
الأزمات الداخلية للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية 1958-1962 :”قضية عميرة علاوة أنموذجاً “
The internal crises of the Algerian government 1958-1962:
The case of Amira Alloua as a model
د.محمدي محمد/ جامعة محمد بوضياف المسيلة؛ الجزائر
- mhamdi Mohamed ; University Of M’sila ; Algerie
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 69 الصفحة 9.
ملخص:تروم هذه الدراسة التاريخية المتواضعة، تسليط الضوء البحثي والتاريخي نحو واحدة من القضايا الهامة والحساسة التي عاشت أطوارها الثورة التحريرية الجزائرية خلال سنوات كفاحها الطويلة 1954-1962، أين يتطرق موضوع الدراسة إلى أنموذج للأزمات الداخلية التي عاشتها الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية إبان مسيرتها التحررية منذ تاريخ تأسيسها (19 سبتمبر 1958) وإلى غاية استرداد الحرية والاستقلال (05 جويلية 1962)، والتي نجد أن قضية مقتل “عميرة علاوة” المناضل السابق في حزب الشعب الجزائري والصديق المقرب من الدكتور “محمد لمين دباغين”، الذي قتل في الـ 10 فيفري 1959 بالعاصمة المصرية “القاهرة” في ظروف أقل ما يقال عنها أنها كانت غامضة، وبذلك قد صنفت قضية مقتل “عميرة علاوة” أحد الأزمات الكبرى التي عاشتها الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.
الكلمات المفتاحية: عميرة علاوة؛ فرحات عباس؛ الحكومة المؤقتة؛ الأزمات الداخلية؛ مصر؛ الاغتيال؛ الانتحار.
Abstract:
The following historical study attempts, to one of the important issues of the Algerian liberation revolution of 1954-1962. It relates to one of the Most serious internal crises experienced by the Algerian revolution in general and the interim government in particular. It is the incident of the Mulder of the militant Amira Alloua in the Egyptian capital, Caro in the Winter of 1959. This has borough the resolutioner leadership into a cycle of internal conflicts, from which a number of important repercussions have been drain for the liberation revolution.
Keywords: The Provisionnel Gouvernement ; Infernal crises ; The assassinassions ; Suicide ; Égypt. ; Amira alloua ; Ferhat Abbas.
مقدمة:عديدة هي الانجازات السياسية والدبلوماسية التي حققتها الثورة التحريرية الجزائرية 1954-1962، بعد تأسيسها للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في الـ 19 سبتمبر 1958، لكننا بالمقابل من ذلك أيضاً نقف على الكثير من الأزمات والمشاكل التي مرت بها هذه الحكومة الوطنية الفتية، فمنذ الإعلان الرسمي عن تأسيس هذه الأخيرة كناطق رسمي باسم الثورة التحريرية ومٌسَيرة توجهاتها الداخلية والخارجية، كادت الأزمات الحادة التي شهدتها خلال مسيرتها القصيرة أن تعصف بالمنجزات التي حققها المجاهد بسلاحه والدبلوماسي بفكره لصالح الثورة التحريرية منذ اللحظة الأولى لاندلاعها ضد الاستعمار الفرنسي، كما كادت الأزمات سالفة الذكر أن تعصف بالوحدة الداخلية لجيش وجبهة التحرير الوطنيين، لولا التعقل والدعوة للحوار والتشاور عبر الاجتماعات والمؤتمرات الثورية، التي كانت بحق مفاصل لاحتواء الأزمات الكبرى والقضايا الشائكة في مسيرة الثورة التحريرية. ولا أدل على هذه الأزمات الثورية من قضية مقتل المناضل “عميرة علاوة” بالعاصمة المصرية “القاهرة” شتاء 1959، والتي صنفت كواحدة من أعقد وأخطر الأزمات الداخلية التي شهدتها الثورة التحريرية خلال مسيرتها التحررية.
وانطلاقا من الأهمية البالغة التي حازتها قضية مقتل المناضل “عميرة علاوة” بالنسبة لمسيرة الثورة الجزائرية عامةً، فقد حاولنا من خلال هذه الدراسة تسليط الضوء على القضية استقراءً ونقداً وتحليلاً، من أجل التوصل إلى كشف ظروف وحقائق هذه الأزمة وملابساتها إبان مرحلة الثورة وخلال أحلك وأصعب مراحلها السياسية والعسكرية، وعليه فقد حاولنا تفكيك إشكالية مقتل عميرة علاوة وانعكاساتها على المسارين السياسي والعسكري للثورة التحريرية؟ إلى مجموعة من التساؤلات الفرعية من أهمها: “من هو عميرة علاوة؟ وما هي ظروف مقتله؟ وما مدى تأثير قضية هذا الأخير على المسار السياسي والعسكري للثورة التحريرية الجزائرية…”؟.
