الهندسة الأسلوبيّة الّلغوية والفنّية في الشعر الأمويّ من منظور عمر عتيق النقديّ
Linguistic and artistic stylistic geometry in Umayyad poetry from the critical perspective of Omar Ateeq
أ.د طاطة بن قرماز ـ جامعة الشلف ـ الجزائر Tata benguermazـ Chlef University – Algeria
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 74 الصفحة 97.
الملخص:للباحث عمر عتيق رؤية نقديّة أسلوبيّة إجرائية بعيدة التصوّر تجلّت في توظيفه للمنهج الأسلوبي في الشعر الأموي، حيث اعتمد الباحث المنهج الأسلوبي باعتباره المنهج الأقدر على تحليل البنيات الّلغوية للنصّ الأدبي من وجهة نظره النقدية، ولابد للإشارة من أن الدراسات الأسلوبيّة التطبيقيّة شحيجة في الساحة النقدية العربية والباحث بحاجة أمسّ إلى تنويره في مجال التطبيق للحقل الدراسة الأسلوبية ، وكانت دراسة عمر عتيق الأسلوبية للشعر الأموي عونا للباحثين من حيث ساهم الباحث في إبراز المظاهر الأسلوبية في شعر الشاعر الأخطل الأُموي .
الكلمات المفتاحية : السياق ، المستوى الدلالي ، المستوى النفسي ، الوظيفة الدلالية ، الوظيفة النفسية ، التشبيه ، الاستعارة ، التكرار .
Summary:
The researcher Omar Ateeq has a stylistic, procedural, and far-imagined critical vision that was manifested in his use of the stylistic approach in Umayyad poetry. He urgently needed to enlighten him in the field of application of the stylistic study field, and Omar Ateeq’s stylistic study of Umayyad poetry was of help to researchers in terms of the researcher’s contribution to highlighting the stylistic aspects in the poetry of the Umayyad poet Al-Akhtal.
Keywords: context, semantic level, psychological level, semantic function, psychological function, simile, metaphor, repetition.
توطئة :
لاشك في أنّ دراسة الباحث عمر عتيق للشعر الأمويّ دراسة أسلوبية ستثري المكتبة العربية ، إذ تعدّ مرجعا خصبا ينهل منه الدارسون من خلال وقوفهم على تقنيّات المنهج الأسلوبي الاجرائي ، وهذا من حلال شعر زاخر بالصور البيانية والبنائية والفنّية كالشعر الأموي، جاءت الدراسة مؤلفة من مقدّمة وثلاثة فصول ، عالج فيها الباحث البناء اللغويّ في الشعر الأمويّ ، فكانت الدراسة فاحصة لأهم البنيّات الّلغوية بدءا بما أسماه بالانزياح الحركات ، وهي تسمية من ابتكار الباحث وقد تقصّد بها دراسة انزياح الحركات الاعرابية في الشعر الأمويّ بسبب الضرورة الشعرية ، فكانت معالجة الشعر من الوجهة الشكلية أو اللغوية بالتركيز على أساليب : الاستفهام ، الامر التكرار ، الطباق ، الجناس ، و حاولنا في هذه الورقة الوقوف على آليات التحليل الأسلوبي على المستوى الّلغوي في منهج عمر عتيق الأسلوبي، كما سنقف عند البناء الفنّي الذي تناوله الباحث من خلال دراسته للأبنية الآتية : البناء التشبيهي ، والكنائي ، والاستعاري ، إذ سنعمل على رصد أسلوب عمر عتيق عند كلّ بناء ناوشه بالنقد والدراسة والتحليل.
