير، بما في ذلك الكفاح المسلّح ضد الاستعمار والعدوان والسّيطرة من قبل القوّات الأجنبيّة أعمالا إرهابيّة[18]“. وعليه، يكون من حقّ الفلسطينيّين مقاومة المستعمِر، ويكون من الغريب ألاّ تتمّ مساندتهم من دول العالم لتحقيق حقّهم في تقرير مصيرهم. وبتعبير آخر، يكون الموقف الغربيّ المختزل في حقّ الكيان المحتل في الدّفاع باعثا على التّساؤل لأنّه يتغاضى عن حقّ جوهريّ ألا وهو الحقّ في تقرير المصير الذي تقرّه المواثيق الدوليّة مثلما سبقت الإشارة إلى ذلك.
- استراتيجية الاحتلال الصهيوني: الحق في البقاء هو المستهدف الأوّل والأخير
بلغ عدد ضحايا العدوان الصهيوني في غزة إلى يوم 17 أوت /أغسطس 2024 40074 شهيدا[19]، غالبيّتهم من الأطفال والنّساء، و92537 جريحا[20] في حصيلة غير نهائيّة، حيث يمنع الاحتلال وصول طواقم الإسعاف المدنيّ والمواطنين إلى كلّ المواقع التّي استهدفها كما أنّ ضعف الإمكانيّات أسهم هو الآخر في العجز عن تحديد العدد الحقيقيّ والنّهائيّ لضحايا الحرب التّي يشنّها الاحتلال على غزّة. وقد كان الأطفال والنّساء أكثر ضحايا العدوان عددا. فقد تجاوز عدد الأطفال الشهداء 15000 طفلا[21] فيما كان ضعف ذلك العدد من الجرحى والمفقودين والأيتام[22]. ولعلّ الخطير في الأمر هو ما أشار المرصد الأورومتوسّطي لحقوق الإنسان “في بيان له صدر بتاريخ 30 أكتوبر /تشرين الأوّل إلى أنّ عدد القتلى الأطفال في 24 يوما من هجمات الكيان المحتل الجويّة والمدفعيّة في غزّة تجاوز 3457 طفلا إلى جانب أكثر من ألف آخرين مفقودين تحت الأنقاض[23]. ويمثّل هذا الرّقم أكثر من عشرة أضعاف قتلى الأطفال في حرب روسيا على أوكرانيا خلال العام الأوّل في الفترة من نهاية شباط /فبراير2022 إلى نهاية شباط/ فبراير 2023 وفقا لبيانات الأمم المتّحدة[24]“. ولعلّ عمليّات إبادة الأطفال هذه هي التّي جعلت نائب المندوبة البريطانيّة بمجلس الأمن يقول إنّ “غزّة أصبحت المكان الأكثر دمويّة في العالم بالنّسبة إلى الأطفال[25]“. وبشيء من التّفصيل نقول إنّ العدوان الصهيوني على غزّة استهدف بالأساس حقّ الفلسطينيّين في الحياة الذي هو “حقّ الحقوق لأنّه أساس باقي الحقوق الأخرى، أي لا معنى للحقوق الأخرى سواء كانت اجتماعيّة أو ثقافيّة أو سياسيّة من دونه[26]“. بمعنى أنّ انتهاكات حقوق الإنسان التي مارسها الاحتلال الصهيوني استهدفت بالأساس الحقّ في الحياة، فكان القتل والإبادة الجماعيّة وسيلة لتجبر الفلسطينيين على الاختيار بين الموت أو الرّحيل (التّهجير). وبعبارة مغايرة، استهدفت قوّات الاحتلال الصهيوني حقّ الإنسان الفلسطينيّ في الحياة، ولم تستثن من ذلك حتّى حقّ الطفل الفلسطينيّ في الحياة وهو الحقّ الذي وصفته اتّفاقية حقوق الطفل بأنّه حق أصيل. فقد جاء في الفقرة الأولى من المادّة 6 من الاتفاقيّة “تعترف الدّول الأطراف بأنّ لكلّ طفل حقّا أصيلا في الحياة”.
تقوم استراتيجيّة الاحتلال الصهيوني بالأساس على انتهاك حقّ الفلسطينيّين في البقاء على قيد الحياة/ في البقاء على الأرض، ولأجل ذلك تمّ منع الدّواء والغذاء وكلّ ما له صلة بالحقّ في الحياة. بمعنى أنّ استراتيجيّة الاحتلال الصهيوني تقوم على دفع من تبقّى من الفلسطينيّين على التشرّد في العالم إن كانت لديهم الرّغبة في البقاء على قيد الحياة. ارتكزت استراتيجيّة الاحتلال الصهيوني على القضاء على حقّ الحياة لدى الفلسطينيّين الذي هو -مثلما سبقت الإشارة إلى ذلك- أهمّ تلك الحقوق على الإطلاق وأبرزها، كما أنّ “ضمان ذلك الحقّ يتطلّب العمل على ضمان الحقوق الأخرى كلّها[27]“. ولعلّ الهدف من تلك الانتهاكات لحقوق الإنسان الفلسطينيّ هو إفراغ الأرض الفلسطينيّة من ساكنتها. فقتل النّساء والأطفال هو إعدام للمستقبل، أو بالأحرى إعدام لأي تواجد مستقبليّ على تلك الأرض. كانت نتيجة انتهاكات الحقّ في الحياة فظيعة، إذ “تُقتل كل ساعة اثنتان من الأمّهات…في ظلّ حرب الإبادة على القطاع”، وكأنّنا بالاحتلال الصهيوني انتهى إلى ضرورة تصفية القضيّة الفلسطينيّة من خلال القضاء على النّساء والأطفال. وبتعبير ثانٍ، تقوم استراتيجيّة الاستعمار الصهيوني على انتهاك حقّ البقاء ليتّسع المجال للمستوطنين القادمين من وراء البحار للاستقرار بالمنطقة. وعليه، لتحقيق ذلك الهدف استخدم الكيان المحتل أسلحة دمار رهيبة مصدرها دول غربيّة ترفع راية حقوق الإنسان مثل الولايات المتّحدة الأمريكيّة وبريطانيا وألمانيا…الخ. كما لم تتردّد في استخدام سلاح التّجويع الذي بات سلاح حرب مثلما عبّر عن ذلك أعلى مسؤول للشؤون الخارجيّة في الاتّحاد الأوروبيّ جوسيب بوريل[28].
وهذا يعني أنّ الكيان المحتل وهو ينتهك الحقّ الأصل في حقوق الإنسان (الحقّ في الحياة) لم تتوان عن تنويع الأسلحة، فكان أن تمّ استخدام أسلحة متطوّرة تدمّر كلّ ما يمكن أن يوفّر الحماية للفلسطينيّين. كما تمّ اللّجوء إلى سلاح التّجويع ومنع الغذاء والموادّ الصحيّة ضمن استراتيجيّة تدمير الحقّ في الحياة على أرض محدودة المساحة وشديدة الاكتظاظ بالسّكان. وقد بدا أنطوني غوتيريش (الأمين العامّ للأمم المتّحدة) واعيا بخطورة سلاح التّجويع عندما قال “إنّنا نمرّ بلحظات قاتمة في العالم مع استمرار الحرب على غزّة، معتبرا ألاّ شيء يبرّر العقاب الجماعيّ، حيث أنّ أكثر من مليون شخص مهدّدون بالمجاعة[29]“. قامت استراتيجيّة الاحتلال الصهيوني على استهداف حقّ الفلسطينيّين في الحياة ومن ثم حقّهم في البقاء، فكان تنويع الأسلحة. ومن هنا تمّ استهداف حقّ الأطفال في البقاء (الحقّ الأصيل في الحياة)[30]. وفي هذا السّياق أشار “عضو الفريق الطبّي النّرويجي إلى قطاع غزّة “مادس غلبرت” إلى موت 21 طفلا بسبب سلاح التّجويع في غزّة. والمرعب في حديث غلبرت أنّ هذا الرّقم المقلق هو مجرّد بداية، وهو يطالب بدخول المساعدات الإنسانيّة. ويضيف أنّ أغلب شهداء سوء التّغذية هم من الأطفال، فيما رقم 21 طفلا ما هو سوى البداية في ظلّ أنّ هناك نحو 25 ألف امرأة حامل ونحو 20 ألف ولادة منذ بداية الاعتداءات الصهيونية على القطاع قبل نحو ستّة اشهر[31]“.ولم يسلم من انتهاك حقّ الحياة للطفل الفلسطيني حتّى الأطفال الخدّج[32].وبهذا تكون سلطات الاحتلال الصهيوني قد ضربت عرض الحائط بمبدأ “الطّفل أوّلا” الذي اعتاد التّأكيد عليه المؤتمر العالميّ لحقوق الإنسان (فيينّا بين 14و 25 حزيران /يونيو 1993)[33]“. فصار الطّفل المستهدف الأوّل، لأنّ في القضاء على حقّه في البقاء قضاء على استمراريّة بقاء الفلسطينيّين في المستقبل، أو ليس الطّفل رمز استمراريّة الإنسان على الأرض.
