محاولة في التأصيل السوسيولوجي لمفهوم العنف
An Attempt For A Sociological Rooting Of The Violence Concept
ط.د.حسن حرمة الله/جامعة محمد الخامس، المغرب
Phd Researcher Student .Hassane Harmatallah /University of Mohammed V -Morocco
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 76 الصفحة 29.
ملخص :تعتبر ظاهرة العنف واحدة من الظواهر الاجتماعية التي وسمت الوجود الانساني منذ فجر التاريخ، كما استأثرت باهتمام السوسيولوجيا حتى أمسى العنف واحدا من تيماتها المميزة. وقد جاءت هذه الورقة البحثية كمحاولة لمقاربة مفهوم العنف، من خلال تسليط الضوء على مختلف الاشكاليات التي تنسحب على محاولات تعيينه سوسيولوجيا، والتي تتجلى أساسا في مجموعة من التداخلات والتقاطعات مع ثلة من المفاهيم القريبة منه دلاليا، من قبيل مفاهيم؛ العدوانية، والصراع، والجريمة، والانحراف. وذلك بغية التأسيس لنوع من التأصيل السوسيولوجي لهذا للمفهوم، عبر اماطة اللثام عن مختلف التمفصلات النظرية التي تربطه مع تلك المفاهيم القريبة، وتوضيح حدود كل واحد منها. ولبلوغ تلك الغاية، اعتمدنا في سيرورة هذه الورقة البحثية على ثلاث لحظات تحليلية رئيسية. توصلنا من خلالها إلى أن مفهوم العنف سوسيولوجيا، لا يتطابق دلاليا مع مفهوم العدوانية، ولا يتماهى كليا مع مفهوم الصراع، كما أنه لا يتوافق بشكل دائم مع متلازمة الانحراف والجريمة.
الكلمات المفتاحية: العنف– العدوانية – الصراع- الجريمة – الانحراف.Abstract :
The issue of violence is one of the most social phenomenan has captured the interest of Sociology until It becomes one of Its favorite subject. This research paper came as an attempt to approach the concept of violence by highlighting various sociological problematics relate to the attempts. These problematics manifested in a set of intersections with a group of close concepts such as Aggression, Conflict, Crime and Deviation. In order to set up a kind of sociological rooting for this important concept by discovering the different theoretical details that link It with the aforementioned close concepts, and clarifying the boundaries of every and each one of them. And We concluded that the concept of violence in sociology does not match with the concept of Aggression, and not fully identify with the concept of Conflict, as It does not always coincide with the syndrome of Deviation and Crime.
Key word: Violence – Agression– Conflict – Crime -Deviation
تمهيد:
يعتبر مفهوم العنف، واحدا من أبرز المفاهيم التي تكتنف في جوهرها العديد من الاشكالات التي تنسحب على أية محاولة للتعيين النظري في اطار الدراسات السوسيولوجية. نظرا لما تستدعيه هذه الأخيرة من أهمية بالغة، وحذر شديد أثناء سيرورة تحديد وأجرأة المفاهيم النظرية. وتنكشف أبرز تلك الاشكالات بشكل خاص، على مستوى التداخل بين مفهوم العنف من جهة، وباقي المفاهيم التي تعتبر مرادفة له من حيث المعاني والحمولات الدلالية من جهة أخرى. على غرار مفاهيم: العدوانية، والصراع، والجريمة، والانحراف. هذا التداخل النظري بين هذه المفاهيم السالفة الذكر، يخلق للباحثين السوسيولوجيين نوعا من الالتباس. هذا الأخير الذي يستمد أسسه من خلال تشابه تلك المفاهيم وتقاربها مع بعضها البعض من حيث الدلالة، مما يقود في نهاية المطاف نحو الخلط بينها. مما يستدعي ضرورة القيام بنوع من التأصيل السوسيولوجي لمفهوم العنف، من خلال اماطة اللثام عن مختلف التمفصلات والتمشكلات بينه، وبين باقي ثلة المفاهيم المترادفة معه، وتحديد الخصائص المميزة لكل واحدة منها على حدة. وهنا نتوصل إلى الاشكالية الآتية: إلى أي حد يمكننا بناء تأصيل سوسيولوجي ملائم لمفهوم العنف؟ وهل من الممكن فعلا تسطير حدود نظرية لمفهوم العنف، خارج سياق مقولات العدوانية والصراع والجربمة والانحراف؟
لذلك، ستحاول ورقتنا البحثية هاته، الاجابة عن تلك الاشكالية، ومحاولة القيام بتأصيل سوسيولوجي لمفهوم العنف، من خلال ثلاث لحظات تحليلية أساسية؛ تتمثل اللحظة الأولى، في جرد مجموعة من التعاريف السائدة الخاصة بمفهوم العنف على مستوى الأدبيات العلمية المختلفة، ثم سنحاول في اللحظة الثانية، تسطير الحدود النظرية بينه وبين كل من مفهومي العدوانية والصراع، لكي نصل في اللحظة الثالثة، إلى مقاربة مفهوم العنف عبر جرد موقعه بين كل من مفهومي الجريمة والانحراف.
1-اللحظة التحليلية الأولى: في دلالة مفهوم العنف .. بين اشكالية التعريف وتمايز المنطلقات النظرية
تعددت التعاريف التي تطرقت لمفهوم العنف، بتعدد الدارسين والباحثين الذين حاولوا دراسته، وذلك راجع لكون كل واحد من هؤلاء الباحثين والدارسين، ما فتئ يتناول المفهوم انطلاقا من زاوية أطره المرجعية ومنطلقاته الفكرية الخاصة، وهذا ما أفضى إلى العديد من الاشكالات التي تطرح بخصوص دلالاته والمعاني التي يحيل عليها. فتبعا للاشتقاق اللغوي، نجد أن كلمة: عنف« violence » في اللغة اللاتينية، تتجذر من كلمة « violare » التي تعني “يؤذي” أو “ينتهك”، وفي اللغة الانجليزية تشير كلمة «violence» إلى “الحيوية”. ويلاحظ كذلك، أنه من الناحية التاريخية لطالما ارتبط مفهوم العنف بمعنى “القوة” التي تصدر عن قوى الطبيعة أو عن الالهة، لأن كلمة عنف« violence » يعود أصلها الاشتقاقي إلى الكلمة اللاتينية « vis »، والتي تعني “القوة” في شكلها المادي، والتي تمارس ضد شخص معين أو شيء ما. ومن معانيها كذلك، ممارسة القوة الجسدية بهدف الاضرار بالغير[1].
وهو تقريبا نفس المعنى الذي يسبغه عليه قاموس “لوجيندر”، حيث يعرف العنف بكونه يشير إلى ذلك الاستعمال المفرط أو الفظ للقوة، سواء من قبل شخص أو جماعة، تجاه شخص أو جماعة أخرى، كما هو الحال مثلا بالنسبة إلى السلطة التي يمارسها الراشد تجاه الأطفال أو السلطة التي يمارسها الرجال تجاه النساء، أو أرباب المعامل تجاه العمال العاملين تحت امارتهم[2].
كما نجد أن “أحمد أوزي” قد سلك نفس المنوال، بتأكيده على أن العنف هو بمثابة قوة وحشية يتصرف بها الشخص تجاه غيره بشكل قد يصل إلى درجة الخوف أو الفزع والرعب، لأنه يستعمل القسوة الحادة بغرض اخضاع غيره لسلطته وهيمنته، ويعتبر العنف بمثابة انتهاك للشخصية، أو تعديا على الاخر، أو انكارا له، أو تجاهله. بمعنى أن العنف يتسم بسمة الافراط في استعمال القوة تجاه الأفراد الاخرين داخل المجتمع، إضافة إلى كون هذه القوة متجسدة أحيانا في طبيعة السلطة الممارسة.