التحليل الأسلوبي للشعر الأمويّ، البناء اللغوي :
تظهر مزايا الأسلوب من منظور عمرعتيق في توظيف الضرورة الشعرية التي لجأ إليها الشعراء والمبدعون ، وهو ما اصطلح عليه الناقد بالانزياح في الحركات أو بما يعرف بمفهوم الرخصة[1]، وقد تجاوز هذا المفهوم عنده إلى ما وسمه بالانزياح الاختياري، ويرى بأنه أكثر تناسبا من مفهومها الأول الضرورة الشعرية ، لأن تسمية ضرورة في رأي عمر عتيق هي ضرورة سياق ودلالة لا ضرورة وزن فالشاعر من منظوره ليس عاجزا عن الاتيان بالبدائل اللغوية أو استحضارها استجابة لمتطلبات الموقف الشعري وإنما يعد تمسكا واصرارا منه ، إذن الضرورة الشعرية اختيار مقصود لذاته لإثراء المستوى الدلالي والفنّي [2].
استدل الناقد بآراء القدامى من النقاد والبلاغيين كرأي ابن رشيق في مسالة الضرورة الشعريّة إذ اعتبرها لا خير فيها ، بخلاف ما رآه ابن جني الذي لا يتسق مع رأي ابن رشيق تماما ، من حيث منحها ابن جنّي مكانة رفيعة ، فالشاعر الذي يختار ركوب الضرورة الشعرية كالفارس الشجاع الذي يجرؤ على ركوب حصان متجشما مخاطر المعارك والثورات ، ويقع التشبيه هنا من أن الشاعر الذي يوظف الضرورة الشعرية يمتلك جرأة وانقضاضا على الصور البيانية التي تتلاءم وتنسجم مع انفعالاته غذا يحوز على الكفاءة العالية على توخي الخرق والعدول عن المعتاد .
تقترن مسألة توخي الضرورة الشعرية إذن بمفهوم الشجاعة لدى عمر عتيق والجرأة على ركوب مطيّة الانحراف عن المألوف اتساقا لا تنافرا مع سياق لغة الشعر ، فراح يبحث عن مسوغات تعلّل اتباعها معتمدا اراء اللغوين في ذلك ، متعمّقا أي الناقد عمر عتيق في صنوف الضرورة الشعرية معتمدا رأي السيوطي في ذلك : الضرورة الحسنة، والضرورة المستقبحة، وأمر هذين الصنفين مردود إلى تقبلها واستساغتها أو إلى استهجانها ومجّها، كما اعتمد عمر عتيق اراء المحدثين في بسط أنواع الضرورة الشعرية : الضرورة المقبولة، الضرورة المعتدلة، والضرورة القبيحة، كقصر الممدود وتسكين المتحرك وتنوين المنادى المبني على الضم ، إلا أنّ للناقد رأيا في هذه التقسيمات التي تفتقر إلى أساس موضوعي ، لأنها تمت إلى الذوقية والانطباعية بصلة وطيدة من منظوره، إذ تقوم هذه الضرورات بإعلاء قيمة الدلالة الايحائية، لأن النصّ الأدبي منبن على نظام من العلاقات بين مستويات الدلالة الذاتية ومستويات الدلالة الايحائية [3].
كما أنّ فائدة الضرورة لدى الناقد لا تبرح الفائدة الدلالية والسياقية التي وقعت فيها [4]، وقد اعتمد الناقد عينات شعرية من الشعر الأموي للشاعر الأخطل التي يظهر فيها انزياح الحركات ، مثل قول الشاعر :
يقسم أمرا أبطن الغيل يوردها *** أم بحر عانه إذ نشْف البراغيل
حيث يرى عمر عتيق أن انزياح الحركات وقع في المفردة الشعرية : نشْف / والأصل في الكلمة نشف بكسر الشين لا بتسكينها ، كما جاء الناقد بمفردة شعرية بديلة جفّ لتحلّ محل لفظة نشْف إلّا أن اللفظة الموظّفة ” نشْف” هي الأدق والأنسب ، مع أنّ المفردة المقترحة تحاشى الشاعر استعمال الضرورة الشعرية لأنها تعبر على الجفاف الشديد الخالي من الندواة، المعبرة على شدة العطش ولفظة نشْفَ هي المناسبة للعطش الشديد.
تطرق الناقد عمر عتيق إلى انزياح اخر اسماه بالانزياح المركّب ، وقد ركّز فيه على تقديم المفعول به عن الفاعل ، معتمدا اراء البلاغيين القدامى في خرق مراتب الجملة النحوية .