حينئذ يمكننا القول إنّ استراتيجيّة الكيان المحتل ارتكزت في انتهاكها لحقوق الإنسان الفلسطينيّ على انتهاك الحقّ الأصل (الحقّ في الحياة /الحقّ في البقاء)، فكان أن استهدفت فئتين معنيّتين بمستقبل الحياة على أرض فلسطين وهما المرأة والطّفل. فجسّدت تلك الاستراتيجيّة ما كان رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق أرييل شارون – الذي قاد عمليّة الانسحاب من قطاع غزّة- قد شدّد عليه عندما قال “المرأة الفلسطينيّة والطّفل خطران أكثر من الرّجل لأنّ بقاء طفل واحد معناه استمرار أجيال عدّة”. وباستهداف الكيان المحتل حقّ الحياة لدى الطّفل والمرأة الفلسطينيين، تكون قد ضربت عرض الحائط بتشريعات دوليّة وصكوك ومواثيق دوليّة أسهمت الدّول الغربيّة ذاتها في وضعها ومنها على سبيل الذكر لا الحصر، الإعلانات الخاصّة بحقوق الطّفل وبضرورة حمايته ومنها “حتميّة تطبيق اتّفاقية جينيف الرّابعة لعام 1949 والبروتوكولات الملحقة بها ومبادئ القانون الإنسانيّن كإعلان الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة حول حقوق الطّفل الذي أصدرته في تشرين الثّاني /نوفمبر 1959 (القرار رقم 1386 بتاريخ 20 تشرين الثاني / نوفمبر 1959)، وإعلان الجمعيّة العامّة في شأن حماية النّساء والأطفال في حالات الطوارئ والمنازعات المسلّحة بتاريخ 14 كانون الأوّل/ديسمبر 1974 (القرار 3318)[34]“.
وبناء على ما سبق، يجعل استهداف الاحتلال الصهيوني حقّ الحياة لدى الفلسطينيّين السّرديّة الغربيّة -التّي تركّز كثيرا على حماية حقوق المرأة والطّفل- غير ذات معنى لأنّها صارت تعبيرا صارخا عن التّناقض بين النّصّ والواقع. فالنّصّ (=الصّكوك الدوليّة والإقليميّة…الخ) يشدّد على ضرورة حماية هاتين الفئتين، والواقع يشهد مناصرة وتأييدا للممارسات الصهيونية التّي تقوم على الفتك بهاتين الفئتين. بمعنى أنّ الموقف الغربيّ الرّسميّ لم يتجاوز دعوة الكيان المحتل إلى حماية المدنيّين وتسهيل دخول المساعدات الإنسانيّة، وكأنّ الحديث لا عن قوّة احتلال تدمّر الأخضر واليابس بل عن كارثة طبيعيّة (إعصار أو زلزال) ضرب الأراضي الفلسطينيّة. وبعبارة مغايرة، اختفت المطالبة الصّريحة بحماية النّساء والأطفال بكلّ أبعادها لتحلّ محلّها مطالبة خجولة بالسّماح بتقديم المساعدات الإنسانيّة لسكّان قطاع غزّة. فتحوّل حقّ الإنسان الفلسطينيّ في العيش بكرامة على أرضه -مثل غيره من سكّان العالم- إلى مسألة إعانات إنسانيّة تحفظ ماء وجه أولئك الذين مكّنوا الاحتلال من السّلاح وتبنّوا مقولة الحقّ في الدّفاع عن النّفس دون أي اعتراض ولا تحفّظ. بموجب صمت الدّول الغربيّة المؤثّرة في القرارات الدّوليّة أمام استهداف الصهيونيين لحقّ الإنسان الفلسطينيّ في الحياة، يصبح القانون الدوليّ والقانون الدّولي الإنسانيّ بلا معنى لأنّ انتهاكات حقوق الإنسان التّي نفذها وينفّذها الكيان المحتل يقابلها صمت غربيّ غريب يعكس لحدّ ما مقاربة غربيّة لحقوق الإنسان تُفاضل بين البشر. فحقوق الإنسان وفق المواقف الغربيّة لا تشمل كلّ نساء العالم ولا كلّ أطفال العالم، والدّليل أنّه يوجد أطفال ونساء لا تشملهم الحماية الغربيّة، أو بأكثر دقّة مستثنون من الحماية، وبالتّالي يجوز انتهاك حقوقهم وبالتّحديد حرمانهم من الحقّ في الحياة.
تجعل المواقف الغربيّة، وهي الأكثر تأثيرا وفعاليّة في الأحداث العالميّة، النّساء الفلسطينيّات محرومات من العيش الكريم ومن احتضان فلذات أكبادهنّ كما تفعل النّسوة في مختلف أرجاء العالم، وبهذا تكون بعض الدّول الغربيّة التّي ترفع راية حقوق الإنسان في المحافل الدّوليّة قد تغاضت عن انتهاك الكيان المحتل ل “لإعلان بشأن حماية النّساء والأطفال في حالات الطوارئ والنّزاعات المسلّحة لعام 1974م[35]“. كما أنّ تلك الدّول الغربيّة التّي تتمسّك بكونها حامية حقوق الإنسان لم تحترم مبدأ “حصانة الذّات البشريّة” بما معناه أنّ “الحرب ليست مبرّرا للاعتداء على حياة من لا يشاركون في القتال أو الذين لم يعودوا قادرين على ذلك[36]“، ومن ثمّ فهي أباحت للمحتلّ الصهيوني الفتك بالفئتين اللّتين تحفظان استمراريّة بقاء الفلسطينيّ على أرض عليها ما يستحقّ الحياة. يبدو هذا الموقف الغربيّ محتاجا إلى رؤية معمّقة، لأنّ تغاضي تلك الدّول- التّي تتباهى برفع شعار حقوق الإنسان في المحافل الدّوليّة- عن انتهاكات حقوق الفلسطينيّين يبعث عن التّساؤل والفهم والتّفسير، فالمسألة أعمق من مجرّد موقف عابر يقترن بما جرى يوم 7 أكتوبر 2023 وتبنّي الرّواية الصهيونية كاملة. ولكن قبل البحث في خلفيّة هذا الموقف ودلالاته، يكون من الوجيه التّوقف عند مساهمة الغرب في بلورة حقوق الإنسان وإعمالها.
- مساهمة الغرب في إرساء حقوق الإنسان لا يمكن تجاهلها:
بتعبير ثانٍ، إنّ حقوق الإنسان بما هي حقوق لصيقة بطبيعة البشر، ذات جذور في الحضارات القديمة وفي الدّيانات السّماويّة، لكن اكتمالها كان مع مشروع الحداثة الغربيّ الذي جعل الإنسان مركز الكون، وسيّد نفسه ومن ثمّ صاحب حقوق. وبما أنّ الأمر كذلك، فإنّه من المفترض أن تكون حمايتها أولويّة مطلقة من الغرب وخاصّة من الدّول الغربيّة التّي عرفت الإعلانات الثوريّة التي سبقت الإشارة إليها، لاسيّما وأنّ تلك الدّول الغربيّة بنت مشروعها الحضاري والحداثي على احترام تلك الحقوق. لكنّ المفارقة الكبرى التّي حكمت علاقة الغرب بحقوق الإنسان هي أنّ إصدار الإعلانات الدستوريّة الحقوقيّة واكبته حركة استعماريّة، حيث بادر الغربيّون إلى استعمار دول أخرى تحت مسوّغات مختلفة ممّا يجعل الرّجوع إلى هذه المفارقة التّي زامنت لحظة التّأسيس لحقوق الإنسان ضروريّا لفهم مواقف بعض الدول الغربيّة من انتهاكات لحقوق الإنسان الفلسطينيّ من الكيان المحتل، ففي مفارقة النّص للواقع يكمن جزء كبير من الخلفيّة الموجّهة لتلك المواقف اليوم.
