القدس في العهد الاسلامي .. فتح وتفريط
أ. م. د. رياض سالم عواد ( كلية الآداب/جامعة كركوك/ العراق)
مدخل:
يقول الامام علي بن الحسين بن علي بن ابي صالب t: ((كنا نُعلَّم مغازي رسول الله r كما نُعلَّم السورة من القرآن))([1]). وقال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص: ((كان أبي يعلّمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعدّها علينا وسراياه، ويقول: يا بني هذه شرف آبائكم فلا تضيعوا ذكرها))([2])، ويقول جمال الدين أبو الفرج ابن الجوزي: ((رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب؛ إلا أن يمزج بالرقائق، والنظر في سير السلف الصالحين))([3])، وانطلاقاً من هذه الاقوال المأثورة عن سلفنا الصالح تبرز أهمية دراسة التاريخ الاسلامي والفتوحات التي سطّرها أسلافنا من القادة المسلمين، وعلى رأسها فتوحات القدس الشريف، إذ تمّ فتحه أربع مرّات على مدار التاريخ الاسلامي، ولكن المحزن في ذلك ان كل هذه الفتوحات قابلتها تفريطات به من قبل المسلمين انفسهم، وانهم لم يحافظوا على هذه البقعة الطاهرة التي تعتبر مصير أمّة، وقضية وجود، ففي هذه الدراسة بعون الله تعالى سوف نمر سريعاً على فتوحات بيت المقدس وكيف، ولماذا فرّط به المسلمين آنذاك، أذ تضمّنت الدراسة خمسة محاور هي:
اولاً: الفتح الاسلامي الاول للقدس الشريف (الفتح العمري):
تبشّر العرب بفتح القدس الشريف في أول مبعث الرسول محمد r نبياً للمسلمين، وقبل ان تدين له العرب، وقبل فتح مكة المكرمة، إذ ورد في صحيح البخاري عن ابي سفيان ان هرقل الروم عندما وصلته رسالة الرسول محمد r يدعوه إلى الاسلام، ارسل زعماء قريش وكانوا التجار منهم الذين يذهبون في تجارتهم الى بلاد الشام، فلبوا طلبه عندما ذهبوا في تجارتهم الى هناك، حيث التقوا في بيت المقدس، فسألهم عن الرسول r واتباعه، وكل ما دار حوله من احداث خلال اعلان نبوته بينهم، ودعوته للعرب إلى الاسلام، فأجاب ابو سفيان على كل أسئلة هرقل، فقال له هرقل: ((فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه))([4]).
اذن هي بشارة عظيمة للعرب والمسلمين في مكّة المكرّمة، ان المسلمين سيفتحون بيت المقدس؛ ثم بُشّر من بعدها المسلمين في المدينة المنورة من قبل الرسول محمد r بفتح سائر بلاد الشام ابّان حفرهم للخندق بمعيّته، فبشّرهم النبي r بذلك عندما ضرب الصخرة داخل الخندق وكسر ثلثها فقال: ((الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إنّي لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا))([5])؛ وعليه فانّ قلوب المسلمين كانت شغوفة بفتح بلاد الشام، وبيت المقدس لاسيما بعد ان علموا فضلهما، فكان حب هذه البقعة – أي القدس الشريف- تملأ قلوبهم، فهي قبلتهم الاولى، وثالث الحرمين الشريفين المسجد الحرام، والمسجد النبوي التي تشد إليها الرحال، وكذلك فضائل القدس العظيمة التي ورد ذكرها في القران الكريم والسنة المطهّرة اهمها ما جاء بحادثة الاسراء والمعراج بقوله تعالى: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ))([6])، إذ أنعم الله تعالى على رسوله الكريم بالإسراء المشتمل على اجتماعه بالانبياء في المسجد الاقصى([7])، وغيرها الكثير من الشواهد التي غمرت قلوب المسلمين بحب بيت المقدس، والسعي إلى فتحها جهاداً في سبيل الله عزّ وجل، ولكن لم يكتب الله سبحانه وتعالى فتحه في عهد الرسول الكريم r، غير انه وضع اسس الجهاد الاولى بغزواته وسراياه نحو بلاد الشام تمهيداً لفتحه.
وعند وفاة الرسول r، وتَوَلَّى الخلافة ابو بكر الصديق t عزم على استئناف ما شرع به رسولنا الكريم وهو هدف تحرير الشام وبيت المقدس، وهو أول عمل قام به ضمن منهاج حكمه الذي اعلن عنه في خطبته قائلاً: ((لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل))([8])، وذلك تأسّياً بحديث الرسول محمد r بقوله: ((مَا تَرَكَ قَوْمٌ الْجِهَادَ إِلَّا عَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ))([9])، فكانت أولى اعمال ابو بكر ارساله جيوش الفتح الاسلامي إلى بلاد الشام، وفي مقدمتها انفاذ بعث اسامة بن زيد t، غير انّه توفي قبل ان يحقق هدفه بفتح القدس الشريف([10]).
ثمّ تولّى عمر الفاروق t الخلافة من بعده، فواصل الفتوحات في بلاد الشام حتى بلغ جيش المسلمين اسوار بيت المقدس، فحاصروها، حتّى اجبروا اهلها على طلب الصلح ودخول المسلمين اليها فاتحين شريطة تسليم مفاتيح القدس الى الخليفة شخصياً، فكتب أبو عبيدة بن الجراح قائد جبهة الشام إلى عمر يخبره بشرطهم، فتوجه عمر بن الخطاب إلى الشام قاصداً بيت المقدس، وهو في غايةِ التواضع والاستكانة والذّلَّة لِله رب العالمين، فعندما وصل الجابية كان على جمل أورق، تلوح صلعته للشمس، ليس عليه عمامةٌ ولا قلنسوة، بين عُودَيْن، وطَاؤه فرو كبْش نجدي، وهو فراشه إذا نزل، وحقيبتُه شملةٌ أو نَمِرةٌ مَحْشوةٌ ليفًا وهي وسادته، عليه قميص قدِ انخرق بعضه، إلى آخر الوصف([11])، هكذا كانت هيأة خليفة المسلمين ومركبه، وعُدَّتِه، ولو أراد – رضي الله عنه – للبس الحرير، ومشى على الديباج، وركب أصيلات الخيـل. ولو شاء لحمل معه المتاع الكثير، ولأحاطت به المراكب، وحفّت به المواكب؛ ولكنه – رضي الله عنه – علم قيمة الدنيا فأعطاها مُستحقها، وعلم قدر الآخرة ففرّغ قلبه لها، وعمل عملها، وسعى لها سعيها([12]).