تنزو إذا صبّ فيها الماء مارجها *** نَزْوَ الجاندب من رمضاء تلتهب
مما يُظهر حسب رأي عمر عتيق وقوع شبه جملة معترضة بين الفعل” صبّ “والمفعول به “الماء “كما تطرق الناقد إلى تقديم الخبر عن المبتدأ ، مع أنّ للناقد رأيا فيه يدلّ على أن تعليلات هذا التقديم عند الدراسين ظلّت جافة عارية تفتقر إلى الجانب الوجداني النفسي [5]، فتقديم الخبر عن المبتدأ يضفي جوا من النشاط والعنفوية على الّلغة ويكسر الرتابة لديه بالنظر إلى أن أسلوب التقديم مرآة تنعكس على مكنونات الشاعرذات الأولويات الوجدانية والفكرية للمبدع ، إذ يعدّ تقديم الخبر وسيلة أدائية لتقوية انتباه المتلقي لقراءة اللامرئي وإدراك كنهه ، كما يرى ذلك عمر عتيق ، لأن وراء هذا التقديم تختفي مزيّة أسلوبية منشودة بمثابة منبه أسلوبي يتثبت عنده القارئ لكشف علّة المحالفة التعبيرية و يظهر تقديم الخبر في البيت الشعري الموالي.
إليك أميرَ المؤمنين رحلتُها *** على الطائر الميمون والمنزل الرحب
و يرى عمر عتيق في هذا البت الشعري الأمويّ أنه تمّ تقديم أسلوب الخبر ” إليك “، فالشاعر يرمي حسب رأيه إلى الاخبار عن مقصد الرحلة لا عن الرحلة نفسها ، فالوصول إلى الممدوح هو الغاية والرحلة هي الوسيلة إلى هذا المبتغى ، ولأن الخبر أهمّ من المبتدأ تم تقديمه لأن الموقف تطلب ذلك من خلال أن الممدوح أهمّ من الرحلة وبالتالي الغاية أهمّ من الوسيلة حسب تحليل الناقد ، لاشك في أن هذا التقديم يضفي ظلا جماليا على الشعر تمليه نوازع نفسية الشاعر ” فمن خلال التعبير الجميل الفني يظهر إحساس الانسان وذوقه وقيمه .”[6]، لذلك يتميز الشاعر بوصفه شاعرا عن ما يمكن إضافته من قيم تعبيرية تحاكي الجمال وتستثير تنبه القارئ.
عالج عمرعتيق مسألة أدوات التنبيه البلاغية التي من شأنها أن تشدّ وعي القارئ وتستحوذ على ذهنه ، ومن ذلك الأسلوب الاستفهامي الذي يتضمن دلالة التحسّر ، فقدّم عينات شعريّة تفيد دلالة التحسّر وأثر هذا الاسلوب على القارئ .
هل تعرف اليوم من ماوية الطلل *** تحمّلت انسه عنه وما احتمالا
فقد وضّح الناقد اقتران أداة الاستفهام “هل “مع الفعل “تعرف” تأكيدا للصلة بين الشاعر والطلل فالعلاقة ليست عرضية بينهما إنّما تقوم على معرفة مترسخّة في وجدان الشاعر .
كما وقف الناقد عند وظيفة أسلوب الأمر المتضمن لدلالة الدعاء وهو أسلوب إنشائي من شأنه أن يكسر رتابة الاخبار الشعري من خلال ما قدمه عمر عتيق من عينات شعرية من حقبة الشعر الأمويّ :
أخالد أعلى الناس بيتا وموضعا *** أغثنا يسيب من نداك غزير
يتضمن البيت الشعري فعل الأمر “أغثنا ” شحنة دلالية مبأرة وفق رأي عمر عتيق النقدي ، حيث نهض الفعل على دلالة الاغاثة ، فقد أدى المستوى الدلالي للفعل الغرض البلاغي دون الحاجة إلى قرائن لغوية مساندة له من منظور الباحث النقدي، وقد اقترنت الإغاثة بالسيب وهو العطاء فلم يقتصر الشاعر على بيان الاغاثة بل جاءت مقترنة بنوع الاغاثة ، المتمثلة في العطاء المنتظر من الممدوح واتبع الاغاثة بمن التبعيضية للدلالة على كثرة العطاءات وختم الشاعر طلبه بنعت : وهو غزير للتدليل على كرم وجود الممدوح ، وقد استخدم الشاعر اسم تفضيل أعلى وعطف على تمييز اسم التفضيل بيتا اسما اخرا موضعا للتأكيد على علو ورفعة شأن الممدوح، فجاء البيت الشعري زاخرا بالاركام الأسلوبي .