- في التّناقض بين النّصّ والممارسة أو الولادة المشوّهة لعالميّة حقوق الإنسان:
وضمن السّياق ذاته، أعلن مونتسكيو “المدافع الفصيح عن كرامة الفرد على أنّ الأفارقة السّود متوحّشون وبرابرة ومجرّدون من أي ّسمات إنسانيّة[45]“. كما كتب “لمّا كانت الشّعوب الأوروبيّة قد أبادت شعوب أمريكا، فلقد كان عليها أن تستعبد شعوب افريقيا لاستخدامها في استصلاح الأراضي. فلو لم يجبر العبيد على الاشتغال بغراسة النبتة التّي تنتج السّكر لكان ثمنه باهظا جدّا. وهؤلاء العبيد سود من أخمص القدمين إلى أعلى الرّأس، وأنف الواحد منهم أفطس، وبلغ ذلك حدّا من المحال علينا تقريبا أن نشفق عليهم…، ومحال أن نظنّ هؤلاء القوم بشرا، فإن نظنّهم بشرا نعتقد أنّنا لسنا بأنفسنا مسيحيّين[46]“. وقد يبدو موقف صاحب نظريّة فصل السّلطات غريبا، ولكنّه يعكس موقف النّخبة الغربيّة التّي نظرت إلى حقوق الإنسان على أنّها ليست مطلقة، أي ليست شاملة لكلّ البشر، وهو موقف على ما يبدو سيظلّ حاضرا لدى النّخب السياسيّة الغربيّة إلى يومنا هذا. ويقدّم جول فيري Jules Ferry مثالا آخر عن موقف النّخبة الغربيّة من علاقة الذّات بالآخر، ومن ثم من طبيعة حقوق الإنسان (هل هي مطلقة؟ أم نسبيّة؟). فقد لعب هذا المفكّر دورا مهمّا في التّأصيل للنّظريّة الاستعماريّة واستعباد الآخرين من أجل الرّخاء والتطوّر الأوروبّي. وقد بنى جول فيري هذه النّظريّة على أساس “التّمدين”. ويعني ذلك أنّ الاستعمار قانون حتميّ ينبع من درجة التّطوّر الذي وصلته البلدان الأوروبيّة…، ولذلك قال “يجب أن نعلن صراحة أنّ للشّعوب العليا حقّا تجاه الشّعوب الدّنيا[47]…أكرّر أنّ هناك حقّا للأعراق الأفضل لأنّ عليها واجب تمدين العرق الأدنى[48]“.
ولم يشذ الكسي ديتوكفيل Alexis de Tocqueville عن هذا التّوجّه المناصر للاستعمار، وللدّور الذي أسنده الغرب لنفسه لنقل الشّعوب غير المتحضّرة من مرتبة الدّنيا إلى شعوب متحضّرة في مرتبة عليا. ولذلك بقدر ما وجّه دي توكفيل “انتقادا للسّياسة الأمريكيّة تجاه السّود والهنود الأصليّين، بقدر ما رأى أنّ تقدّم الحضارة الأوروبيّة يقتضي بالضّرورة ابتلاء المسلمين بالقسوة والفظاظة، وأنّ بسط السّيطرة الفرنسيّة على الجزائر في نظره معادل للعظمة الفرنسيّة حيث نجده منخرطا في السّياسة الكولونياليّة الفرنسيّة في شمال افريقيا نظرا إلى كونه عضوا في البرلمان وبرّر أسوأ الانتهاكات والمجازر التّي ارتكبها الفرنسيّون في الجزائر[49]“. إنّ هذه النّظرة الاستعلائيّة المبرّرة للاستعمار كفعل عقلاني هادف إلى تحضير شعوب المراتب الدّنيا، إنّما تعكس مركزيّة غربيّة مفرطة، تمنح أصحابها صلاحيّات تمدين الآخر، أي نقل الآخر من مرحلة البدائيّة إلى مرحلة الحضارة، فكان أن قُسّمت الأعراق والشّعوب إلى مُخضِعة ومُخضَعة. وترتّب عن ذلك نظرة تحقيريّة للآخر المُخْضَع. فقد كوّن الفرنسيّون على سبيل الذكر لا الحصر صورة عن المغاربة (ساكنة المغرب الأقصى) تتلخّص في ما يأتي: “لا يمكن إزالة القاذورات اليابسة عن “البيكو” …، إنّهم متعنّتون تعنّت العميان في التّشبّث بطرق تفكيرهم وأفعالهم وعيشهم؛ فكلّ أفكارنا وكلّ أعمالنا تبدو لهم مقيتة، والحال أنّ ديانتهم هي التّي تغرس فيهم هذه الآراء. من أجل تغيير طريقة عيشهم لابدّ من القوّة، فما أن نكفّ عن استعمالها يتهافتون مجدّدا في تقاليدهم المزمنة ليقبعوا داخلها ويزدرونا. إنّهم قذرون كذّابون ولؤماء، وهم متشبّثون بالمكوث على هذه الحال …[50]“. لقد منحت المركزيّة الأوروبيّة لأوروبا – ومن خلالها للعالم الغربيّ- مسؤوليّة جعلتها تعتبر “نفسها مسؤولة للقيام بدور حضاريّ تمدينيّ للشّرق…، وتمّ تبرير كلّ الوسائل من أجل التّدخّل لإدماج الشّعوب الأخرى في “حضارة الرّأسماليّة”. فالحضارة الغربيّة اعتبرت خلاصة التطوّر واعتبرت باقي المجموعات والحضارات “بدائيّة تعيش طور التوحّش والهمجيّة والقبليّة وشتّى أوجه الانحلال والتّخلّف[51]“.
ومن منطلق أنّ الغرب مركز العالم، استباحت الدّول الغربيّة سائر الدّول الأخرى، ضاربة عرض الحائط بحقوق الإنسان، ومختزلة إيّاها في حقوق لا يتمتّع بها إلاّ من شهد له الغرب بالأهليّة لذلك أي بالحضارة. فشُوّهت حقوق الإنسان منذ الوهلة الأولى لأنّها صارت امتيازا يتحكّم الغرب في توزيعه على من يراه أهلا له. بُنيت هذه المفارقة على قناعة بتفوّق الغرب، وهو تفوّق أفرز تقسيم البشريّة إلى أجناس وأعراق مُخضِعة وأخرى مُخضَعة. ولمّا كان الأمر كذلك، لم يكن بدّا من ممارسة المخضِع انتهاكات لحقوق المُخضَع، لأنّ هذا الأخير يحتاج إلى التّماهي في الأوّل حتّى يكون مؤهّلا للتمتّع بحقوق الإنسان كما حدّدتها السّرديّة الغربيّة لحقوق الإنسان. وبعبارة أخرى صارت حقوق الإنسان مطلقة وشاملة على مستوى النّصّ، ومقيّدة ونسبيّة على مستوى الواقع. ويعود تقييدها بالأساس إلى منزلة أصحابها أي منزلة المتمتّعين بها. فالغربيّون يتمتّعون بمنزلة عليا لا يرقى إليها غيرهم إلاّ بعد أن يتمّ تحضيرهم من قبل الغربيّين أنفسهم، أي إلاّ بعد أن يمارس عليهم الاستعمار بما يشتمل عليه من مصائب وانتهاكات فظيعة لمختلف حقوق الإنسان.
وفقا لهذا المنطق، لا يعدّ انتهاك حقوق الشّعوب “الأقلّ مكانة” انتهاكا، لأنّ احترام الحقوق مرتبط بمعطى جغرافيّ-حضاريّ. وقد منح ذلك المعطى للبعض حقّ الهيمنة على الآخر، تماما مثلما أوكل إلى من هم أعلى مرتبة مهمّة نقل حقوق الإنسان إلى الآخرين بعد “تحضيرهم”. وبهذا شُيّدت السّرديّة الغربيّة لحقوق الإنسان معلى مفارقة النّصّ للواقع أو بالأحرى للممارسة، وهي مفارقة لا تزال قائمة إلى اليوم. فميثاق الأمم المتّحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان – وغيرهما من الصّكوك الدّوليّة الضّامنة لحقوق الإنسان- تشريعات ومواثيق دوليّة مقصدها حماية حقوق الإنسان وكان للدّول الغربيّة دور في صياغتها، ومع ذلك فإنّ بعض تلك الدّول الغربيّة تتعاطى مع تلك النّصوص بما يخدم مصالحها، ويعزّز مكانتها، حتّى أن تلك الحقوق غدت في حالات كثيرة مجرّد شعارات تُرفع في المنابر الدّوليّة وفي وجه دول سلكت مسلكا لا يتناغم مع مصالح الدّول الغربيّة المهيمنة. وقد عبّر عن ذلك محمّد عابد الجابري بقوله ” ونحن لا نزال نذكر كيف استعمل الغرب سلاح “حقوق الإنسان” ضد الاتّحاد السّوفياتي قبل انهياره، وضدّ الدّول التّي كانت تشكّل ما كان يسمّى ب “المعسكر الشّيوعي”، بل وضدّ جميع الدّول التّي كانت تتبنّى سياسة وتوجّهات غير منسجمة مع مصالح الغرب. هذا في حين سكت الإعلام الغربيّ، ويسكت، عن دول تنتهك فيها حقوق الإنسان انتهاكا صارخا، متكرّرا ومتعمّدا، حتّى صار ذلك الانتهاك ثابتا من ثوابت سياسة تلك الدّول مثل ما يجري ويجري من انتهاك يوميّ لحقوق الإنسان في فلسطين المحتلّة من طرف أجهزة الدّولة الصهيونية العسكريّة والمدنيّة…[52]“. أفضت مفارقة النّص للواقع التّي اعتمدتها الدّول الغربيّة استراتيجيّة في التّعاطي مع حقوق الإنسان إلى حتميّة انتهاك حقوق الإنسان عبر الاستعمار وذلك حتّى يتسنّى للشّعوب “غير المتحضّرة” الارتقاء إلى مرتبة أناس لهم حقوق. أي أنّ التمتّع بحقوق الإنسان يحتاج إلى نقلة نوعيّة، وهي نقلة عصيّة لا تتحقّق إلاّ بتدخّل فاعل أجنبيّ ألا وهو المستعمر، ومن ثم، كان فعل حقوق الإنسان في السّرديّة الغربيّة مبنيّا على مفارقة النّص للواقع وعلى فكرة تفوّق شعوب على أخرى، وبالتّالي على مركزيّة غربيّة تخوّل لأصحابها تحديد من يتمتّع بتلك الحقوق ومن لا يتمتّع بها.