وللإجابة على هذه الإشكالية فقد قمنا بتفكيكها إلى مجموعة من الأسئلة الفرعية ونذكر منها:
1-التعريف بشخصية “عميرة علاوة”؟
2-ما هي ظروف وملابسات حادثة مقتل المناضل “عميرة علاوة”؟
3 -ما هي انعكاسات مقتل عميرة علاوة على مسار الحكومة المؤقتة خاصة والثورة التحريرية الجزائرية بصفة عامة؟
- التعريف بشخصية عميرة علاوة:
المناضل “عميرة علاوة” جزائري الجنسية تعود أصوله إلى منطقة سطيف[1]، لا نكاد نعثر على ترجمة وافية ودقيقة لسيرة هذه الشخصية الثورية، إذ لم تسهب المصادر التاريخية في إعطائنا لمحة مفصلة عن أصول المناضل عميرة علاوة ولا عن عائلته بالمنطقة، ولا عن نشأته الاجتماعية أو تدرجه التعليمي أو الدراسي، وكل ما زودتنا به الأبحاث أن أصول هذه الشخصية تعود إلى منطقة سطيف، كما ذكرت أن هذا الأخير يعد أحد الأصدقاء المقربين من الدكتور “محمد الأمين دباغين”.[2]
إذ تشير الدراسات أن العلاقة التي تربط بين هتين الشخصيتين قد توطدت بفعل الزمالة النضالية التي جمعت بينهما تحت مظلة العمل السياسي في حزب الشعب الجزائري PPA وحزب حركة الانتصار للحريات الديمقراطية MTLD بعد تأسيسه سنة 1946، أين تعرض المناضل للطرد من الحزب بعد الانعكاسات العنيفة التي خلفتها تداعيات الأزمة البربرية على منتسبي الحزب ومناضليه سنة 1949[3]، كما أضافت أن هذا الأخير كان من أوائل الملتحقين بنداء الكفاح المسلح الذي دعت إليه جبهة التحرير الوطني عشية الفاتح نوفمبر 1954[4]، كما عمل في مكتب جبهة التحرير بمدريد بإسبانيا[5]، في الوقت الذي نجد شبه طمس للمسيرة الثورية لهذه الشخصية النضالية، عدا أن المسؤول المباشر عن هذا الأخير قد قرر إبعاده من الجزائر إلى المغرب ثم إلى بيروت(لبنان)[6]، بسبب انتقاداته التي كانت موجهة إلى قادة الثورة وبخاصة بعد تأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في 19 سبتمبر 1958، إذ اتهم بعض القادة السياسيين بالمواقف الاندماجية ومحاولة الاستيلاء على هذه الثورة.[7]
- ظروف وملابسات حادثة مقتل عميرة علاوة:
يكاد يتحقق إجماع الدارسين والباحثين في حقل تاريخ الثورة الجزائرية، أن حادثة مقتل المناضل “عميرة علاوة” تتعلق بخلاف حاد وواضح بين هذا الأخير وبين القادة السياسيين على رأس السلطة السياسية للثورة التحريرية، سيما ما تعلق بشخص “فرحات عباس” المعين على رأس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية الأولى في 19 سبتمبر 1958[8]، فالقضية حسب ما ذكر المناضل “أحمد توفيق المدني” أن عميرة علاوة كان أحد أنصار “محمد لمين دباغين” في القاهرة، غير أن هذا الشخص بحسب ما ذكر هذا الأخير كان لا يتورع في إصدار الأحكام ضد أي شخص لا يروقه أو هو في خلاف معه، بل إننا نجد أن الكاتب قد ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، وقد ورد في قوله كلام خطير حول شخص المناضل عميرة، والذي برره بعض الدارسين بالعلاقة التي تربط الكاتب بشخص فرحات عباس[9]، ومما جاء في كتابه نذكر: “ فالرجل…كان يطلق لساناً بذيئاً في كل وزير من الوزراء، ويكيل لكل واحد منهم من التهم الشخصية، ما يمليه عليه خيال مريض، وكان أكثر الناس حظاً من تلك التهم الرئيس فرحات عباس والدكتور أحمد فرنسيس، فكان يتهمهما بأبشع وأشنع الأوصاف الأخلاقية…”.[10]