وقد حاول أمراءُ الجيش أن يُحسِّنوا من هيئته المتواضعة أمام الأعداء؛ فقال له أبو عبيدة t: ((يا أمير المؤمنين، لو ألقيت عنك هذا الصوف، ولبست البياض من الثياب، لكان أهيبَ لك في قلوب هؤلاء الكفار))، فاجابه عمر t: ((لا أحب أن أُعَوّد نفسي ما لم تعتده، فعليكم معشر المسلمين بالقصد))، ثم حاول معه يزيدُ بنُ أبي سفيان، وطلب منه لبس ثياباً بيض، وكذلك من يرافقه، فإنه أعظم له في عيون الكفار، لانهم اذا رأوه بهذا الحال يزدرونه، فقال له عمر t: ((يا يزيد ما أُريد أن أتزيَّا للنَّاس بما يَشِينُني عند الله – عزَّ وجلَّ – ولا أريد أن يعظم أمري عند الناس، ويصغر عند الله – عز وجل – فلا ترادّني بعدها في شيء من هذا الكلام))([13]).
وواصل عمر – رضي الله عنه – مسيره إلى بيت المقدس على تلك الحال المُتَواضِعَة؛ فعرضت له مخاضة طين فَنَزل عن بعيره، ونزع نَعْلَيْه فأمسكها بيدٍ وخاض الماء ومعه بعيرُه، فقال له أبو عبيدة: قد صنعت اليوم صُنعًا عظيماً عند أهلِ الأرض، صنعت كذا وكذا، فصكَّه عمر في صدره وقال:(( أولو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذلَّ النَّاس، وأحقر النَّاس، وأقلَّ النَّاس، فأعزَّكم الله بالإسلام فَمَهْمَا تَطْلُبوا العزَّ بغيره يذلكم الله))([14]).
وعند وصوله بيت المقدس خرجَ إليه بطْريَرْكها صفـرونيـوس فسلمه مفاتيح القدس، وكتب لهم الأمانَ لأنفسهم وأموالهم وكنائسم وصلبانهم، ولا ينتقص شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم في مقابل أن يعطوا الجزية للمسلمين، وعندما سلَّم البَطْريَرْك مفاتيح القُدس لعمرَ بن الخطاب – رضي الله عنه – بَكَى، فقال له عمر: ((لا تحزن، هَوِّنْ عليك، فالدنيا دواليك، يومٌ لك ويومٌ عليك))، فقال البطريرك: ((أظننتني على ضياع الملك بكيت، والله ما لهذا بكيت، وإنما بكيتُ لمّا أيقنت أن دولتكم على الدهر باقية، ترق ولا تنقطع، فدولةُ الظلم ساعة، ودولةُ العدلِ إلى قيام الساعة، وكنت حسبتها دولة فاتحين تمر ثم تنقرض مع السنين))([15]).
وتَمَّ الفَتْحُ، ودخل عمر بيت المقدس من الباب الذي دخل منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم – ليلة الإسراء، وصَلَّى فيه مستقبلاً القبلة، وجعل يزيح بردائه الأقذار التي رماها النصارى في قبلته، ولما رأى المسلمون فعْلَ عمرَ أخذوا في تنظيف المسجد من أقذار النصارى، ثم بعد الفتح عاد – رضي الله عنه – إلى المدينة على ذات الجمل الذي قدم عليه، وعلى نفس الهيئة التي كان عليها قبل الفتح؛ لأنَّ اهتمامه – رضي الله عنه – ما كان بالشكليات والمظاهر، وإنما كان بأصول الشيء ومعانيه([16])، وكان هذا الفتح الاسلامي الاول للقدس الشريف في سنة (15 أو 16 هـ/ 635، 636م) .
ثانياً: عصر الضعف العبّاسي، والتفريط الاول بالقدس الشريف، ثمّ الفتح الاسلامي الثاني له (الفتح اليوسفي):
بقي القدس الشريف تحت حكم المسلمين نحو خمسة قرون، وتحديداً إلى سنة (493هـ/1099م)، السنة التي سقط فيها بيت المقدس بيد الصليبيين في حملتهم الاولى على بلاد الشام([17])، وكان من اهم اسباب سقوط بيت المقدس آنذاك وبقيّة المدن الشامية كانطاكية ومعرة النعمان وغيرها، هو ضعف الدولة العباسية، والتمزّق السياسي الذي كانت تعاني منه بلاد الشام ممثلة بملوك السلاجقة وامراءها، ففي ظل الاجتياح الصليبي كان ملوك الشام منشغلون بقتال بعضهم البعض، وانعدام وجود قوة إسلامية منظمة تدافع عن هذه البلاد، بل ووجود خيانة من داخل المسلمين سهلت اسقاط الصليبيين لهذه المدن.
ففي بغداد ظل الخليفة العباسي المستظهر بالله الذي يُعد رمز المسلمين الأول عاجزاً عن القيام بدور فعّال في حركة الجهاد والمقاومة أمام المد الصليبي، فجلّ ما فعله المستظهر أنه في عام (492هـ) وبعد سقوط بيت المقدس أرسل وفداً من كبار علماء بغداد إلى الأقاليم ليستحثوا الأمراء وجماهير الناس للمشاركة في جهاد الصليبيين؛ ولم يفعل ذلك للحق إلا بسبب ضغط وفد أهل الشام الذي كان يستصرخ بغداد وأهلها وجيوشها على ما لحقهم من دمار وذلّة على يد الصليبيين، فعندما دخل الوفد الشامي (ديوان الوزارة العباسية) تكلموا بكلمات أبكت وأوجعت القلوب، وقاموا بالجامع (الكبير) يوم الجمعة فاستغاثوا وبكوا وأبكوا وذكروا ما دهم المسلمين من قتل الرجال، وسبي النساء والأولاد، ونهب الأموال، ولم يجد الخليفة أمامه إلا أن يرسل وفداً من كبار قضاة وفقهاء بغداد إلى السلاجقة في عاصمتهم همذان بإيران، في عهد وزيرهم مجد الملك، لكن هذا الوفد عاد حين علم اشتداد الصراع على العرش السلجوقي، ومقتل وزيرهم مجد الملك، “فعادوا من غير بلوغ هدف ولا قضاء حاجة، وعُدّ ذلك التفريط الاول بالقدس الشريف من قبل المسلمين([18]).
ثمّ جاء العهد الزنكي ممثّلاً بالمجاهدَين عماد الدين زنكي وابنه نور الدين، اللذان كرّسا حياتهما في مجاهدة الصليبيين([19])، بهدف تحرير مدن بلاد الشام وعلى رأسها بيت المقدس التي صب نور الدين كل جهده في سبيل تحريرها غير ان وفاته حالت دون اكمال هدفه السامي هذا، فمن أفعال نور الدين زنكي التي تدل على مدى رغبة هذا المجاهد في تحرير القدس الشريف انّه أمر النجارين في حلب أن يصنعوا منبراً والمبالغة في تحسينه وإتقانه، وكان بينهم نجاراً يعرف بالأختريني من ضيعة تعرف بأخترين لم يكن له في براعته وصنعته قرين، فاستمر النجارون في صناعة المنبر المنشود لعدة سنين، فظهر للوجود بهيئة لم يعمل مثله مثيلاً في الإسلام، فقال نور الدين زنكي عندما شاهده مكتملاً: ((هذا قد عملناه ليُنصب بالبيت المقدس))([20]).