فهل هذا يعني انه بإمكاننا اعتبار العنف مقترنا دائما بدلالة استخدام القوة في ارتباطها مع السلطة ؟
فنألف عكس ذلك، بحيث أن هذا هو الطرح الذي رفضته “حنا ارندت” أثناء مقاربتها لمفهوم العنف. حينما أكدت بهذا الصدد على ضرورة تجاوز ذلك الخلط المفاهيمي القائم أثناء كل محاولة لتعيين دلالة مفهوم العنف، في ارتباطه مع مجموعة من المفاهيم الأخرى على غرار مفاهيم: السلطة، والقدرة، والقوة، والتسلط. حيث تبرز “حنا ارندت” بخصوص هذا الاطار، بأنه لطالما تم اعتبار ثلة المفاهيم تلك، بمثابة مترادفات على أساس أنها تؤدي تقريبا نفس الوظيفة الدلالية. باعتبارها ألفاظا تشير عموما إلى مختلف الوسائل التي يحكم بها الانسان قبضته على أخيه الانسان. ولتجاوز ذلك الخلط المفاهيمي، سلكت “حنا ارندت” طريقا، حاولت من خلاله اعادة تعريف مختلف تلك المفاهيم السالفة الذكر، وبينت أن مفهوم السلطة مثلا، يشير إلى قدرة الانسان على القيام بالفعل المتناسق، بحيث تكون هذه القدرة رهينة فقط بالجماعات، وليس بالأفراد، وتلك خاصيتها المميزة. أما القدرة فهي على عكس الأولى، تكون متعلقة بالفرد، فتبرزها على أنها كينونة هذا الأخير، وتعرفها على أساس أنها الخاصية المعزوة سواء إلى شيء، أو إلى شخص معين، وتنتمي إلى شخصيته الخاصة، ويمكنها أن تبرهن عن ذاتها في سياق العلاقة سواء مع أشياء أخرى، أو مع أشخاص اخرين. بينما تعرف القوة بكونها تشير إلى تلك الطاقة التي تنتج عن الحركات الطبيعية أو الاجتماعية. لتنتقل بعد ذلك “حنا ارندت” إلى الاقرار بكون مفهوم التسلط بمثابة مفهوم يتسم بنوع من الالتباس في تحديده. لكن رغم ذلك، يمكن جرد مجموعة من الخصائص التي تخصه، ولعل أبرزها يتمثل في تميزه بإمكانية تطبيقه على الأشخاص، من حيث أنه يحظى بالاعتراف من قبل الأشخاص الذين يطلب اليهم الخضوع له، وذلك من دون أية مقاومة من طرفهم، ودون الحاجة لاستعانة الأطراف التي تمارس التسلط، بأية وسيلة اكراه أو اقناع مهما كانت نوعيتها. ويمكن تقديم بعض الأمثلة في هذا السياق، من قبيل؛ ما يمارس ضمن العلاقة التي تجمع ما بين الطفل وأبويه داخل مؤسسة الأسرة، أو بين التلميذ وأستاذه ضمن المؤسسة التعليمية. أما مفهوم العنف فتعرفه “حنا ارندت” بكونه يتميز بطابعه الأداتي الصرف (أي باعتباره أداة)، إضافة إلى تميزه من الناحية النظرية بكونه قريبا من القدرة، وذلك على أساس أن العنف قد صممت أدواته كي تستأثر خصيصا بمهمة مضاعفة طبيعة القدرة حتى تستطيع أن تحل محلها، بل، وأن تأخذ حتى مكانها في اخر مراحل تطورها[3]. فإلى أي حد يمكن قبول طرح “حنا ارندت” بخصوص ضرورة التأسيس لتعريف مفهوم العنف من خلال فصمه عن مفاهيم السلطة والقوة ؟
فاذا تأملنا في التعريف الذي قدمه قاموس علم الاجتماع، سيتبين لنا بأنه يخالف زاوية نظر “حنا ارندت”، حيث تناول مفهوم العنف بكونه تعبيرا صارما عن القوة التي تمارس على حياة الفرد والجماعة على حد سواء، ويتميز العنف بالقوة الظاهرة، بمعنى انها تتخذ اسلوبا فيزيقيا كالضرب على سبيل المثال، أو تأخذ تلك القوة صورة الضغط الاجتماعي، وتعتمد مشروعية العنف على مدى اعتراف المجتمع به[4]. كما ينصب نفس المعنى، على التعريف الذي نألفه ضمن معجم العلوم الاجتماعية، والذي يعتبر العنف بمثابة استخدام غير مشروع أو غير مطابق للقانون، والذي من شأنه التأثير على ارادة فرد معين، أو مجموعة من الأفراد[5]. فمفهوما القوة والسلطة يعتبران من أبرز المعايير والمنطلقات التي يتم من خلالها التأسيس النظري لمفهوم العنف. وهذا ما سعى بعض الدارسين إلى تجاوزه. والتأسيس لمعايير ومنطلقات جديدة مغايرة. وهذا هو النهج الذي سار عليه “روبرت ماكافي” . حيث نجد هذا الأخير قد اتجه نحو مقاربة مفهوم العنف باعتباره غالبا ما يتجسد على شكل انتهاك لشخصية الفرد، وذلك من حيث كونه يشكل تعديا على هذا الأخير، وانكارا له في كل مستويات وجوده، سواء أكان ذلك على المستوى المادي أو على المستوى المعنوي. ولكنه يقر كذلك بأن مفهوم العنف يتجاوز أبعاد الاضرار الجسدي والروحي لشخص معين، والتي غالبا ما يحصر داخلها. حيث أن كل ما من شأنه المساهمة في سلب الشخصية الانسانية، فانه سيندرج بالتأكيد تحت يافطة مفهوم العنف. وهذا ما يجد تبريره في كون هذا الأخير، يشمل ويغطي كل السلوكات الشخصية والمادية ضد الاخرين، كما يشمل أيضا العنف الذي تمارسه المؤسسات بشكل خفي على الأفراد، هذا الأخير التي تقوم بموجبه، مختلف البنى الاجتماعية والمؤسسات، بانتهاك هوية الفرد.
وبالتالي، فإن “روبرت ماكافي” يدعو إلى معالجة مفهوم العنف من خلال زاوية أخرى، تتيح تجاوز قضية التركيز الاختزالي على العنف الموجه ضد الفرد، والقائم فقط على ثنائية الجسد والروح، بل يصير من اللازم حسبه، تسليط الضوء أيضا، وبشكل اكبر، على ذلك العنف الناتج عن كل علاقة مؤذية تجمع بين الأفراد (كعلاقة الظلم على سبيل المثال)، بمعنى الانتقال من مناقشة العنف باعتباره داخليا بين الجسد والروح، إلى مناقشته باعتباره أيضا خارجيا وتركيبيا، لأن الأفراد أيضا جزء من سيرورة انتاج ذلك التركيب، حيث يساهمون فيه بشكل أو بآخر[6].
كما نصادف الأنثروبولوجي “عبد الله حمودي” وهو يعترف في اطار مقاربته لمفهوم العنف، بكون هذا الأخير، مفهوما يصعب تحديده وتعيينه بنوع من الدقة الكافية. وذلك راجع حسب وجهة نظره إلى كونه لفظا يستخدم في حقول دلالية واسعة، وعلى عدة مستويات متباينة، وبحسب استراتيجيات تعريفية متنوعة. فنجد أنفسنا بالتالي، ازاء مجموعة من التعاريف والتحديدات التي تتنوع وتتعدد بتعدد طريقة استخدامها والمقاربات المعتمدة أثناء ذلك. بحيث أن كل مقاربة معينة تمثل ادراكا معينا أو أسلوبا في التشخيص. فنجد مثلا أن هنالك عدة مقاربات تنحوا نحو ربط مفهوم العنف باستخدام وسائل الضغط التي يمكن أن تلغي أمام الاخر امكانية الاختيار أو رفض الوضعية التي يجد نفسه مجبرا على المكوث تحت وطأتها، مبرزا في الوقت نفسه أن هذا العنف يصل مرتبته القصوى في اللحظة التي يتم فيها الغاء حق الانسان في الوجود، بمعنى حينما يصل إلى درجة القتل.
فنجد بالتالي، أن تعريف مفهوم العنف في هذه الحالة، يقوم بشكل أساسي على تحديد مختلف الاليات والأدوات التي يتم بموجبها انتاج مختلف وسائل الضغط التي يعتمد عليها الانسان بغية اخضاع الطرف الاخر أو قتله. كما نجد في المقابل عدة مقاربات أخرى تقوم، أثناء محاولة تحديدها لمفهوم العنف وتعريفه، بتجاوز كل تلك الأبعاد التي تنبني على وسائل الاكراه، بالرغم من أنها لا تقوم بإلغائها بشكل كلي (كما هو الشأن بالنسبة للسلطة الادارية او الزجرية، والتي تهدف مثلا إلى الحد من حرية الفرد في ابداء موقفه ازاء الواقع المعيش ونقده)، مما حذا بها، نحو التركيز على عوامل أخرى تعمل على الحد من حرية الفرد في مختلف أبعادها وتجلياتها. وبالتالي يميل مفهوم العنف في هذه الحالة للتأشير على كل محاولة لسجن الانسان من طرف الخطاب السائد ضمن منظور واحد واختزالي[7].