في حين أفاد ضابط المخابرات المصري “فتحي الديب”، أن قضية عميرة تتعلق بخلاف شخصي قديم بين المندوب السابق في لبنان “إبراهيم كابويا”[11]،والذي تم انهاء مهامه بعد حادثة الاتصال بالقوميين السوريين، وقام وزير الشؤون الخارجية “محمد لمين دباغين” بتعيين المناضل “عميرة علاوة” كبديل له في هذا المنصب. هذه الخطوة أثارت حفيظة “كابويا ابراهيم” ضد “عميرة علاوة” المعين بمنصب مندوب الجزائر في لبنان، الشيء الذي حز في نفسية المندوب السابق أين أقدم “كابويا ابراهيم” بدافع الانتقام إلى ارسال تقرير مفاده أن عميرة يكيل التهم إلى فرحات عباس رئيس الحكومة المؤقتة وعدد كبير من وزرائها، وقد ورد في التقرير أن عميرة يسيء إلىوزراء الحكومة الجديدة بتهم مختلفة وثقيلة، حيث كان يعلن صراحة أن وزراء الهيئة السياسية المستحدثة (الحكومة المؤقتة) قد انحرفوا عن المبادئ التي رسمها بيان أول نوفمبر 1954، وأضاف التقرير أن قادة وجنود جيش التحرير في الولايات الداخلية للبلاد متذمرون من الأساليب المنتهجة من الحكومة المؤقتة في معالجة قضايا الثورة التحريرية وأزماتها المتتالية.[12]
وفي ظل الأوضاع المشحونة ضد شخص “عميرة علاوة” في كلا الحالتين، كان استدعاء نائب وزير الخارجية للجمهورية الجزائرية المؤقتة “محمد لمين دباغين“، لأجل مسائلته والتحقيق معه في كل ما نسب إليه من الأقوال والتهم، وهو ما تكفل به عبد الحفيظ بوصوف ورجاله بعد إشارة من “فرحات عباس” رئيس الحكومة، فذكر: “…لقد حول فرحات عباس التقرير إلى بوصوف، الذي وجد فيه فرصته فتفاهم مع عباس ليبرق فورا إلى عميرة للحضور إلى القاهرة، وحضر عميرة والتقى به رجال بوصوف يوم 09 فيفري طلبوا منه الحضور إلى مقر الحكومة في 10 فيفري لمقابلة رئيس الحكومة…”.[13]
وفي اليوم الموالي كان حضور عميرة علاوة من أجل مقابلة رئيس الحكومة في مبنى هذه الأخيرة، الواقع في العمارة رقم 04 –مديرية التحرير- شارع جاردن سيتيGarden City بالقاهرة[14]، وبعد دخوله المكتب؛ ما هي إلا لحظات حتى سُمعَ صوت ضجيج داخل المكتب[15]، ويضيف أحمد توفيق المدني أن صديقه الغسيري قد ذكر بأن الحاضرين في مسرح الحادث قد سمعوا جرياً نحو أقصى الغرفة[16]، وبعد أن فُتحَ الباب خرج فرحات عباس “مصفر الوجه مكفهر السريرة” وهو يقول بصوت خافت: ” لقد ألقى اللعين بنفسه من النافذة“[17]، وفي المقابل من رواية المدني فقد ذكر فتحي الديب معلومات أخرى مخالفة للرواية السابقة التي نقلها أحمد توفيق المدني عن الأستاذ محمد الغسيري، إذ يذكر رجل المخابرات المصري أن عبد الحفيظ بوصوف قد سافر قبل أربعة أيام لإبعاد الشبهة من حوله، غير أن رجاله قد بقوا بالقاهرة لأجل تنفيذ الخطة التي يعتقد الديب أنه هو من رسمها لهم شخصياً للقضاء على المعارض الشرس لسياسة الحكومة، وحول هذه الحادثة يذكر: “…لقد تم استدعاء عميرة علاوة إلى الطابق الخامس لاستجوابه، وكان ذلك بحضور رجال بوصوف وأعوانه منهم -محمد عبد السلام تازي-، أغلق الباب وبدأ الشجار …وقام أحد معاوني التازي بضرب عميرة على رأسه ضربة قوية فقضى عليه، وقذفوا به من شرفة الغرفة إلى الطريق العام جثة هامدة…”.[18]
وبعد الحادثة المأساوية التي أدت إلى مقتل عميرة علاوة مع مطلع فيفري 1959، تعددت الروايات حول حقيقة حادثة مبنى الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بالعاصمة المصرية (القاهرة)، غير أن الرواية الأكثر تداولاً في الأوساط الجزائرية والمصرية كانت تفيد بانتحار هذا الأخير بعد أن عثر عليه ملقى من مبنى العمارة التي يتواجد بها مقر الحكومة المؤقتة[19]، فكان أن فتحت الشرطة المصرية تحقيقا في القضية لكنه سرعان ما أغلق دون الوصول إلى نتيجة نهائية، مما جعل الحادث يفتح المجال واسعاً أمام أزمات وعقبات حادة ومتتالية، أصبحت تعلن عن نفسها أمام تشكيلة الحكومة المؤقتة خلال مسيرتها التحررية ضد الاستعمار الفرنسي الذي أصبح أكثر خطورة في هذه المرحلة الحساسة من عمر الثورة، وكانت بداية هذه الأزمات مع استقالة وزير الشؤون الخارجية بذات الحكومة المناضل “محمد لمين دباغين”.[20]