وقد عرض الناقد أسلوب التكرار في الشعر الأمويّ ودوره في إبراز مزاياه الأسلوبيّة الّلغوية الشكلية ومزاياه الدلالية كالتكرار الزمني والمكاني وتكرار الصورة متمثلا بالبيت الشعري التالي :
وكأن ظعن الحي حائش قرية ***داني الجناية مونع الاثمار
وقد ارتبطت صورة الظعائن بأشجار النخيل، وتكرار الصورة التشبيهية نابع من وازع وجداني نفسي بالنظر إلى حمولته الدلالية : النضوج والامتلاء والخصوبة من منظوره ، ويرى عمر عتيق أن تكرار الشكل قد لا يعطي مفعولا أسلوبيا بالقدر الذي يمنحه تكرار الصور الشعرية لأن الثاني مرتبط بحسّ الشاعر الوجداني .وهو يكون أكثر إعناتا للشاعر لما يتأوج فيه الحسّ ويتأرجح بين قوة الانفعال وعظمته .
كما طرح الباحث مسألة أسلوب الطباق وارتأينا عرض ما كان مبتكرا من لدن الناقد من مثل ما وسمه بالطباق العقلي والحسّي[7] ، بتصوير الشاعر للمدركات العقلية والحسّية الذاتية ، وقد مثّل للأمر برسم بياني يمثل فيه تأرجح المسار الدلالي من خلال توضيح مصدر الدلالة بالعالم النفسي والمساحة الدلالية الحسية النفسية ، و قدّم نموذجا عن الطباق الحسّي من خلال قول الشاعر الأخطل :
أعرضن لما حنى قوسي مؤثرها *** وابيّض بعد سواد الّلمة الشعرُ
عرض الناقد تحليلا لهذا البيت الشعري المتضمن للطباق الحسّي ، من خلال ما ورد من استعمال اللونين الأبيض والأسود ، وهما حسّيان بصريان ، يتمثل المستوى الدلالي الحسيّ في انتقال لون الشعر من الأسود إلى الابيض ، وهي نقلة افترضها العمر الذي يتوج بالانتقال من فترة الشباب والحيوية إلى فترة الشيخوخة ، وبالتالي يمثل استعمال اللونين دلالة زمنية ، أما المستوى الدلالي الثاني فهو نفسي دل” في الطباق بين اللونين الاسود والابيض على تحسّر مرير استشعره الشاعر لأن فترة الشباب ولت وأمسى يشعر بمرارة التجافي والتهميش والنفور من قبل النسوة ، بعد اشتعال الشيب في رأسه وتقوّس ظهره .
وقد نتج عن الطباق الحسّي من حيث المستوى الدلالي قلق نفسي واضطراب عارم في نفسية الشاعر بعد أن جاء الشكل اللغوي للطباق متسقا ومتساوقا مع نفسية الشعرية المضطربة ، لاسيما أن لفظة :بعد الزمنية الموظّفة بعد الشعر أثرت في الشاعر وجعلته يتحسر على زمن ولى وانقضاء عهد الحيويّة والمشاكسة الذي انيط بفترة الشباب.