وفي نفس الاطار، ينحوا “محمد سبيلا” نحو اعتبار مفهوم العنف، بكونه عادة ما يستعمل للدلالة على أية وضعية يتم فيها الحاق الضرر والأذى بكائن معين أو بمجموعة بشرية معينة، سواء أكان هذا الضرر ماديا، أو نفسيا، أو معنويا. بحيث يتم الاستعانة بمختلف الوسائل التي بإمكانها أن تخدم غاية الاضرار، وكذا التمكن من التسبب بدرجة معينة من الألم والخسائر للأطراف التي توجه باتجاهها بوصلة العنف. علما بأن هذا الضرر قد يتمظهر اما على شكل نزع للممتلكات المادية، أو الرمزية والمعنوية، أو على شكل تعذيب جسدي، أو اهانة نفسية، اضافة إلى مجموعة من أشكال الضرر الأخرى. وقد يبتدئ ذلك العنف اما بالتهديد أو المساومة أو التجويع، وصولا إلى الضرب والسب والقذف. كما يمكن أن يستهدف الضرر أو الأذى فردا معينا، بسبب خروجه على معايير وقيم الجماعة وغير ذلك، أو كان ذلك خدمة لمناسبة تطهرية للجماعة، يكون الفرد بموجبها بمثابة كبش فداء لتلك الجماعة يتم فيها استخراج المسؤولية الذاتية والشعور بالذنب لكي يتم اسقاطه على الضحية بواسطة طقوس معينة. كما يمكن أن يوجه ذلك العنف نحو جماعة بشرية معينة، وهذا كشكل من أشكال العنف الجماعي التي استفحلت، حسب تعبيره، بشكل كبير في زمن اليوم.[8]
بمعنى أن العنف قد يتم التعاطي معه ضمن ثقافة معينة على أساس أنه فعل “لا-عنفي”، أو في أحسن الأحوال، على أساس أنه “عنف مبرر”. وهذا ما يمكن أن نطلق عليه عملية التطبيع الاجتماعي مع العنف. فمن بين أبرز الاشكاليات التي تنسحب على أية محاولة لتعيين حدود مفهوم العنف، تصادفنا مسألة المعايير الثقافية والاجتماعية التي تؤطر الحياة الاجتماعية للأفراد، وهذا ما سنتطرق اليه في ظل مناقشتنا لعلاقة العنف بمتلازمة الجريمة والانحراف. وما يهمنا هنا، هو الاشارة إلى كون معظم محاولات التحديد التي خضع لها مفهوم العنف، قد أبرزت أنه يشمل كل الأفعال التي يمكن أن تسبب ضررا معينا أو أذى محددا، سواء أكان ذلك موجها ضد فرد، أو ضد جماعة، سواء أكان ذلك على المستوى الجسدي والمادي، أو على المستوى النفسي والمعنوي. بحيث يشمل ذلك حتى أفعال العنف المشرعنة ثقافيا (أي العنف الذي تم التطبيع معه). وخصوصا تلك الموجهة من طرف جماعة معينة ضد فرد معين باعتباره كبش فداء، يصير من اللازم التضحية به وممارسة العنف عليه وهو مكسو بمختلف تعابير التبرير الأخلاقي والحق الاجتماعي.
لا يخفى أن هذا ما نلحظه لدى “باربرا ويتمر” حينما عالجت قضية الأنماط الثقافية للعنف، وخصوصا في الثقافة الغربية، إذ أكدت على أن الاعتقاد بطبيعة العنف الفطرية، ينتقل من خلال العناصر المختلفة في الثقافة الغربية (بما فيها المعتقدات الرسمية المعتمدة)، مما يسهم اسهاما مباشرا في قبول العنف والمصادقة عليه في تلك الثقافة.[9]
ويتبدى لنا أن “باربرا ويتمر”، حاولت هنا التركيز على فكرة فطرية العنف لدى الكائن الانساني، وكيف تنتقل هذه الفكرة عبر عناصر الثقافة لكي يتم قبوله وشرعنته داخل مجتمع معين، ليتم ذلك التطبيع معه، واضفاء التبرير اللازم على ممارسته اجتماعيا. فمفهوم العنف كثيرا ما يكتسي أبعادا اجتماعية تجعل من بعض الأفعال العنفية مقبولة اجتماعيا في بعض السياقات الاجتماعية، ومكروهة في سياقات اجتماعية أخرى، اعتمادا على مدى القبول الاجتماعي لسلوك العنف. وبالتالي فان الصدمة الناتجة تلك الأفعال العنفية يمكن أن تأخذ معاني مختلفة حسب السياقات، حيث أن نهج العنف كنشاط خاضع للمعايير الاجتماعية التي تؤطره، يلعب دورا في التمييز بين العنف الذي يشكل جزءا من النظام الاجتماعي، وبين العنف المنحرف والذي يتم استهجانه من طرف ذلك الأخير، بل ويسعى حتى إلى كبحه بعنف مضاد.[10]
مما يكمل التصور الذي بناه “رينيه جيرار” عندما مال نحو اعتبار العنف بكونه مفهوما يحيلنا على كل استعمال ممكن للقوة مهما كانت نوعيته، سواء تم ذلك بطرائق مادية أو بطرائق رمزية، بحيث تعمد هذه الممارسة العنفية التي يمكن أن يتبناها الفرد أو الجماعة، في غائيتها القصوى، إلى إلحاق الأذى الجسدي والنفسي للمستهدف بذلك العنف، اما بشكل مباشر أو غير مباشر، بما يشكل انتهاكا معينا لحقوقهم وممتلكاتهم.[11]
عموما، نجد أن أول دراسة حول مفهوم العنف، والتي حاول فيها صاحبها التنظير له، تأخذنا إلى وجهة “جورج سوريل “، وبالضبط، في كتابه “تأملات في العنف”، والذي أصدره في القرن التاسع عشر. حيث نجد أن الفلاسفة القدامى لم يكونوا ينظرون إلى العنف في ذاته ولذاته، بل كانوا ينظرون اليه كنتيجة لإفراط أو لخرق متصلين بالآلهة. ومنذ القرن التاسع عشر الذي شهد أول دراسة للعنف، نجد أن هذا الأخير قد تم تناوله خلال ثلاثة أبعاد رئيسية، وهي الأبعاد التي استمرت ردحا طويلا من الزمن في أية محاولة لتعيين الفعل العنفي، ويمكن ابراز تلك الأبعاد على الشكل التالي:
-البعد السيكولوجي: ويتم تعريف العنف ضمن هذه الزاوية السيكولوجية، من حيث كونه يتخذ سمة اللامعقولية، وكذا الخروج عن الحالة الطبيعية للكائن الانساني.
-البعد المعنوي والأخلاقي: وضمن هذا الاطار، يتم النظر إلى العنف بكونه يمثل انتهاكا لممتلكات الاخرين، وتعديا على مكتسباتهم وحرياتهم.
-البعد السياسي: اذ صار العنف ضمن هذا المنظور السياسي، يحيل على كل استخدام للقوة من أجل الاستيلاء عل السلطة، أو الانعطاف بها نحو تحقيق أهداف غير مشروعة. وهذا الوجه الثالث هو الذي نجده مضمرا في التعريف الذي يقدمه “لالاند” في معجمه الفلسفي، حينما عرف العنف بكونه يشير إلى ذلك الاستخدام غير المشروع، أو على الأقل، الاستخدام غير القانوني للقوة.[12]
يتبين هنا اذن، مدى الاختلاف الشديد الذي يسم مجمل التعيينات النظرية لمفهوم العنف، باختلاف المنطلقات والخلفيات النظرية التي تؤطر زاوية نظر كل باحث على حدة. فالتحديد النظري للعنف من منظور سياسي، ليس هو نفسه ضمن المنظور السيكولوجي، ونفس الأمر يسقط على المنظور الأنثروبولوجي، والسوسيولوجي.
