الجريمة والعنف في تاريخ المغرب: نماذج من تاريخ المغرب الوسيط والحديث
Crime and violence in the history of Morocco
Models from the history of medieval and modern Morocco
د. العربي بنرمضان العياط/جامعة سيدي محمد بن عبد الله، المغرب
Dr. Larbi Ben RamdanAl-Ayat/University Sidi Mohamed Ben Abellah/Morocco
مقال نشر في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 90 الصفحة 83 .
ملخص:
تعالج هذه الورقة البحثية موضوع الجريمة والعنف، نماذج من تاريخ المغرب خلال العصرين الوسيط والحديث، والذي يعتبر من المواضيع المغيبة في الدراسات السوسيوتاريخية المغربية، ونسعى من وراء هذه الورقة البحثية، النبش في الذاكرة التاريخية المغربية من أجل التعرف على طبيعة العدالة ونوع العقاب الذي كان يمارس من طرف السلطة السياسية أو السلطة الدينية الموازية لها، ومن كان يتكلف بتنفيذها ضد مرتكبي الجرائم والخارجين عن القانون أو الشرع بمختلف أنواعه، والآثار المترتبة عنه من الناحيتين الاجتماعية والنفسية، من خلال رصد بعض الحالات التي توضح مدى القدرة العقابية للسلطة السياسية من خلال تلاعبها ببعض الفضاءات المادية والمجموعات البشريـة، وذلك من أجل تأكيد موقعها المركزي وسلطتها الثابتة.
الكلمات المفتاحية: الجريمة-العنف-تاريخ المغرب- المغرب الوسيط والحديث.
Abstract :
This research paper deals with the topic of crime and violence, examples from the history of Morocco during the medieval and modern eras, which is one of the hidden topics in Moroccan socio-historical studies, and we seek behind this, digging into Moroccan historical memory in order to identify the nature of justice and the type of punishment that was practiced by the party of the political authority or the religious authority parallel to it, and whoever was in charge of implementing it against the perpetrators of crimes and outlaws of Sharia of all kinds, and the consequences of it from the social and psychological aspects, by monitoring some cases that show the extent of the punitive ability of the political authority through its manipulation of some material spaces and human groups, in order to confirm their central position and immutable authority.
key words:
Crime, violence, history of Morocco, medieval and modern Morocco.
مقدمة:
يعتبر العنف ظاهرة اجتماعية أزلية قديمة قدم الإنسانية وليست ظاهرة وليدة اليوم، رافقت الإنسان منذ أن دب على سطح البسيطة، ورغم ذلك تعد من المواضيع المغيبة والمنسية في الدراسات التاريخية التي تبحث في كل الظواهر البشرية، سواء أكانت سياسية أو اجتماعية أو دينية. فقد أدت التطورات والتراكمات التي شهدها المجتمع المغربي إلى بروز مظاهر عديدة لأشكال العنف، وإن كانت هناك بعض الدراسات التي سلطت الضوء على هذه الظاهرة بالغرب الإسلامي من جوانب مختلفة، حيث ركز البعض منها على الجانب النفسي لمرتكبي العنف، وبعضها ركز على السجن والسجناء، وعلى هذا الأساس، يعتبر تناول هذه الظاهرة كموضوع للدراسة محاولة جادة للتعرف على بعض الجوانب المجهولة من تاريخ المغرب الاجتماعي، وسد بعض البياضات التي تشهدها الدراسات السوسيوتاريخية فيما يتعلق بتاريخ المصائب التي حدثت ببلاد المغرب على مر العصور. لذلك، فدراسة العنف كموضوع سوسيوتاريخي يعد من المواضيع التي تستحق الاهتمام والدراسة، إذ سيمكننا من التعرف على بعض الجوانب الغامضة من واقع المجتمع المغربي، عبر معرفة الذهنية المغربية من جهة، ﻭمعرفة طرق معالجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والمذهبية من جهة ثانية.
أولا: مفهوم العنف:
تبعا لتنوع اهتمامات العلماء والباحثين بظاهرة العنف كظاهرة اجتماعية، يكاد من الصعب إعطاء مفهوم موحد ومنسجم للعنف. فمفهوم العنف حسب علماء الاجتماع والنفس يختلف عن مفهوم العنف لدى علماء السياسة وغيرهم، نظرا لاختلاف الأدوات الإجرائية والأهداف المرغوب التوصل إليها.
1-التعريف اللغوي:
العنف في لسان العرب: يعني الخرق بالأمر وقلة الرفق به، وهو ضد الرفق[1]، عنف به وعليه يعنف عنفا وعنافة وأعنفه وعنفه تعنيفا، وهو عنيف إذا لم يكن رفيقا في أمره. واعتنف الأمر: أخذه بعنف.
وفي الحديث: ((إن الله تعالى يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف))[2]، هو بالضم الشدة والمشقة، وكل ما في الرفق من الخير ففي العنف من الشر مثله. وعنف به، وعليه عنفا، وعنافة: أخذه بشدة وقسوة، ولامه وعيره، فهو عنيف[3]. والعنيف من لا رفق له بركوب الخيل والشديد من القول والسير[4].
كما عرف القاموس الفرنسي العنف باعتباره كل ممارسة للقوة عمدا أو جورا، وكلمة عنف violenceالفرنسية مأخوذة من الكلمة اللاتينية وهي تشير إلى القوة، والقوة والعنف مشتقان من أصل واحد، وإن كان مفهوم القوة «force» أكثر شمولية من العنف، فالعنف من الناحية اللغوية، هو الإكراه المادي الواقع على شخص لإجباره على سلوك ما[5]. وفي اللغة الإنجليزية، فإن الأصل اللاتيني لكلمة «violence» هو حيوية «vitality» ومعناه الاستخدام غير المشروع للقوة[6].
2- التعريف الاصطلاحي:
تعتبر ظاهرة العنف ظاهرة اجتماعية معقدة تتداخل في إنتاجها عوامل ومصادر متعددة، وتبعا لذلك تعددت الآراء والنظريات في تفسير هذه الظاهرة الاجتماعية وتباينت فيما بينها. فقد عرف الاصطلاحيون العنف، على أنه تصرف عنيف وسلوك مؤذي ومهين سواء كان ماديا أو معنويا (الضرب والشتم والسب)، ويرتكب بأي وسيلة[7]، وهو مضاد للحق لأنه يعارض الحرية التي هي جوهر الإرادة[8]، وهناك من عرفه بـ«نقيض الهدوء، وهي كافة الأعمال التي تتمثل في استعمال القوة أو القهر والإكراه بوجه عام، ومثالها أعمال الهدم والإتلاف والتدمير والتخريب[9]».فالعنف إذن فعل مضاد موجه نحو شخص أو شيء ما، ينطوي على رغبة في التفوق على الآخرين، ويظهر إما في الإيذاء أو الاستخفاف أو السخرية[10].
وانطلاقا من المفاهيم الاصطلاحية المدرجة، يتضح أن العنف ظاهرة اجتماعية متجددة، ترتبط بجوانب متعددة اقتصادية وسياسية واجتماعية ونفسية، ليست خاصة بفرد أو مجتمع معينين بل هي ظاهرة مجتمعية تعيشها كل التجمعات البشرية، وإن كانت بدرجات متفاوتة، ويتعلق الأمر بالاستخدام الجسدي والنفسي لإلحاق الأذى والإضرار بالغير، وقد ارتبط مفهوم العنف من الناحية التاريخية بالقوة الصادرة عن قوى الطبيعة أو الآلهة، لكنه اليوم اكتسب دلالات جديدة مرتبطة بظهور مفاهيم حديثة على المستوى الحقوقي، وأصبح قريبا من معنى القوة والشدة، فهو ليس مجرد فعل إرادة بل يتطلب وجود شروط وظروف مسبقة وممارسة له، ومن أهمها السلطة والقوة وأدواتها القمعية وتبريراتها الإيديولوجية التي تستمد منها شرعيتها[11].
3- العنف من منظور الشريعة الإسلامية:
يعتبر القرآن والسنة والإجماع أهم مصادر التشريع الإسلامي، لذلك لم تغفل هذه المصادر الحديث عن العنف والترغيب في اجتنابه، حيث نجد العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية قد تعرضت للعنف وأكدت على الدعوة للحق وعدم اللجوء إلى الرد بالعنف، مهما كانت طبيعة ودرجة الأذى الذي لحق بالعامة من طرف النخبة الحاكمة، فالتاريخ يشهد على الحركية والتطور المستمر الذي تشهده الحياة البشرية منذ أن دب الإنسان على سطح الأرض، كما يشهد التاريخ على الحروب وما خلفته من دمار على جميع المستويات، مما يعكس طبيعة نفسية الإنسان القلقة والفطرة المتحفرة باستمرار للبغي والعدوان وسفك الدماء[12]. كما يشهد التاريخ أيضا على أعمال الخير التي تظهر من خلال المنجزات الكبرى التي خلفها الإنسان في جميع الميادين، والتي تدل على الاستعداد الفطري للإنسان أيضا على فعل الخير، لأن الخالق عز وجل خلق الإنسان وخلق معه عقلا للتدبير والتمييز بين فعل الخير والشر، كما جاء في القرآن الكريم: ((فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره))[13].
يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: ((قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون))[14]. كما حذر الله سبحانه وتعالى من قتل النفس الإنسانية بغير حق، ورفع قدر النفس الواحدة إلى درجة قتل الناس جميعا، فيقول سبحانه وتعالى: ((من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا))[15]. ويقول الله عز وجل في موضع آخر في إطار النهي عن القتل والحفاظ على النفس((ومن يقتل مومنا متعمدا فجزاءه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما))[16]، فانطلاقا من الآيات الكريمات يتضح مدى قوة العقوبة التي تنتظر مستعمل العنف لدرجة إزهاق الروح ظلما وعدوانا. كما حذر الله سبحانه وتعالى الإنسان من قتل نفسه، حيث يقول في محكم كتابه: ((ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما، ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا))[17].
بالإضافة إلى ذلك نبه الله سبحانه وتعالى إلى صورة من أخطر صور العنف، ألا وهي الغلو في الدين، حيث يقول سبحانه وتعالى: ((يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق))[18]. فالله سبحانه وتعالى لا يأمر بترك شيء معين إلا لأمر جلل، إذ يعتبر العنف العقيدي تجاوزا وغلوا وتشددا في المسائل الشرعية، وبالتالي تكون انعكاساته أكثر خطورة وتأثيرا على بنية المجتمع وتماسكه، ولا يرتبط بأسباب اجتماعية أو اقتصادية أو نفسية أو ما شابه ذلك.
أما بالنسبة للسنة النبوية، كونها المصدر الثاني للتشريع في الإسلام والشارحة للقرآن الكريم، فقد أكدت بدورها على ترك العنف والتعامل به، ورجوعا إلى كتب السيرة النبوية نجد العديد من الأحاديث النبوية التي تحث على التعامل بالرفق والترغيب فيه ونبذ العنف والابتعاد عنه، وأعظم دليل ما تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم من أشكال وصور العنف والتي قابلها بالرفق واللين.