وقد جاء أسلوب الجناس[8] ليعزّز من مزايا الأسلوب في الشعر الأمويّ من خلال كتاب عمر عتيق دراسات أسلوبية في الشعر الأموي ، وقد وضّح الناقد الفرق الذي يميز الجناس التامّ من الجناس الناقص ، فالتام هو ما تماثلث حروفه في النوع والعدد الحروف ، والناقص هو ما اختلفت حروفه في النوع والعدد وفي الشكل أو الترتيب ، وجاء البيت الشعري للأخطل ليمثّل هذا النوع من الجناس :
وأخ به جلت البوارح إذا جرت ***أجبال تدمر من دجى وغبار
يقع الطباق بين اللفظتين : جلت / جرت والاختلاف في اللام والراء وهما حرفان لثويان مجهوران وهو جناس شبه تامّ ، لتقارب مخرجي الراء واللام ، وتشابه صفتيهما فتساوى الحرفان في الجهد العضلي المبذول وفي كمية الحروف التي مثّلت خفّة باستعمالها نطقا وسماعا .
أسلوبية التشبيه :
اندرج البناء التشبيهي ضمن البناء الفنّي ومستوياته[9] : الموقعي ، التعدّدي، السياقي ، البنائي ، التشبيه الحركي ، التشبيه المتنامي، التشبيه البليغ ، التشبيه الحسّي والعقلي ، وقد ارتأينا التركيز على التشبيه السياقي الذي يبدو مبتكرا من لدن عمر عتيق، وله خصوصية واضحة في توطين الدلالات الشعرية ، ويعني به النسيج اللغوي الذي يقع في سياق التشبيه دون أن يكون أحد طرفيه، لان الصورة التشبيهية لا يمكن استخلاصها بمعزل عن البيئة اللغوية التي نشأت فيه ، وقد اعتمد الباحث الاعتراض بين طرفي التشبيه أحد الاعتبارات الّلغوية التي تفرض نفسها على الصورة والاعتراض يكون مسوّغا زمانيا ومكانيا أو وصفا لأحد طرفي التشبيه لتشكيل الصورة من منظور الباحث، حيث ورد التشبيه شاخصا في البيت الشعري التالي :
كأني غداة انصعن للبين مسلم *** بضربة عنق أو غويّ معدّل
علّق الباحث على التشبيه الوارد في هذا البيت الشعري من جهة الاعتراض الزمني أي بتحديد الفترة الزمنية التي تشكّلت فيها الصورة التشبيهية لأن الفترة الزمنية تسهم في تشكيله ولولها لخلا التشبيه من أي مزيّة جمالية ، ويرى الباحث أنّ النسيج الّلغوي “غداة انصعن للبين” الذي اعترض طرفي التشبيه المسوغ ، لتشبيه الشاعر برجل حكم عليه بالموت وبذلك أضفى الاعتراض صورة ظلال حزينة وفرت انسجاما بين طرفي التشبيه جمعا .
ومن مظاهر الأسلوبية التي وردت في شعر الأخطل ما اسماه عمر عتيق بالاعتراض الوصفي، وهو نسيج لغويّ يضيف لخاصية التشبيه خاصية جديدة أو لنقل قيمة فنّية أخرى شرح تجلّيه في هذا البيت الشعري :
وقد سقتني رضابا غير ذي أسن*** كالمسك درّ على ماء العناقيد
حيث يرى الناقد أن التشبيه وقع بين حاسة الذوق : المشبه رضابا ، وحاسة الشم : المشبه به المسك في هذا البيت الشعري، والاعتراض الوصفي غير ذي أسنّ أضافت لخاصية الطعم خاصية الرائحة. وتضوّعه في أنف الشاعر .
وضع الباحث مسارات للوصول إلى الدلالة الاستعارية من خلال طرقه لباب البناء الاستعاري وقد قسّم هدا البناء الى أنماط منها : البناء الاستعاري التماثلي ، البناء الاستعاري التجسيدي، البناء الاستعاري التجسيمي ، البناء الاستعاري التشخيصي ، البناء الاستعاري العنقودي . ويرى الباحث أن الخيال الأخصب هو الذي يكون قادرا على ابتكار الانسجام بين مكونات الوجود في مستوييه المادي والذهني أي فيه تجاوز الرؤية الفنية الواقعين المادي والذهني فيكون التشبيه ترجمة للدواخل النفسية بعمق بحيث يستثير بها وعي المتلقي تنبيها وتأثيرا .