وذلك رغم اتفاقهم تقريبا بأنه يشكل انتهاكا للطرف الممارس ضده، سواء بشكل مادي أو رمزي ومعنوي. ونلمس في مجمل التعاريف التي كانت سائدة لردح طويل من الزمن، طغيان البعد السياسي في تعيينه، ولذلك، لطالما تمت مقاربته في اطار علاقته مع مقولات السلطة والقدرة وغيرها. فكيف تعالج يا ترى باقي المنظورات بدورها هذه الاشكالية؟
2-اللحظة التحليلية الثانية: العنف بين مفهومي العدوانية والصراع .. سيرورة انتقال متشابكة
1.2- العنف والعدوانية: من عنف بالقوة إلى عنف بالفعل
يحدث بمجرد مصادفتنا لمفهوم العدوانية في علاقتها بمفهوم العنف، أن نستحضر في أذهاننا مباشرة، مختلف انطباعات ذلك النقاش المحتدم حول مفارقة العنف بين الطبيعة والثقافة، وهو نقاش يحاول الاجابة عن السؤال الاشكالي المتعلق بماهية العنف وأصله، هل هو عنف فطري وطبيعي، أم هو عنف مكتسب وثقافي؟
وهذا ما تؤكده “باربارا ويتمر”، عندما بينت كيف أن خطب العنف غالبا ما تسلك وجهتين رئيسيتين هما: وجهة تؤمن بمقولة العنف الفطري، ووجهة أخرى تتبنى مقولة العنف المكتسب[13]. وهو نقاش قد أفضى إلى تعدد وجهات النظر بين مختلف الدارسين، وتقسيمهم إلى قطبين متعارضين أشد التعارض. حيث اتجه نفر منهم باتجاه اعتبار العنف معطى فطربا وطبيعيا متأصلا في طبيعة الكائن الانساني، وبين اتجاه اخر حاول التأسيس لمنظور مخالف، يعتبر العنف معطى مكتسبا يتم بناؤه داخل المجتمع بواسطة اليات الثقافة. وقد حاول “روجر دادون”، على سبيل المثال، تبيان ذلك التعارض بنوع من المقابلة بين كل من اتجاهي التطورية والترنسندنتالية.
حيث أبرز في هذا السياق، بكون الاتجاه الأول (التطوري) يميل أساسا نحو اعتبار الانسان البدائي بكونه أكثر عنفا من الانسان الحديث الحالي، وذلك عبر تطوير قدرته على العقلنة، أي أن العنف معطى فطري في الانسان. بينما يميل أنصار الترنسندنتالية إلى اعتبار العنف بمثابة عنصر خارجي عن طبيعة الانسان[14]، بمعنى أنه مكتسب. وبالتالي يشكل النقاش المرتبط بالعلاقة بين مفهوم العنف ومفهوم العدوانية، امتدادا موضوعيا للنقاش المفارق بين مقولة تركز على طبيعية وفطرية العنف لدى الكائن الانساني، ومقولة أخرى تعتبره معطى مبنيا اجتماعيا وثقافيا.
بصفة عامة، يحدث كثيرا أن تتلازم محاولة مفهمة العنف بذلك الحضور الوازن لمفهوم العدوانية، وخصوصا في اللحظة التي يفضي فيها استشكال العنف المادي إلى استدعاء مختلف معاني التهجم والاستعمال المفرط للقوة المادية، والاعتداء الجسدي على الاخر، وكذا الحاق الضرر المادي به. وهنا نجد أن فهم الفعل العنفي يتقاطع مع معاني ودلالات العدوانية، هذه الأخيرة التي يتم اعتبارها غالبا، بمثابة فعل طبيعي ناتج عن اندفاع الغريزة المتأصلة في الطبيعة الانسانية، ومن ثمة تصير العدوانية تصريفا لطاقة غريزية كامنة تهدف في غايتها إلى ضمان بقاء النوع البشري. على الرغم أن مفهوم العنف لا يتماهى بشكل دائم مع مفهوم العدوانية. وذلك نظرا لكون هذه الأخيرة نزوعا نحو الأخر، سواء أكان فردا أو جماعة، ومهاجمة له بهدف ايذائه والاضرار به، بل ويمكن أن تمتد حتى إلى نفي وجوده بالكامل.
وبالتالي لا يحيل العنف دائما على ذلك الاستعمال المفرط للقوة، والذي يستبطن كل معاني الشدة والقسوة، كما يشاع في عديد من الأدبيات العلمية التي تطرقت اليه. فالعنف معاكس تماما لمفهوم العدوانية، والتي تصل درجتها القصوى بنفي وجود الاخر وقتله. وذلك على اعتبار أنه يمثل دائما تهديدا وجوديا مستمرا للوجود الخاص بالذات التي تولدت لديها تلك العدوانية. ولهذا فان دلالة مفهوم العنف لا تتماهى دائما مع دلالة مفهوم العدوانية بشكل كلي ودائم، على الرغم من كون العنف قد يشتمل في بعض الأحيان على نوع من العدوانية والعدائية تجاه الاخر[15].
كما نألف كثيرا، الحضور البارز لمفهوم العدوانية ضمن الأدبيات العلمية السيكولوجية (وخصوصا نظرية التحليل النفسي التي اعتبرت العدوانية معطى غريزيا كامنا في الطبيعة البشرية)، والتي ما فتئ أصحابها يؤكدون على ضرورة تبني موقف توليفي يبرز التداخل الحاصل والعلاقات الثابتة بين المعطى الذاتي (في إشارة إلى الطبيعة والغريزة الانسانية) و المعطى الموضوعي (بمعنى الأوضاع والظروف الاجتماعية التي تشكل تربة خصبة لبروز العنف). وهي علاقة تجمع بين ما يسمى “احتماليات العنف” من جهة، وكذا “أوضاع العنف” من جهة أخرى. على اعتبار أن مفهوم العدوانية يعرف عموما على أساس أنها مجموعة من المواقف والاستعدادات التي تؤثر في تكوين أنماط السلوك الانساني. وهي دفينة وكامنة في أعماق الطبيعة البشرية، ولا تبرز إلى العلن، الا في اطار صورة رأي، أو سلوك ذو طابع عنيف وعدائي تجاه الذات، أو تجاه الغير، أفرادا كانوا، أو جماعات. فكيف يمكن اذن تحقيق ذلك؟ . لأنها ببساطة، طاقة حيوية تنبثق على صيغة توتر، بحيث يمكن استغلالها وتوجيهها سواء في الاتجاه السلبي أو الاتجاه الايجابي، رغم أن علم نفس الطفل يشير إلى أن وجود اندفاعات عدوانية لدى الفرد، يمكن عدها بمثابة تعبيرات مشتركة عن الميول الهدامة الكامنة لدى الانسان، والتي تأخذ شكل غريزة البقاء والدفاع عن النفس. غير أن الملاحظة العلمية التي وفرتها علوم أخرى مثل السوسيولوجيا والانثروبولوجيا، تبين أن مظاهر العدوانية مرتبطة بشكل رئيسي بالنظام الاجتماعي ومؤسساته.[16]
كما يمكن الاستناد أيضا على التعريف الذي قدمه N.Sillamy، و يتبين من خلاله بأن مفهوم العدوانية يشير إلى كل الميولات الكامنة لدى الكائن الانساني نحو الاعتداء على الغير، وتكتسي تلك الميولات طابعا تهجميا على شخص ما أو جماعة ما، وتميز ديناميكية الفرد الذي يسعى إلى اثبات نفسه. وبصفة أكثر تحديدا، فهي تميز تلك القابلية الأساسية التي يستطيع بواسطتها الكائن الحي أن يتحصل على حاجاته الغذائية والجنسية.[17]
ونضيف اليه التعريف التالي الذي يعتبر بأن مفهوم العدوانية، يحيل على كل نزعة أو مجمل النزعات التي تتجسد سواء في تصرفات حقيقية أو في تصرفات هوامية لدى الفرد، وتسعى لبلوغ غاية تتجلى في الحاق الأذى بالآخر، وتدميره، واكراهه، واذلاله. وتتخذ العدوانية عموما نماذج أخرى غير الفعل الحركي العنيف المدمر، على اعتبار أنه لا يوجد هناك أي سلوك أو فعل أو ممارسة معينة لا يمكن أن تنشط بتاتا كسلوك عدواني. فالعدوانية قابلة دوما للتلبس والانبثاق ضمن أي فعل مهما كان.[18]