بناء على ما سبق، نجد للسرديّة الغربيّة لحقوق الإنسان جذورا في الحركة الاستعماريّة التّي “كانت تقدّم نفسها باعتبارها موجة حضاريّة جديدة تسعى لجلب الحداثة والتطوّر لبقاع العالم المتخلّف[53]“. ولعلّ هذه الخلفيّة المتجذّرة في الحقبة الاستعماريّة هي التّي جعلت وزير دّفاع الكيان المحتل -المنحدر من أصول أوروبيّة (بولنديّة) – يصف الفلسطينيّين ب “حيوانات بشريّة” قائلا “نحن نقاتل حيوانات ونتصرّف وفقا لذلك[54]“. علما وأنّ توصيف البشر بالحيوانات “سمة تشترك فيها الصهيونيّة مع كافّة أصناف الاستعمار الاستيطاني التّي ينبغي الاستيلاء على أرض ما، فتنكر حقوق السكّان الأصليّين، بما فيهم حقّهم في الحياة. فيتمّ التّبرير الأخلاقي لهذا المشروع اللا أخلاقي بامتياز بإنكار إنسانيّة المعتدى عليهم وعلى أراضيهم، حيث يحالون إلى مرتبة البشر الدّونيّين الذين لا يستحقّون. وقد دخل هذا المنطق إلى عقر الدّار الأوروبيّة في أعقاب القرن الماضي مع النّازيّين الذين صنّفوا فئات بعينها من النّاس في مرتبة البشر الدّونيّين Untermenschen بحيث وصل بهم الأمر إلى إبادتهم[55]“. بمعنى أنّ الهدف في نهاية المطاف هو “تحويل المقهورين وإعادة تشكيلهم بصورة دائمة ولا تتوقّف[56]“. كانت مقارنة الإنسان بالحيوان حاضرة في الفكر الاستعماريّ، وقد تعرّضت للنّقد من قبل فرانز فانون الذي عمد إلى فضحها عندما نقد الطبّ النّفسيّ الاستعماريّ” الذي كانت تقوده مدرسة بورو Antoine Porot الذي يقول عن أهليّ شمال افريقيا l’indigène nord africain إنّه كسول، لصّ، عرضة للسّلوكيّات الهستيريّة والميول الانتحاريّة والإجراميّة وعاجز عن استيعاب المجرّدات[57]“. والأدهى من ذلك، هو تفسير تلك الصّفات السّلبيّة ب”تفسيرات بيولوجيّة خلقيّة تتعلّق بعدم اكتمال نموّ دماغ “الأهالي”، فهم بدائيّون يقعون في حالة توسّط بين الأوروبيّ والحيوان، لأنّ بنية دماغ الشّمال افريقي تفسّر كسل الأهالي وعجزهم الفكريّ والاجتماعيّ واندفاعهم الحيوانيّ[58]“. وبهذا يكون فرانز فانون قد “كشف حقيقة ازدواجيّة الغرب في تعاطيه مع مقولات وعناوين معاصرة مثل حقوق الإنسان والحرّية والدّيمقراطيّة وحقّ تقرير المصير[59]“.
ويمثّل تصويت البرلمان الفرنسيّ سنة 2005 على قانون “الآثار الإيجابية للاستعمار” مؤشّرا على مدى حضور الخلفيّة الغربيّة القائمة على المفاضلة بين البشر، ومن ثم عدم الالتزام بما تنصّ عليه النّصوص من حماية حقوق الإنسان. ف “تمجيد الدّور الإيجابيّ للوجود الفرنسيّ في ما وراء البحار وخاصّة في شمال افريقيا[60]” يجسّد هذه المفارقة التّي حكمت علاقة الغرب بحقوق الإنسان، حيث هي حقوق مطلقة تشمل كلّ البشر بغضّ النّظر عن الاختلافات بينهم، وهي نسبيّة من حيث الممارسة. وقد دفعت الشّعوب المستعمَرة ثمنا باهظا بسبب تبنّي الغرب لهذه المفارقة وحرصه على تجسيدها في الواقع. وقد كان لتلك المفارقة التّي جمعت بين الإنسان في المطلق من جانب، وبين الإنسان المتحضّر والإنسان غير المتحضّر من جانب آخر، تأثير في مقاربة الغرب لحقوق الإنسان في مراحل تاريخيّة لاحقة، لأنّ تلك المقاربة التّي تشكّلت زمن الحقبة الاستعماريّة ستظلّ متحكّمة وموجّهة للسّلوك الغربيّ مع حقوق الإنسان حيث ربط الغرب بين نظرته لحقوق الإنسان وبين مصالحه. بمعنى إذا كانت “دول الشّمال تحترم حقوق الإنسان إجمالا في بلدانها وبالنّسبة إلى مواطنيها، فإنّها لا تتوانى في خرقها، أو على الأقل في السّكوت عن العبث بها في بلدان الجنوب، فكأنّما البشريّة تنقسم في نظرها إلى قسمين: الأوّل يعيش بالشّمال وهو حريّ بحقوق الإنسان والثّاني يعيش بالجنوب وهو دون منزلة حقوق الإنسان، وبالتّالي يجوز خرق حقوقه[61]“. وقد أسّست تلك المفارقة مدمجة في الممارسات الاستعماريّة ذاكرة جماعيّة ترى حقوق الإنسان خاضعة لمفاضلة محورها الانتماء الجغرافيّ- الحضاريّ وليس الانتماء للإنسانيّة.
- ذاكرة استعماريّة موجّهة لرؤية الغرب لحقوق الآخر:
يترجم هذا الموقف قناعة بمقتضيات الاستعمار، فهذا الأخير يقوم على التّمييز وعلى استهداف الآخر مهما كان عمره أو جنسه، ولعلّ ممارسات الصهيونيين اليوم لا تختلف في شيء عن تلك التّي برّرها دي توكفيل لفرنسا في الجزائر. فإحراق محاصيل الفلسطينيّين وقطع أشجارهم وافتكاك أراضيهم ومنعهم من الاستفادة منها زراعة وغراسة بل وتدمير بيئتهم (مثلما يفعل الكيان المحتل بغزّة اليوم) لا تختلف في شيء عن ممارسات المستعمر الفرنسيّ /الغربيّ ومن هنا تبدو الذّاكرة الاستعماريّة متحكّمة في سلوك الغربيّين عندما يساندون الكيان المحتل ويمنعون التّظاهر ضدّها بل ويتدخّلون بالقوّة لفضّ الاعتصامات المضادّة لها مثلما هو الشأن بالنسبة إلى فضّ اعتصامات الطلبة في الدّول الغربيّة وخاصّة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة. ففي احتياجات الشّباب الطّالبي تنكّر لذاكرة جماعيّة ترسّخت في الحقبة الاستعماريّة وآمنت بأنّ حقوق الإنسان ليست مطلقة مثلما تشدّد على ذلك النّصوص والخطابات السّياسيّة. لم تتخلّص الذّاكرة الجماعيّة الغربيّة من مخلّفات فترة الاستعمار، تلك الحقبة التّي قُسّم فيها البشر إلى متحضّرين وبدائيّين، وبالتّالي فإنّ إدانة الممارسات الصهيونية لا تخلو من إدانة الذّات. فالغربيّون مارسوا الاستعمار وكان منطلقهم مثل منطلق الكيان المحتل إخضاع السّكان الأصليّين ودفعهم إلى الانصهار في منطق الاستعمار بما يعنيه من إعادة تشكيل نمط الحياة والرّوابط الاجتماعيّة أو إكراههم على الرّحيل. وعليه، فما تمارسه سلطات الاحتلال الصهيوني من انتهاكات حقوق الإنسان الفلسطينيّ في غزّة (وفي غيرها من مناطق فلسطين) لا يبدو غريبا عن الذّاكرة الاستعماريّة التّي لا تزال توجّه مواقف عدد من الدّول الغربيّة وسلوكيّاتها.