3.انعكاسات مقتل عميرة علاوة على مسار الحكومة المؤقتة والثورة التحريرية:
لقد كان لحادث مقتل المناضل “عميرة علاوة” الصديق المقرب من وزير الشؤون الخارجية للحكومة المؤقتة الجزائرية “محمد لمين دباغين” ، انعكاسات جمة على المسار السياسي والعسكري للحكومة المؤقتة الجزائرية بصفة عامة والثورة التحريرية بصفة عامة، ومن بين هذه الانعكاسات نذكر:
- استقالة محمد لمين دباغين:
لقدأدرك وزير الشؤون الخارجية في تشكيلة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية السيد “محمد لمين دباغين”، بعد حادثة مقتل صديقه المقرب “علاوة عميرة”، أن وجوده في تشكيلة هذه الحكومة المؤقتة التي يترأسها فرحات عباس ويسيرها الباءات الثلاثة بات غير مرغوب فيه أو مرحب به من قبل طاقم هذه الحكومة، سيما بعد أن تأكد لديه بعد تحريات طويلة ومعمقة، أن لرئيس الحكومة المؤقتة فرحات عباس لبس كبير بمقتل علاوة عميرة، وفي هذا الصدد أفادت الأبحاث والروايات أن وزير الشؤون الخارجية، قد جاهر في اتهامه لرئيس الحكومة”فرحات عباس” بصريح العبارة قائلا أن علاوة عميرة مات مقتولا وأنت من قتله[21]، كما ذكرت الروايات أن فرحات عباس لم يتقبل التهم الخطيرة الموجهة إليه من شخص وزير الخارجية لمين دباغين، وكان له رد فعل عنيف ضد متهمه حتى وصل الوضع بينهما درجة إشهار السلاح من فرحات عباس ضد الوزير، ولولا تدخل كريم بلقاسم لفض الخلاف بينهما لحدث ما لا يحمد عقباه، فرد عليه محمد لمين دباغين قائلاً: ” تأكدوا يقيناً بأن الميت اليوم ليس هو عميرة علاوة، بل إن الميت اليوم هي الحكومة المؤقتة”، ليقدم بعدها بفترة قصيرة استقالته بصفة رسمية ومكتوبة في 19 مارس 1959 مبيناً فيها الأسباب المباشرة وغير المباشرة لهذه الخطوة التي أقدم عليها هذا الأخير بعد اغتيال صديقه المقرب عميرة علاوة.[22]
ب-اجتماع العقداء العشر 11 أوت -16 ديسمبر 1959:
يتفق الدارسون والباحثون في حقل دراسات الثورة التحريرية وأحداثها السياسية والعسكرية، أن دعوة العقداء العسكريين العشر(10)لاجتماع المائة يوم (100) من 11 أوت إلى 16 ديسمبر 1959 في تونس، ليصنف كأحد أبرز النتائج والتداعيات المنجرة عن اغتيال المناضل عميرة علاوة بالعاصمة المصرية القاهرة، حيث أن هذه الحادثة قد اعتبرت كواحدة من أهم المعالم التي كرست ضرورة حصول تغيير جذري في السياسات السابقة لتسيير الأجهزة السياسية والعسكرية للثورة التحريرية.[23]
فكانت الدعوة لاجتماع عقداء الثورة الجزائرية أمراً في غاية الأهمية، من أجل تجاوز مرحلة حساسة وخطيرة من مسيرة النضال السياسي والكفاح المسلح الذي شرع فيه الوطنيون الجزائريون منذ الفاتح نوفمبر 1954، وعليه كان مقر وزارة الاتصالات العامة والمواصلات بالشقيقة تونس محطة لعقد أطول اجتماع في تاريخ الثورة الجزائرية من 11 أوت إلى 16 ديسمبر 1959، والذي ضم العقداء العشرة: الباءات الثلاثة، قائدي اللجنتين العسكريتين للحرب بالجهتين الشرقية والغربية (محمدي السعيد، هواري بومدين)، إضافة إلى العقداء الخمسة لتمثيل الولايات الداخلية عدا الولاية السادسة التاريخية، وكل ذلك للبحث في الأزمات المتعاقبة التي باتت تعيشها الثورة التحريرية، وبخاصة في الولايات الداخلية من نقص في الأسلحة والذخيرة من جراء الحصار والخناق الذي فرضته السلطة الاستعمارية منذ إقامة الحواجز الشرقية والغربية لعزل المجاهدين الجزائريين بالداخل، فضلاً عن بعض المشاكل السياسية الأخرى كمشكلة مقتل عميرة علاوة.[24]