ولعل حديث الرسول عليه الصلاة السلام عن بن مسعود الذي يقول فيه: (( أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)) لدليل قوي وواضح على مدى خطورة استعمال العنف وقتل الأنفس، وما يعزز ذلك، الأحاديث النبوية الشريفة الصريحة الدلالة على تحريم قتل الأنفس (( أما بعد: فإن دماؤكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)). وفي موضع أخر يقول الرسول عليه السلام: (( لا يحل دم امرئ مؤمن مسلم يشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس والزاني المحصن والتارك لدينه المفارق للجماعة))[19].
ومن صور العنف التي تعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم وقابلها بالرفق واللين، ما روي عن عائشة رضي الله عنها: حينما استأذن رهط من اليهود النبي فقالوا: السام عليك، فقلت: بل عليكم السام واللعنة، فقال: يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، قلت: أو لم تسمع ما قالوا؟ قال: قلت، وعليكم[20]. فالرسول صلى الله عليه وسلم رغم الإساءة إليه من طرف الرهط اليهودي، إلى أنه واجه هذا العنف اللفظي بالرد عليه باللطف واللين، مما يوضح بشكل جلي مدى حرص السيرة النبوية على حل الصراعات والخلافات بالطرق السلمية وعدم الجنوح لأسلوب العنف.
ولم تتوقف الشريعة الإسلامية فقط عند منع اللجوء إلى العنف كأسلوب للتعامل بين أفراد البشر، وما ينتج عن ذلك من عقوبات، بل تعدت ذلك لتشمل حتى الحيوانات باعتبارها من مخلوقات الله تتمتع بحق الحرية وحق الحياة. فقد روي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلعم قال: ((دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض))[21].
ثانيا: الاتجاهات النظرية لتفسير ظاهرة العنف:
إن خاصية الإجماع حول ظاهرة العنف كظاهرة اجتماعية مركبة ومعقدة، يمكن تفسيرها بتداخل العوامل المتعددة المساهمة في إنتاجها، وبالتالي تتعدد أبعاد هذه الظاهرة الاجتماعية، إلى درجة يصعب التمييز بين أبعادها الاجتماعية والنفسية والبيولوجية، كما تنتج عنها ردود أفعال متباينة ومختلفة تتضمن صورا متعددة من الإيذاء النفسي والجسدي والمعنوي.
فالعنف ظاهرة أزلية برزت منذ أن دب الإنسان على سطح الأرض، ومن تم اختلفت صور العنف وعوامله تبعا لتغير الظروف التاريخية والتحولات المجتمعية، ونظرا لطبيعة ظاهرة العنف واختلاف صورها ونتائجها اختلفت آراء ونظريات تفسيرها، وتبعا لذلك ظهرت مجموعة من المدارس التي اهتمت بتفسير هذه الظاهرة، في مقدمتها المدرسة البيولوجية.
فقد حاولت المدرسة البيولوجية تفسير ظاهرة العنف بالجانب البيولوجي، أو ما يسمى بالنظرية الدروينية، وهي نظرية ارتبطت تاريخيا بتشارلز داروين ومن سار في فلكه من العلماء كفرويد ولورانس، والذين حاولوا تفسير غريزة العدوان بالدوافع الداخلية التي تدفع المرء إلى بعض السلوكات العدوانية سواء كانت بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وهناك من فسر ظاهرة العنف بدافع العدوان بدل غريزة العدوان التي تنشأ بشكل تلقائي، عكس دافع العدوان الذي لابد له من عامل خارجي محفز للقيام به.
كما فسر بعض العلماء ظاهرة العنف والجريمة باعتبارها شكلا من أشكال العنف، بالعوامل الوراثية بدل العوامل الاجتماعية، وهناك من ربطها بنشاط الغدد التي يفرزها الجسم مؤكدين على الدور البيولوجي الذي يؤكد على العوامل الوراثية لتفسير أشكال وصور العنف، وقد أكد “فرويد” بدوره على دور العامل البيولوجي في تفسير ظاهرة العنف، وربطه بعدم قدرة “الأنا” على تكييف الدوافع الغريزية بمجموعة القيم السائدة في المجتمع، فتصبح الفرصة مواتية أمام الفرد لإشباع غرائزه وميولاته عن طريق ممارسة سلوكيات عدوانية، وأمام هذا الوضع الطبيعي الفطري يبقى دور المجتمع هو التهذيب والتشذيب[22].
و”لورانس” بدوره ذهب في اتجاه تفسير السلوك العدواني، باعتباره صورة من صور العنف، بالغريزة الحيوانية سواء بالنسبة للإنسان أو الحيوان، وإن أسقط نظريته على الحيوان بشكل خاص، حيث ربط الغريزة الحيوانية بتحفيز النوع الحيواني الذي يؤدي إلى الهجرة والانتشار، وذلك بهدف الحصول على مجال أوسع لمصادر العيش من جهة، والوظيفة الثانية لغريزة العدوان والتي تتمثل في البقاء للأقوى والأصلح[23].
1- العنف من وجهة نظر اجتماعية نفسية:
نظرا لخاصية التعقيد التي تميز ظاهرة العنف، فقد تتعدد النظريات التي عالجت هذه الظاهرة الاجتماعية، فهناك من ربط ظاهرة العنف بالعوامل الوراثية البيولوجية، وهناك من فسرها انطلاقا من أسس النظريات النفسية والاجتماعية، فظاهرة العنف حسب علماء الاجتماع هو، استخدام الضغط أو القوة استخداما غير مشروع، أو غير مطابق للقانون من شأنه التأثير على إرادة فرد ما[24]. كما يمكن أن يكون العنف مشروعا اجتماعيا يتماشى وقواعد المجتمع كقتل عدو وحماية ممتلكات عامة أو خاصة، وغير مشروع يشكل انتهاكا لقواعد المجتمع[25].
ولدراسة العنف كظاهرة اجتماعية متجذرة في التاريخ ومرتبطة بميل النفس الإنسانية نحو الظلم والعدوان، فلا محيد من العودة إلى مؤسس علم “العمران البشري” العلامة عبد الرحمن بن خلدون، الذي يرى الكثير من الباحثين، أن العلم الذي أسسه هذا المؤرخ الفذ ينطبق تماما على الدراسات الاجتماعية الحديثة المعروفة باسم ((السوسيولوجيا))، ومن ثمة، يرون أن ابن خلدون يستحق أكثر من غيره لقب المنشئ والمؤسس لعلم الاجتماع[26].وحسب ابن خلدون فإن، ((من أخلاق البشر فيهم الظلم والعدوان بعض على بعض، فمن امتدت عينه إلى متاع أخيه فقد امتدت يده إلى أخذه إلى أن يصده وازع[27]. ويقول في موضع آخر، ((إن الحرب والمقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله، وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض، ويتعصب لكل منها أهل عصبيته، فإذا تذمروا لذلك وتوافقت الطائفتان، أحدهما تطلب الانتقام والأخرى تدافع، كانت الحرب، وهو أمر طبيعي في البشر لا تخلو منه أمة أو جيل، وسبب هذا الانتقام في الأكثر إما غيرة ومنافسة وإما عدوان وإما غضب لله ولدينه، وإما غضب للملك وسعي في تمهيده)).
ومن المعلوم أن ابن خلدون انطلق في نظريته في العصبية من زاويتين أساسيتين، الأولى تتعلق بالطبع الاجتماعي للإنسان، والثانية بالطبع العدواني الذي يكمن في البشر، ومن وجهة نظر خلدونية فالعنف مرتبط بالعصبية التي تعني ((الالتحام الذي يوجب صلة الرحم حتى تقع المناصرة))، ويعتبر الاستعداد الفطري الذي يدفع الفرد إلى نصرة قريبه بالدم والدفاع عنه هو أساس العصبية.
ويعتبر العنف من وجهة نظر خلدونية ظاهرة مستحكمة في المجتمعات البشرية، تتميز بالتطور والاستمرارية رغم التحولات الحضرية العميقة التي شهدتها الإنسانية، ذلك أن المجتمعات البشرية ترفض الاحتكام والعودة إلى المنطق العقلاني الرشيد، وتلجأ إلى استعمال العنف من أجل الحصول على مكتسباتها وتحصين موقعها وحل خلافاتها. ويعزي ذلك ابن خلدون، إلى حنين الشعوب والأمم إلى طبيعتها البدائية، إذ أن الإنسان البدائي غالبا ما كان يلجأ إلى استعمال القوة والعنف لذرء الأخطار المحيطة به، كما ميز ابن خلدون حسب طبيعة العنف (مطلق/إضافي) بين الرئاسة والملكية، فالرئاسة في نظره تنتج طاعة حرة مصدرها الاختيار واحترام صاحب الأمر، في حين الملكية طاعة مضطرة مصدرها الاضطرار والخوف من صاحب الأمر[28].
ومن العلماء والمفكرين المسلمين الذين عالجوا ظاهرة العنف كذلك، نجد الفارابي الذي تناول الغلبة والقهر كظاهرة في كتابه “آراء أهل المدينة الفاضلة” واعتبرهما من خاصيات المدينة الضالة، أي “مدينة التغلب” التي يلجأ أهلها إلى قهر غيرهم والإحساس بلذة الانتصار والغلبة. ورغم ربط الكثير من المؤرخين والمهتمين الغلبة والتسلط والقهر بالجانب السياسي، فإن الفارابي ينفي ضرورة ارتباط العنف بالسياسة، ففي مدينته الفاضلة يسود العقل الرشيد والقيم المثلى، وتتميز فيها السياسة بالحكمة والعدل والقوامة، وكلها قيم كونية تصب في مصلحة الفرد والجماعة، وبديهي جدا أن تتوفر في رئيس المدينة صفات تخدم هذه القيم الكونية، فيجب أن “يكون بالطبع محبا للعدل وأهله ومبغضا للجور والظلم وأهله، يعطي النصف من أهله ومن غيره ويحث عليه، ويوثر من حل به الجور مؤاتيا لكل من يراه حسنا وجميلا، ثم أن يكون عدى غير صعب القياد، ولا جموحا ولا لجوجا إذا دعي إلى العدل، بل صعب القياد إذا دعي إلى الجور وإلى القبيح”[29].
2- العنف ونظريات العقد الاجتماعي:
لم يشغل العنف كظاهرة اجتماعية بال وفكر العلماء والمفكرين المسلمين فقط، بل شكل محط اهتمام العديد من المفكرين والفلاسفة الغربيين الذين تعرضوا للعنف بالدراسة والتحليل، ووضعوا لذلك العديد من النظريات العلمية التي تطرقت لإشكالية العنف من زوايا متعددة فلسفية وسياسية واجتماعية ونفسية. ومن أبرز هذه النظريات نظرية “العقد الاجتماعي”، التي أفرزت العديد من المفكرين الأوربيين في هذا الإطار، وسنقتصر في هذه الورقة البحثية، على إدراج بعض النماذج البارزة من المفكرين الغربيين الذين أبدعوا في نظريات العقد الاجتماعي والتي أصبحت تشكل الفكرة المركزية للفلسفة الحديثة.
1-مفهوم العقد الاجتماعي:
يجوز القول، إن العقد الاجتماعي عبارة عن اتفاق وهمي يتم بين طرفين يحدد العلاقة بين مكونات المجتمع المختلفة وبين السلطة الحاكمة التي تسهر على تنظيم أسس هذه العلاقة، عبر سن مجموعة من الأنظمة والقوانين التي توضع من طرف حكماء المجتمع، وتعتبر جوهر العقد الاجتماعي تفترض الاحترام المتبادل، والغاية منها هي بناء مجتمع قوي ومتماسك على أسس عقلانية، تسهم في قيام وتطور الحضارات الإنسانية.