وبوفاة السلطان الملك (العادل نور الدين محمود) دبَّ الصراع والشقاق بين أمراء آل زنكي على من يحق له الوصاية على ابنه (الملك الصالح إسماعيل) ذي الـ 11 اعوام([21])، فاضطر بعضهم لمهادنة الصليبيين ودفع جزية مالية لهم مقابل المؤازرة للفوز بعرش الوصاية، وأمام هذا الواقع المرير تحرّك صلاح الدين بقواته من مصر نحو الشام، عندما سمع بغارات الصليبيين على دمشق وتحديدا بانياس([22])، فتمكَّن صلاح الدين من رد الصليبيين على أعقابهم ومطاردة الأمراء الزنكيين والاستيلاء على حواضرهم في دمشق وحمص وحماة وحلب وكان آخرها الموصل في الجزيرة الفراتية عام (577 هـ/1181م)، ومن ثم تمكن من تأليف جبهة إسلامية واسعة تمتد من الفرات شرقاً إلى برقة ليبيا غرباً، ومن الموصل وحلب شمالاً إلى مصر واليمن جنوباً، بهدف العمل على تطويق الإمارات الصليبية في بيت المقدس وسواحل الشام.([23])
وفي عام (583 هـ/1187م) أغار “أرناط” صاحب قلعة الكرك والشوبك في الأردن على قوافل الحجّاج المتجهين إلى مكة المكرمة، فأرسل صلاح الدين إلى كل رجاله وأعوانه في جميع أركان دولته يطلب منهم القدوم بقواتهم للاستعداد للحرب القادمة مع الصليبيين([24])، وبالفعل في يوم السبت 25 ربيع الثاني عام 583 هـ/4 يوليو/تموز عام 1187م وقعت أكثر المعارك حسماً في التاريخ وهي معركة حطّين بين المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي والصليبيين الذين تصالحوا وتحالفوا جميعاً ضد صلاح الدين وجاءوا بحدّهم وحديدهم واستصحبوا معهم صليب الصلبوت مطليّاً بالذهب، ومرصّعاً بالجواهر واليواقيـت، وهو الذي يزعمون ان مصلوبهم صُلب عليه، وكان يحمله منهم عباد الطاغوت، وضلال الناسوت، في خلق لا يعلم عدتهم إلا الله عز وجل، يقال كانوا خمسين ألفاً او ثلاثاً وستين ألفاً، فتقدموا نحو المسلمين، وأقبل السلطان فاتحاً طبرية متقوياً على ما فيها من الأطعمة والأمتعة وغير ذلك، وسيطر على البحيرة لمنع الصليبيين من الوصول اليها، حتى صاروا في عطش عظيم، فبرز السلطان إلى سطح الجبل الغربي من طبرية عند قرية يقال لها حطين، التي يقال إن فيها قبر النبي شعيب عليه الصلاة والسلام، وجاء العدو المخذول، وكان فيهم صاحب عكا وصاحب الناصرة وصاحب صور وغير ذلك من جميع ملوكهم، فتواجه الفريقان، ودارت دائرة السوء على عبدة الصلبان، واستبسل المسلمين، حتى انتهت المعركة بانتصار ساحق للجيش الاسلامي، فقتل منهم قرابة الثلاثون ألفا في ذلك اليوم، وأسر مثلهم، وكان في جملة من أسر جميع ملوكهم سوى قومس طرابلس، فيذكر المؤرخون انّه من رأى اسراهم يقول لا قتيل فيهم، ومن رأى قتلاهم يقول لا اسير فيهم لكثرة اعداد القتلى والاسرى، وأذاقهم الذل والهوان، حتى باع أحد الجنود المسلمين أسيراً بنعل ليلبسها في رجله([25]).
وكان من بين الاسرى أرناط صاحب الكرك، الذي كان قد تعرّض للحجيج كما سلف ذكره، وانّه تعرّض ايضاً لسب الرسول محمد r، فغضب عليه صلاح الدين، وعندما أسر استدعاه لخيمته، فأوقف بين يديه، فقام اليه بالسيف ودعاه إلى الإسلام فامتنع، فقال له: نعم أنا أنوب عن رسول الله r في الانتصار لأمته، فضرب عنقه وأرسل برأسه إلى الملوك وهم في الخيمة، وقال: إن هذا تعرض لسب رسول الله r، وجيء بصليب الصلبوت إلى صلاح الدين، فأمر بإرساله مع رؤوس قادة الافرنج، ومن لم يُقتل منهم إلى دمشق، وايداعهم في قلعتها، وكلّف الشيخ الفقيه شرف الدين عبد الله بن ابي عصرون الموصلي بهذه المهمّة، فاقتادهم إلى دمشق، وعندما دخلها كان الصليب بيده منكّساً على رأسه، فعمّت الافراح يومها بهذا النصر الكبير على الصليبيين([26]).
وبعد معركة حطين تمكّن صلاح الدين من فتح المدن الشامية من أيدي الصليبيين واحدة تلو الأخرى كعكّا، وصيدا، والأردن، وبيروت، ونابلس، وعسقلان، وغزّة، وبيسان، وأراضـي الغور، وغيرها، أذ بلغ عددها نحو (50) بلدة كبيرة، فنعت المؤرّخ الذهبي هذه السنة بـسنة الفتوحات([27])، ثمّ قرّر صلاح الدين التوجه إلى مقصده الرئيس وهو بيت المقدس، فعند وصوله فرض عليه حصاراً شديداً، فلم يكن أمام حامية بيت المقدس التي استماتت في البداية في الدفاع عنه إلا أن تستسلم للأمر الواقع، وأمام إصرار صلاح الدين وجنوده على تحرير بيت المقدس، استسلمت المدينة وفتحت أبوابها، وخفقت راية السلطان صلاح الدين فوق مآذن بيت المقدس، وامر صلاح الدين بإعادة الأبنية إلى حالها القديم، وتطهير المسجد والصخرة من الأقذار والأنجاس، ولما كانت الجمعة الأخرى، رابع شعبان من سنة (583هـ/1187م) صلّى المسلمون فيه الجمعة، ومعهم صلاح الدين، وصلى في قبة الصخرة، وكان الخطيب والإمام هو الشيخ محيي الدين بن الزكي، قاضي دمشق، ثم رتب فيه صلاح الدين خطيباً وإماماً برسم الصلوات الخمس، وما أشبه هذا اليوم بيوم دخول الرسول محمد r إلى المسجد الاقصى إذ صلّى بالأنبياء في حادثة الاسراء والمعراج، ثمّ من بعده عمر الفاروق t حين صلّى في هذا المكان بعد ان ازاح برداءه اقذار النصارى، وحذا حذوهم السلطان صلاح الدين الايوبي، حيث أمر أن يعمل للمسجد منبراً، فقالوا له: إن نور الدين محموداً كان قد عمل بحلب منبراً لهذا اليوم ليضعه في المسجد الاقصى، فأمر صلاح الدين بإحضاره، فحُمل من حلب ونُصب بالقدس الشريف، وكان بين صنع المنبر وحمله الى مكانه ما يزيد على عشرين سنة، وكان هذا من مآثر نور الدين، وحسن مقاصده، رحمه الله([28])؛ وكان ذلك الفتح الاسلامي الثاني للقدس الشريف بعد ان مكث في أيدي الصليبيين قريبًا من تِسْعينَ عاماً.