ج-اجتماع المجلس الوطني للثورة الجزائرية 16 ديسمبر1959إلى 18 جانفي 1960:
وإضافة إلى هتين النتيجتين، فقد كان لحادثة مقتل عميرة علاوة العديد من الانعكاسات الأخرى على المسار السياسي للثورة الجزائرية كذلك، إذ نجد أن الدعوة لانعقاد المجلس الوطني للثورة الجزائرية في دورته الممتدة من 16 ديسمبر 1959 إلى 18 جانفي 1960، فرغم كون انعقاد المجلس بعد سنة كاملة عن حادثة الاغتيال المذكورة، إلا أن نتائج ومقررات هذه الدورة أكدت أن هذا الأخير لم يكن سوى محطة لتصفية الحسابات مع أنصار لمين دباغين الذي تم استبعاده بصورة شكلية من تشكيلة الحكومة، علماً أنه قد قدم استقالته لقادة الثورة التحريرية في مارس 1959.[25]
ولا أدل على اعتبار دورة المجلس المذكور انعكاساً واضحاً لمقتل عميرة علاوة واستقالة محمد دباغين من حكومة فرحات عباس، مما جاء على لسان المؤرخ “محمد حربي” في كتابه بالقول: “… بعد مئة وعشرة أيام (يقصد اجتماع العقداء العشر) من النقاشات المملة والدسائس، انتهى اجتماع العشرة هكذا إلى تعيين مجلس وطني جديد، استبعد منه كل من الأمين دباغين…، الذي أزيح بسبب موقفه في قضية علاوة عميرة…”.[26]
د- استحداث هيئة الأركان العامة:
لم تكن القرارات الصادرة عن الاجتماع التاريخي للمجلس الوطني للثورة المنعقد في الفترة 16 ديسمبر 1959 إلى 18 جانفي 1960، ببعيدة الصدى عن قضية مقتل عميرة علاوة بالقاهرة المصرية، فصعوبة الحصول على الأسلحة بالنسبة للولايات الداخلية التي فجرها عميرة علاوة متهماً الحكومة المؤقتة بالتقصير في هذا الجانب، ها هي تفجر قضية أخرى محورها إلغاء التنظيم العسكري المعروف بلجنة العمليات العسكرية الذي فشل في أداء مهامه بإدخال السلاح من على الشريطين الحدوديين، إذ تذكر الأبحاث أن إلغاءه كان بسبب الفشل الذي مني به هذا الجهاز العسكري في الجهة الشرقية من البلاد بقيادة “محمدي السعيد”، كنتيجة لجملة من الأسباب والظروف المحيطة بهذه الهيئة، ومن ذلك نجد: النعرات الجهوية والولاءات الشخصية، في الوقت الذي حقق ذات التنظيم نجاحاً واضحا في الجهة الغربية من البلاد بقيادة هواري بومدين، مما كان سببا مباشراً في إسناد هذا الأخير بقيادة هيئة عسكرية جامعة للنظام العسكري الثوري على المناطق الحدودية، والتي أطلق عليها اسم: قيادة (هيئة) الأركان العامة.[27]
هذه الهيئة العسكرية المستحدثة بناء على قرارات المجلس الوطني للثورة الجزائرية، كانت أحد الانعكاسات الواضحة لما نادى به عميرة قبل مقتله كما أنها أحد التداعيات المباشرة لقضية اغتياله الغامضة، وحول تأسيس هذه الهيئة يذكر رابح لونيسي بالقول: “…إن من أهم قرارات المجلس الوطني للثورة الجزائرية المنعقد بطرابلس 1962، هو إنشاء الأركان العامة لجيش التحرير الوطني بقيادة هواري بومدين الذي اقترحه العقيد محمدي السعيد لهذا المنصب، وعلى الأركان العامة أن تعمل تحت سلطة لجنة وزارية للحرب CIG وتتشكل من الباءات الثلاث، والهدف من هذا القرار هو توحيد جيش التحرير الوطني تحت قيادة مركزية موحدة…”.[28]
خاتمة:
وفي ختام هذه الدراسة نستنتج أن:
– الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ومنذ تأسيسها في ال19 سبتمبر 1958 وهي تعيش واقعاً من الأزمات المتعاقبة خلال مسيرتها التحررية، وذلك على مستويات مختلفة منها الخارجية والداخلية، التي كادت في أحيان كثيرة أن تعصف بالمنجزات الكبرى التي حققها مناضلو جبهة وجيش التحرير الوطنيين في المجالين العسكري بالداخل والدبلوماسي في الخارج.