لا تبدو بذلك صور الفلسطينيين عراة في شاحنات جيش الاحتلال الصهيوني غريبة عن الذّاكرة الاستعماريّة للدّول الغربيّة. فمثل هذه الممارسات الحاطّة من الكرامة البشريّة كانت دوما مصاحبة للفعل الاستعماريّ بما هو فعل هيمنة وإخضاع وإذلال للذّات البشريّة حتّى تنصاع وتتقبّل رسالة “الحضارة” التّي نقلها المستعمِر. ففي هذا التّاريخ الاستعماريّ “سبق للجيش الفرنسي أن مارس التّعذيب خلال حرب الجزائر، وبصفة خاصّة بداية من سنة 1957 عندما أوكلت إليه مهمّة القيام بوظائف الشرطة بحجّة أنّ العدوّ في حرب أهليّة كتلك هو غير مرئيّ، وأنّ اجتثاث المعلومات للتعرّف عليه كان أمرا لا مناص منه. وأُضيفت إلى ما سبق س-تنفجر-خلال السّاعة التّي تلي، وهي حالة استثنائيّة في واقع الأمر، في حين أنّ التّعذيب كان يشمل آلاف الأشخاص وتتواصل ممارسته مدّة طويلة بعد السّاعة التّي يفترض أنّ الاعتداء بالقنبلة تمّ خلالها[65]“. وضمن السّياق ذاته، لا تزال صور معتقل أبو غريب في العراق شاهدة على فعل استعماريّ جاء لنشر الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان في بلاد مارقة يحكمها مستبدّ لا يأبه بحقوق الإنسان ولا يعيرها أي اهتمام. لكن هذه الصور تظهر استهانة بحقوق الإنسان وعبثا بها. فقد “نشرت صحيفة واشنطن بوست الأمريكيّة 13 وثيقة تضمّنت شهادات معتقلين أدلوا بها أمام لجنة تحقيق أمريكيّة تمّ تشكيلها…الوثائق الجديدة كشفت النّقاب على أنّ المرتزقة الأمريكان لم يراعوا حرمة لا الدّين والتّقاليد ولا المواثيق الدّوليّة، حيث تعمّدوا إجبار المعتقلين على ممارسة اللّواط وشرب الخمر وتناول لحم الخنزير في شهر رمضان المعظّم مثلما تعمّدوا إهانة آدميتهم والتّعامل على أنّهم كلاب لا ترتقي لمرتبة البشر[66]“. وضمن الإطار عينه، تحوّل شعار الحرب على الإرهاب إلى ” مبرّر لانتهاك القانون الدّوليّ ومبادئ حقوق الإنسان من قبل العديد من الدّول حتّى الدّول الغربيّة التّي تفخر بدفاعها عن الحرّيات الأساسيّة وحقوق الإنسان[67]“. أي أنّ الإجراءات التّي اتّخذتها على سبيل المثال الولايات المتّحدة الأمريكيّة – وهي ليست الوحيدة في هذا المجال- لمحاربة ما سمّي ب “الإرهاب” انتهت – في حالات غير قليلة- إلى ممارسات تنتهك حقوق الإنسان وتضرب بالقانون الدّولي عرض الحائط. فقد “أكّدت جميع المنظّمات الدّوليّة لحقوق الإنسان على أنّ استمرار تعذيب ومعاملة المعتقلين معاملة غير إنسانيّة يعتبر جريمة حرب بموجب المادّة 130 من اتّفاقيّة جينيف الثّالثة بشأن معاملة أسرى الحرب وبموجب المادّة 147 والمادّة 75 من البروتوكول الإضافيّ الأوّل لاتّفاقيّات جينيف الأربع…والتّي تحمي الأشخاص الذين هم في قبضة أحد أطراف النّزاع[68]“.
لقد أفضت الممارسات الأمريكيّة والغربيّة إلى انتهاك الصّكوك الدّوليّة الضّامنة لحقوق الإنسان ومنها بطبيعة الحال القانون الدّولي الإنسانيّ وما يضمنه من حماية للمدنيّين[69]، وهو ما يجعل حقوق الإنسان، ومهما كانت التّشريعات والنّصوص الدّوليّة والإقليميّة التّي تضمّنها عرضة للانتهاك، بل إنّ حتّى الأجهزة والآليات التّي وُجدت لإعمال تلك الحقوق وحمايتها تفقد صلاحياتها وتصبح بلا معنى إذا ما تعارضت إجراءاتها مع توجّهات الدّول الغربيّة ورغباتها. ولهذا السّبب، لا غرابة أن تعرّض المدّعي العام للمحكمة الجنائيّة الدّوليّة للتّهديد من قبل قادة منتخبين بعد أن أعلن أنّ المحكمة ستصدر مذكّرات اعتقال في حقّ بعض قادة الكيان المحتل، حيث ذكر “أنّه تعرّض لتهديدات وأنّه قيل له من قبل أحد كبار القادة “المنتخبين”، ولم يسمه. إنّ المحكمة “أنشئت من أجل افريقيا والبلطجيّة(…) وليس لمحاسبة الغرب وحلفائه[70]“. ففي مقابلة له مع شبكة “سي ان ان” الأمريكيّة قال المدّعي العام للمحكمة الجنائيّة الدّوليّة “تحدّث معي بعض السّاسة وكانوا صريحين للغاية وقالوا هذه المحكمة أنشئت من أجل افريقيا ومن أجل السّفاحين مثل بوتين، وهذا ما قاله لي أحد كبار السّاسة[71]“. بعبارة مغايرة، أنشئت المحكمة الجنائيّة الدّوليّة لا لإدانة كلّ منتهكي حقوق الإنسان في العالم، بل لإدانة من ينتهك تلك الحقوق من الأفارقة ومن الذين لا يسيرون في ركب الغرب مثل الرّئيس بوتين. ومن هنا فإنّ مثل هذا الكلام يحمل معنيين أوّلهما أنّ الغرب لا ينتهك حقوق الإنسان، وعليه فلا مبرّر لمحكمة الجنايات الدّوليّة طالما أنّ السبب المبرّر لوجودها منعدم. وثانيهما أنّ الغرب وان انتهك حقوق الإنسان لا ينبغي أن يُحاسب، لأنّه وبالرّجوع إلى الخلفيّة الاستعماريّة المنبثقة عن مركزيّة غربيّة مفرطة لا يعقل أن يُحاسب من حمل على عاتقه نقل الحضارة إلى باقي البشر، أو بالأحرى لا يعقل أن يعاقب من أوكل لنفسه مهمّة نشر حقوق الإنسان في العالم حسب معايير حدّدها هو نفسه.
لم يحترم الغرب بقيادة الولايات المتّحدة الأمريكيّة حقّ الإنسان الفلسطينيّ في الحياة (في البقاء على قيد الحياة /في البقاء على أرضه)، وهو حقّ أصيل من حقوق الإنسان. لذلك ظلّت الولايات المتّحدة إلى حدود أواخر شهر مايو 2024 غير متأكّدة من أنّ الاحتلال الصهيوني قد تجاوز الخطوط الحمراء التّي رُسمت له، كما لم تتردّد في تسليم جيش الاحتلال الصهيوني مختلف أنواع الأسلحة التّي تلحق ضررا بالإنسان الفلسطينيّ وممتلكاته، ممّا يبيّن مدى انتصار تلك الدّول للمحتلّ الصهيوني ومن خلاله للفكر الاستعماريّ الذي ظلّ موجّها لسلوك الدّول الغربيّة في تعاملها مع سائر الدّول الأخرى التّي تعمل على إبقائها تابعة لها وعاجزة عن فكّ الارتباط معها. ففي المحصّلة للفكر الاستعماريّ طرقه الخاصّة في التّعايش مع التغيّرات الدّوليّة والتكيّف معها. ضمن سياق اختزال الآخر في صورة المستعمَر، تشهد حقوق الإنسان أزمات تكشف هشاشة السّرديّة الغربيّة في التّعاطي مع حقوق الإنسان. ففي عمل الغرب بكلّ الطّرق على نشر نمط حياة مفرط في الاستهلاك، انتهاك فاضح وصريح لحقوق الأجيال القادمة، لأنّ الثّروات الطبيعيّة صارت -نتيجة نمط الحياة ذلك- مهدّة بالاستنزاف. كما أنّ حقوق الأجيال الحالية في بيئة سليمة باتت مهدّدة بدورها نتيجة ذلك الأسلوب في العيش. بمعنى أن نمط العيش الغربيّ لا ينتهك حقوق الأجيال القادمة فحسب، بل حتّى حقوق الأجيال الحاليّة التّي تجد نفسها في غالب الأحيان في مواجهة الآثار المتّرتّبة عن الإفراط في استغلال الثّروات الطبيعيّة من قبيل التّلوّث والأمراض…الخ. تبدو مسألة انتهاك حقوق الإنسان في المنطقة العربيّة، من قبل الغرب، أكثر تجلّيا ووضوحا. فهذه المنطقة في نظر الغرب بقيادة أمريكا هي بالأساس مصدر موارد طبيعيّة ومواقع استراتيجيّة وأسواق. وعلى هذا الأساس يتعاطى الغرب مع حقوق الإنسان في تلك المنطقة. فهو يتمسّك بالدّفاع عن تلك الحقوق طالما لم تمس بتلك الثّوابت التّي حكمت علاقته بساكنة تلك المنطقة منذ الفترة الاستعماريّة وتقاسم تركة الرّجل المريض. بمعنى أنّ تدخّل الغرب تحت شعار حقوق الإنسان هو لخدمة مصالحه في المنطقة وليس لتكريس ثقافة حقوق الإنسان، لما لهذه من صلة أخيرة بالدّيمقراطيّة التّي قد تأتي بأنظمة تُعارض مصالح الدّول الغربيّة النّافذة.