تعتبر نظريات العقد الاجتماعي في نظر العديد من المهتمين، الفكرة المحورية للفلسفة الحديثة من الناحية التاريخية والسوسيولوجية، باعتبارها ثورة فكرية ترتبط بتطور المجتمع والسلطة السياسية[30]، وقد استمدت نظريات العقد الاجتماعي هذه المكانة والأهمية من مفهوم الحق الطبيعي، حيث “يجب إقامة الدولة على الميل الطبيعي نحو العيش المأمون والمأمول عن طريق البحث عن قواعد تقوم على العقل”[31]، مما شكل تحولا مركزيا في فكرة الشرعية، شرعية السلطة السياسية التي تستمدها من التعاقد بين الناس الذي يسهر على تنظيم الحريات والحقوق.
فمسألة تنظيم الحياة العامة من حريات وحقوق، ارتبطت بمرور الحياة البشرية من حالة طبيعية فطرية مثلت حياة الإنسان البدائية، التي تميزت بنوع من الصراع والتصادم والفوضى بين الأفراد، وبالتالي وجب تقويم هذه الوضعية اللا-اجتماعية عن طريق خلق مؤسسة سياسية مهمتها إنهاء حالة الصراع والفوضى، عبر اتفاق وتفاهم يتم بموجبه تنازل الأفراد عن حقوقهم الطبيعية، لصالح السلطة السياسية التي تقوم بإعادة توزيع الحقوق والواجبات على الأفراد وتحقيق العدالة الاجتماعية.
2- نماذج من نظريات العقد الاجتماعي:
أفرزت التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها أوربا منذ ق 15 و 16م مجموعة من الأسماء البارزة في التاريخ الأوروبي التي أبدعت نظريات العقد الاجتماعي، ومن بين هذه الأسماء “طوماس هوبز”[32] و “جون لوك” و”جون جاك روسو” و”مونتسكيو” و”كارل ماركس” و”ماكس فيبر” وغيرهم، وسنقتصر في هذه الورقة البحثية على دراسة بعض النماذج من نظريات العقد الاجتماعي، وبداية مع “طوماس هوبز”، الذي أبدع نظرية تعتبر من أهم الأعمال التي أنتجها الفكر الانجليزي في الفلسفة السياسية.
لقد سبقت الإشارة إلى أن العقد الاجتماعي عبارة عن تعاقد وهمي نشأ بين الأفراد، وحسب هذا الاتفاق يتم التنازل بشكل طوعي من طرف الأفراد عن جميع حقوقهم، لصالح فرد واحد له كامل الحرية والتصرف في استخدام القوة والقهر من أجل تحقيق الأمن والاستقرار في المجتمع، وحسب “هوبز” فإن الفرد الذي يملك سلطة القهر والقوة”اللفيتان”، هو القائد الأعلى الذي يجمع بين يديه جميع السلطات ويدين له الكل بالطاعة المطلقة، وبهذا المعنى يصبح “هوبز” من بين مناصري الحكم المطلق غير المشروط، وأن أي إخلال لهذه السلطة المطلقة يعتبر خرقا لروح العقد الاجتماعي ويتعارض وقوانين الدولة، وبالتالي وجب اللجوء إلى استعمال القوة والعنف بهدف الحفاظ على السلم الاجتماعي وإنهاء حالة الفوضى والصراع التي تميز الحالة اللا-اجتماعية.
يعكس طوماس هوبز بتصوره هذا، التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها أوربا بشكل عام وانجلترا بشكل خاص، والمتمثلة في ظهور الصناعة والتجارة كقطاعات اقتصادية بديلة للفلاحة التي كانت سائدة في ظل سيادة النظام الإقطاعي وسيطرة الكنيسة، وظهور الطبقة البرجوازية كفئة اجتماعية جديدة ستقود التحولات فيما بعد بأوروبا، وبالتالي لابد من كيان سياسي وهو الدولة لدعم هذه التحولات وحمايتها، وهو ما ركزت عليه الميركانتيلية التجارية كتيار فكري واقتصادي واجتماعي جديد. يقول “هوبز”:«إن العقول بدون قوة السيف ليست سوى كلمات لا قدرة لها أبدا على المحافظة على حياة الإنسان، وإن الكلمات أضعف من أن تستطيع ردع طموح الأفراد أو غضبهم أو انفعالاتهم»[33]، فالواقع الاجتماعي في نظر “هوبز” يتميز بتناقضات عديدة تطغى عليه الفوضى والصراع، يعكس إشكالية فلسفية أساسية تتعلق بالطبيعة البشرية التي تتميز بالأنانية، وبالتالي لابد من قانون اجتماعي جديد يمتلك سلطة القوة والقهر يمارسه النظام الاجتماعي الجديد الذي يكتسب شرعيته من العقد الاجتماعي.
وإذا كان “طوماس هوبز”قد بنى نظريته على الطبيعة البشرية الأنانية التي تمثل الحالة اللا-جتماعية، فإن رؤية “جون لوك” تختلف تمام الاختلاف عن رؤية “هوبز”، حيث يرى أن البشرية تعيش على الفطرة الأولية التي تستمد قواعدها من القانون الطبيعي المبني على الحرية والمساواة، لكن هذه الحرية غير مطلقة لأنها مرتبطة بحرية الآخرين، وبالتالي وجب حسب “لوك” وجود سلطة عليا مهمتها تحقيق العدالة ونشر المساواة وتجاوز الحالة الاجتماعية وقانون الغاب، ومن أجل ذلك تم الاتفاق بين الأفراد على عقد اجتماعي يتم بموجبه تنازل الجماعة على بعض حقوقها لصالح فرد واحد يمثل الجميع[34].
ويعتبر “جون لوك” أن السيطرة على الملكية من أجل الاستغلال هي سبب الصراع بين الأفراد، إذ يؤدي امتلاك جزء من الطبيعة من طرف الفرد إلى التعدي على حقوق الغير أو الحق العام، ومن تم بدأ الاستغلال والصراع ضد الاستغلال، ومن أجل تنظيم الملكية وتوزيع الحقوق والواجبات، وجب وجود سلطة عليا تسهر على تحقيق ذلك، لكن “لوك” يشترط على هذه السلطة الالتزام بشروط العقد، وإلا وجب الخروج عنها وإسقاطها، وقد اعتبر “جون لوك” الملكية حقا من حقوق الأفراد الطبيعية للمحافظة على النفس، لكنه لا يمكن الحصول على حق التملك إلا عن طريق العمل وليس على الحيازة، وبالتالي تعتبر نظريته أساس النظرية الرأسمالية[35].
ومن الأسماء التي أبدعت نظرية مخالفة “لطوماس هوبز” و”جان لوك” حول الطبيعة البشرية “جان جاك روسو”، الذي أكد على أن الانسان خير بطبعه، وأن الحالة الفطرية للإنسان تتميز بالمساواة والسعادة، ومع تطور الحياة البشرية من تحولات اقتصادية واجتماعية، انتقلت الحياة الاجتماعية الطبيعية إلى حياة اجتماعية مدنية، وتحولت البشرية من حالة الفطرة والمساواة والسعادة، إلى حالة من الفوضى والصراع. وفي ظل هذه الوضعية اضطر الأفراد إلى وضع عقد اجتماعي يشكل بناء أساسيا للمجتمع المدني، يتنازل بموجبه الأفراد عن حقوقهم ووضعها تحت تصرف سلطة عليا، بحيث يصير كل فرد جزءا لا يتجزأ من الكل، أو من الإرادة العامة التي لا تعني حسب “روسو” إرادات الأفراد وإنما هي “روح عامة” أو “عقل جمعي” يعبر عن المصلحة العامة التي تعتبر مصدر القانون والسلطة[36].
ومن أبرز إنجازات “روسو” في هذا المضمار كتابه العقد الاجتماعي، الذي أكد فيه على الحرية الطبيعية للفرد التي يتنازل عليها لصالح الجماعة بموجب “العقد الاجتماعي”، وبالتالي تصبح السيادة والسلطة لكل الأفراد. هذا التنازل عن الحقوق والحرية الطبيعية، جاء حسب “روسو” انطلاقا من كون الإنسان ليس عاقلا، فقد انعطف الإنسان عن حياته الطبيعية التي تتميز بالسعادة وخالية من الشر والشقاء، التي تعتبر حسب “روسو” من صنع الإنسان حيث يقول: «كل ما هو طبيعي حسن وخير، وكل ما هو من صنع الإنسان فاسد وقبيح»[37]. ومما أورده “روسو” في كتابه السابق الذكر قوله: «إن أول إنسان وضع يده على أرض معينة وقال هذا ملك لي، ووجد من حوله قوما بسطاء يصدقون ادعاءه، كان هذا أول فرد أنشأ المجتمع المدني. وهو بذلك أول من خلق الجرائم والحروب والقتل والبؤس بين أفراد الجنس البشري»[38]، فأصبح لزاما على الأفراد التفكير في إنشاء قوانين ونظم للتخفيف من المظالم والأضرار التي أفرزتها حيازة الملكية.
يعتبر “كارل مارس” من المنظرين البارزين للعنف في التاريخ، فالعنف كظاهرة اجتماعية في نظر “ماركس” يعتبر المحرك الأساسي للتاريخ، وقد استقى نظريته هاته من خلال التجارب التي شهدها تاريخ أوربا خلال القرنين 17م و 18م، والتي ساهمت في القضاء على النظام الاقطاعي وصعود الطبقة البرجوازية. كما أكد على أن التحول والانتقال من النظام الرأسمالي إلى النظام الاشتراكي هو بمثابة انتقال جديد يستأصل علاقات الإنتاج التي تؤدي إلى التناحر والتطاحن بين فئات المجتمع، ولا يتم الانتقال حسب “ماركس” إلا بالثورة العنيفة: «إن ولادة أي مجتمع جديد لابد وأن يسبقها العنف»، فالعنف في نظر “ماركس” يعتبر ضرورة مجتمعية في تحول المجتمعات، وتعتبر الدولة أداة من أدوات العنف تكون تحت تصرف الطبقة الحاكمة.
فتاريخ المجتمعات بالنسبة “لماركس” هو تاريخ صراع طبقي بين طبقة مالكة لوسائل الإنتاج والطبقة العمالية، وهذا الصراع يخترق التاريخ من المجتمع البدائي إلى المجتمع الرأسمالي، ويمكن أن يؤدي إلى تحطيم المجتمع ككل. فالمجتمع البرجوازي الحديث حسب “ماركس”، وإن قام على أنقاض المجتمع الاقطاعي، فهو بدوره لم يتمكن من القضاء على التفاوت الطبقي لأنه خلق ظروفا جديدة للاستغلال والاضطهاد، وبالتالي عدم القضاء على ظواهر الصراع والعنف، وإن ساهم في تبسيطها والتخفيف من حدتها بين الفئات الاجتماعية الجديدة.