-تعود جذور الخلافات الحاصلة في الأجهزة القيادية للثورة التحريرية (لجنة التنسيق والتنفيذ، الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، المجلس الوطني للثورة الجزائرية)، إلى التباينات الايديولوجية بين المناضلين الجزائريين خلال مسيرتهم النضالية والثورية على حد سواء، فإما أنها تعود إلى مؤتمر الصومام والخلافات الحاصلة في شأنه، أو إلى مرحلة ما قبل اندلاع الثورة التحريرية والتباينات في طبيعة ووسائل الكفاح التحرري بين الأحزاب الوطنية لمواجهة الاستعمار الفرنسي وإعلان الكفاح المسلح.
-تعتبر قضية مقتل “عميرة علاوة” واحدة من أخطر الأزمات الداخلية التي شهدتها الثورة الجزائرية خلال مسيرتها التحررية، والتي كادت أن تعصف بالمنجزات المحققة من قبل جبهة وجيش التحرير الوطنيين، فهي الحادثة التي هزت عرش السلطة السياسية والعسكرية للثورة التحريرية وأحدثت فيها جملة من التغييرات الهامة والحساسة، من مثل: استقالة وزير الشؤون الخارجية للحكومة المؤقتة الأولى “محمد لمين دباغين”، الدعوة لاجتماع العقداء العسكريين العشر بتونس من 11 أوت إلى 16 ديسمبر 1959، انعقاد الاجتماع التاريخي للمجلس الوطني للثورة الجزائرية في 16 ديسمبر 1959 إلى 18 جانفي 1960، هذا الأخير الذي دعى إلى استحداث هيئة الأركان العامة للبحث عن حلول جذرية لمشكلة التسليح التي أثارها عميرة علاوة قبيل مقتله بفترة وجيزة.
قائمة المصادر والمراجع:
أ-الكتب:
- بوحوش عمار: التاريخ السياسي للجزائر من البداية ولغاية1962، ط1، دار الغرب الاسلامي، لبنان، 1997.
- بن حمودة بوعلام: الثورة الجزائرية (ثورة أول نوفمبر 1954 ومعالمها الأساسية)، دار النعمان للطباعة والنشر، الجزائر، 2012.
- الديب فتحي: عبد الناصر وثورة الجزائر، ط2، دار المستقبل العربي، مصر، 1990.
- حربي محمد: جبهة التحرير الوطني… بين الأسطورة والواقع، تر: كميل قيصر داغر، ط1، مؤسسة الأبحاث العربية، لبنان، 1983.
- لونيسي رابح: الجزائر في دوامة الصراع بين العسكريين والسياسيين، دار المعرفة، الجزائر، 2000.
- مقلاتي عبد الله: قاموس أعلام شهداء وأبطال الثورة الجزائرية، دار بلوتو، الجزائر، 2009.
- ـ : أعلام وأبطال الثورة الجزائرية، ج 05، دار شمس الزيبان للنشر والتوزيع، الجزائر، 2013.
- المدني أحمد توفيق: مذكرات حياة كفاح (مع ركب الثورة التحريرية)، ج 03، دار البصائر، الجزائر، 2009.
- عبد القادر حميد: فرحات عباس رجل الجمهورية، دار المعرفة، الجزائر، 2007.
ب-المقالات العلمية:
- شبوب محمد: صفحات من مسار الثورة التحريرية –أزمات الحكومة المؤقتة 1958-1959، مجلة عصور، ع 34-35، جامعة وهران، الجزائر أفريل –جوان 2017.