ضمن البحث عن حفظ صورة رسمها الغرب للمنطقة العربيّة، وضمن ذهنيّة لم تقطع مع المركزيّة الغربيّة ولم تتحرّر من الذّاكرة الاستعماريّة، يتنزّل موقف الدّول الغربيّة النّافذة -بقيادة الولايات المتّحدة الأمريكيّة- من الإبادة الجماعيّة التّي يتعرّض لها الفلسطينيّون في غزّة. فبالنسبة إلى الدّول المشار إليها، فإنّ استمراريّة ضعف العرب، تسمح بالمحافظة على ذلك المثلّث قاعدة للتعاطي مع مشاكل تلك المنطقة وساكنتها وفي مقدّمتها بطبيعة الحال القضيّة الفلسطينيّة. وتأسيسا على ما سبق، ليست حماية حقوق الإنسان الفلسطينيّ في غزّة أولويّة من أولويّات الدّول الغربيّة التّي ترفع راية حقوق الإنسان في المحافل الدّوليّة، لأنّ ذلك الخطاب الحقوقي خرج عن طابعه الأخلاقيّ-الإنسانيّ إلى خطاب مرتبط بمصالح ومحكوم بنظرة مسبقة لمنطقة وساكنتها وللأدوار التّي رسمها المركز الغربيّ لذلك الفضاء الاستراتيجيّ. ففي تلك المنطقة التّي تحتلّ موقعا استراتيجيّا مهمّا هناك ثروات طبيعيّة كثيرة، وهناك أناس لهم طاقة شرائيّة تخوّل لهم الانخراط بقوّة في مجتمع الاستهلاك الذي أرسى دعائمه الغرب. وعليه يتعاطى الغرب مع حقوق الإنسان في تلك المنطقة بما يتلاءم مع مصالحه. وطالما أنّ التّعاطي الغربيّ مع حقوق الإنسان يُفاضل بين النّاس أو مثلما عبّر عن ذلك البروفيسور مايكل بارينبويم “لسبب ما، تطبّق حقوق الإنسان على الجميع، لكن ليس على الفلسطينيّين، وتُطبّق حرّية التّعبير على الجميع، ولكن ليس على مؤيّدي فلسطين على ما يبدو[72]“، فإنّ النّتيجة ستكون فقدان السّرديّة الغربيّة لحقوق الإنسان تماسكها وتحوّلها إلى مكوّن من مكوّنات الأيديولوجيا الغربيّة التّي هي ليست طهرا من عديد الشّوائب، لعلّ أبرزها المركزيّة الغربيّة المفرطة والذّاكرة الجماعيّة الاستعماريّة اللّتان جعلتا منظومة حقوق الإنسان تخضع لاعتبارات غير إنسانيّة، فيباح انتهاكها عندما يتعلّق الأمر بشعوب غربيّة.
خاتمة:
تشكّل حرب الاستعمار الصهيوني على غزّة وما تبقّى من أرض فلسطين تحدّيا كبيرا للقيم الإنسانيّة الكبرى (العدالة/الكرامة/الحرّية/التّحرّر/…) المؤطّرة للعيش المشترك، حيث أصبحنا أمام مشهد غريب وهو أنّ من يرفعون راية حقوق الإنسان في العالم وينادون بعالميتها هم من يسكتون على انتهاكها، بل يجدّون في تبرير تلك الانتهاكات التّي تتعرّض لها حقوق الإنسان الفلسطينيّ وخاصّة منها الحقّ في الحياة. ولعلّ هذا الموقف الغربيّ الذي وصل إلى حدّ دعوة المشرّعين الأمريكيّين إلى فرض عقوبات على قضاة الجنائيّة الدّوليّة لأنّهم أدانوا رئيس وزراء الكيان المحتل، يجعل السّرديّة الغربيّة سرديّة هشّة تبرز خللا في منظومة العيش المشترك التي أُسّست منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية. فهذه المنظومة القيميّة الثّريّة على مستوى النّصوص لا تزال محكومة بمنطق الغلبة، وبمنطق المركزيّة المفرطة التّي تجعل الغرب مصدر القيم والحقوق وفي ذات الوقت بمنأى عن العقاب.
فالسّرديّة الغربيّة لحقوق الإنسان صارت مكوّنا من مكوّنات أيديولوجيا الهيمنة الغربيّة على العالم، وهي أيديولوجيا في خلفيّتها مركزيّة غربيّة وذاكرة جماعيّة لم تقطع مع الاستعمار. وقد أدّى الالتزام بتلك المركزيّة وتلك الذّاكرة الجماعيّة الضاربة في حقبة الاستعمار المباشر إلى تهميش أدوار فاعلين دوليّين واقليميّين مثل منظمة الأمم المتّحدة وجامعة الدّول العربيّة…الخ. فهذه المنظّمات التّي وُجدت لتطوير العيش المشترك على قاعدة احترام حقوق الإنسان تجد نفسها أسيرة للدولة واستراتيجيّاتها المرتبطة ارتباطا وثيقا بتحقيق مصالحها. وعلى الرّغم من واقع حقوق الإنسان الرثّ في الأراضي الفلسطينيّة وخاصّة في قطاع غزّة والذي يعكس تخلّي الدّول الغربيّة النّافذة عن حقوق الإنسان في طابعها المطلق لتجعلها امتيازا لشعوب معيّنة، فإنّه يحسب للفلسطينيّين أنّهم أقنعوا العالم بأمرين اثنين وهما لا تعايش سلميّا على الأرض ما لم تحترم حقوق الإنسان دون مفاضلة بين البشر، والحاجة الملحّة لبناء سرديّة جديدة لحقوق الإنسان تكون سرديّة عالمية تحظى بالقبول من الجميع لأنّ السّرديّة الغربيّة جعلت حقوق الإنسان أيديولوجيا لخدمة مصالح دول نافذة وليس لخدمة حقوق الإنسان.
قائمة المراجع:
- بلقزيز(عبد الإله)؛ حقوق الإنسان من فكرة إلى أيديولوجيا، المستقبل العربيّ، العدد477، 2018.
- بن عاشور (عياض)؛ حقوق الإنسان أي حقّ، ايّ إنسان؟ الفكر العربيّ المعاصر، العدد82-83 نوفمبر /ديسمبر 1990.
- البيومي (سالي سامي)؛ الحرب على الإرهاب كمبرّر لانتهاك حقوق الإنسان، السّياسة الدّوليّة، العدد 167، يناير 2007، المجلّد 42.
- التريكي (فتحي)؛ أخلاقيّات العيش المشترك، تونس، الدّار المتوسّطيّة للنّشر، 1442ه/2021م.
- تودوروف (تزفتان)؛ روح الأنوار، ترجمة حافظ قويعة، صفاقس، دار محمد علي للنشر، 2007.
- الجابري (محمّد عابد)؛ الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، بيروت مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1994.
- يونس (رشا)؛ كأس العالم يلطّخها العار: الفيفا تسقط في اختبار حقوق مجتمع “الميم” في قطر عن موقع org/ar/news2022/07/08 (شُوهد في 15/6/2024 ، الساعة 07:02 د ).
- دياب (أحمد)؛ المركزيّات الحضاريّة…أوهام التّفوّق وأساطير الاصطفاء، مجلّة الدّيمقراطيّة، العدد58، أبريل 2015.
- الرّشيدي (أحمد) و السيّد (عدنان)؛ حقوق الإنسان في الوطن العربيّ، دمشق، دار الفكر، 1423ه/تموز (يوليو)، 2002م.
- الرّشيدي (أحمد)؛ حقوق الإنسان: دراسة مقارنة في النّظريّة والتّطبيق، القاهرة، مكتبة الشّروق الدّوليّة، الطبعة الثّانية، 1426ه -2005م.
- رمضاني (كمال) و عمراني (عبد المجيد)؛ سيكولوجيا الاستعمار من منظور فرانز فانون، مجلّة الدّراسات التّاريخيّة والأثريّة في شمال افريقيا، المجلّد 05، العدد 01، يناير 2022.