ثالثاً: عصر دويلات الملوك الايوبيين، والتفريط الثاني بالقدس الشريف، ثمّ الفتح الاسلامي الثالث له (الفتح الداودي):
بعد وفاة صلاح الدين في 27 صفر عام (589 هـ/4 مارس/آذار عام 1193م) تم تقسيم الدولة الأيوبية بين أبنائه، فكانت مصر من نصيب ابنه العزيز عثمان، ودمشق من نصيب الأفضل نور الدين علي، إلا أن الصراع دب بين أبناء صلاح الدين على عرش الدولة الأيوبية، مما فتح شهية الصليبيين الذين استولوا على مدينة جبيل وقلعتها عام (590هـ/1194م)، فتدخل الملك العادل أخو صلاح الدين في الصراع القائم بين أبناء أخيه صلاح الدين لإعادة الأمور إلى نصابها، واستغل حصوله على وصاية ناصر الدين ابن العزيز العثمان حتى خلعه واخوته واحداً تلو الآخر ووحد مصر والشام تحت سلطانه عام (596 هـ/1200م)، وجعل الملك العادل ابنه الكامل في حكم مصر، وابنه المعظم عيسى في دمشق، واحتفظ العادل لنفسه بالإشراف التام على جميع أنحاء دولته، ما أدى إلى هدوء الصراعات في الدولة([29]).
وفي عهد الملك العادل لم تتوقف غارات الصليبيين على المدن الأيوبية في بلاد الشام، ومنها: الحملة الصليبية الخامسة عام (614 هـ/1217م)، بقيادة “حنا دي برين” إمبراطور القسطنطينية اللاتينية، إذ بدأت جحافل الصليبيين بالوصول إلى عكا على شكل دفعات، وتجمع لدى الصليبيين أكبر قوة عسكرية لهم منذ الحملة الصليبية الثالثة، وبدأوا حملتهم بالإغارة على مدن وسواحل الشام، فحاصروا بانياس وخربوا أحوازها وتقدموا حتى وصلوا إلى حوران التي نالها ما نال بانياس، ومن ثم عادوا إلى عكا([30]).
وفي عام (615 هـ/1218م) قرر الصليبيين الذي عقد في عكا مهاجمة دمياط بوابة مصر من ناحية البحر، واتصلوا بنجاشي الحبشة النصراني، ليتعاون معهم في حرب المسلمين عن طريق غزو الحجاز وهدم الكعبة، عندها سارع الملك العادل بإرسال معظم قواته إلى مصر للدفاع عنها تحت قيادة ابنه (السلطان الكامل)، كما طلب من ولديه (المعظم عيسى) صاحب دمشق وابنه (الأشرف موسى) أن يهاجما معاقل الصليبيين في بلاد الشام ليشغلهم عن مصر، وأثناء محاولات الصليبيين المستميتة لاقتحام دمياط توفي الملك العادل عام (615 هـ/1218م) فدُفن بدمشق([31])، فتولي السلطان الكامل مصر بعد وفاة والده الملك العادل في ظروف استثنائية، إذ كان الصليبيون قد أحكموا حصارهم على مدينة دمياط، فجهز السلطان الكامل قوة برية تدعهما عشرات السفن وباغت القوات الصليبية أثناء حصار دمياط، إلا أنهم تمكنوا من صد هجومه([32]).
ثم دبُّ النزاع في جيش الصليبيين، وهو ما جعل دي برين غير قادر على التقدم إلى ما بعد دمياط ومواصلة السير نحو قلب البلاد، ومع تدهور الأوضاع في الحلف الصليبي، انسحب بعض منهم إلى عكا، وظل باقي الجيش الذي يعسكر في دمياط عاماً ونصف العام دون تحرك، في المقابل قام الملك الكامل بمحاولات لإيقاف أي فرصة للزحف الصليبي على العاصمة القاهرة([33]).
ومن أجل ألا تبقى مصر تحت أيدي الصليبيين وعدم استكمال الحملة؛ ظل الكامل يعرض على الصليبيين الجلاء عن مصر مقابل التنازل عن القدس ونابلس وصيدا وعسقلان وطبرية واللاذقية وسائر ما فتحه السلطان صلاح الدين من بلاد الساحل، ودفع مبلغ 15 ألف مقابل بقاء الكرك والشوبك في يده، ودفع تكاليف إعادة تحصين بيت المقدس بعد تسليمها وباقي القلاع التي خربها المسلمون في بلاد الشام، وإعادة صليب الصلبوت (رمز رموز الحروب الصليبية)، على ان تستمر الهدنة مدة 30 عاماً، وضماناً لحسن تنفيذ العرض تعهد السلطان الكامل بتقديم 20 رهينة من أقاربه ليحتفظ بها الصليبيون مدة عامين حتى يضمن الصليبيون عدم غدر السلطان الكامل بهم، وقد أبدى عدد من أمراء وبارونات الصليبيين استعدادهم لقبول عرض (السلطان الكامل) السخي، إلا أن رسل البابا والقساوسة رفضوا العرض بشدة([34])، وفي عام (623ﻫ/1226م) دب الصراع بين السلطان الكامل وأخيه (المعظم عيسى) صاحب دمشق على الحكم، فاستعان المعظم عيسى بالسلطان جلال الدين الخوارزمي سلطان الدولة الخوارزمية في بلاد فارس وما وراء النهر، في المقابل استعان السلطان الكامل، بإمبراطور الامبراطورية الرومانية المقدسة في ألمانيا (فردريك الثاني)، وتعهد السلطان الكامل لفردريك الثاني بمنحه بيت المقدس، وجميع فتوحات صلاح الدين بساحل الشام في حال مساعدته ضد اخيه، إلا أن الموت عاجل المعظم عيسى في عام (625هـ/ 1227م)، ولكن بناءً على طلب السلطان الكامل من الإمبراطور فردريك الثاني مساعدته ضد أخيه (المعظم عيسى)، جرد فردريك الثاني في عام ذات العام الحملة الصليبية السادسة على رأس قوة عسكرية صغيرة تتكون من نحو 600 فارس ووصل إلى مدينة عكا، وطلب من السلطان الكامل إيفاءه بتعهده بتسليم بيت المقدس، إلا أن السلطان الكامل رفض تسليم بيت المقدس نظراً لتغير قواعد الاشتباك بعد وفاة أخيه المعظم عيسى([35]).