- ـ صفحات من مسار الثورة التحريرية أزمات الحكومة المؤقتة 1958-1959، مجلة الأكاديمية للدراسات الانسانية والاجتماعية، ع16، جامعة حسيبة بن بوعلي الشلف، الجزائر، جوان 2016.
ج-الرسائل الجامعية:
-الدكتوراه:
- سالمي مختار: إشكالية الصراع على السلطة في المؤسسات الانتقالية للثورة الجزائرية 1954-1962، أطروحة دكتوراه، إ: أحمد مسعود سيد علي، قسم التاريخ، جامعة محمد بوضياف المسيلة، الجزائر، 2018-2019.
- خيثر عبد النور: تطور الهيئات القيادية للثورة التحريرية 1954-1962، أطروحة دكتوراه، إ: شاوش حباسي، قسم التاريخ، جامعة الجزائر، الجزائر، 2005-2006.
-الماجستير:
- أحمد مسعود سيد علي: تطور الثورة الجزائرية سياسياً وتنظيمياً 1960-1961 (من خلال محاضر مجلسها الوطني المنعقد بطرابلس من 09 إلى 27 أوت 1961)، رسالة ماجستير، إ: محمد العربي الزبيري، قسم التاريخ، جامعة الجزائر، 2001-2002.
- بوضربة عمر: النشاط الدبلوماسي للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية 58-1959 من خلال محفوظات الثورة الجزائرية بالمركز الوطني للأرشيف –بئر خادم-، رسالة ماجستير، إ: مسعودة يحياوي، قسم التاريخ، جامعة الجزائر، 2001-2002.
- ميلودي سهام: علاقة الحكومة المؤقتة بقيادات جيش التحرير الوطني سبتمبر 1958- مارس 1962، رسالة ماجستير، إ: سيفو فتيحة، قسم التاريخ، جامعة وهران، الجزائر، 2010-2011.
- شبوب محمد: اجتماع العقداء العشر: 11أوت إلى 16 ديسمبر 1959 ظروفه أسبابه وانعكاساته على مسار الثورة، رسالة ماجستير، إ: بوعلام بلقاسمي، قسم التاريخ، جامعة وهران، الجزائر، 2009-2010.
[1]– بوعلام بن حمودة: الثورة الجزائرية ( ثورة أول نوفمبر 1954 ومعالمها الأساسية)، دار النعمان للطباعة والنشر، الجزائر، 2012، ص 461.
[2]– من مواليد 1917 بالجزائر العاصمة، من عائلة تعود أصولها إلى منطقة خميس مليانة. كانت عائلته ميسورة الحال فوالده كان يعمل مترجماً قضائياً، درس المرحلة الابتدائية بشرشال بالقرب من مقر عمل والده فأظهر تفوقا ونبوغاً أهله لمواصلة دراسته بالمرحلة الثانوية في مدينة البليدة، وبعد حصوله على شهادة البكالوريا التحق بكلية الطب، تعود جذور تعلقه بالقضية الوطنية إلى الاحتفالية المئوية وما واكبها من استفزاز واضح لمشاعر الجزائريين، فكانت نقطة التحول بالنسبة له حيث التحق منذ هذا التاريخ بصفوف حزب الشعب الجزائري، وأثناء الحرب العالمية الثانية اعتقل من قبل السلطات الاستعمارية ليطلق سراحه سنة 1943 ، كان من بين الملتحقين الأوائل بالكفاح المسلح أين أسندت له مهام العمل على المستوى الخارجي بالقاهرة، كما تقلد مسؤوليات هامة خلال الثورة التحريرية إلى غاية سنة 1959، توفي بتاريخ 21 جانفي 2003؛ ينظر. عبد الله مقلاتي: قاموس أعلام شهداء وأبطال الثورة الجزائرية، دار بلوتو، الجزائر، 2009، ص –ص 262-264.
[3]– حميد عبد القادر: فرحات عباس رجل الجمهورية، دار المعرفة، الجزائر، 2007، ص 210.
[4]– عبد النور خيثر: تطور الهيئات القيادية للثورة التحريرية 1954-1962، أطروحة دكتوراه، إ: شاوش حباسي، قسم التاريخ، جامعة الجزائر، الجزائر، 2005-2006، ص 339.
[5]– عمار بوحوش: التاريخ السياسي للجزائر من البداية ولغاية1962، ط1، دار الغرب الاسلامي، لبنان، 1997، ص 485.