وهذا الانسجام والتأثير يسعى إلى تحقيقه الشاعر بخاصية التشبيه الاستعاري ، بفعل إعادة تشكيله للمعطيات التي هي أمام الناس طيلة الوقت ، وللدلالة الاستعارية مسارات اخترنا المسار السياقي ، وهو العلاقة بين دلالة الالفاظ في السياق ، ودلالة البنية الاستعارية ، أي أن الشاعر يسخّر التركيب اللغوي لخدمة تركيب الصور الاستعارية ، فالألفاظ لا تتفاضل مجردة وإنما يتناتج فضلها متلائمة مؤتلفة ، فالأسلوب الاستعاري يرتكز على الاقتصاد اللغوي بإجاعة اللفظ واشباع المعنى ومن الانماط الاستعارية التي عالجها عمر عتيق اخترنا النمط الاستعاري التشخيصي ، وفي هذا البناء يقول عمر عتيق عبارة أسلوبية ظريفة[10] : يَهَب الشاعر الحياة لمن لا حياة له ،فيغدو الانسجام متحققا بين العالمين: عالم الجماد وعالم الأحياء ، بحيث يستلزم هذا التماهي يقظة وفطنة بالغة من لدن المتلقي لكشف أسرار هذا التواشج بين العالمين الجامد والناطق معا ، وقد عزّز عمر عتيق هذه الفكرة بأبيات شعرية اعتبرها لوحة طللية تفيض بالحياة والرومانسية والخصوبة من شعر الحطيئة من خلال مؤلفه الظواهر الأسلوبية في الشعر الأموي.
حيّ المنازل بين السفح والرحب *** لم يبق غير وشوم النار والحطب
وعقر خالدات حول قبتها *** وطامس حبشي اللون ذي طبب
وقد علّق الباحث على الاستعمال الاستعاري بأن الشاعر يرمي إلى أنسنة الطلل بذكره تلميحا للأثافي الدالة على حجارة الموقد تصريحا ، والنساء العاقرات المقيمات الثاويات في الطلل والرماد الطامس ورجل حبشي الّلون، حيث استحضر الشاعر أغلب المكونات الطللية في هذا الشعر وهي رغبة ملحاحة منه لدمج الحيّ مع الميت والجامد مع المتحرك ، فجاء التصوير الاستعاري مرتبطا بالنوازع النفسية التي بثت روح الحياة في مكان مقفر مستكين ،جامد ، ومن هنا نلاحظ أن الشاعر الحذق هو من يتمهّر في إثبات جمال الفنّ الذي يفوق جمال الطبيعة ، فمعايير الجمال “لا يستمدها الفنان من الطبيعة بل هي متضمنة في عقله قبليا فهي من صنعه إذن ..”[11] ، وعلى الرغم من أن مكان الطلل يبدو ميتا أو لنقل قبيحا بصورة الرماد والأثافي والحجارة وترهل المكان إلاّ، أن ” بعض القبح ضروري للفن ، لأنه في بعض الأحيان شرط من شروط الحياة ، فليس المهم أن تبدو الشخصية الخيالية جميلة أو بشعة، وإنّما المهم أن تبدو موجودة ، فليست الامور الخيالية فنّية في ذاتها وبذاتها “[12]، لذلك يسعى الشاعر إلى تحقيق التوازن والتناسب بين الحياة والموت ، فالجماد لا يدرك إلا وراء المتحرك ، والحياة لا تستذاق إلا في مكان عانقه الجماد والسكون.
وللصورة مستويان من الفاعلية من منظور عمر عتيق ، المستوى النفسي والمستوى الدلالي أو الوظيفة النفسية والوظيفة المعنوية ، اذ تستمد الصورة حيويتها من تفجير البعد الايحائي لدى المتلقي . والنية الاستعارية بتشكيلها لبؤرة السياق تغدو مؤشرا قويا على ارتفاع واعلاء وتيرة التوتر النفسي لدى الشاعر ، بحيث تكون لافتة لاستنهاض وعي القارئ لأن العناصر اللغوية الكامنة في السياق تعمل على تعزيز القيمة الدلالية والنفسية للاستعارة ، فقد جاءت لفظة خالدات كنعت مكمل للاستعارة والدال الرماد طامس يحيل إلى دلالة الطمس والاختفاء والموت، فالنشاط الاستعاري مقرون بالنشاط اللغوي السياقي لان السياق يكشف عن الفاعلية الاستعارية قيمة وابرازا وتأثيرا وإثراء .