شكَّل ذلك مفاجأة قاسية لفريدريك، إذ لم يعد الكامل يحتاج إلى جهود الإمبراطور، بعد وفاة المعظم عيسى، إلا أن فريدريك لم يفقد الأمل في تحقيق أمانيه، وبعث رسولاً يطلب من الكامل الوفاء بما تعهد به من تسليم بيت المقدس، وكان طبيعياً أن يرفض السلطان بعدما زال السبب الذي أقدم من أجله على تسليم بيت المقدس!
إلا أن الإمبراطور زاد إصراره لاستمالة قلب الكامل، وبلغ به الأمر أن كتب للكامل أثناء المفاوضات رسالة توسّل منه قائلاً: ((أنا عتيقك وأسيرك، وأنت تعلم أني أكبر ملوك البحر، وأنت كاتبتني بالمجيء، وقد علم البابا وسائر ملوك البحر باهتمامي وطلوعي، فإن أنا رجعت خائبا، انكسرت حرمتي بينهم، وهذه القدس فهي أصل اعتقادهم وحجهم؛ والمسلمون قد أخربوها، وليس لها دخل طائل، فإن رأى السلطان – أعزه الله – أن ينعم علي بقصبة البلد، والزيارة تكون صدقة منه، وترتفع رأسي بين الملوك، وإن شاء السلطان أن يكشف عن محصولها، وأحمل أنا مقداره إلى خزانته فعلت))([36])، فدفعت هذه الرسالة الكامل الى الموافقة على طلبه بتسليم ببيت المقدس للإمبراطور، وهو التفريط الثاني في تاريخ القدس في عهد المسلمين، وعُقدت (معاهدة يافا) بين السلطان الكامل والصليبيين التي كُتبت بصيغتها باللغتين العربية والفرنسية في ربيع الأول (626ﻫ/ 1229م)، وقد نصت الاتفاقية على:
- تُسلم بيت المقدس للإمبراطور (فريدريك الثاني) على أن تظل أسوار المدينة وتحصيناتها خراباً وألا تجدد الأسوار.
- يأخذ الصليبيون بيت لحم والناصرة.
- ألا يكون للصليبيين موطئ قدم خارج مدينة بيت المقدس.
- أن تظل قرى بيت المقدس وضواحيها في أيدي المسلمين على أن يديرها والي مسلم وتكون البيرة مقراً له.
- يظل الحرم القدسي بما فيه من المعالم كالصخرة والمسجد الأقصى في أيدي المسلمين ويظل شعار الإسلام فيه ظاهراً.
- تكون القرى الواقعة على الطريق بين القدس وكل من عكا ويافا تحت إدارة الصليبيين لحماية أرواح الحجاج وضمان سلامتهم.
- يتعهد الإمبراطور فردريك الثاني بالمشاركة في الدفاع عن السلطان الكامل ضد أي عدو حتى لو كان من الصليبيين أنفسهم.
- وان تسري هذه المعاهدة لمدة عشر سنين وخمسة أشهر وأربعين يوما ([37]).
فاتجه فريدريك إلى بيت المقدس فدخلها في سنة (626هـ/ 1229م)، ودخل كنيسة القيامة ليتوَّج ملكاً على بيت المقدس، ثم رجع بعد ذلك إلى بلاده بعد أن حقق ما أخفقت فيه العديد من الحملات بـ 600 فارس فقط، ودون الحاجه لرفع السيف([38]).
أثارت هذه المعاهدة المخزية حفيظة المسلمين وغضبهم في كل مكان، كما حدث في التفريط الاول سابق الذكر، وأقيمت المآتم في المدن الكبرى، وكان من بين العلماء المشهورين الذين اثيرت حفيظتهم على التفريط ببيت المقدس المؤرخ شمس الدين أبو المظفر يوسف بن قز اوغلي المعروف بسبط ابن الجوزي (ت654ه/ 1256م) الذي كان يلقي المواعظ في مدينة دمشق تشهيراً بالكامل وفعلته، وشعر الكامل بأنه تورط مع الإمبراطور، فأخذ يهوّن من أمر تسليم بيت المقدس، ويعلن أنه لم يُعطِ الفرنجة إلا “الكنائس والبيوت الخربة”، وان المسجد الأقصى بقي على حاله([39]).
وبعد وفاة (الملك الكامل) في (635هـ/ 1238م)، دخل الأمراء الأيوبيون من بعده في حالة صراع على السلطة وتوزيع المناصب؛ إذ اتفق الامراء الأيوبيون ومن بينهم (الصالح عماد الدين إسماعيل) صاحب بعلبك و(الناصر داوود) صاحب الكرك، على تنصيب (العادل الثاني) ابن الملك الكامل سلطاناً على مصر بدلاً من أخيه الأكبر (الصالح نجم الدين أيوب) الذي كان في مهمة حربية للاستيلاء على مدينة الرحبة (مدينة الميادين في سوريا)، في المقابل حصلت مقايضة أربكت الأمراء الأيوبيين في بلاد الشام وهي تنازل (الملك الجواد مظفر الدين) عن دمشق لـ(الصالح نجم الدين أيوب)، شعر (العادل الثاني) صاحب مصر بالخوف بعدما أن أصبح أخوه (الصالح نجم الدين أيوب) أميراً على دمشق، ومما زاد الطين بلة مطالبة كبار قادة الجيش في مصر من (الصالح نجم الدين أيوب) الحضور إلى مصر لامتلاكها ووعدوه بالمؤازرة، فتحرك (الصالح نجم الدين أيوب) بقواته من دمشق قاصداً مصر، واستولى في طريقه على عدد من المدن كنابلس والأغوار، وبينما (الصالح نجم الدين أيوب) يعسكر في نابلس (فلسطين)، تمكن عمه (الصالح عماد الدين إسماعيل) من مهاجمة دمشق وحصارها، ولما علم (الصالح نجم الدين أيوب) بحصار دمشق توجه على وجه السرعة لحمايتها إلا أن (الصالح عماد الدين إسماعيل) كان قد استولى على دمشق، فقرر (الصالح نجم الدين أيوب) العودة إلى نابلس، وفي طريق العودة فارقه عدد كبير من جنده، وأمام هذا الواقع المرير طلب (الصالح نجم الدين أيوب) المساعدة من ابن عمه (الناصر داوود) صاحب الكرك، فأرسل (الناصر داوود) إليه بعض الأمراء على رأس ثلاثمائة فارس بزعم حمايته، إلا أنهم ألقوا القبض عليه([40]).