فيتبدى لنا اذن، أن القاسم المشترك بين منطوق كل تلك التعاريف المختلفة السالفة الذكر، يتمثل في كون العدوانية ذات طابع غريزي في الطبيعة البشرية، وتتبلور كطاقة دافعة نحو حفظ بقاء الكائن، ويمكن أن يتم توجيهها نحو الجانب الايجابي البناء، أو الجانب السلبي التدميري (بمعنى التدمير عبر الأذية والاضرار وانتهاك وجود الاخر). وفي هذا الاطار لابد من الاشارة إلى أنها لا تنبثق دائما على شكل سلوكات عنيفة موجهة، سواء ضد الذات أو ضد الاخرين. بمعنى أنها ليست دائما مقترنة بالعنف الا في حالات معينة حسب طبيعة شخصية الانسان، وكذا حسب طبيعة تأثير البيئة الاجتماعية التي ينتمي اليها. أي أن الفعل العنفي يمكن أن يكون نتاجا لانبثاق العدوانية لدى الفرد أو الجماعة من جهة، ولكن، من جهة أخرى، لا تعبر العدوانية عن نفسها دائما عن طريق العنف. إضافة إلى كونها معطى سيكولوجيا متعلق بالبنية الداخلية للذات الانسانية، بينما العنف هو معطى تتم أجرأته على أرض الواقع ويتبدى كفعل اجتماعي للذات الانسانية في وجودها المادي الملموس. وهذه الخلاصة تحيلنا مرة أخرى على الإشكال الذي يعالج مسألة العنف في اطار الثنائية المفارقة التي تشتمل على الطبيعة والثقافة التي تحاول الاجابة عن السؤال الاشكالي؛ هل العنف لدى الكائن الانساني طبيعي ذو جذور سيكولوجية، أم ثقافي على شكل بناء اجتماعي للفعل العنفي؟
2.2-العنف ومفهوم الصراع: من التفاوض الاجتماعي إلى الصدام
بعد التطرق للتداخل الحاصل على المستوى المفاهيمي بين كل من مفهومي العنف والعدوانية، سيكون لزاما علينا لدواع منهجية أيضا، أن نحاول سبر أغوار التمفصل الحاصل في العلاقة بين كل من مفهوم العنف ومفهوم الصراع. هذه العلاقة التي كثيرا ما تتمشكل ويكتنفها الغموض والتداخل على مستوى أية محاولة لتحقيق فهم نظري لظاهرة العنف. وغالبا ما تتداخل تعريفات العنف مع تعاريف الصراع. رغم أن هذا الأخير لا يلحق دائما الاذى الجسدي أو المعنوي بالآخرين، ويمكن حله بالتفاوض دون أي لجوء لاستعمال القوة. عكس العنف الذي لا يحدث فيه ذلك. وهذا ما يؤدي للخلط بينهما في أحايين كثيرة. فما الذي نقصده اذن بمفهوم الصراع ؟
بالتأمل في الأدبيات السوسيولوجية، نصادف مفهوم الصراع، وهو يحيل على كل مواجهة قصدية بين الأفراد والجماعات، هذه المواجهة التي لا تغيب عنها بتاتا النوايا العدائية بين الأطراف المشاركة فيها. فهؤلاء الأطراف، سواء كانوا أفرادا أو جماعات، لهم مصالح وغايات متباينة، بل وحتى متنافرة، ولهم أيضا رهانات مختلفة. هاته الأخيرة ينضاف اليها ذلك التفاوت الكبير الذي يميز قدرة كل طرف من هذه الأطراف على توظيف امكاناته من أجل تسيير أفضل لمجريات ذلك الصراع بغية ربح رهانه، لكن ادارة الصراع بذلك المنطق بغية ربحه لا تعني أن الغاية منها هو انهاء الصراع بشكل تام وحاسم، بل العكس من ذلك، على اعتبار أن الصراع هو جوهر الحياة الاجتماعية. رغم أنه في بعض الاحيان يمكن أن يتحول ذلك الصراع إلى فعل عنفي بسبب تراكم مستوى الكراهية والحقد بين أطرافه، وبلوغ الاقصاء الاجتماعي لدرجته القصوى، هذه الحالة تستعصي معها اليات التفاوض، التي تؤطر عملية الصراع، عن تدبيره بصفة معقولة، الشيء الذي يقود نحو اثارة نوع من العدوانية واستنفارها، وبعد ذلك تتم ترجمتها إلى أفعال عنفية، سواء من أحد الطرفين، أو من كليهما معا. مما يعطي اشارة على كون العنف، وعلى غرار مفهوم العدوانية، لا يتماهى بتاتا في مجمل حالاته مع الصراع. فما مرد ذلك؟
وهذا مرده، لكون العنف يخالف في هذه الحالة معقولية الحوار الاجتماعي ومبادئ التفاوض. فالصراع، كما أسلفنا الذكر، يحتل مكانة جوهرية في قلب الحياة الاجتماعية، كما يشكل دينامية اجتماعية لا تكف عن التجسد في الأنساق المجتمعية بأشكال تتلون بتلون طبيعة الأطراف المساهمة فيه، باعتباره علاقة تنازعية من دون أن تكون غايتها المحركة هي نفي الاخر، بشكل حاسم وكلي، خارج مجال التعبير التفاوضي الذي توجده البنية الاجتماعية، وعقلها الأخلاقي، بغية تدبير اليات العيش المشترك.[19]
فالصراع يعكس حالة من اللا-توافق بين رغبات وأهداف الأطراف المشكلة له، وينشأ الصراع عندما يسعى الفرد، مثلا، إلى تحقيق أهدافه الشخصية، فيتداخل سعيه مع سعي شخص اخر لبلوغ أهدافه ومطامحه، فتبزغ حالة اللاتوافق تلك إلى الواجهة وتدفعهما إلى التفاوض بغية تدبيرها بالشكل الأمثل. فالصراع لا يؤدي دائما إلى الاضرار بالأخرين، وخصوصا اذا ما تم توجيهه في الاتجاه الصحيح. بمعنى أنه يمكن في حالات معينة أن يتحول الصراع أحيانا إلى عنف واضح بين الأطراف المشكلة لحديه[20]. وهنا، نصادف العديد من الباحثين في السوسيولوجيا وهم يميلون نحو اعتبار الكائن الانساني مدفوعا لممارسة العنف بسبب التنافس والصراع من أجل البقاء على قيد الحياة. بمعنى أن الصراع يمكن أن يكون دافعا من دوافع اللجوء إلى تبني الممارسات والأفعال العنفية. رغم أنه ليس مفهوما معوضا وبديلا لمفهوم العنف.[21]
لهذا، ما دامت مجمل تلك التعاريف قد ركزت بشكل كبير، على ابراز مسألة الصراع كسمة تميز التفاعلات الاجتماعية داخل المجتمع، وهي ايجابية كونها تكتسي أهمية في الحياة الاجتماعية للأفراد، وبالتالي فهي تكتسي طابعا بناء وايجابيا اذا تم توجيهه بالشكل والاتجاه الصحيحين. و لا يؤدي دائما نحو نشوب العنف بصفة ملازمة الا في حالات معينة. الا ان السؤال الذي يطرح نفسه بشدة في هذه الحالة هو كالتالي: كيف يدفع الصراع اذن نحو نشوب حالة العنف بين الأطراف المشكلة له ؟
يضطرنا هذا، لمحاولة استحضار اسهام السوسيولوجي “ميشيل فيفيوركا“، والذي مال نحو اعتبار مفهوم الصراع بكونه يحيل على تلك العلاقة التي تم بناؤها وتنظيمها اجتماعيا، وتتسم بمجموعة من الخصائص، لعل من أبرزها خاصية التعارض، وخاصية التفاوض. بمعنى أن كل علاقة صراعية تجمع بين طرفين أو أطراف تكون متعارضة ومتنافسة فيما بينها. ولكن العنف حسبه، لا يظهر في الواجهة الا في اللحظة التي تقوم فيها تلك الاطراف المشكلة لحدي علاقة الصراع، بسد افاق النقاش والحوار والتفاعل فيما بينها، واختارت تلك الأطراف منحى القطيعة في علاقتهم الصراعية[22]. بمعنى أن العلاقة الصراعية، بوصفها علاقة غير متكافئة تجمع بين أطراف متعارضة في توجهاتها وأهدافها، لا تتحول إلى حالة العنف الا حينما يكتنفها خلل معين في التفاعل، يمهد لوصول الأطراف ضمنها إلى باب مسدود، فتختل معه المقومات التي كانت تستند عليها تلك العلاقة الصراعية. ويبين “ميشيل فيفيوركا”، بأن الانتقال إلى حالة العنف، يمكن رده إلى مجموعة من العناصر المتحكمة في سيرورة الانتقال تلك؛ على غرار العناصر المتعلقة بالشخصية، والثقافة التي تنتمي اليها تلك الذوات أو الأطراف، والتي تقوم بإنتاجها والتعبير عنه. فالذات تلجأ لممارسة العنف المضاد كرد فعل على عنف سبق أن تعرضت له، أي انها تقوم بعملية شرعنة لعنفها الخاص، وذلك عن طريق إضفاء صفة رد الفعل عليه.
