للعناوين أهمية بالغة في فكّ شفرة النص وهذا ما سعت إليه المقاربات السيميائية، لأنه أحد المفاتيح الأولية والأساسية التي على الباحث أن يحسن قراءتها وتأويلها، والتعامل معها، فهو بمثابة عتبة (Seuil) على الدارس أن يطأها قبل إصدار أي حكم([1]).
إن العلاقة (النص/ العنوان) بالأساس «علاقة جدلية، إذ بدون النص يكون العنوان وحده عاجزا عن تكوين محيطه الدلالي، وبدون العنوان يكون النص باستمرار عرضة للذوبان في نصوص أخرى» ([2])
العنوان إذن هو الذي يضيء فضاء النص، و يساعد على استكشاف أغواره، فيكون العنوان بكل ذلك ضرورة كتابية تساعد على اقتحام عوالم النص؛ لأن المتلقي يدخل إلى” العمل ” من بوابة ” العنوان ” متأولا لــه، و موظفا خلفيته المعرفية في استنطاق دواله الفقيرة عددا و قواعد تركيبه و سياقه ، و كثيرا ما كانت دلالية العمل وفهمه هي نتاج تأويل عنوانه، أو يمكن اعتبارها كذلك دون إطلاق، كما يأخذ العنوان أهميته من كونه علامة كاملة تحمل دالا و مدلولا.([3]) لهذا يمثل العنوان أعلى اقتصاد لغوي ممكن، و هذه الصفة على قدر كبير من الأهمية، إذ أنها – في المقابل – ستفرض أعلى فعالية تلق ممكن، مما يجعل المتلقي فعالا بشكل كبير في قراءة العنوان، وهي فعالية تتضح من خلال البحث عن دلالات العنوان من خارج العمل، وعن تفاصيل كاملة من داخله، و حين يشرع المتلقي في فك شفرات النص تتحدد تلك الدلالات التي استقاها من خارج العمل. وعلى الرغم من أن العنوان نص مختصر مقلص فإنه يلعب دورا هاما وحاسما في الأعمال الأدبية.
«إنه المفتاح الإجرائي الذي يمدنا بمجموعة من المعاني التي تساعدنا في فك رموز النص، وتسهيل مأمورية الدخول في أغواره وتشعباته الوعرة» ([4]). وبناء على هذا، قد يكون بالإمكان استكناه مدلولات العنوان في النص بما أنه حاضر في البدء وخلال السرد الذي يدشنه، ويعمل كأداة وصل وتعديل للقراءة, فما المدلولات التي يحملها العنوان الرئيس الذي اختارته الأديبة عفاف السمعلي ؟ وهل تقاطع مع الحمولة الدلالية للعناوين الداخلية للنص الروائي ؟
تضمنت الرواية عشرة عناوين فرعية وللرقم عشرة دلالته في بعض المعتقدات منها الكمال والخوف والاختيار فإن كان كمال الإنسان لا يكون إلا بنصفه الآخر الذي يتمم نقصه ويؤنس وحشته ممثلا في شمس وقمر, كذلك دورة الحياة لا تكتمل إلا بتعاقب الليل والنهار ,فإن الخوف يتجلى فيما حل بالوطن من خراب ودمار وفي المستقبل الذي تخشاه شمس , أما الاختيار فلا شك مكمنه خوض الكاتبة لهذه التجربة السردية بعد ردح من الزمن قضته في أحضان القصيد .
حملت الفصول عناوين : “طيف الياسمين ” و” أفوف الورد” “شموع الحب” و ” حب وحرب ” و” ورود الاشتهاء ” و”أغنية المطر” و” بغداد والعراقي الأسمر” و” أشياء للذاكرة” و” شهادة الوطن ” و”أمطرت السماء وردا” ([5]) ويهيمن عليها حقلين دلالين بارزين أولهما حقل (الورود) والثاني حقل (الحب)الأول بما يمثله من أمل وتفاؤل وجمال ,ضوالثاني بما يمثله من عواطف وأحاسيس اتجاه المحبوب واتجاه الوطن الذي لاينقطع حنيننا له ما إن نتغرّب عنه كحنين الزهر للربيع المنتظر .