وبينما (الصالح نجم الدين أيوب) في الأسر لدى ابن عمه (الناصر داوود)، قام الصليبيون في بيت المقدس ببناء قلعة جعلوا برج داود عليه السلام من أبراجها، وكان قد بقى هذا البرج لم يخرب لما خرب الملك المعظم أسوار القدس، ونصبوا عليها المجانيق، وعدّ هذا خرقاً لمعاهدة يافا مع الملك الكامل، فقرر الناصر داود بناء على هذا الخرق مهاجمتهم في بيت المقدس وتحريرها من قبضتهم، فحاصرها، وتمكن من فتحها وإخراج الصليبيين منها في سنة (637هـ/ 1239م)، بعد أن ظلت المدينة تحت سيطرتهم قرابة 11 عاماً، فامتدح جمال الدين بن مطروح الذي كان حاضرا تلك اللحظة الناصر داود قائلاً ([41]):
المسجد الأقصى له عادة … سارت فصارت مثلا سائرا
إذا غدا بالكفر مستوطنا … أن يبعث الله لــــــــه ناصـــــــرا
فناصـــــــــــــــــر طهـــــره أولا … وناصـــــــــر طهـــــــــــــــــــــره آخرا
رابعاً: عصر دويلات الملوك الايوبيين، والتفريط الثالث بالقدس الشريف، ثمّ الفتح الاسلامي الرابع له (الفتح الايّوبي):
وبعد أن فتح الناصر داود القدس الشريف وهو الفتح الاسلامي الثالث لها، قرّر السيطرة على مصر ونزع حكمها عن ابن عمّه الملك (العادل الثاني بن الكامل)، حبّا ًبالسلطة والتوسع، واتفق من اخوه الصالح نجم الدين ايوب بن الكامل المسجون عنده، على اطلاق صراحه مقابل معاونته في الاستيلاء على مصر بعد خلع أخيه العادل، ثمّ يتقاسمون بينهم السلطة على الاراضي، فتحرّكا نحو مصر، وبالمقابل أعدّ العادل الثاني قوة عسكرية للتصدي لهما، إلا أن كبار قادة جيشه انقلبوا عليه وخلعوه من الملك، وأرسلوا إلى اخوه الاكبر (الصالح نجم الدين أيوب) يطلبون منه الحضور إلى مصر على وجه السرعة([42])، فدخل (الصالح نجم الدين أيوب) القاهرة وتُوّج سلطاناً على مصر، وتنكر للعهود التي كان قد قطعها للناصر داود، فغضب الناصر على الصالح نجم الدين أيوب([43]).
فتحالف كل من الناصر داود صاحب الكرك، والصالح اسماعيل صاحب دمشق، والمنصور ابراهيم صاحب حلب، وحمص، ضد الصالح نجم الدين ايوب صاحب مصر، فقرّر الاخير بدوره التحالف مع الخوارزميين (حكام آسيا الوسطى وغرب إيران)، وأرسل إليهم كتاباً يستحثهم على نصرته معارضيه، بالمقابل تحالفوا هم مع الصليبيين ضد تحالف الصالح ايوب والخوارزميين، وقاموا بتصرّف مشين وهو تسليم بيت المقدس بكامله للصليبيين مع المسجد الاقصى والصخرة، وما فيها من مزارات، وعلى تسليم طبرية وعسقلان وكوكب إليهم، وأن يأذنوا لهم في عمارتها، وضمنوا للفرنج أنهم إذا ملكوا الديار المصرية أن يكون لهم بها نصيب، فتسلم الفرنج ذلك كله وعمروا قلعتي طبرية وعسقلان وحصنوهما وكان ذلك في سنة (641هـ/1243م)([44])، وكل هذا التفريط جاء نكاية بالملك الصالح نجم الدين ايوب بن الكامل في مصر، وهكذا فرّط الصالح ايوب، والناصر داود، والمنصور ابراهيم بحق المسلمين ببيت المقدس للمرة الثالثة، ويروي المؤرخ ابن واصل عن هذه حادثة التسليم، وأثناء مروره بمدينة بيت المقدس في هذه السنة قائلاً: ((سافرت في أواخر هذه السنة إلى الديار المصرية، ودخلت البيت المقدس، ورأيت الرهبان والقسوس على الصخرة المقدسة، وعليها قناني الخمر برسم القربان، ودخلت الجامع الأقصى، وفيه جرس معلق، وأبطل بالحرم الشريف الأذان والإقامة، وأعلن فيه بالكفر))([45]).
وعلى إثر الرسالة التي وصلت إلى الخوارزميين من الصالح نجم الدين ايوب، تحركت قواتهم سنة (642هـ/م1244م) قاطعة نهر الفرات باتجاه بلاد الشام، بـ 10 آلاف مقاتل تحت قيادة (الأمير حسام الدين بركة خان) الذي توجه وقواته نحو مدينة بيت المقدس، فتمكنوا من حصارها ودخولها، فاستنجد صليبيو بيت المقدس بـ(الناصر داوود) صاحب الكرك الذي توسّط على خروجهم من القدس إلى عكا؛ وبعد استعادة الخوارزميين مدينة بيت المقدس قرر الحلف (الأيوبي- الصليبي) التحرك لدفع خطر (السلطان الصالح نجم الدين أيوب) الذي جهز بدوره أيضاً جيشاً تحت قيادة الأمير (ركن الدين بيبرس)، وانضم إليه الخوارزميون عند وصوله إلى غزة، حيث وقعت بين الطرفين معركة عرفت باسم (غزة) أو (معركة لافوربي) أو (معركة هربيا) التي كان فيها الجيش الصليبي متموقعاً في ميمنة الجيش الأيوبي، وهو أكبر جيش صليبي منذ موقعة حطين، فتمكنت قوات (الصالح نجم الدين أيوب) بدعم من الخوارزميين من هزيمة الحلف (الأيوبي- الصليبي) وتطويق الصليبيين، فسقطوا بين قتل وجريح وأسير، وقُدر عدد القتلى من الصليبيين بأكثر من 5 آلاف قتيل، وعرفت هذه المعركة في المصادر الغربية بحطّين الثانية لكثرة من قتل واسّر فيها من الفرنجة الصليبيين، ووصلت بشارة النصر إلى الملك الصالح أيوب فأمر بتزيين القاهرة احتفالاً بالنصر، وسيق الأسرى إلى القاهرة بلغت عدتهم 800 اسيراً([46])، وكان ذلك الفتح الاسلامي الرابع لبيت المقدس.