وعلى هذا الأساس يعتبر العنف نتاج تاريخي نشأ بسبب تعارض المصالح بعد ظهور الملكية الفردية، تفسير ذلك- حسب “ماركس”- أن المجتمعات البدائية التي كانت تعتمد على نظام المقايضة وتبادل السلع، غابت فيها كل أوجه الصراع والعنف التي لم تطف إلى الوجود إلا بعد تقسيم العمل بين الفئات وحصول التفاوت في امتلاك الثروة، ومن تمة نشأت مراكز للقوة قائمة على استعباد الناس واستغلالهم.
ومع استمرار التطور الاقتصادي وتطور الرأسمالية، وسيطرة الطبقة البرجوازية على السلطة واستبدادها بالحكم، وللحفاظ على مصالحها تلجأ السلطة الحاكمة إلى أسلوب العنف فتواجه بعنف مضاد من طرف الطبقة المقهورة والمضطهدة، وبالتالي يصبح العنف محركا للتاريخ، و«أن كل مجتمع قديم يحمل في أحشائه مجتمعا جديدا»[39].
ونختم هذه الفقرة حول نماذج من نظريات العقد الاجتماعي، بنظرية عالم الاجتماع والاقتصاد المعروف “ماكس فييبر” (1864-1920)، الذي ركز في تحليله على العلاقة بين السياسة والدولة، والدولة والسلطة وانعكاساتها على الرأسمالية والدين، فمفهوم الدولة حسب “فيبر” لا يتم إلا عبر “العنف الفيزيقي” الذي يحتاج إلى “الشرعنة” من طرف السلطة التي تعتبر الجهة الوحيدة التي تحتكره، وبهذا المعنى تصبح الدولة المؤسسة الوحيدة التي تمتلك حق استخدام العنف[40]، نظرا للعلاقة الوجودية بين السلطة والدولة، وأن أساس النظام السياسي هو استعمال القوة. كما يعرف “فيبر” السلطة بأنها فعل عنف يهدف إلى إجبار العدو على فعل ما يريد، وبهذا المنظور لابد لفعل العنف من قيادة، وبذلك تصبح قيادة السلطة هي القوة المؤهلة التي تحمل صفة رسمية مؤسساتية[41].
وتعتبر الدولة في نظر “فيبر” المؤسسة الوحيدة التي تمتلك حق ممارسة العنف المادي الملموس واحتكاره، وقد برر ذلك بكون الدولة هي الجهاز السياسي القادر على تقنين وشرعنة العنف المادي الملموس، انطلاقا من المحافظة على النظام الداخلي من جهة، والدفاع عن المجتمع ضد الأخطار الخارجية من جهة ثانية.
فممارسة العنف من طرف الدولة الحديثة واحتكاره لها، بحيث لا يمكن لأي أحد أن يمارسه إلا بتفويض منها، وإلا سادت الفوضى و الاضطراب و ضياع حقوق الناس، وبالتالي تصبح هذه الممارسة للعنف هي جوهر وجودها، كما أكد “فيبر” أن الدولة الحديثة تزامنت مع تمركز الرأسمال، كما أضاف إلى ذلك تمركزا لأدوات العنف في أيدي جماعة معينة[42].
ثالثا: نماذج من تاريخ المغرب الوسيط والحديث:
لماذا تلجأ الدولة إلى العنف؟ ما الأحكام التي كانت تصدرها السلطة السياسية؟ ومن كان يحرك مسطرة المتابعة؟ وما الجرائم والجنح التي كان يعاقب عليها القانون؟ ما حكم القاتل وما الفرق بين “القصاص” و “الدية” و “التشهير”؟ وكيف كانت تنفذ عقوبة الإعدام ومن كان مكلفا بذلك؟ وهل كانت هناك استثناءات في تنفيذ العقوبات؟ أسئلة عديدة تجد مشروعيتها في العديد من الإجابات من خلال صور العنف والعقوبات التي نفذت ضد المخالفين في تاريخ المغرب.
في غالب الأحيان تلجأ الدولة ممثلة في السلطة السياسية الحاكمة إلى أسلوب العنف من أجل فرض سياستها أو مبادئها، أو من أجل إحداث تغيير جدري داخل الدولة، وقد تمس أساليب العنف مصير الأفراد والجماعات والعلاقات الاجتماعية، بل قد تلجأ السلطات السياسية إلى الأعمال الإرهابية من تصفيات جسدية أو اغتيالات سياسية أو اختطاف أو قتل جماعي…..وتمارس الدولة هذا العنف عبر سن مراسيم وقوانين لإضفاء طابع الشرعية لتصرفاتها ومنح الصلاحية لمجموعة من الأجهزة الأمنية لفرض عقوبات قاسية للانتقام من الخصوم[43].
وفي تاريخ الدولة المغربية، ارتبطت ممارسة العنف بشتى صوره من طرف السلطة السياسية بشكل كبير بسقوط الدول وصعود أخرى للحكم، وكان هذا العنف يوجه غالبا للرافضين والممانعين للسلطة الجديدة، إذ تكثر الانقلابات والثورات والتمردات، فيكون رد فعل السلطة السياسية الجديدة عنيفا، حيث يرافق كل مظاهر الرفض أشكالا عديدة من العنف كالاغتيالات والتصفيات الجسدية والسجن وسفك الدماء، وفي أحسن الأحوال الاغتراب[44].
ويعتبر الاختلاف المذهبي من بين أبرز الأسباب التي كانت وراء أشكال عديدة من صور العنف في تاريخ المغرب، فأهل المغرب أهل سنة ومن أبرز مبادئهم، منع الخروج عن السلطة الحاكمة ولو كانت جائرة خوفا من الفتنة والعمل بقبول أخف الضررين، بمعنى أن السلطة الحاكمة مهما جارت فهو أهون من الفتنة، وأن وجود السلطة وإن اعتدت فهو أفضل من لا سلطة[45]. كما يستشف من خلال الثورات التي شهدتها بلاد المغرب، ما اتصف به البربر من ميلهم الشديد للقتال وسفك الدماء، والميل لحياة الفوضى والسلب والنهب والقتل والتنكيل بمخالفيهم[46].
أولا: الدولة الموحدية:
تعتبر الدولة الموحدية ثاني دولة أمازيغية شهدها تاريخ المغرب خلال العصر الوسيط، تقلدت الحكم بعد انفراط عهد الدولة المرابطية الأمازيغية، ونظرا للاختلاف المذهبي بين الدولتين فقد تعددت أشكال ممارسة العنف من طرف الدولة الموحدية الجديدة، منذ صعودها إلى الحكم سنة 514ه/1121م وإلى حدود فترة حكم آخر خلفاءها سنة 564ه/1269م، ويرجع السبب في ذلك إلى كثرة الثورات وحركات التمرد التي بصمت تاريخ هذه الإمبراطورية الأمازيغية، ومن أبرز صور العنف الذي مارسته السلطة السياسية في عهد الدولة الموحدية ضد معارضيها، ما لحق شيوخ الصوفية ومريديها الذين شكلوا معارضة قوية للسلطة الموحدية، لذلك كان أكثر ما يبغضونهم ويخافون منهم على ملكهم هم الصوفية، والدليل على ذلك ما لحق العالم الشهير “ابن عربي” الذي شكل أحد أبرز المعارضين للسلطة الموحدية، رافضاً آراءها وعقيدتها الاعتزالية، ومن أجل ذلك حمل إلى عدوة المغرب حيث مدينة فاس للضغط عليه، وانتزاع الموافقة والبيعة منه، خاصة وأنه من كبار علماء الأندلس، وفي مدينة فاس وافته المنية في 6 ربيع الأول سنة 543هـ ودفن بها[47].
وتشهد المصنفات التاريخية على مدى اتصاف “المهدي ابن تومرت” بسفك الدماء وعدم التورع في ذلك، فقد كان سفاكا للدماء غير متورع فيها، ولا متوقف منها، يهون عليه سفك دم عالم من الناس في هوا نفسه وبلوغ غرضه[48]. ويصف العديد ممن تعرض من المؤرخين لحياة المهدي بن تومرت بالمتسرع في الدماء، وضع القتل شرعا معمولا به على سنة الله ورسوله، ومما تجب الإشارة إليه في هذا الإطار هو ما ذكره “عبد الواحد لمراكشي” حول الحرب بين المرابطين والموحدين سنة 517ه، حينما خطب ابن تومرت في أهل تينمل ومن انضاف إليهم من أهل سوس بقوله «اقصدوا هؤلاء المارقين المبدلين الذين تسموا بالمرابطين، فادعوهم إلى إماتة المنكر، وإحياء المعروف، وإزالة البدع، والإقرار بالمهدي المعصوم، فإن أجابوكم فهم إخوانكم لكم ما لهم وعليهم ما عليكم، وإن لم يفعلوا فقاتلوهم فقد أباحت لكم السنة قتالهم[49].
لقد كان مما بنى عليه ابن تومرت فكره السياسي، فكرة المهدي المعصوم، لذلك كان لا يتوانى في قتل كل من ّأنكر أو شكك في عصمته من أشياخ الموحدين وغيرهم، ومن بين من تعرض للاغتيال والتصفية الجسدية بسبب إنكار العصمة “الفقيه الإفريقي” الذي اتهم بتشكيكه في عصمة المهدي، حيث أنكر الفقيه على المهدي، فقام بقتل عائلته، ومن تهاونه في سفك الدماء أنه أخذ قوما من أتباعه ودفنهم أحياء، وجعل لكل واحد منهم متنفسا في قبره..، ثم عاد على أصحابه الذين دفنهم فأغلق المنافس التي كانت قد تركت فماتوا من ساعتهم غما[50].
أما القبائل التي شكلت أساس الدولة الموحدية، وهي القبائل المصمودية التي تميزت بالطاعة العمياء لمؤسس الدولة وزعيمها ابن تومرت، فقد بدأت طاعتهم تكثر وفتنتهم تشتد وتعظيمهم له يتأكد، إذ بلغوا في ذلك إلى حد لو أمر أحدهم بقتل أبيه أو أخيه أو ابنه لبادر إلى ذلك من غير إبطاء، وأعانهم على ذلك وهونه عليهم ما في طباعهم من خفة سفك الدماء عليهم، وهذا أمر جبلت عليه فطرهم واقتضاه ميل إقليمهم[51].
وبعد وفاة مؤسس الدولة الموحدية “المهدي بن تومرت”، أوصى بتولي الحكم بعده لتلميذه “عبد المومن بن علي الكومي”، وتذكر المصادر التاريخية أن فترة حكم هذا الأخير تميزت بتعدد مظاهر العنف تبعا لتعدد الأسباب، فمن أبرز مظاهر العنف الممارس خلال فترة حكم عبد المومن، والتي تؤكد بما يدع مجالا للشك أن عبد المومن ظل وفيا لعقيدة شيخه المهدي بن تومرت، والمتعلقة بتصفية أعدائه بطريقة أشد قسوة من ما وقع أثناء موقع البحيرة، والتي كان بطلها “ابن البشير” وأشرف عليها “البيذق”، أطلق عليها عملية “التمييز” أو التصفية الجسدية.