كما أنه من اللازم الانفتاح على وجهة نظر “كارل مانهايم” حول مفهوم الصراع في علاقته الجدلية مع مفهوم العنف. ولهذا فان “مانهايم” ما فتئ يعتبر بأن التناقض والتقاطع بين أفكار ومبادئ ومعتقدات الطبقة الحاكمة التي تعتقد بأنها الأجدر، أكثر من غيرها، بتقلد تلابيب السلطة والحكم باعتبارها تتمتع بالنبل والثقافة والمؤهلات اللازمة لقيادة المجتمع، وبين الطبقة المحكومة التي تستفحل في أوساطها الأفكار الطوباوية التي تجعلها تؤمن بأنها الأحق بقيادة المجتمع وتسطير مصيره بحكم سعة حجمها وكذا جسامة التضحيات التي تبذلها من أجله. »ان مثل هذا التناقض والتقاطع بين افكار ومبادئ ومعتقدات الطبقة الحاكمة (الايديولوجية) والطبقة المحكومة (الطوبائية) هو الذي يؤجج نار الصراع بين الطبقتين، والصراع غالبا ما ينتهي بالثورة الاجتماعية التي تقوم بها الطبقة المحكومة ضد الطبقة الحاكمة. والثورة سواء كانت سياسية أو عسكرية أو اجتماعية أو اقتصادية أو فكرية أو مؤسسية لابد ان تقود إلى تغير المجتمع من شكل إلى شكل اخر« [23]. وهنا تأكيد من طرف “كارل مانهايم” على كون الصراع القائم بين الطبقة الحاكمة والمحكومة، غالبا ما يقود نحو بزوغ فجر العنف والذي يتبدى على شكل ثورات عسكرية أو سياسية وغيرها، وخصوصا من طرف المحكومين ضد الحاكمين، وهدا الصراع الذي ينقلب إلى عنف أو صدام متعدد الأبعاد، سيقود المجتمع في نهاية المطاف، نحو تسطير الخطوط العريضة للتغير الاجتماعي على جل مستويات الحياة الاجتماعية.
من جهة أخرى، نستحضر أيضا اسهام السوسيولوجي “رالف داهرندورف”، والذي مال نحو اعتبار الصراع، بأن وظيفته لا تكمن في الحفاظ على الوضع القائم في المجتمع، رغم أنه أحيانا يؤدي إلى تقوية النظام، ولكنه غالبا ما يتجه نحو تحقيق تغيير تدريجي (على غرار تصور “كارل منهايم”)، واعتبر بأن الصراع، وخصوصا بين الطبقات، يمثل احدى الظواهر المهمة في المجتمع الحديث[24]. ويميز “رالف داهرندورف” بين بعدين اثنين للصراع: بعد يشمل الكثافة، وبعد يشمل العنف. بحيث يترجم بعد الكثافة، درجة انخراط الاطراف المعنية في علاقة الصراع، بينما يكشف بعد العنف، عن مختلف الوسائل المستعملة في ذلك الصراع، حيث غالبا ما تبدأ مستويات العنف بأشكال غير مادية، على غرار التهديد، ثم تتصاعد وتيرتها شيئا فشيئا، حتى تصل إلى مستوى العنف المادي. فيصير العنف في هذه الحالة، بمثابة بديل استراتيجي للأطراف حين تستغرق سيرورة الصراع كثيرا. ويضيف “رالف داهرندورف” بأن مجموعة من الأسباب الأخرى التي تقود عملية التحول هذه، من وضعية الصراع باتجاه وضعية العنف، تتمثل أيضا في حرمان الأفراد بشكل مطلق من الموارد التي يسعون إلى الوصول اليها، مما يسهم اسهاما كبيرا في دفعهم إلى تبني العنف. بشدة أكبر من أولئك الأفراد الذين تم حرمانهم من الموارد بشكل نسبي.[25]
بمعنى أنه يؤكد اذن، على كون مسألة انتاج العنف، تابعة بدرجة كبرى لمستوى الحرمان الذي يعيشه الأفراد داخل المجتمع، والمنخرطين في علاقة صراعية. فكلما تعرض الأفراد لحرمان نسبي، فإن احتمالية اللجوء إلى العنف ستتضاءل، والعكس سيحدث لو تم حرمانهم بشكل مطلق، آنذاك سيتجهون بشدة نحو تبني الفعل العنفي، هذا الأخير سيصير بالتالي خللا قد حل بسيرورة الصراع، وفشله عن تحقيق أهدافه التي كان يصبوا اليها، وتحول إلى عامل من عوامل الصدام العنيف في الحياة الاجتماعية للأفراد. فالصراع بمثابة الشيء الجوهري لأي تنظيم اجتماعي، سواء أكانت تنظيمات اقتصادية كالمقاولات، أو تنظيمات غير اقتصادية كالأسرة أو المدرسة. وبالإضافة إلى “رالف داهرندورف”، نجد أيضا “لويس كوزر” الذي حاول التوفيق بين المنظور الصراعي والمنظور الوظيفي، حيث عرف الصراع بكونه كفاحا حول القيم، والمطالبة بالمكانة النادرة، والقوة، والموارد، كما أشار إلى أنه يشمل أيضا تلك الحالة أو الوضعية التي يكون فيها هدف الجماعات الاجتماعية المتصارعة فيما بينها هو محاولة للتخفيف من حدة الضرر، أو التخلص من منافسيهم.[26]
فيتضح اذن، أن مختلف هؤلاء الرواد، قد ركزوا على كون مفهوم الصراع لا يتماهى دائما مع مفهوم العنف، ولا يتخذ نفس دلالته. فالصراع هو جوهر الحياة الاجتماعية، ويمكن اعتباره عنصرا بناء داخل المجتمع، وعاملا مساهما في التغير الاجتماعي. ولا يؤدي إلى بزوغ فجر العنف، سوى في الحالات التي تختل فيها الموازين، وتنهار فيها الأسس التي يقوم وجودها على ضمان استمرار عملية الصراع على مقومات معقولة تخدم كل الأطراف المشاركة فيها، في سعيها إلى تحقيق أهدافها. وهنا تتأتى ضرورة الفصل بين كلا المفهومين أثناء محاولة مقاربة ظاهرة العنف.
وباتخاذنا وجهة فلسفية، نألف محاولة توليفية بين كلا المفهومين. وهنا نستحضر أطروحة المنظور الصراعي الجدلي (الذي يمثله هيجل على سبيل المثال)، والذي يشير إلى كون العلاقة الأساسية بين الذوات هي بمثابة علاقة صراع على المستوى الوجودي. وهذا هو نفس التصور الذي طورته الوجودية السارترية (نسبة إلى الفيلسوف ج.ب. سارتر). لأن الذات تحتضن في جوهرها رغبة تسعى إلى تحقيقها، وهذه الرغبة دائما ما تصطدم برغبة الذوات الأخرى. وتمتد حتى تبلغ درجة تصبح فيه الرغبة في الشيء رغبة في الاخر، أي رغبة في نفي الذوات الأخرى، وذلك من أجل التمكن من نزع الاعتراف منها. باعتبارها كلية ذوات مشاركة في لعبة الصراع الوجودي. وهذا الصراع يمكن اعتباره بمثابة صراع قاتل من أجل بلوغ غاية اثبات الذات، وكذا انتزاع اعتراف الاخر بها. ويبين “محمد سبيلا”، بأن هذه الدراما هي التي تجسدها صراع النظرات عند “سارتر”، فكل ذات تحاول أن تنفي الذوات الأخرى وتحولها إلى موضوع بواسطة النظرة. فالنفي والصراع مكونان أساسيان من مكونات الواقع الوجودي للأفراد. وبالتالي يمكن اعتبار العنف والصراع بمثابة محركين لسيرورة الطبيعة والتاريخ والمجتمع والفرد[27]. رغم أن هيجل ضمن هذا الطرح الميتافيزيقي، نجده لا يدعوا بالضرورة إلى تبني العنف، لكنه يؤكد على أنه مطلوب بغية نفي الذوات الأخرى ونزع الاعتراف منها، وهنا تتم المصادقة على العنف كجزء ضروري من عملية التحقق الديالكتيكي أو الجدلي للروح المطلق.