- الزّمالي (عامر)؛ مدخل إلى القانون الدّولي الإنسانيّ؛ تونس ، المعهد العربيّ لحقوق الإنسان، ط2، 1997.
- السوداني (ابتسام عامر)؛ فلسفة حقوق الإنسان: هوبز-لوك-مونتسكيو- روسّو؛ بيروت، الرّافدين، 2016.
- شكراني (الحسين)؛ حقوق الأجيال المقبلة بالإشارة إلى الأوضاع العربيّة، بيروت، المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات، 2018.
- طارق (حسن)؛ حقوق الإنسان أفقا للتفكير: من تأصيل الحرّية إلى مأزق الهويّة، الدّار البيضاء، دار توبقال للنّشر، 2018.
- غجاتي (فؤاد)؛ التّناقضات الفرنسيّة بين إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسيّ وسياساتها الاستعماريّة في الجزائر ، معارف/ قسم العلوم القانونيّة والاقتصاديّة، العدد العاشر/جوان 2014.
- فيليس (ويليام ف)؛ المسؤوليّة الأخلاقيّة زمن الحرب: تهافت نظريّة الحروب العادلة، تعريب رامي طوقان – مراجعة البير شاهين، الاستغراب، صيف 2016.
- القبّي (مرشد)؛ المواطنة وإشكاليّاتها النّظريّة ورهانات تأسيسها عربيّا، تونس، منشورات نيرفانا، 2024.
- كيحل (مصطفى)؛ المدخل الفلسفيّ لخطاب حقوق الإنسان، المستقبل العربيّ، العدد 46، كانون الأوّل/ديسمبر 2017.
- لبيب (الطّاهر)/ تحرير ، صورة الآخر: العربي ناظرا ومنظورا إليه، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1999.
- اللّغماني (سليم) وآخرون؛ حقوق الإنسان: مفاهيمها وأسسها، تونس المعهد العربيّ لحقوق الإنسان، دراسات4، 2003.
- بولارد (مارتين) ؛ غزّة الاستراتيجيّة الصّينيّة، العربيّ الجديد 28 مارس 2024.
- المحجوبي (علي بن حسين)؛ حقوق الإنسان بين النّظريّة والواقع، عالم الفكر، العدد4، المجلّد 31، أبريل -يونيو 2003.
- نايت قاسي (لياس)؛ المحدّدات المؤثّرة في السّياسة الاستعماريّة الفرنسيّة في غرب إفريقيا خلال القرن 19م، مجلّة الدّراسات الافريقيّة بالجزائر، المجلّد 03، العدد08 ماي 2020.
الهوامش:
[1] لقد حدث التّدخّل العسكريّ في تلك الدّول تحت ذريعة التّدخّل الإنساني، فمع انتهاء الحرب الباردة “بدأت حمّى العولمة تجرف الأخضر واليابس باسم تعزيز حقوق الإنسان والديمقراطيّة، وبدأ مصطلح التّدخّل الإنسانيّ يصبح أمرا طبيعيّا في العلاقات الدّوليّة في تسعينات القرن الماضي. وحُدّدت الحالات التّي تتطلّب تدخّلا إنسانيّا وهي: وضع حدّ لجرائم أو مذابح ترتكب في حقّ شعب أو دولة ما، أو إنهاء نظام متسلّط أو دكتاتوري، أو إنقاذ مضطهدين لأسباب دينيّة أو غيره”. للمزيد أنظر الحسين شكراني؛ حقوق الأجيال المقبلة، بالإشارة إلى الأوضاع العربيّة، بيروت، المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2018، ص 119 . ويرى بعض الباحثين أنّ “واقع العلاقات الدّوليّة يكشف لنا عن بعض مظاهر التدخّل العسكريّ الذي تشرّعه بعض القوى المهيمنة باسم حقوق الإنسان في بعض الدول، غير أنّ هذا التّدخّل لا يتمّ وفق آليات مشروعة وعادلة تطبّق على الجميع دون استثناء، إذ هي في الغالب تتمّ لأسباب سياسيّة تهدف إلى ضمان مصالح الدّول الكبرى لا ضمان حقوق الأفراد والشّعوب المقهورة، للمزيد يرجى الرّجوع إلى مرشد القبّي؛ المواطنة وإشكاليّاتها النّظريّة ورهانات تأسيسها عربيّا، تونس، منشورات نيرفانا، 2024 ، ص 114 وما بعدها.
[2] نجد الفكرة نفسها حاضرة في المادّة 13، فقرة 1، والمادّة 55ج.
[3] بلغ هذا الجدل أقصاه بين القطريّين الذين طالبوا باحترام ثقافتهم وبين مناصرين لحقوق مجتمع “الميمي” (أنظر مثلا مقال رشا يونس- وهي مديرة بالإنابة ببرنامج حقوق “الشواذ”- الموسوم ب”كأس العالم يلطّخها العار: الفيفا تسقط في اختبار حقوق مجتمع الميم في قطر عن موقع hrw.org/ar/news2022/07/08 (شُوهد في 15/6/2024 ، الساعة 07:02 د ). وقد بلغ الأمر بوزيرة ألمانيّة (وزيرة الدّاخليّة نانسي فيرز) أن ارتدت شارة “الشواذ” في مباراة ألمانيا واليابان ضمن مباريات كأس العالم بقطر.
[4] عن موقع روسيا اليوم arabic.rt.com (شُوهد يوم 26/4/2024، الساعة 11:42 د).
[5] عبد الاله بلقزيز؛ حقوق الإنسان من فكرة إلى أيديولوجيا، المستقبل العربيّ، العدد477، 2018.
[6] فتحي التريكي؛ أخلاقيّات العيش المشترك، تونس، الدّار المتوسّطيّة للنّشر، 1442ه/2021م، ص 106.
[7] جاء في المادّة المذكورة “لكلّ إنسان حقّ التمتّع بجميع الحقوق والحرّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيّ نوع، ولاسيّما التّمييز بسبب العنصر، أو اللّون، أو الجنس، أو اللّغة، أو الدّين، أو الرّاي سياسيّا أو غير سياسيّ، أو الأصل الوطنيّ أو الاجتماعيّ أو الثّروة أو المولد أو أيّ وضع آخر. وفضلا عن ذلك لا يجوز التّمييز على أساس الوضع السّياسيّ أو القانونيّ أو الدّولي أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشّخص، سواء كان مستقلاّ أو موضوعا تحت الوصاية أو غير متمتّع بالحكم الذّاتيّ أم خاضعا لأي قيد آخر على سيادته”.
[8] حسن طارق؛ حقوق الإنسان أفقا للتفكير: من تأصيل الحرّية إلى مأزق الهويّة، الدّار البيضاء، دار توبقال للنّشر، 2018، ص15.
[9] علي بن حسين المحجوبي؛ حقوق الإنسان بين النّظريّة والواقع، عالم الفكر، العدد4، المجلّد 31، أبريل -يونيو 2003، ص 5.
[10] ابتسام عامر السوداني؛ فلسفة حقوق الإنسان: هوبز-لوك-مونتسكيو- روسّو؛ بيروت، الرّافدين، 2016، ص179.
[11] أحمد الرّشيدي؛ حقوق الإنسان: دراسة مقارنة في النّظريّة والتّطبيق، القاهرة، مكتبة الشّروق الدّوليّة، الطبعة الثّانية، 1426ه -2005م، ص 42.
[12] المرجع نفسه، ص45 .
[13] ويليام ف. فيليس؛ المسؤوليّة الأخلاقيّة زمن الحرب: تهافت نظريّة الحروب العادلة، تعريب رامي طوقان – مراجعة البير شاهين، الاستغراب، صيف 2016، ص-ص 224-225.
[14] سميرة سلام وإنصاف بن عمران؛ الخصوصيّات الثّقافيّة بين عولمة وعالميّة حقوق الإنسان، مجلّة معالم للدراسات القانونيّة والسياسيّة، المجلّد 05، العدد01، السنة 2021، ص85.
[15] حقّ تقرير المصير: إعلان منح الاستقلال للبلدان والشّعوب المستعمرة، قرار الجمعيّة العامّة 1514 د-15 المؤرّخ في 14 كانون الأوّل /ديسمبر 1960 .
[16] التّشديد من عندنا.
[17] مارتين بولارد؛ غزّة الاستراتيجيّة الصّينيّة، العربيّ الجديد 28 مارس 2024.
[18] ورد عند مارتين بولارد؛ المرجع السّابق.
[19] عن قناة فرنسا 24 (شوهد يوم 17/8/2024، الساعة 20:10د).
[20] المرجع نفسه .
[21] أحمد عويدات؛ أطفال فلسطين يموتون قبل أن يولدوا، القدس العربي 23 أغسطس 2024.
[22] المرجع نفسه.