فإلى أي مدى كان “حنين” كعنوان وفيا للنص الحكائي ؟ وهل تصدق عليه مقولة: “الظاهر عنوان الباطن” ؟…
أول ما يلفت انتباهنا أنه دال مفردة ، موغل في الاقتصاد اللغوي والاختزال , إن كلمة “حنين” هكذا مجردة توحي بالرحمة والعطف والإشفاق والرّقّة والشوق من جهة والرزق والبركة من جهة أخرى ومن جهة ثالثة توحي بمعنى البكاء الشديد و الطرب من حزن أو فرح
وإن كنا نرى في كلمة “حنين” كل هذه المعاني والدلالات، فإن “الحذف” في الجملة الاسمية منحها معان جانبية، ولم يقصرها على دلالة وحيدة كونها نكرة والتنكير ينفي عنها التحديد ويفتح إمكانات التأويل والإيحاء « فاتسعت الدلالة وأمكن تعددها»([6]) ، وإذا احتكمنا إلى النص الحكائي (محل الشاهد)، نستطيع أن نفترض أن كلمة “حنين” قد تحمل معنى الحزن وهو النبرة الطاغية على النص رغم شعاع الأمل الذي يلوح من بين ثنايا الغيوم التي قليلا ما تغسل أمطارها هذه الأدران “حنين” هو أقرب إلى البكاء على الأوطان فيرتفع صوت “قمر” وفيه ما فيه من حزن ” قال بصوت يحمل حشرجة البكاء كل الأوطان أوطاني ووطني جرح في دمي القاني “([7])، وطن يتمظهر أحيانا في صورة طفل يفجر عواطف الرحمة والإشفاق والعطف والرقة في نفس “شمس ” فتشعل ” شموعا من الأمل تتهاوى نظراتها المفعمة حنانا على روح كل طفل في فصلها “([8]) بل هو الحبيبة التي يترجاها لعلها تنصت لصوت القلب ” تسرب صوته إليها بنبرة حنونة :سيدتي :”أتسمحين أن نتجاذب بعض الحديث؟؟ أدبه ولطفه جعلاها تتجاوز ترددّها “([9]) وإن كان الحنين طرب من فرح أو من حزن فتلك الحالة التي ترتسم في تناغم بين قمر وشمس ” كانا يبكيان ويرقصان في نفس الوقت “([10]) إنه بكاء أشبه بالضحك وما الرقص إلا انتشاء وتحليق في سموات الوله ” حلق بأجنحة الفرح. دمع يسبح بحمى الوله “([11]) فيترائ له الوطن بسمة تنسيه قصائد الغزل وسهاد البعاد فيغدو عصفورا يحن إلى عشه ” أراك بسمة تغمر ثغري تشفيني.،عصفورا داخل شراييني يرتجف فيك حنيني فأبكي التنائي وطول السهد وأبكي عمري الذي مضى قبلك قصائد حب “([12]) هذه الصورة التي رسمت الوطن في صورة الحبيب المجافي لمحبّه يكابد ألم الفراق والهجرمن جهة، ومن جهة أخرى حضور تيمة الشوق التي تمهد لمستقبل أكثر إشراقا رغم الدموع المنهمرة وهو ما تحاول الكاتبة الوصول إليه في خاتمة القصة في صورة رائعة تصور فيها هذا الموقف المؤثر ” يمسح دموعها بكلماته الحنونة، وكرم أخلاقه، ومناوشاته الحلوة، ومقالبه المضحكة “([13])، فحتى لو لم يجزم الروائي بذلك، فلن نسلّم برأيه. وكأنّ الروائي يحاول أن يمارس علينا شيئا من التمويه، حتى لا نفكك رموزه بسهولة، وليضفي كذلك بعدا غرائبيا على مضامين بعض كلماته، إذ كيف يدعي أن الشوق يتعثر في صمتها وهي التي “تتسلل مثل نسائم الصيف ذراعاه…يباغتها بهما…تتعثر في صمت الأشواق قدماها”([14]) ، والنص مشحون بمصطلحات تفند هذا الزعم ؟ أليس من معاني الحنين ” الطريق الواضح” نعم إن حب الوطن والتضحية بكل غال ونفيس لأجله والنضال لتحرره هو الطريق الذي سلكته شمس”فما الحبيب إلا ” تونس ” _ المذكور في المتن _ والوطن نشيد لا تفتر الشفاه عن ترديده وما من حبيب سواه ” وحروف اسمها الأربعة أصبحت نغما يردده في الصبح والمساء”([15])
([1] ) سيميائية العنوان في مقام البوح لعبد الله العشي ص 270
([2] ) الطاهر رواينيه: “الفضاء الروائي في الجازية والدراويش لعبد الحميد بن هدوقة- دراسة في المبنى والمعنى”، المساءلة، ع1، ربيع 1991، ص15
([3] ) دلائلية النص الأدبي ، ص 27
([4] ) د. جميل حمداوي: “السيميوطيقا والعنونة”، عالم الفكر، الكويت، مج25، ع23، يناير/ مارس 97، ص90.
([5] ) عفاف السمعلي , رواية حنين , دار أبو غيداء للطباعة والنشر , بغداد , 2013
([6] ) سعيد سالم الجريري، شعر البردوني، قراءة أسلوبية، دار حضرموت للدراسات والنشر، المكلا، ط1، 2004م ص27
([7] ) عفاف السمعلي ، رواية حنين ,ص 22
([8] ) عفاف السمعلي ، رواية حنين ,ص 17
([9] ) عفاف السمعلي ، رواية حنين ,ص 21
([10] ) عفاف السمعلي ، رواية,ص 23
([11] ) عفاف السمعلي ، رواية حنين ,ص 27
([12] ) عفاف السمعلي ، رواية حنين ,ص 44
([13] ) عفاف السمعلي ، رواية حنين ,ص 110
([14] ) عفاف السمعلي ، رواية حنين ,ص 111
([15] ) عفاف السمعلي ، رواية حنين ,ص 101