ومن صور العنف التي شهدتها فترة حكم عبد المومن ردة فعله العنيفة اتجاه حادثة مكناس، المتمثلة في قتل بعض سكان المدينة لفحامين من قبيلة توجد ضواحي مدينة فاس، حيث أمر شيوخ الموحدين بتصفية مرتكبي الجريمة، إضافة إلى تصفية بعض أبناء القبائل الذين ساندوا “المساطي” المتمرد على السلطة الموحدية، وهذا ليس غريبا إذ أشار المراكشي في كتابه “المعجب” إلى سهولة إراقة الدماء من طرف المصامدة ضد معارضيهم، كما يروي أنه شاهد أشياء من هذا القبيل يصعب تصديقها أثناء إقامته بسوس[52].
ومن صور العنف أيضا التي شهدته فترة عبد المومن حالة التغريب التي عاشها ا”لفقيه القرطبي محمد بن خيرة”، الذي فر إلى الاسكندرية ومن تم إلى شبه الجزيرة العربية، وبعدها رحل إلى الهند خوفا من بطش الموحدين[53]، وإذا كانت المصادر العربية قد أشارت إلى عملية التمييز التي شهدتها فترة المهدي بن تومرت، فإن فترة عبد المومن بدورها شهدت عملية “الاعتراف” التي تعبر عن مدى القمع الدموي الذي مورس من أجل العقيدة الموحدية، والتي تعتبر من وجهة نظر البيدق نعمة من الله مكنت الموحدين من استتباب الأمن والاستقرار، وانتصار الحق وتقوية الإيمان، والاختلاف في الرأي يختفي[54].وكان ممن تكفل بمهمة تنفيذ الأحكام في عملية الاعتراف شيوخ الموحدين خاصة بالقبائل، ذهب ضحيتها العديد من الأنفس وهمت جميع مناطق المغرب في الجنوب والشمال والغرب والشرق[55]، مما يدل على كثرة الاضطرابات والتمردات التي شهدتها فترة عبد المومن.
كما كان الحصار الذي ضربه عبد المومن حول مدينة تلمسان أكثر عنفا، حيث تذكر المصادر التاريخية، أنه دخل البلد ولم يشعر أهلها إلا والسيف يأخذهم فقتل الكثير وسبيت الذرية والحريم، ونهب من الأموال ما لا يحصى، ومن الجواهر ما لا تحد قيمته، ومن لم يقتل بيع أوكس الأثمان، وكان عدد القتلى مائة ألف قتيل (؟)[56]. كما فاجأ عبد المومن بن علي تاشفين بن علي بن يوسف الأمير اللمتوني بوهران، الذي فر هاربا من بطش الموحدين نحو البحر حتى هلك، ويقال إنهم أخرجوه من البحر وصلبوه ثم أحرقوه، فالله أعلم بصحة ذلك[57].
وجملة القول، لقد استمرت سياسة العنف من طرف السلطة السياسية الموحدية مع المتأخرين من سلاطين الدولة، حيث تعددت أصناف العنف الممارسة من طرف السلطة السياسية ضد كل معارض لسياسة سلاطين الدولة الموحدية، وكان من أبرز ما واجهه الموحدون، خاصة في عهد “أبي يعقوب المنصور” هو خطر “بني غانية”، الذين كانت لهم معهم حروبا عديدة قتل فيها الكثير من الأنفس، ومن صور العنف أيضا في عهد أبي يعقوب المنصور الموحدي، ضرب عنق “الأشل “وحمل رأسه وتعليقه على باب بجاية مع ذراعيه[58].
كما تميزت فترة أواخر الدولة الموحدية بكثرة صنوف العنف، خاصة في ظل الوضعية المضطربة التي شهدتها الإمبراطورية من خراب وعنف وغلاء للأسعار وغياب للأمن، فالمصادر التاريخية تتحدث عن وضعية قاتمة، خاصة في عهد إدريس المامون الذي كان سفاكا للدماء، لا يتوقف فيها طرفة عين، ولي الخلافة والبلاد تضطرم نارا وقد توالى عليها الخراب والعنف والغلاء في البلاد الشديد والخوف في الطرقات[59]،كما يظهر من خلال الخطاب الذي وجهه إدريس بن المامون إلى شيوخ الموحدين، يدل دلالة قاطعة على مدى صور ومظاهر العنف الذي مارسته الإمبراطورية الموحدية ضد كل من خالفها الرأي، إلى درجة ذهاب العديد من أفراد الأسرة الموحدية ضحية للسياسة الاستبدادية لحكام الدولة الموحدية[60].
ثانيا: الدولة السعدية.
تعتبر الدولة السعدية من أبرز الدول التي حكمت المغرب خلال الفترة الحديثة، حيث تمثل نقطة تحول جذري في تاريخ المغرب السياسي، تكمن بصماته في صعود الدول ذات السلالة الشريفة وفي توظيف البركة النبوية الموروثة عائليا، كعنصر مركزي في خطاب حيازة المشروعية[61]. فإذا كانت جل الدول الأمازيغية التي حكمت المغرب اعتمدت على العصبية القبلية للسيطرة والتحكم في السلطة، فإن الأسر التي حكمت المغرب ما بعد الدول الأمازيغية اعتمدت على النسب الشريف والانتماء إلى آل البيت.
لقد سبقت الإشارة إلى أن أسلوب العنف بالمغرب قد ارتبط بشكل كبير باختفاء دول وظهور أخرى، وأن السلطة السياسية غالبا ما كانت تلجأ إلى استعمال العنف ضد معارضيها من أجل توطيد سلطتها، لذلك فإن السلطة السياسة بالمغرب الحديث أبانت عن قدرة كبيرة في إنتاج قانون عقابي جديد لكنه قائم على التطبيق الحرفي للتعاليم الإسلامية.
ومن المعلوم أن القانون الإسلامي لم ينتج إطلاقا خطابا متطورا حول العقوبة، باستثناء تطبيق القصاص والدية، التي تطبق عندما يتعلق الأمر بالجرائم المتعلقة بالأفراد فقط، أما عندما يتعلق الأمر بأخطاء في حق الله والأخطاء المتعلقة بالله والإنسان، فإن العقوبات المحددة مقررة سلفا وهي الحدود[62]، وهكذا فالجرائم المتعلقة بالأفراد، ومن أجل تعويض الطرف المتضرر من جرائم الدم المرتكبة ضده والحصول على حقه هناك وسيلتين اثنتين، إما تطبيق القصاص(شريعة المثل) أو الحصول على الدية(ثمن الدم)، وبالرجوع إلى كتب النوازل نجد العديد من الحالات التي تزخر بها هذه المصنفات، نظرا لتدخل العديد من العناصر التي تزيد من تعقيد الوضعية، كإثبات عنصر العمد في عملية القتل وإفادات الشهود وتحليل ظروف الجريمة. كما تحتل جريمة القتل في الإسلام مكانة جوهرية، إذ تعتبر قضية جماعية تعبر عن وجود شبكة معقدة من أصناف التضامن، كما تكشف عن المسؤولية الجماعية عن الجرم[63].
بالعودة إلى المصنفات التاريخية المعاصرة للفترة الحديثة[64]، نجدها تعج بالعديد من نماذج حالات العقوبات التي كانت مصدرها السلطة السياسية الحاكمة وكيفية تنفيذها، وهكذا يورد صاحب كتاب “وصف إفريقيا” الطرق التي كانت تنفذ بها العقوبات في المغرب مع بداية ق 16م وهي شريعة المثل أو النفي، فإذا تمكن آل الضحية من تصفية القاتل تعتبر المسألة قد سويت وطويت، أما إذا أخذت القضية مجرى آخر فإن العقوبة هي النفي لمدة سبع سنوات مع دفع مبلغ مالي لآل الضحية، أو تنظيم مأدبة كبرى يحضرها وجهاء وأعيان المدينة، وعقوبة النفي التي تمثل حسب الباحث الإسباني نوعا من “الموت المدني” الرمزي الذي يحل محل الموت الجسدي ومأدبة الصلح، يجسدان الطابع الجماعي لجريمة القتل وحلها[65].
وحول التقاليد العقابية يورد صاحب كتاب “وصف إفريقيا”، أن تنفيذ العقوبات كان يخضع لنظام معين يسود جميع مدن البربر خاصة بمدينة فاس، حيث كان يتواجد بالمدينة سجنين اثنين مخصصان لأصحاب القضايا المختلفة سواء كانت قضايا غير ذي أهمية كبرى أو قضايا تهم جرائم القتل، وكما جرت عليه العادة، غالبا ما كان من يقترف جريمة يسلم لأهل الضحية لتنفيذ شريعة المثل أي القتل، أو العفو عنه مقابل مبلغ مالي أي الدية، وفي حالة عدم وجود المتهم تتدخل السلطة السياسية الحاكمة في شخص السلطان.
وكان تنفيذ العقوبة يخضع لتقاليد عقابية معينة، حيث كتب “مارمول” عن هذه الحالات بقوله: “إذا أرادوا إعدام رجل ولم يكن من ذوي الهيآت ساقوه عبر الأزقة وهو مكتوف اليدين إلى مكان الإعدام، وهو مكان مطروق دائما بكثرة في المدينة. ويذكر هو بنفسه بأعلى صوته السبب الذي من أجله حكم بالإعدام قائلا: هذا ما يستحق من ارتكب مثل هذه الجريمة، ثم يعلق من رجليه في مشنقة ويذبح ويترك هناك يوما أو يومين”[66]. أما إذا كان مقترف الجريمة من ذوي الهيآت فإن طقس الإعدام يتغير، “لكن إذا كان من ذوي البيوتات يذبح في السجن، ويساق في الأزقة محمولا معكوسا على دابة، وهم يصيحون بنفس الشيء”[67]، كما يشير صاحب المؤلف إلى تقنيات أخرى كانت تصاحب عملية الإعدام، “وإن كان ذلك (حكم الإعدام) لجريمة خيانة ذبح من الخلف، أي من القفا، وأحيانا يشق بطنه شقا معكوسا ويترك هكذا إلى أن يموت”، ويستمر صاحب الكتاب في الحديث عن هذه التقنية بقوله: “ومنهم من يخنقون في السجن أو يشنقون علنا، ويقولون إنها عادة أدخلها القوط إلى إفريقيا حتى لا يعذبوا كثيرا في الموت”[68].
أما في حالة مراكش فتقنية العقاب تختلف عن حالة مدينة فاس، حيث “توجد بالقرب من المنطقة القديمة الساحة الكبرى التي في وسطها كومة من التراب أعلى من الدكاكين والدور المحيطة بها، وفيها يقع إعدام الأشرار، وتشاهد بها دائما مشنقات يعلق فيها بعضهم من أرجلهم ثم يذبحون، ويعلق آخرون هكذا دون أن يذبحوا حتى يموتوا على هذه الحالة، ويعلق بعضهم من الذراع والبطن مفتوح حتى يموتوا بهذه الكيفية، لكنهم لا يربطون أحدا أبدا إلى مشنقة وذراعاه مبسوطتان هكذا يعامل المجرمون عند انعدام الخصم، ولكن إذا كان هناك خصم فإليه ترجع العدالة فيخنق المجرمين ويذبحهم، أو يطعنهم بالرماح أو الخناجر، أو يبيعهم كعبيد، أو يساعدهم على فداء أنفسهم بالمال”[69].