[23] وقد بلغ عدد ضحايا العدوان على غزة حتى 17 جويلية/يوليو 2024، حسب وسائل الإعلام 38794 من الشهداء و89364 من المصابين والجرحى.
[24] ورد عند جيلبير الشقر؛ في قتل الأطفال وعودة الإبادة إلى الاعتياد، القدس العربيّ، الأربعاء 17 يوليو 2024 .
[25] عن قناة الجزيرة بتاريخ 22/8/2024 (شوهد 21:13د).
[26] مصطفى كيحل؛ المدخل الفلسفيّ لخطاب حقوق الإنسان، المستقبل العربيّ، العدد 46، كانون الأوّل/ديسمبر 2017، ص 73.
[27] الحسين شكراني؛ المرجع السّابق، ص 117.
[28] سعيد أبو معلا؛ غزّة في قلب مثلّث الموت: تجويع وندرة المياه النّظيفة وانتشار الأمراض، القدس العربيّ، 23 مارس 2024.
[29] المرجع نفسه.
[30] حتّى يكون نموّ الطّفل متوازنا لابدّ من أن يتمتّع بالحقوق الآتية: الحقّ في البقاء، الحقّ في النّماء، الحقّ في المشاركة، الحق في الحماية. ويتضمّن الحقّ في البقاء تمكين الطّفل في مرحلة الطّفولة المبكّرة من حقّه في النموّ البدنيّ والنّفسي والنّماء الرّوحي والاجتماعي والنّماء العاطفي والقدرة على التعلّم. ..وفي سبيل ذلك يتمّ العمل على: …استمرار التّقدّم في تقليل وفيات الرّضع منهم ومن تقلّ أعمارهم عن الخامسة ووفيات الأمّهات وتشجيع الرّضاعة الطّبيعيّة…الارتقاء بالمستوى الصّحي للأمّهات والأطفال، وتطبيق التّأمين الصّحي الشّامل…تأمين التّغذية السّليمة المتوازنة، ونشر الوعي الغذائي، تأمين مياه الشّرب الآمنة والمرافق الصحيّة الملائمة وتوفير بيئة صحيّة آمنة، وتعميم التّوعية والتّثقيف البيئيّ. للمزيد حول حقّ الطفل في البقاء والحقوق الأخرى، يرجى الرّجوع إلى : الإطار العربي لحقوق الطفل (عمّان- الأردن، 28/3/2001).
[31] سعيد أبو معلا؛ المرجع السّابق.
[32] أنظر على سبيل المثال تقرير سكاي نيوز عربي بتاريخ 20 نوفمبر 2023 (السّاعة 10:52 بتوقيت أبوظبي)، وقد عُنون التّقرير ب “فقد ذويهم و11 في حالة حرجة…، تفاصيل مأساويّة لأطفال غزّة الخدّج.
[33] الحسين شكراني المرجع السّابق، ص 367.
[34] المرجع نفسه، ص ص367-368.
[35] للمزيد حول هذا الإعلان يرجى الرّجوع إلى أحمد الرّشيدي وعدنان السيّد؛ حقوق الإنسان في الوطن العربيّ، دمشق، دار الفكر، 1423ه/تموز (يوليو)، 2002م، ص 47.
[36] عامر الزّمالي؛ مدخل إلى القانون الدّولي الإنسانيّ؛ تونس ، المعهد العربيّ لحقوق الإنسان، ط2، 1997، ص29.
[37] سليم اللّغماني؛ مفهوم حقوق الإنسان: نشأته وتطوّره، ضمن سليم اللّغماني وآخرون؛ حقوق الإنسان: مفاهيمها وأسسها، تونس المعهد العربيّ لحقوق الإنسان، دراسات4، 2003، ص24.
[38] المرجع نفسه، ص 30.
[39] عياض بن عاشور؛ حقوق الإنسان أي حقّ، ايّ إنسان؟ الفكر العربيّ المعاصر، العدد82-83 نوفمبر /ديسمبر 1990، ص 62.
[40] سليم اللّغماني؛ المرجع السّابق، ص 30.
[41] مصطفى كيحل؛ المرجع السّابق، ص 71.
[42] أحمد دياب؛ المركزيّات الحضاريّة…أوهام التّفوّق وأساطير الاصطفاء، مجلّة الدّيمقراطيّة، العدد58، أبريل 2015، ص61.
[43] المرجع نفسه، ص 61.
[44] لياس نايت قاسي؛ المحدّدات المؤثّرة في السّياسة الاستعماريّة الفرنسيّة في غرب إفريقيا خلال القرن 19م، مجلّة الدّراسات الافريقيّة بالجزائر، المجلّد 03، العدد08 ماي 2020، ص206.
[45] مصطفى كيحل؛ المرجع السّابق، ص 65.
[46] عبد الجليل حليم؛ الفلاّحون المغاربة في الاثنولوجيا الكولونياليّة بين الجمود وقابليّة التّحسّن، ضمن الطّاهر لبيب (تحرير)، صورة الآخر: العربي ناظرا ومنظورا إليه، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1999، ص449.
[47] التّشديد في الأصل.
[48] فؤاد غجاتي؛ التّناقضات الفرنسيّة بين إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسيّ وسياساتها الاستعماريّة في الجزائر ، معارف/ قسم العلوم القانونيّة والاقتصاديّة، العدد العاشر/جوان 2014، ص 116.
[49] مصطفى كيحل؛ المرجع السّابق، ص -ص 64-65.
[50] A. Montagne ; La Révolution agraire au Maroc, CHEAM, p29
ورد عند عبد الجليل حليم؛ المرجع السّابق، ص 452.
[51] محمّد نجيب بوطالب؛ العلوم الاجتماعيّة والاستشراق: صورة المجتمع العربيّ الإسلاميّ، ضمن الطّاهر لبيب؛ المرجع السّابق، ص .438.
[52] محمّد عابد الجابري؛ الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، بيروت مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1994، ص 140.
[53] ورد عند كمال رمضاني وعبد المجيد عمراني؛ سيكولوجيا الاستعمار من منظور فرانز فانون، مجلّة الدّراسات التّاريخيّة والأثريّة في شمال افريقيا، المجلّد 05، العدد 01، يناير 2022، ص477.
[54] أنظر وزير الحرب “الإسرائيلي” يصف الفلسطينيّين بالحيوانات ويأمر بحصار غزّة عن موقع https://khaleej.online (شُوهد يوم 22/5/2024، السّاعة 08:32 د).
[55] جيلبير الأشقر، المرجع السّابق.
[56] كمال رمضاني وعبد المجيد عمراني؛ المرجع السّابق، ص 478.
[57] المرجع نفسه، ص 481.
[58] ورد في المجرع نفسه، ص 481.
[59] المرجع نفسه، ص 481.
[60] فؤاد غجاتي؛ المرجع السّابق، ص 113.
[61] علي بن حسين المحجوبي؛ المرجع السّابق، ص7.
[62] كمال رمضاني وعبد المجيد عمراني؛ المرجع السّابق، ص .477.
[63] فؤاد غجاتي؛ المرجع السّابق، ص 115 (التّشديد في الأصل).
[64] المرجع نفسه، ص116 (التشديد في الأصل).
[65] تزفتان تودوروف؛ روح الأنوار، ترجمة حافظ قويعة، صفاقس، دار محمد علي للنشر، 2007، ص 116.
[66] حدث في شهر رمضان داخل سجن أبو غريب عن موقع islam.web.net بتاريخ 03/06/2004 (شُوهد في 24/4/2024).
[67] سالي سامي البيومي؛ الحرب على الإرهاب كمبرّر لانتهاك حقوق الإنسان، السّياسة الدّوليّة، العدد 167، يناير 2007، المجلّد 42، ص 226.
[68] المرجع نفسه، ص 228.
[69] نصّت المادّة 75 من البروتوكول الإضافيّ لاتّفاقيّات جينيف على خطر الممارسات الآتية:
- ممارسة العنف إزاء حياة الأشخاص أو صحّتهم أو سلامتهم البدنيّة أو العقليّة وبوجه خاصّ؛
- القتل،
- التّعذيب بشتّى صوره، بدنيّا كان أو عقليّا،
- العقوبات البدنيّة،
- التّشويه،
- انتهاك الكرامة الشّخصيّة، وبوجه خاصّ المعاملة المهينة للإنسان والمحطّة من قدره والإكراه على الدّعارة وأيّة صورة من صور خدش الحياء
[70] كريم خان قادة كبار هدّدوني: الجنائيّة الدّوليّة أنشئت لإفريقيا والبلطجيّة وليس للغرب، القدس العربيّ 21 مايو 2024.
[71] عن موقع skynewsarabia بتاريخ 21 مايو 2024 (شُوهد يوم 24/5/2024؛ 17:39د).
[72] القدس العربيّ؛ بروفيسور يهودي؛ لماذا تستثنى فلسطين من حقوق الإنسان؟ القدس العربيّ، الاثنين 3 يونيو 2024.