إنّ عمل عمر عتيق في هذا المؤلف : دراسات أسلوبية في الشعر الأمويّ كان تطبيقيا ومعمّقا من حيث ألمّ بالبناء الّلغوي والفنّي بمستوياته وأنماطه ، وهي ظواهر أسلوبية بذل الباحث حثيث سعيه إلى التكشيف عنها في الشعر الأموي ، متخذا شعر الأخطل عينة أسلوبية نموذجية زاخرة بالتشبيهات والاستعارات و التكريرات، حيث أسهمت تلك الأنماط في إثراء السياق الشعري وتوسيع مستوياته الدلالية من حيث أضفت ظلالا ايحائية استثارت وعي المتلقي وانتباهه انجذابا وتأثيرا وإيلاعا، ويعدّ منجز عمر عتيق : دراسات أسلوبية في الشعر الأموي ، شعر الأخطل أنموذجا، منجزا نقديّا أسلوبيّا بادر فيه الباحث إلى ترسيخ تقنيات التحليل الأسلوبي ، من حيث استعاض بالأدوات البلاغية التي صيّرها بمنهجه ورؤيته النقديّة ذات البعد الجمالي إلى أدوات أسلوبيّة تم استقراء مزايا الأسلبة في الشعر الأمويّ من خلال تصيّد الظاهرة الأسلوبية في شعر الأخطل من الوجهة الجمالية والوجدانية
مصادر ومراجع البحث :
المصدر:
- عمر عتيق ، دراسات أسلوبية في الشعر الأموي ، شعر الأخطل أنموذجا ، ط: 1 ، دار الجيل للنشر والتوزيع ، 2011 .
المراجع المترجمة:
- جوروج مولينيه، الأسلوبية ، ترجمة : بسام بركة ، ط: 2، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، 2006.
- جان ماري جويو، مسائل فلسفة الفن المعاصرة ، ترجمة سامي الدروبي ط:2 ، دار اليقظة العربية بيروت ،1965.
المراجع العربية:
4– أميرة حلمي مطر ، علم الجمال وفلسفة الفن ، دار التنوير للطباعة والنشر ، القاهرة مصر ، 2013
5– أفراح لطفي عبد الله ، نظرية كروتشيه الجمالية ، دار التنوير للطباعة والنشر ، 2011.
[1] ينظر عمر عتيق ، دراسات أسلوبية في الشعر الأموي ، شعر الأخطل أنموذجا ، ط: 1 ، دار الجيل للنشر والتوزيع ، 2011 ، ص: 23.
[2] ينظر نفسه ، 25.
[3] ينظر : جوروج مولينيه ، الأسلوبية ، ترجمة : بسام بركة ، ط: 2، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، 2006، ص: 25.
[4] ينظر نفسه ، ص: 26.
[5] ينظر عمر عتيق ، السابق، ص: 53.
[6] أميرة حلمي مطر ، علم الجمال وفلسفة الفن ، دار التوير للطباعة والنشر ، القاهرة مصر ، 2013 ، ص: 13.
[7] ينظر ، السابق ، ص: 151.
[8] ينظر عمر عتيق ، دراسات أسلوبية في الشعر الأموي ، ص: 164.
[9] ينظر نفسه ، ص: 181.
[10] ينظر السابق ، ص: 236.
[11] أفراح لطفي عبد الله ، نظرية كروتشيه الجمالية ، دار التنوير للطباعة والنشر ، 2011، ص: 116.
[12] جان ماري جويو، مسائل فلسفة الفن المعاصرة ، ترجمة سامي الدروبي ، ط:2،1965 بيروت ص:50.