تعتبر حالتي فاس ومراكش مثالين بارزين على تعاقب مراحل العقوبة، من المرحلة الأولى المتعلقة بالقصاص والدية، وتدخل السلطة السياسية في حالة غياب المتهم، ثم مرحلة الطواف العلني أي التشهير، وأخيرا مرحلة الإعدام في الأماكن العامة بالمدينة المطروقة بكثرة من طرف الناس، كما تخضع مراحل العقوبة لترتيب مغاير حسب الوضع الاجتماعي لمقترف الجريمة. وهكذا فإن الوضع الاجتماعي للجاني يقلص من عقوبته، فإذا كان من أهل البيوتات فإنه يعفى من فضيحة الطواف العلني ف “تأديب ذا الهيبة من أهل الصيانة أخف من تأديب أهل البذاء والسفاهة لقول النبي صلعم: أقيلوا ذوي الهيآت عثراتهم”، كما “لا يقيل(صاحب المدينة) على أحد عثرة في معصية إلا لذوي الهيآت، فإنهم يقالون للحديث: أقيلوا ذوي الهيآت، والتوبيخ لهم أنكل من الأدب”[70]، الأمر الذي يبرز نوعا من التراتبية الاجتماعية بين الأشخاص المعاقبين.
أما الجرائم التي لا تصل لمستوى تطبيق عقوبة الإعدام كالسرقات والديون وباقي الجنح، فإن العقوبة تتمثل في تعرض الجاني لعدد محدد من الجلدات أمام القاضي مع طواف الجاني عاري الجسم في أزقة فاس وإجباره على إعلان سبب إدانته بصوت مرتفع، أضف إلى ذلك ما كان يحصل عليه العامل من إرادات مالية كبيرة من طرف الجناة، حيث “يستفيد العامل أموالا طائلة من الغرامات التي تفرد في كل وقت، وربما كانت أشد عقوبة تطبق على المجرم هي جلده بمحضر العامل مائة جلدة أو مائتين أو أكثر، وبعد الجلد يقوم الجلاد بوضع سلسلة من الحديد في عنق المحكوم عليه ثم يطوف به في المدينة كلها عاريا تماما إلا من سروال قصير يستر عورته…..ويأخذ العامل مثقالا وربع مثقال عن كل محكوم عليه، بالإضافة إلى بعض المغارم عن كل سجين يؤديها له بصفة خاصة طائفة من التجار والصناع المعينين لهذا الغرض”[71].
إلى جانب ذلك، كان رؤساء الشرطة بفاس يحصلون على مداخيل إضافية مهمة إلى جانب المغارم المحصلة من الدوريات الليلية، من خلال الإشراف على الفضاءات المخصصة لاستهلاك الكحول والدعارة وممارسات غير شريفة أخرى، “وفي فاس أربعة رؤساء للشرطة لا أكثر، يقومون بدوريات…ولا يتقاضون هم أيضا أي أجر غير حصيلة المغارم المفروضة…لكن هؤلاء الرؤساء للشرط، يستطيعون أن يتخذوا حانات ويماسون مهنة (البغاء) والتدييث”[72].
من خلال النصوص الاستشهادية السالفة الذكر، تتضح العلاقة الوطيدة بين الأنشطة القانونية وغير القانونية، بين النظام والفوضى، والتي تقدم نفسها كمسألة ضرورية، بمعنى أن السلطة السياسية تعبر عن نفسها كسلطة ممارسة وكنظام وكمصلحة، من خلال توظيف اللغة العقابية والجنائية، كلغة دامغة غير قابلة للاستئناف، منفلتة من الشك، تتحدث بصوت مرتفع وتؤدي وظيفة تعليمية[73]، فالنماذج المستقاة من حالتي فاس ومراكش، تعبير عن السلطة الممارسة والنظام القائم، من خلال عرض جسد المحكوم عليه للتشهير العلني في الأزقة، وعرض الأجساد المصلوبة والممزقة في الأماكن المرتادة والأكثر منظورية من طرف الناس.
من جهة أخرى نجد أن القانون الشرعي، خاصة لذا المذهب المالكي، عند تطبيق العقوبات ضد الجرائم لا يلجأ إلى طرق التعذيب كبتر الأعضاء، كما هو الشأن بالنسبة للغرب، باستثناء قطع يد السارق التي تظل حالة فريدة، ومرد ذلك مرتبط بنفور الشرع الإسلامي من اللجوء إلى هذه الأشكال من أنواع العقوبات، ومع ذلك، فإن تاريخ المغرب الحديث سجل العديد من الحالات المتعلقة ببتر الأعضاء من طرف السلطة الحاكمة.
وبالعودة إلى نصوص الفترة الحديثة بالمغرب، خاصة ما نقله مؤلف تاريخ الدولة السعدية التكمدارتية المجهول المؤلف الذي يبدو من خلال أخباره، أنه كان من أشد المعارضين للدولة السعدية، وهكذا يروي كيف بتر محمد الشيخ السعدي أثناء حصاره الأول لمدينة فاس سنة 1549م جزءا من أذن الفاسيين الذين هموا بالهروب من المدينة للعودة إلى معسكرهم “فصار الشرفاء يقتلون من كان يأتي إليهم من المدينة، ثم قبل القتل كانوا يقطعون من أذن الرجل وإن أتاهم مرة أخرى قتلوه، إلى أن طال الحصار والعلماء يحرضون على الصبر والطاعة للمريني[74]. وبفعل ذلك، صار أثر جسدي يكشفهم في حالة العود، مما يترتب عنه إعدامهم، ورغم فظاعة الفعل وما يترتب عنه، فهو تعبير للسلطة عن نفسها بواسطة بصمات غير قابلة للانمحاء، بصمات تحول الجسد إلى ذاكرة لا يطالها المحو[75].
ومما يبرز الطابع المستبد للسلطة السياسية بعد صعود نجم السعديين، هو أسلوب العنف الذي نهجه سلاطين الدولة، خاصة في بدايتها، ضد علماء المعارضة، وهنا أيضا يخبرنا المؤلف المجهول عن حدث اغتيال “عبد الواحد الونشريسي” من طرف عصابة من اللصوص(السياب) المأجورة من طرف محمد الشيخ وبوساطة من طرف “القائد بوجمادة” ]العمري]، بعد قطع إحدى يديه من طرف السياب(قطع اليد عقوبة السارق) أثناء المواجهة، ويجسد هذا الحادث في الواقع حسب الباحث الإسباني، قلبا فعليا للنظام، قلب يعبر من خلاله الطابع غير المشروع والعنيف للحكم الجديد عن نفسه. كما تساءل الباحث أيضا، إلى أي حد يجسد تدخل السلطان في مجال بتر أعضاء الضحايا، في الواقع، محاولة للحلول محل الخالق بوصفه متحكما في المادة وفي الجسد والرفاة[76].
وقد استمرت السلطة السياسية السعدية في نهج سياسة القتل والقمع والإبعاد ضد العلماء المساندين للحكم المريني، وهنا يخبرنا أيضا المؤرخ المجهول، كيف تعرض “الإمام الزقاق” للقتل من طرف محمد الشيخ بقطع رأسه بعدما رفض بيعته في حضرته وعدم نكث بيعة السلطان المريني، وكذلك ما تعرض له الإمام “علي حرزوز” الذي كان قد خطب خطبة رفض فيها رفضا باتا بيعة السلطان السعدي بقوله «القوم الذين يلبسون الأرديا والأكسيا، ويركبون الأناجيا، ويبدؤون جوابهم بويلهم ميا، فسوف يلقون غيا، ولا أذكرهم في منبري ما دمت حيا»[77]. وبعد تصفية العلماء الثلاثة، الونشريسي والزقاق وعلي حرزوز، تصفية جسدية صفا وتمهد ملك الدولة السعدية، يقول المؤرخ المجهول على لسان محمد الشيخ:« الآن تمهد لنا الملك في المغرب بعد قتلنا الثلاثة الونشريسي والزقاق وحرزوز رحمهم الله ورضي عنهم كانوا يقطعون أمعاءنا في المنابر ويوقذوا]كذا] نار الفتنة ]عند الأكابر][78].
ومن أبرز مظاهر العنف التي سجلها تاريخ الدولة السعدية أثناء الدخول الثاني لفاس، هو ما تعرض له آخر السلاطين الوطاسيين “أبو حسون”، الذي كان قد استعاد مدينة فاس بمساعدة تركية، إذ تعرض للقتل وفصل الرأس عن الجذع ورمي جثته في مطرح للأزبال بباب السبع لمدة تزيد عن ثمانية أيام، وينتهي بها المطاف في مطمورة المرس، وهو ما يدفعنا للوقوف عند دلالات المكان وسبب اختياره ليكون مآل جثة أبي حسون، فقد أشار “محمد بن الحسن الوزان” (ليون الإفريقي) أثناء حديثه عن أرباض مدينة فاس إلى مطامير توجد بضاحية المرس العشوائية كانت مخصصة لخزن الحبوب وأهملت لظروف أمنية، كما شكل هذا الربض (المرس) فضاء للدعارة والانحراف والشعوذة والموسيقى السفلى(حسب تعبير ليون الافريقي) وملجأ للصوص والقتلة، كما شكل أيضا مكانا لاحتجاز المرضى المجذومين ومرضى الزهري قبل السماح لهم بالعودة إلى الاندماج مجددا في الحياة الاجتماعية. وبالتالي شكل هذا المرس ظرفا لجميع أقذار المدينة، فهي أمكنة لتفريغ الأزبال ومستشفيات للمجانين والمرضى، وهي جميعها أماكن توحي بيئتها بعالم النذالة[79]. يقول الحسن بن محمد الوزان «يقوم في خارج فاس من جهة الغرب ربض يضم نحو خمسمائة كانون، لكن دوره كلها قبيحة]….]كما يقطن فيه جميع المشعوذين والموسيقيين من الدرجة السفلى، وتكثر فيه البغايا، وكلهن قبيحات». ويستمر ليون الإفريقي في وصفه للربض قائلا: «وإذا أراد حاكم فاس أن ينفذ حكم الإعدام على أحد بطريقة سرية أمر بقذفه في هذه المطامير، وفي القصبة باب خاص بهذا الغرض يفضي إلى هذا المكان، وتقوم في هذا الربض قاعات اللعب…وهناك أيضا يمكن بيع الخمر واتخاذ حانة أو ماخور بحيث يمكن القول، إن هذا الربض هو ظرف لجميع أقذار المدينة[80].
لقد شكل الربض مركزا لمجموعة من الوظائف الشنيعة والمتعددة بالمدينة، كما شكل وجهة لاستقبال الميتات السرية، حيث كان مآل جثة آخر السلاطين الوطاسيين أبي حسون، وهنا نسجل اختيار المكان غير الاعتباطي من طرف السلطة الحاكمة لتمرير خطابها العقابي، إنها الفضاءات الغير قابلة للتسمية التي تعتبر ظرفا لجميع الأقذار والتي يمكن نعتها ب “فضاءات الذلة”، حيث توظف السلطة أحيانا السرية وعالم الصمت، أو بالأحرى عوالم الهمس والوشوشة التي تجسد رسائل مسموعة بما فيه الكفاية يمكن استشعارها وتخمينها، مما يجعلها قادرة على التسلل بمكر إلى وعي المجموعة الإنسانية[81]، وهو مخالف تماما للخطاب التقليدي في تنفيذ عقوبات الإعدام الذي يحتاج إلى نور النهار والأماكن العامة التي تمثل العالم المضيء والمرتب، عالم الشرعية.