ثمّ جاء الغزو المغولي للشام وسقوط الدولة الايوبية، ومعظم المؤرخين اتفقوا على أن القدس نفسها تعرضت لغزوة واحدة من قبل المغول خلال تلك المدة ولكنها لم تكن قد احتلت، وبعد دحر المغول من قبل المماليك بقيادة سيف الدين قطز والظاهر بيبرس في معركة عين جالوت عام (658هـ/1259م)، أنهى المماليك بقايا الوجود الصليبي في فلسطين ومناطق الشام الأخرى، وضُمت فلسطين بما فيها القدس الشريف إلى المماليك الذين حكموا مصر والشام حتى عام (923هـ/ 1517م)([47]).
خامساً: عصر ضعف الدولة العثمانية، والتفريط الرابع بالقدس الشريف.
وبعد سقوط المماليك على يد العثمانيين وانتصارهم عليهم معركة مرج دابق (1615 – 1616م)، دخل الجيش العثماني فلسطين بقيادة السلطان سليم الأول، وأصبحت القدس مدينة تابعة للإمبراطورية العثمانية، وقد أعاد السلطان سليمان القانوني بناء أسوار المدينة وقبة الصخرة.
وفي الفترة من عام 1831 – 1840م أصبحت فلسطين جزءًا من الدولة المصرية التي أقامها محمد علي، ثم عادت إلى الحكم العثماني مرة أخرى. وأنشأت الدولة العثمانية عام 1880 متصرفية القدس، وأزيل الحائط القديم للمدينة عام 1898 لتسهيل دخول القيصر الألماني وليام الثاني وحاشيته أثناء زيارته للقدس، وظلت المدينة تحت الحكم العثماني حتى وقعت الحرب العالمية الأولى 1917م التي هزم فيها الأتراك العثمانيون وأخرجوا من فلسطين.
فسقط القدس بيد الجيش البريطاني في 8 – 9/12/1917 بعد البيان الذي أذاعه الجنرال البريطاني اللنبي، ومنحت عصبة الأمم بريطانيا حق الانتداب على فلسطين، وأصبحت القدس عاصمة فلسطين تحت الانتداب البريطاني (1920م). ومنذ ذلك الحين دخلت المدينة في عهد جديد كان من أبرز سماته زيادة أعداد المهاجرين اليهود إليها خاصة بعد وعد بلفور المشؤوم عام 1917، وكان ذلك يمثل التفريط الرابع بالقدس الشريف.
ثمّ أحيلت قضية القدس إلى الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، فأصدرت الهيئة الدولية قرارها في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 بتدويل قضيّة القدس.
وفي عام 1948 أعلنت بريطانيا إنهاء الانتداب في فلسطين وسحب قواتها، فاستغلت العصابات الصهيونية حالة الفراغ السياسي والعسكري وأعلنت قيام الدولة الإسرائيلية، وفي 3 ديسمبر/ كانون الأول 1948 أعلن ديفيد بن غوريون رئيس وزراء إسرائيل أن القدس الغربية عاصمة للدولة الإسرائيلية الوليدة، في حين خضعت القدس الشرقية للسيادة الأردنية حتى هزيمة يونيو/ حزيران 1967 التي أسفرت عن ضم القدس بأكملها لسلطة الاحتلال الإسرائيلي.
الخاتمة:
وفي خاتمة الدراسة وقع أماها سؤال واحد وعلى جميع المسلمين ان يجدوا له الجواب، وهو:
(متى، وكيف يتم الفتح الاسلامي الخامس للقدس الشريف؟)
فجواب الدراسة بناءً على ما توصلت إليه من نتائج يكمن بتذكير المسلمين بتاريخ اليهود وجبنهم، فهم من وصفهم الله عز وجل قائلاً: ((لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ))([48])، وللتذكير أنَّ المسلمين لما فتحوا بيتَ المقدسِ في عهد عمر الفاروق t لم يستلم مفاتيحه من اليهود وإنما من النصارى؛ بل اشترط النصارى على عمر – رضي الله عنه – أن لا يسمح لليهود بدخوله؛ لأنَّهُمْ قَتَلَةُ المسيح حسب زعم النصارى، فكيف يسكنون بلد المسيح عليه السلام؟! ووافق عمر على هذا الشرط. وفي العهد الأموي تسلَّل إلى بيت المقدس عشرة يهود، واشتغلوا فيه خدمًا فَطَرَدَهُم عمرُ بن عبدالعزيز، ولما استولى الصليبيون عليه أبادوا من كان به من اليهود، وأحرقوا عليهم دورهم، ثم فجأة إذا بالاستعمار النصرانيّ يُسلّم القدس لليهود، فلماذا هذا التغيير،
لقد لعِبتِ العصاباتُ الصِّهْيَوْنِيَّة الإنجيلية النصرانية لعبتها، وقذفت في روعِ النصارى أن نُزول المخلصِ عيسى – عليه الصلاة والسلام – الذي سيخلصهم من المسلمين حسب زعمهم لن يكون إلا باستيلاء اليهود على القدس، وتجّمعهم فيها، وجعلها عاصمة لليهود، وأنَّ الحروب الصليبيَّة لن تتوقف إلا بذلك؛ فوافقت هذه الفكرةُ هوًى في نفوس النصارى خاصَّةً بعد أن أنهكوا من جراء الحروب مع المسلمين، وبعد أن فَشِلَتْ مساعي الاستعمار الحديث بالمقاومة الصَّامدة من قِبَلِ الشُّعوب الإسلامية المستعمرة؛ فتآزرت الصِّهْيَوْنِيَّة النصرانية مع الصِّهْيَوْنِيَّة اليهودية في هذا السبيل؛ تحقيقًا لعقيدتهم التي أصلها عقيدة يهودية.
وملاحظةٌ أخرى جديرة بالتأمل وهي: أن اليهود ما حاربوا عبر تاريخهم الطويل ولو مرَّةً واحدة من أجل الاستيلاء على بيت المقدس؛ ففي تاريخهم الحديث سلّمهم النصارى بيتَ المقدس، وفي تاريخهم القديم دعاهم موسى – عليه الصلاة والسلام – لمحاربة الكنعانيين ودخولها فامتنعوا ورفضوا.
فمتى كان اليهود أهل حرب ومبادأة بها؟ أيوم قال لـهم موسى – عليه الصلاة والسلام -: قاتلوا، فقالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}([49]) أم يوم دعاهم موسى إلى الفتح وقد مهَّد الله لهم أسبابه، وفتح لهم بابه؛ فارتجفوا كالشياه المذعورة وقالوا: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}([50]).