3-اللحظة التحليلية الثالثة: العنف ومتلازمة الجريمة والانحراف .. أي دور للمعايير الاجتماعية؟
يحدث أن نصادف في أحايين كثيرة، نوعا من الالتباس الذي يلازم محاولات العديد من الباحثين كلما كانوا بصدد الانخراط في أية محاولة لتعيين حدود موضوعية لمفهوم العنف، واستجلاء وتوضيح مختلف النواحي التي يتقاطع فيها هذا الأخير مع كل من مفهومي الجريمة والانحراف، ودرئا لمثل هذا اللبس، ورغبة في تجاوز ذلك الخلط الذي يحصل في هكذا محاولات، سيكون لزاما علينا أولا التمكن من معرفة الدلالة التي يكتسيها كلا المفهومين. قبل أن ننطلق في محاولة الفصل بينها نظريا.
كما سنعتمد بشكل أساسي على اسهام “أنطوني غيدنز”، والذي أشار بخصوص مفهوم الانحراف، على أنه مفهوم يحيل بشكل عام على مختلف السلوكات و الأفعال التي تخالف المعايير التي يقرها العرف العام. وأبرز في هذا الاطار، بأن مفهوم الانحراف قد يتغير معناه ومعه حمولته، من وقت إلى أخر و من مكان إلى آخر، بل إن ما يعتبر سلوكا سويا و قويما في سياق ثقافي ما، قد يوصف بأنه منحرف في سياق ثقافي آخر. فمفهوم الانحراف بحد ذاته، يعد أوسع وأكثر شمولا من مفهوم الجريمة، هذا الأخير الذي يشير إلى التصرفات غير الامتثالية التي تخالف القانون[28]. بمعنى أن مفهوم الانحراف يشمل مختلف السلوكات الاجتماعية التي تخرج و تنحرف عن المعايير الاجتماعية التي يسطرها المجتمع. و يتم تمييز مفهوم الانحراف عن مفهوم الجنوح، بكون هذا الأخير يشير فقط إلى السلوكات الانحرافية التي يعاقب عليها القانون. و هو نفس المعنى الذي يبرزه مفهوم الجريمة، و الذي يقصد به مجموع تلك الممارسات الانحرافية التي يحظرها القانون الجنائي ويعاقب عليها مرتكبيها داخل كل مجتمع.[29]
فنخلص، بعد التأمل في كلا التعريفين، إلى كون مفهوم الانحراف، يشير بصفة عامة إلى رفض أفراد أو جماعات اجتماعية معينة، الالتزام بالقواعد والمعايير الاجتماعية التي يسنها المجتمع، ويلتزم باحترامها وإتباعها معظم الأفراد والجماعات الاجتماعية في سياق اجتماعي معين، لتأطير تصرفاتهم و أنماط سلوكهم داخله.
أما مفهوم الجريمة فيرتبط بمفهوم الانحراف ارتباطا وثيقا، رغم أن كلا المفهومين يتراوحان في الدلالة و المعنى والقبول الاجتماعي و القانوني[30] . لماذا ؟ لأن القانون الجنائي قد لا يطبق على كثير من حالات الانحراف داخل المجتمع، و بالتالي فهذا ما يبين بأن كلا من مفهومي الانحراف والجريمة ليسا مترادفين ومتطابقين في المعنى أحيانا، ولكن ذلك لا ينفي كونهما مترابطين ومتداخلين في أحيان أخرى حسب السياق الاجتماعي والثقافي.
من خلال ما سبق، يتضح أن الانحراف ليس هو الجريمة، لكن كل جريمة هي في أصلها انحراف، والتحديد القانوني للسلوكات الانحرافية التي يتم اعتبارها جرائم من منظوره الخاص، هي التي تسطر تلك الفواصل الرفيعة بينهما، أي بين كل من الجريمة والانحراف.
مما صار يفرض علينا، بعد تحديدنا للدلالات التي يحيل عليها كل من مفهومي الانحراف والجريمة، وتطرقنا للعلاقة التي تجمع بينهما، ضرورة القيام تاليا، بمحاولة لفهم موقع العنف داخلهما. وقد رأينا أن اسباغ سمة الانحراف أو الجريمة، باعتبارها شكلا من أشكال الانحراف الذي يعاقب عليه القانون، يتم بناء على مفهوم أساسي يتمثل في مفهوم “المعايير الاجتماعية”؛ والتي تعرف بأنها مجموعة من قواعد التصرف التي يضعها المجتمع لتحديد السلوك الملائم في عدد من السياقات الاجتماعية. بحيث أن تلك المعايير الاجتماعية قد تسمح بنمط من معين من أنماط السلوك أو قد تمنعها وتحظرها. مع العلم أن كافة الجماعات البشرية تتبع أنماطا محددة من المعايير الاجتماعية، والتي دائما ما تكون مدعومة بعقوبات من نوع أو اخر، تتراوح ما بين عدم التقبل غير الرسمي، إلى العقاب البدني او الاعدام كأقصى درجة من العقاب[31]. على ماذا يحيلنا هذا اذن ؟
مما يحيلنا على فكرة كون الفعل العنفي بمثابة فعل يتم تسطير حدوده حسب موقعه من المعايير الاجتماعية. أي أن الفعل العنفي اذا ما انتهك المعايير الاجتماعية التي سطرها التنظيم الاجتماعي فهو يصير انحرافا، أي سلوكا لا معياريا. واذا كان هذا الفعل المنحرف عن المعايير، أي الفعل العنفي، يعاقب عليه القانون بوصفه جزءا من منظومة المعايير والضوابط داخل المجتمع، فهو يصير جنوحا أو جريمة. مما يستتبعه عنف مضاد بغية تقويمه أو انهاء وجود القائم به كجزاء، سواء أكان رسميا أم غير رسمي. وهنا تتبدى لنا تلك الجدلية المستمرة من العنف والعنف المضاد داخل المجتمع. فالعنف هو خروج عن المعايير الاجتماعية، وفي نفس الان، هو نتاج لتلك المعايير الاجتماعية.
فالفعل العنفي اذن، يكون في ارتباطه مع الجريمة والانحراف خاضعا لمدى قربه أو بعده عن حدود نطاق المعايير الاجتماعية والقيم الاجتماعية التي سطرها المجتمع؛ باعتبارها تمثل كل تلك الأفكار التي يعتنقها ويعتمدها الأفراد والجماعات الاجتماعية لتحديد السلوكات المرغوبة والقويمة، علما أن هذه القيم تختلف وتتباين حسب اختلاف وتباين الثقافات الانسانية التي يعيش ضمنها الأفراد. ومن ثمة، فالسلوك العنفي الذي يعتبر انحرافا أو جريمة في جماعة اجتماعية ما، أو مجتمع ما، أو ثقافة ما، قد لا يعد كذلك في سياق جماعة اجتماعية، أو مجتمع، أو ثقافة أخرى. وهنا تتبدى مدى نسبية أية محاولة لتعيين الفعل العنفي في ارتباطه مع مفهومي الجريمة والانحراف، وخضوعها لمبدأ اختلاف السياقات الاجتماعية التي ينبثق فيها، والتي تقوم بالحكم على ماهيته بناء على مدى تناقضه وتعارضه مع منظومة المعايير والقيم الاجتماعية السائدة فيها.
خاتمة:
نخلص في نهاية حلقات سيرورتنا التحليلية، إلى أن مقاربة مفهوم العنف، ورغم مختلف الاشكالات التي تكتنفه، وتعترض محاولات تعيينه سوسيولوجيا بتعريف ثابت وشامل، نظرا لتداخلاته وتمفصلاته النظرية مع ثلة من المفاهيم القريبة له في الدلالة، من قبيل مفاهيم العدوانية، والصراع، والجريمة، والانحراف. الا أنه بالإمكان تأصيله سوسيولوجيا، وبناء تعيين نظري ملائم له في اطار الدراسات السوسيولوجية. من خلال قيام الباحثين بتبيان أنماط تلك التمفصلات، وطبيعة علاقته وصلاته بها، وكذا توضيحها في سياقاتها النظرية المختلفة. وذلك بالاعتماد على اليات انتقال ابستيمولوجية معقولة توضح اطار عمل كل مفهوم على حدة، والامكانيات التي يتيحها الاشتغال به، وفرص انفتاحه على باقي المفاهيم الأخرى القريبة له في الدلالة و المعنى.