إن الإعدامات العلنية، كما سجلها الباحث الإسباني في مقاله المشار إليه سابقا، تطور بالتتابع أو بالتناوب «حركتين للاستغفار تكميليتين لبعضهما البعض، هما حركة التدنيس-اللعنة وحركة التطهير»، ويتعلق الأمر بطقس يتراءى من خلاله الموت، يوظف لغة الذلة ونزع طابع الانتماء للإنسانية الموجبة للعبرة، سواء مورس هذا الطقس على الجسد الحي أو الميت، وهنا نسوق بعض الأمثلة الدالة على وضع الذلة التي كانت تلجأ إليه السلطة الحاكمة لتصفية معارضيها، أو لمعاقبة مقترفي الجرائم الموجبة للإعدام.
بعد انفراط عهد الدولة السعدية الشريفة مع مطلع القرن 17م، سيطر على الحكم أسرة جديدة ذات نسب شريف هي الأسرة العلوية التي كانت منبع الدولة العلوية منذ بداية النصف الثاني من ق 17م إلى اليوم، وبعد صراع مرير بين أبناء مولاي علي الشريف، تمكن المولى الرشيد بعد حادثة تازة من دخول مدينة فاس سنة 1665م، والتي كانت تحت تصرف “الدريدي” آخر الطغاة الذي حكم فاس الجديد قبيل مجيء العلويين، وبمجرد دخول المولى الرشيد مدينة فاس أمر بخوزقة الدريدي، ويرجع السبب في ذلك، على ما يبدو من خلال المصادر التاريخية، إلى المكيدة التي دبرها الدريدي وابن صالح صاحب عدوة الأندلس للإيقاع بمناصري المولى الرشيد من العلماء وسجنهم، وقد أمر المولى الرشيد بإعدام الدريدي علنا والسماح لساكنة فاس بالتفرج عليه وهو مصلوب على المشنقة وعصى طويلة منغرسة في بطنه وهو يصيح في المتفرجين« زمان فوق منكم واليوم فوق منكم»، فهذا الحدث يعرض طقسا للذلة عن طريق الفرجة، كما يسجل دراميا التباين بين مسلسل اللعنة الممارس ضد الدريدي وبين تعبيره الأخير والمثير للشفقة عن أنفه[82].
ورغم اختلاف تقنيات ذلة الضحية سواء كان حيا أو ميتا، فإنها ذات وظيفة واحدة وهي «الإخزاء عن طريق نزع طابع الانتماء للإنسانية، إخزاء يتخذ أحيانا سمات “الحيونة”»، ومن أمثلة ذلك ما حصل للسلطان السعدي “محمد المتوكل” بعد معركة واد المخازن، حينما سلخ جلده وملئ جسمه تبنا وطيف به أرجاء البلاد، ومن بين تقنيات ذلة الضحية والحط بالإنسان إلى درجة الحيونة بواسطة التدمير الجسدي وإتلاف الصفات الإنسانية، ما تعرض له اليهودي المدعو “سعيد عواد” الذي تعرضت جثته للرجم والحرق بعد اعتقاله وإعدامه سنة 1595م بسبب خصومة نشبت بينه وبين مسلم، وما تعرضت له جثة المغامر الفرنسي “سان ماندريي” سنة 1626م بعد إعدامه ورجمه وحرقه ورمي جثه للكلاب، وكذلك ما حدث خلال الحرب الأهلية لأنصار “مولاي عبد الله” أثناء صراعه مع “مولاي زيدان”، الذي أمر باعتقال اللاجئين عند العميل الفلندري “بيتر مارتنيز كوي” وإحراق جثت من مات منهم.
وضع الذلة أيضا يتراءى من خلال بعض المهام التي كانت توكل لبعض الفئات الاجتماعية، كاليهود والسود والمسيحيين التي كانت تسند لهم مهمات تحط من القيمة الإنسانية، وتتمثل في مهمة الجلاد المخلة بالشرف، كما تظهر النساء والأطفال في مشاهد عديدة للعنف، حيث يروي الحسن الوزان-ليون الإفريقي مشهدا من مشاهد الإذلال الشنيع كان بطله النساء، ويشير أيضا إلى أن رأس الثائر “ابن أبي محلي” أصبح لعبة في يد الأطفال بعد حمله إلى مراكش، دليلا على ذلة الضحية ميتا[83]، ويتضح من خلال هذه الأمثلة السالفة الذكر، أن السلطة السياسية تنكشف من خلال تلاعبها بالفضاءات المادية أو المجموعات البشرية، إلى جانب إتقانها لفن خطابة في خدمة الذلة ونزع طابع الانتماء للإنسانية، وذلك من أجل تأكيد موقعها المركزي والثابت للسلطة.
سبقت الإشارة إلى أن الإعدامات العلنية تطور بالتتابع حركتي التدنيس-الذلة وحركة التطهير، وبعدما سقنا بعض الأمثلة الدالة على فرجة الذلة، نورد بعض الأمثلة المعبرة على حركة التطهير، ويتعلق الأمر بحكاية اليهودي التي كانت مدينة فاس مسرحا لها خلال ق 16م، فقد تعود هذا اليهودي على السرقة بالمدينة إلى درجة تجرأ معها لسرقة بيت القاضي “عبد الواحد الحميدي”، وكان كلما تم توقيفه واعتقاله من طرف الشرطة يفلت من العقاب بذريعة اعتناقه للإسلام، لكن شاءت الأقدار أن يعين قاض جديد بالمدينة، فتم اعتقال السارق اليهودي الذي عجز هذه المرة عن الإفلات من العقاب وبعدها الإعدام، خاضعا لأصناف التعذيب من رجم وحرق وشنق وضرب العنق، وبالتالي ف «المحكوم عليه بالإعدام يجسد رسالة في حد ذاته. وهو كذلك، أولا، بسبب الفرجة النموذجية التي يهبها جسده المعروض علنا والممزق أمام الملأ، مثلما هو كذلك، ثانيا، لأنه يتحول إلى صوت، إلى خطاب واضح»[84]. إن الرسالة الموجهة من هذا الطقس العقابي هي، تحقيق وظيفة إعادة ترميم النظام المهشم بفعل الخطأ المرتكب من جهة، وفي إنقاذ صفاء المحكوم عليه والمجتمع عقب الذلة التي تعرض لها المذنب علنا، وهو ما يذكرنا بما جاء في كتاب إفريقيا لمارمول كربخال في وصفه لأصناف العقاب التي يتعرض لها المتهم.
من الخلاصات البارزة التي يمكن أن يستنتجها الباحث من خلال سرد هذه الأمثلة الدالة على حركتي الذلة والتطهير، هو مركزية الرأس من الجسد، ذلك أن العنف لغة كونية تشمل الجسم كله، لذلك عند تطبيقه غالبا ما يستهدف الحنجرة رغم اختلاف طرق التطبيق، وهو ما يذكرنا بمجموعة من المفاهيم التي تربط بين الموت والحنجرة، وهو معطى معروف في الديانة الإسلامية، ويعتبر طقس الأضحية مثالا بارزا في هذا الإطار، رغم أن فصل الرأس عن الجسد محظور، إضافة إلى سيادة فكرة أن الروح أثناء الخروج من الجسم لحظة الوفاة تتم عبر الحنجرة.
خلاصة القول، تعتبر ظاهرة العنف ظاهرة اجتماعية قديمة قدم الإنسانية تتميز بالتطور والاستمرارية، حتى أضحت في السنوات الأخيرة إشكالية عويصة يصعب حلها، نظرا لتطور وسائلها المتعددة من جهة وتأثيراتها الاجتماعية والأخلاقية والسياسية من جهة ثانية، كما تعتبر ظاهرة كونية لم يسلم منها أي مجتمع أو حضارة سواء في القديم أو الحاضر، ونظرا لأبعادها المتعددة فقد أثارت اهتمام كل المتخصصين من علماء سياسة واقتصاد واجتماع محاولين إعطاء تفسيرات لهذه الظاهرة كل من زاويته، بهدف تدليل الصعاب وتسهيل اقتراح الحلول الممكنة، فكان من نتائج ذلك ظهور مجموعة من النظريات المختلفة، وإذا كانت ظاهرة العنف قد ارتبطت في القديم بنزوع الإنسان العاقل نحو صنع وابتكار أساليب وأدوات من أجل البقاء والحفاظ على النفس، فإن الطابع الجديد للعنف يظهر من خلال الرغبة والقابلية لقهر الإنسان وإذلاله تحت مسميات عديدة وصور مختلفة.
المصادر والمراجع:
القرآن الكريم:
– سورة البقرة، الآية: 40.
– سورة المائدة، الآية: 32.
– سورة النساء، الآية: 171.
– سورة النساء، الآية: 29.
1- إبراهيم الحيدي، سوسيولوجيا العنف والإرهاب، لماذا يفجر الإرهابي نفسه وهو منتشي فرحا؟، دار الساقي، الطبعة الأولى، 2015.
2- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، م 9، دار الكتاب العربي، بيروت – لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م.
3- ابن عذاري المراكشي، البيان المغرب، قسم الموحدين، دار الثقافة والنشر والتوزيع، 1985.
4- ابن منظور، أبو الفضل محمد بن مكرم بن علي جمال الدين، لسان العرب، تحقيق: عبد الله علي الكبير وآخرون، القاهرة، دار المعارف.
5- أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، بيروت، دار ابن كثير، 2002.
6- أحمد المقري التلمساني، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان حباس، دار صادر-بيروت، 1997، ج2
7- آدم القبي، رؤية نظرية حول العنف السياسي في الجزائر، مجلة الباحث، جامعة ورغلة، ع 1، 2002.
8-آدم القبي، رؤية نظرية حول العنف السياسي في الجزائر، مجلة الباحث، جامعة ورغلة، ع 1، 2002.
9- إكرام عدتني، سوسيولوجيا الدين والدولة، منتدى المعارف، المغرب، 2012.
10- الحسن بن محمد الوزان الفاسي المعروف بليون الافريقي، وصف إفريقيا، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، الجزء الأول ، الطبعة الثانية، دار الغرب الإسلامي، 1983.
11- الزبيدي محمد مرتضى الحسيني، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق: مصطفى حجازي، الكويت، وزارة الإعلام، ج 24، 1987.
12- الفيروز آبادي مجد الدين محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ج 3، 1979.
13- المعجم الوسيط، ط 4، مصر، مجمع اللغة العربية، 2004.
14- امبريسيو هويثي ميراندا، التاريخ السياسي للإمبراطورية الموحدية، سلسلة ضفاف، ترجمة عبد الواحد أكمير، منشورات الزمن، ط 1، 2004.
15- حميد الحداد، النفي والعنف في الغرب الاسلامي، الدار البيضاء، إفريقيا الشرق، 2011.
16- خالد صاغية، احتكار الدولة للعنف، جريدة السفير، بتاريخ 11/03/2006.
17- زكرياء الشربيني، المشكلات النفسية عند الأطفال، القاهرة، دار الفكر العربي، 2001.
18-طريف شوقي، علم النفس الاجتماعي، مركز النشر جامعة القاهرة، القاهرة، 1994.