هؤلاء هم اليهود يوظفون من يحارب عنهم، ويُخرجُوا لهم العدو من القلعة ليدخلوها فاتحين، وما تبدَّلت حالهم، إنَّهُمْ كما كانوا من قبل يقاتلون بسلاح غيرهم، ويُلوحون بقوةِ غيرهم؛
فليس بلاءُ المسلمين من قُوَّة اليهود؛ وإنَّما من ضعفِ المسلمين وهوانهم، حينما انتشرت فيهم العقائد المنحرفة، والأخلاقُ الفاسدة. حينما اعتمدوا على حولهم وطولهم، واغترّوا بعددهم وكثرتهم؛ فوكلهم الله إلى أنفسهم، حينما تخلَّوْا عن هدى الله، وركنوا إلى الذين ظلموا، في عصبيَّاتٍ جاهليَّة، وأحزابٍ ضالَّة، وقوميَّات ضيِّقة، فما زادهم ذلك إلا ذُلاًّ وانهزاما.
أما آن للأمة الاسلامية أن تستفيد من تلك النتائج المرَّة، التي أفرزتها التجارب المخزية، فتعود – أفرادًا وجماعات – إلى كتاب ربها، وسنةِ نبيها بفَهْم سَلَفِها قولاً وفعلاً، وبذلك سيكونُ النصر والخير، والصلاح في الدنيا والآخرة، ولن يَصلُحَ آخرُ هذه الأمة إلا بما صلَحَ به أولها، عندها سيتم الفتح الاسلامي الخامس للقدس الشريف.
والله من وراء القصد..
مصادر البحث حسب تسلسل ورودها في الهامش:
([1]) الشامي، محمد بن يوسف الصالحي (ت942هـ)، سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد، وذكر فضائله وأعلام نبوته وأفعاله وأحواله في المبدأ والمعاد، تح: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد معوض، دار الكتب العلمية (بيروت: 1993م): 4/ 10.
([2]) الشامي، سبل الهدى: 4/ 10.
([3]) ابن الجوزي، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد (ت597هـ)، صيد الخاطر، تح: حسن المساحي سويدان، دار القلم (دمشق: 2004م): ص 228.
([4]) محمد بن إسمـاعيل (ت 256هـ/869م)، الجامع المسنـد الصحيح، تح: محمد زهير بن ناصـر، دار طوق النجـاة، (د. م: 2001م): 1/ 9.
([5]) ابن حنبل، أحمد (ت 241هـ/855م)، مسند أحمد بن حنبل، فضائل الصحابة، تح: وصي الله محمد عباس، مؤسسة الرسالة (بيروت: 1983م): 30/ 626.
([8]) ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر القرشي (ت774هـ)، البداية والنهاية، دار الفكر (د0م: 1986م): 5/ 248.
([9]) الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الشامي (ت360هـ)، المعجم الأوسط، تح: طارق بن عوض الله بن محمد , وعبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين (القاهرة: د.ت): 4/ 149.
([10]) ابن كثير، البداية والنهاية: 6/ 304.
([11]) الذهبي، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز (ت 748هـ)، سير أعلام النبلاء، دار الحديث، (القاهرة: 2006م): 2/ 432.
([12]) الصغيّر، صغيّر بن محمد، ينابيع المنبر مجموعة خطب ومقالات، (د.م: ٢٠١٩ م): ص310.
([13]) الصغير، ينابيع المنبر: ص310.
([14]) الصغير، ينابيع المنبر: ص310.
([15]) الصغير، ينابيع المنبر: ص311 .
([16]) الصغير، ينابيع المنبر: ص311.
([17]) ابن كثير، البداية والنهاية: 12/ 156.
([18]) ابن الاثير، عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم الشيباني الجزري (ت630هـ)، الكامل في التاريخ، تح: عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي (بيروت، 1997م): 8/424 – 426، 430.
([19]) ابن واصل، جمال الدين محمد بن سالم المازني التميمي الحموي (ت٦٩٧هـ)، مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، دار الكتب والوثائق القومية – المطبعة الأميرية (القاهرة: ١٩٥٧م): 1/100.
([20]) ابن الاثير، الكامل في التاريخ: 10/ 37.
([21]) ابن الاثير، الكامل في التاريخ: 9/ 395.
([22]) ابن الاثير، الكامل في التاريخ: 9/ 398.
([23]) ابن واصل، مفرج الكروب: 2/17، 34، 141، 169 – 176.
([24]) ابن الاثير، الكامل في التاريخ:10/ 20.
([25]) ابن الاثير، الكامل في التاريخ: 10/ 20 – 26 .
([26]) ابن كثير، البداية والنهاية: 12/ 321 – 322 .
([27]) تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام، تح: الدكتور بشار عوّاد معروف، دار الغرب الإسلامي (د.ت: 2003م): 12/ 673.
([28]) ابن الاثير، الكامل في التاريخ: 10/ 37 .
([29]) ابن الاثير، الكامل في التاريخ:10/ 169.
([30]) ابن الاثير، الكامل في التاريخ:10/ 303.
([31]) ابن الاثير، الكامل في التاريخ:10/ 304، 326 .
([32]) ابن كثير، البداية والنهاية: 13/ 80.
([33]) ابن واصل، مفرج الكروب: 4/92.
([34]) ابن واصل، مفرج الكروب: 4/95.
([35]) ابن واصل، مفرج الكروب: 4/234؛ ابن كثير، البداية والنهاية: 13/ 123.
([36]) الذهبي، تاريخ الإسلام: 13/ 648.
([37]) المقريزي، أحمد بن علي (ت845هـ/1441م)، السـلوك لمعرفة دول المـلوك، تح: محمـد عبد القادر عطا، دار الكـتب العلمية، (بيـروت: 1997م): 1/ 353.
([38]) الذهبي، تاريخ الإسلام: 13/ 649.
([39]) المقريزي، السلوك لمعرفة دول الملوك: 1/ 355.
([40]) ابن واصل، مفرج الكروب: 5/153 – 174، 202. 211، 228، 239 – 244 .
([41]) ابن واصل، مفرج الكروب: 5/246 – 247 .
([42]) ابن واصل، مفرج الكروب: 5/257، 262 – 264.
([43]) ابن واصل، مفرج الكروب: 5/265، 270؛ ابو الفداء، الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل بن علي (ت732هـ)، المختصر في أخبار البشر، المطبعة الحسينية المصرية، (مصر: د.ت): 3/ 166.
([44]) ابن واصل، مفرج الكروب: 5/332.
([45]) ابن واصل، مفرج الكروب: 5/333 .
([46]) ابن واصل، مفرج الكروب: 5/336 – 339؛ ابو الفداء، المختصر في أخبار البشر: 3/ 168؛ الذهبي، تاريخ الإسلام: 14/ 348.