قائمة المراجع:
1-الحيدري ابراهيم: سوسيولوجيا العنف والارهاب، 2015.بيروث، دار الساقي.
2-العطري عبد الرحيم، وغياتأ حمد، و الودغيري حنان، و البيه فاطمة، و دليل رضا، و مداد يوسف، وعلوي خديجة، وتوفيق جلال: التشرميل: تأملات في “عنف” الشباب، 2016، ترجمة عزيز مشواط، الدار البيضاء، دار نشر الفنك.
3-إحسان محمد الحسن: النظريات الاجتماعية المتقدمة: دراسة تحليلية في النظريات الاجتماعية المعاصرة. 2015، طبعة 3، عمان، دار وائل للنشر.
4-أوزي أحمد:سيكولوجية العنف عنف المؤسسة ومأسسة العنف. الدار البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة.
5-أنطوني غدنز: علم الاجتماع، 2005، طبعة 4، ترجمة فايز الصياغ، بيروث، المنظمة العربية للترجمة.
6-أنطوني غدنز: مقدمة نقدية في علم الاجتماع، 2006، طبعة 2، ترجمة زايد محمد، ومحمد الجوهري، والسمري عدلي، ومحمد محيي الدين، القاهرة، مركز البحوث والدراسات الاجتماعية.
7-باربرا ويتمر: الأنماط الثقافية للعنف، 2007، (ترجمة ممدوح يوسف).عالم المعرفة، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.
8-بدوي أحمد زكي: معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، 1986، بيروث، مكتبة لبنان.
9-بهاوي محمد: العنف والعدالة، 2013، الدار البيضاء، افريقيا الشرق.
10-حنا ارندت: في العنف (ترجمة ابراهيم العريس)، 1996. بيروث، دار الساقي.
11-حجازي مصطفى: معجم مصطلحات التحليل النفسي، 1985، الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية.
12-عنصر العياشي، 2012. » المجتمع والعنف «، مجلة انسانيات، عدد أكتوبر.
13-غيث محمد عاطف: قاموس علم الاجتماع، 1979، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
14-طلعت ابراهيم الزيات، وكمال عبد الحميد لطفي: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع. 1999، القاهرة، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع.
15-سبيلا محمد: مدارات الحداثة، 2009، طبعة 1. بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
16-شهاب اليحياوي: نحو تدقيق مفاهيمي سوسيولوجي للعنف (مقالة نشرت ضمن الكتاب الالكتروني: التعصب والتطرف والعنف)، 2018، مؤسسة مؤمنون بلا حدود.
17-Mauger, G. : La sociologie de la délinquance Juvénile, 2009, Paris, La Découverte.
18-Leclerc, D. B : Guide de Prévention et d’intervention contre la violence envers le personnel et l’éducation, 2012, Canada, Centrale des bibliothèque et archives,
19-Johnson, Doyle Paul: Contemporary sociological theory: An integrated multi-level approach. 2008, Springer-Verlag, New York..
20-Ringa Rachid, et Clermont Gauthier, et Denis Jeffrey, et Martine Timsit Berthier, et Laurent Mucchielli, et Maurice Cusson, et Xavier Raufer, et Alaya Allani, et Mohamed Daki: Violence et Crimes: Manifestations et Remèdes, 2011, Rabat, Editions Rabat.
21-Sillamy, N : Dictionnaire Encyclopédique de Psychologie, 1980, Paris, ED Mastrojan et Mantage.
22-Tursz Anne : Vers le plan national violence et santé-Rapport général, 2005, France, Ministère de la santé et des solidarités.
23-Weiviorka. M (2004, Jan-Jun) : Pour comprendre la violence Hypothèse du sujet. Sociedade e Estado, Brasilia. V.19, N,1.
[1]الحيدري ابراهيم: سوسيولوجيا العنف والارهاب، 2015.بيروث، دار الساقي، ص19-20.
[2]أوزي أحمد:سيكولوجية العنف عنف المؤسسة ومأسسة العنف. الدار البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، ص 11.
[3] حنا ارندت: في العنف (ترجمة ابراهيم العريس)، 1996. بيروث، دار الساقي، ص 39-41.
[4] غيث محمد عاطف: قاموس علم الاجتماع، 1979، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 209.
[5] بدوي أحمد زكي: معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، 1986، بيروث، مكتبة لبنان، ص 441.
[6] باربرا ويتمر: الأنماط الثقافية للعنف، 2007، (ترجمة ممدوح يوسف).عالم المعرفة، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ص 8-9.
[7] بهاوي محمد: العنف والعدالة، 2013، الدار البيضاء، افريقيا الشرق، ص 16-17.
[8]سبيلا محمد: مدارات الحداثة، 2009، طبعة 1. بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ص 189-190.
[9] باربرا ويتمر، مرجع سابق، ص .6
[10] Tursz Anne : Vers le plan national violence et santé-Rapport général, 2005, France, Ministère de la santé et des solidarités, P: 19.
[11] العطري عبد الرحيم، وغيات أحمد، و الودغيري حنان، و البيه فاطمة، و دليل رضا، و مداد يوسف، وعلوي خديجة، و توفيق جلال: التشرميل: تأملات في “عنف” الشباب، 2016، ترجمة عزيز مشواط، الدار البيضاء، دار نشر الفنك، ص 161.
[12] بهاوي محمد: العنف والعدالة، 2013، الدار البيضاء، افريقيا الشرق، ص 19-20
[13] باربرا ويتمر، مرجع سابق، ص 11
[14] Ringa Rachid, et Clermont Gauthier, et Denis Jeffrey, et Martine Timsit Berthier, et Laurent Mucchielli, et Maurice Cusson, et Xavier Raufer, et AlayaAllani, et Mohamed Daki: Violence et Crimes: Manifestations et Remèdes, 2011, Rabat, Editions Rabat, PP 25-26
[15] شهاب اليحياوي: نحو تدقيق مفاهيمي سوسيولوجي للعنف (مقالة نشرت ضمن الكتاب الالكتروني: التعصب والتطرف والعنف)، 2018، مؤسسة مؤمنون بلا حدود. ص 6 [16]عنصر العياشي، 2012.» المجتمع والعنف «، مجلة انسانيات، عدد أكتوبر، ص 73-80.[17] Sillamy, N : Dictionnaire Encyclopédique de Psychologie, 1980, Paris, ED Mastrojan et Mantage, P 34
[18]حجازي مصطفى: معجم مصطلحات التحليل النفسي، 1985، الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، ص 230 [19] اليحياوي شهاب، مرجع سابق، ص 10[20] Leclerc, D. B : Guide de Prévention et d’intervention contre la violence envers le personnel et l’éducation, 2012, Canada, Centrale des bibliothèque et archives, P 12
[21] الحيدري ابراهيم، مرجع سابق، ص 28[22] Weiviorka. M (2004, Jan-Jun) : Pour comprendre la violence Hypothèse du sujet. Sociedade e Estado, Brasilia. V.19, N,1, pp. 21-51
[23] احسان محمد الحسن: النظريات الاجتماعية المتقدمة: دراسة تحليلية في النظريات الاجتماعية المعاصرة. 2015، طبعة 3، عمان، دار وائل للنشر، ص 136-137
[24]جيدنز، أنطوني: مقدمة نقدية في علم الاجتماع. 2006، طبعة 2، ترجمة زايد محمد، ومحمد الجوهري، والسمري عدلي، ومحمد محيي الدين، القاهرة، مركز البحوث والدراسات الاجتماعية، ص 55[25] Johnson, Doyle Paul: Contemporary sociological theory: An integrated multi-level approach. 2008, Springer-Verlag, New York, P.378
[26] طلعت ابراهيم الزيات، وكمال عبد الحميد لطفي: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع. 1999، القاهرة، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، 100-101 [27]سبيلا محمد، نفس المرجع، ص 192-193 [28] أنطوني غدنز: علم الاجتماع، 2005، ترجمة فايز الصياغ، طبعة 4، بيروث، المنظمة العربية للترجمة، ص 306[29]Mauger, G. : La sociologie de la délinquance Juvénile, 2009, Paris, La Découverte, P 11
[30] أنطوني غدنز، مرجع سابق، ص 279 [31] أنطوني جيدنز، مرجع سابق، ص 258