[6]– محمد شبوب: اجتماع العقداء العشر: 11أوت إلى 16 ديسمبر 1959 ظروفه أسبابه وانعكاساته على مسار الثورة، رسالة ماجستير، إ: بوعلام بلقاسمي، قسم التاريخ، جامعة وهران، الجزائر، 2009-2010، ص 40.
[7]– رابح لونيسي: الجزائر في دوامة الصراع بين العسكريين والسياسيين، دار المعرفة، الجزائر، 2000، ص39.
[8]– عمر بوضربة: النشاط الدبلوماسي للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية 58-1959 من خلال محفوظات الثورة الجزائرية بالمركز الوطني للأرشيف –بئر خادم-، رسالة ماجستير، إ: مسعودة يحياوي، قسم التاريخ، جامعة الجزائر، 2001-2002، ص 03.
[9]– محمد شبوب: المرجع السابق، ص41.
[10]– أحمد توفيق المدني: مذكرات حياة كفاح (مع ركب الثورة التحريرية)، ج 03، دار البصائر، الجزائر، 2009، ص 591.
[11]– من مواليد منطقة المسيلة بدأ نشاطه في صفوف الحركة الوطنية مبكراً؛ ليلتحق بالثورة التحريرية بعد اندلاعها مباشرة متقلداً عديد المسؤوليات والمهام القيادية في هياكلها وفروعها، فمن مسؤول منطقة بالأوراس إلى نائب لرئيس مصلحة الإمداد والتموين على الحدود التونسية في سنة 1957، ليعين مندوبا للجزائر في لبنان عام 1959كما تولى المسؤولية ذاتها في كوناكري في 1961، ليعين بعد الاستقلال سفيرا للجزائر في سلطنة عمان سنة 1964؛ للاستزادة ينظر. عبد الله مقلاتي: أعلام وأبطال الثورة الجزائرية، ج 05، دار شمس الزيبان للنشر والتوزيع، الجزائر، 2013، ص-ص 314-315.
[12]– فتحي الديب: عبد الناصر وثورة الجزائر، ط2، دار المستقبل العربي، مصر، 1990، ص 423.
[13]– فتحي الديب: المصدر السابق، ص 424.
[14]– محمد شبوب: المرجع السابق، ص 41.
[15]– سهام ميلودي: علاقة الحكومة المؤقتة بقيادات جيش التحرير الوطني سبتمبر 1958- مارس 1962، رسالة ماجستير، إ: سيفو فتيحة، قسم التاريخ، جامعة وهران، الجزائر، 2010-2011، ص 27.
[16]– مختار سالمي: إشكالية الصراع على السلطة في المؤسسات الانتقالية للثورة الجزائرية 1954-1962، أطروحة دكتوراه، إ: أحمد مسعود سيد علي، قسم التاريخ، جامعة محمد بوضياف المسيلة، الجزائر، 2018-2019، ص 131.
[17]– أحمد توفيق المدني: المصدر السابق، ص 592.
[18]– فتحي الديب: المصدر السابق، ص 424.
[19]– محمد شبوب: صفحات من مسار الثورة التحريرية –أزمات الحكومة المؤقتة 1958-1959، مجلة عصور، ع 34-35، جامعة وهران، الجزائر، أفريل –جوان 2017، ص 294.
[20]– بوعلام بن حمودة: المرجع السابق، ص 461.
[21]– محمد شبوب: صفحات من مسار الثورة التحريرية أزمات الحكومة المؤقتة 1958-1959، مجلة الأكاديمية للدراسات الانسانية والاجتماعية، ع16، جامعة حسيبة بن بوعلي الشلف، الجزائر، جوان 2016، ص 42.
[22]– مختار سالمي: المرجع السابق، ص 132.
[23]– محمد شبوب: اجتماع العقداء…، المرجع السابق، ص 46.
[24]– مختار سالمي: المرجع السابق، ص 135.
[25]– مختار سالمي: المرجع السابق، ص 132.
[26]– محمد حربي: جبهة التحرير الوطني… بين الأسطورة والواقع، تر: كميل قيصر داغر، ط1، مؤسسة الأبحاث العربية، لبنان، 1983، ص 206.
[27]– سيد علي أحمد مسعود: تطور الثورة الجزائرية سياسياً وتنظيمياً 1960-1961 (من خلال محاضر مجلسها الوطني المنعقد بطرابلس من 09 إلى 27 أوت 1961)، رسالة ماجستير، إ: محمد العربي الزبيري، قسم التاريخ، جامعة الجزائر، 2001-2002، ص-ص 28-29.
[28]– رابح لونيسي: المرجع السابق، ص 43.