19- عامر صالح، العنف بين ماهيته السوسيولوجية وجذوره السيكولوجية والتربوية، ديوان أصدقاء المغرب، 25/02/2012.1
20- عامر عبد اللطيف، أحكام الأسرى والسبايا في الحروب الإسلامية، مصر، دار الكتاب المصري، لبنان، دار الكتاب اللبناني، 1986.
21- عبد الرحمن بدوي، فلسفة القانون عند هيجل، بيروت، دار الشروق، 1996.
22- عبد الرحمن بن خلدون، العبر فيديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، دار الفكر، لبنان، 2001.
23- عبد الناصر حرير، الإرهاب السياسي-دراسة تحليلية-، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1966.
24- عبد الواحد المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ضبط وتصحيح وتعليق محمد سعيد العريان ومحمد العربي العلمي، الطبعة السابعة 1978، دار الكتاب الدار البيضاء.
25- علي بن أبي زرع الفاسي، الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، الرباط، دار المنصورة للنشر والتوزيع، 1972.
26- علي عبد الوافي، المدينة الفاضلة للفارابي، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، د.ت.
27- فرناندو رودرغيث مديانو، الجريمة والعقاب في مغرب ق 16م، ترجمة سعيد عاهد، الاتحاد الاشتراكي، بتاريخ 07/10/2011.
28- لويس دي مارمول، إفريقيا، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، الكتاب الرابع، ترجمه عن الفرنسية، محمد حجي، محمد ازنيبر، محمد الأخضر، أحمد التوفيق وأحمد بنجلون، المعارف الجديدة، 1988-1989.
29- مجموعة اخترنا لك، الحكومة المدنية وصلتها بنظرية العقد الاجتماعي لجان جاك روسو، الفصل الأول، ترجمة محمود شوقي الكيال، مطابع شركة الإعلانات الشرقية.
30- محمد عابد الجابري، فكر ابن خلدون، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، ط2، دار النشر المغربية، 1979.
31- مراد وهبة، المعجم الفلسفي، القاهرة، 1998.
32- مؤرخ مجهول، تاريخ الدولة السعدية التكمدارتية، تقديم وتحقيق عبد الرحيم بن حادة، الطبعة الأولى، دار تينمل للطباعة والنشر، 1994.
[1]– ابن منظور، أبو الفضل محمد بن مكرم بن علي جمال الدين، لسان العرب، تحقيق: عبد الله علي الكبير وآخرون، القاهرة، دار المعارف، ص: 3132.
[2]– الزبيدي محمد مرتضى الحسيني، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق: مصطفى حجازي، الكويت، وزارة الإعلام، ج 24، 1987، ص: 187.
[3]– المعجم الوسيط، ط 4، مصر، مجمع اللغة العربية، 2004، ص: 613.
[4] الفيروز آبادي مجد الدين محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ج 3، 1979، ص: 173.
[5]– مراد وهبة، المعجم الفلسفي، القاهرة، 1998، ص: 477.
[6]– نفسه.
[7] – عبد الرحمن بدوي، فلسفة القانون عند هيجل، بيروت، دار الشروق، 1996، ص: 69.
[8]– عبد الناصر حرير، الارهاب السياسي-دراسة تحليلية-، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1966، ص: 44.
[9]– نفسه.
-[10] زكرياء الشربيني، المشكلات النفسية عند الأطفال، القاهرة، دار الفكر العربي، 2001، ص: 73.
[11]– إبراهيم الحيدي، سوسيولوجيا العنف والإرهاب، لماذا يفجر الإرهابي نفسه وهو منتشي فرحا؟، دار الساقي، الطبعة الأولى، 2015، ص: 20.
[12]– عامر عبد اللطيف، أحكام الأسرى والسبايا في الحروب الإسلامية، مصر، دار الكتاب المصري، لبنان، دار الكتاب اللبناني، 1986، ص: 23.
[13]– سورة الزلزلة، الآية 7 و 8.
[14]– سورة البقرة، الآية 40.
[15]– سورة المائدة، الآية 32.
[17]– سورة النساء، الآية 29.
[18]– أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، بيروت، دار ابن كثير، 2002، 6533.
[20]-البخاري، ن.م.س. ص: 6927.
[21]– البخاري، ن.م.س. ص: 3318.
[22]– ن.م.س. ص:23.
[23]– عامر صالح، العنف بين ماهيته السوسيولوجية وجذوره السيكولوجية والتربوية، ديوان أصدقاء المغرب، 25/02/2012.
[24]– آدم القبي، رؤية نظرية حول العنف السياسي في الجزائر، مجلة الباحث، جامعة ورغلة، ع 1، 2002، ص: 102.
[25]– طريف شوقي، علم النفس الاجتماعي، مركز النشر جامعة القاهرة، القاهرة، 1994، ض: 122.
[26]– محمد عابد الجابري، فكر ابن خلدون، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، ط2، دار النشر المغربية، 1979، ص: 191.
[27]– عبد الرحمن بن خلدون، العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، دار الفكر، لبنان، 2001، ص: 159.
[28]– ابن خلدون، ن.م.س. ج 2، ص: 504.
[29]– علي عبد الوافي، المدينة الفاضلة للفارابي، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، د.ت، ص: 34.
[30]– إبراهيم الحيدي، ن.م.س، ص: 54.
[31]– نفسه.
[32]– طوماس هوبز، يعد من أبرز المفكرين الانجليز عاش ما بين 1588م-1679م، سطع نجمه خلال الحركة الإصلاحية التي شهدتها الكنيسة الكاثوليكية خلال ق 15م و 16م، دعم الحكم المطلق في إطار نظرية العقد الاجتماعي.
[33]– ينظر، إبراهيم الحيدي، ن.م.س، ص: 58.
[34]– مجموعة اخترنا لك، الحكومة المدنية وصلتها بنظرية العقد الاجتماعي لجان جاك روسو، الفصل الأول، ترجمة محمود شوقي الكيال، مطابع شركة الإعلانات الشرقية، ص:13.
[35]– نفسه، الفصل الخامس، ص:31.
[36]– الحيدري، ن.م.س. ص : 62.
[37]– مجموعة اخترنا لك، الحكومة المدنية وصلتها بنظرية العقد الاجتماعي لجان جاك روسو، ن.م.س.ص:
[38]– نفسه.
[39]– الحيدري، ن.م.س. ص : 66.
[40]– إكرام عدتني، سوسيولوجيا الدين والدولة، منتدى المعارف، المغرب، 2012.
[41]– الحيدري، ن.م.س. ص: 69.
[42]– خالد صاغية، احتكار الدولة للعنف، جريدة السفير، بتاريخ 11/03/2006.
[43]– إبراهيم الحيدري، ن.م.س.ص : 46.
[44]– حميد الحداد، النفي والعنف في الغرب الاسلامي، الدار البيضاء، إفريقيا الشرق، 2011، ض: 31.
[45]– حميد الحداد، ن.م.س.ص: 43.
[46]-عبد الواحد المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ضبط وتصحيح وتعليق محمد سعيد العريان ومحمد العربي العلمي، الطبعة السابعة 1978، دار الكتاب الدار البيضاء، ص: 281.
[47]-ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تحقيق: محمود الأرناؤوط، الناشر: دار ابن كثير، دمشق – بيروت، الطبعة الأولى، 1406 هـ – 1986م، جـ6، ص: 232- 233.
[48]– علي بن أبي زرع الفاسي، الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملك المغرب وتاريخ مدينة فاس، الرباط، دار المنصورة للنشر والتوزيع، 1972، ص : 181.
[49]– عبد الواحد المراكشي، ن.م.س. ص : 282.
[50]– ابن أبي زرع، ن.م.س. ص: 183.
[51]– عبد الواحد المراكشي، ن.م.س. ص: 280-281.
[52]– ن.م.س.ص : 281.
[53]– أحمد المقري التلمساني، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان حباس، دار صادر-بيروت، 1997، ج2، ص: 27.
[54]– أمبريسيو هويثي ميراندا، التاريخ السياسي للإمبراطورية الموحدية، سلسلة ضفاف، ترجمة عبد الواحد أكمير، منشورات الزمن، ط 1، 2004، ص: 144.
[55]– نفسه.
[56]– ابن الأثير، الكامل في التاريخ، م9، دار الكتاب العربي، بيروت – لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م، ص: 203.
[57]– عبد الواحد المراكشي، ن.م.س. ص : 296.
[58]– ابن عذاري المراكشي، البيان المغرب، قسم الموحدين، دار الثقافة والنشر والتوزيع، 1985، ص: 2016.
[59]– ابن أبي زرع الفاسي، ن.م.س. ص: 249.
[60]– ابن أبي زرع الفاسي، ن.م.س.ص : 251.
[61]– فرناندو رودرغيث مديانو، الجريمة والعقاب في مغرب ق 16م، ترجمة سعيد عاهد، الاتحاد الاشتراكي، بتاريخ 07/10/2011.
[62]– من الأخطاء التي تستوجب عقوبة الحد كالزنا والسرقة وشرب الخمر والارتداد والقذف.
[63]– فرناندو رودرغيث مديانو، ن.م.س.
[64]– على سبيل المثال وليس الحصر، الحسن الوزان الملقب بليون الإفريقي وكتابه “وصف إفريقيا”، ولويس دي مارمولكربخال وكتابه “افريقيا”، وكتاب “تاريخ الدولة السعدية التاكمدارتية” لمؤلف مجهول…
[65]– رودرغيث مديانو، ن.م.س.
[66]– لويس دي مارمول،إفريقيا،الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، الكتاب الرابع، ترجمه عن الفرنسية، محمد حجي، محمد ازنيبر، محمد الأخضر، أحمد التوفيق وأحمد بنجلون، المعارف الجديدة، 1988-1989،ص: 163.
[67]– نفسه.
[68]– نفسه.
[69]– مارمول كربخال، ن.م.س. الجزء الثالث، ص : 55.
[70]– الماوردي، “الأحكام السلطانية والولايات الدينية“، و “رسالة ابن عبدون في القضاء والحسبة”، رودرغيت ميديانو، ترجمة سعيد عاهد، ن.م.س.
[71]– الحسن بن محمد الوزان الفاسي المعروف بليون الإفريقي، وصف إفريقيا، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، الجزء الأول ، الطبعة الثانية، دار الغرب الإسلامي، 1983، ص: 249.
[72]– محمد بن الوزان الفاسي، ن.م.س. ص: 250.
[73]– رودرغيز ميديانو، ن.م.س.
[74]– مؤرخ مجهول، تاريخ الدولة السعدية التكمدارتية، تقديم وتحقيق عبد الرحيم بن حادة، الطبعة الأولى، دار تينمل للطباعة والنشر، 1994، ص: 16-17.
[75]– رودرغيث مديانو، ن.م.س.
[76]-نفسه.
[77]– المؤرخ المجهول، ن.م.س.ص : 28.
[78]– نفسه.
[79]– رودرغيث ميديانو، ن.م.س.
[80]– الحسن بن محمدالوزان، ن.م.س.ص: 277.
[81]– رودرغيث ميديانو، ن.م.س.
[82]– نفسه.
[83]– الحسن الوزان-ليون الافريقي، ن.م.س.ص: 187.
[84]– ريدرغيث مديانو، ن.م.س.