
سيرة الحقائق/ جدل الروح والهوية في (رواء مكة) لحسن أوريد
Truths Biography/spiritual and identity dialect in (Rawaa Mekka) of Hassan Ourid .
أ.د.عبدالله شطاح ـ جامعة البليدة 2/الجزائر
Prof :Abdallah CHETTAH Blida2 university/Algeria.
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 61 الصفحة 83.
Abstract
This article is a study in (Rawa Makkah), the last work of the Moroccan writer and politic Hassan OURID , which caused great controversy in Morocco, and was dealt with in various media, as well as some Islamic and literary sites alike, because it discussed interesting issues, politically, literally and religiously, especially The spiritual experience that has led the writer, a well-known man of the royal palace of Morocco, which occupied high functions in monarchic authority for a long time, before deciding to abandon all that, and engage in a deep and interesting spiritual journey which made him accomplish Hadj to Mecca and lead an ascetic life focusing of writing and reading and lecturing in university.
In addition to researching the elements of that spiritual journey, the study sought to work on the narrative classification of the work, which was classified under Biography novel genre, that led me to deal with the text as a biography first and novel second, without the ability to get rid of the total fall in the genre of autofiction, a genre so similar to biography and the novel at the same time, which obliged me to work on the demarcation of the necessary boundaries between the three genres in the text, and to indicate which accounted for narrative performance at the expense of the other, and to what extent the textual classification is filed to the real nature of the work.
ملخص
المقال دراسة في عمل حسن أورد الأخير (رواء مكة)، الذي أحدث جدلا كبيرا في المغرب، و تناولته وسائل الإعلام المختلفة، وكذا بعض المواقع الإسلامية والأدبية على السواء، لما اشتمل عليه من قضايا مثيرة للاهتمام، سياسيا وأدبيا و دينيا، ولما فصله من قضايا التجربة الروحية التي حملت الكاتب، وهو رجل معروف من رجال القصر الملكي المغربي، و أحد الملتبسين بالسلطة والحكم فيها منذ عقود، على التخلي عن كل ذلك، والانخراط في رحلة روحية عميقة ومثيرة للاهتمام على مستويات عديدة، فكرية وأدبية وسياسية في الوقت نفسه.
إلى جانب البحث في مقومات تلك الرحلة الروحية سعت الدراسة إلى الاشتغال على التصنيف السردي للعمل، حيث انضوى تحت تجنيس السيرة الروائية، صارفا التلقي إلى التعامل مع النص باعتباره سيرة أولا ورواية ثانيا، دون القدرة على التخلص الكلي من الوقوع في جنس التخييل الذاتي الموازي سرديا وتصنيفيا للسيرة وللرواية في الوقت نفسه، الأمر الذي ألزمنا بالعمل على ترسيم الحدود اللازمة بين الأجناس الثلاثة في النص، وبيان أيهما استأثر بالأداء السردي على حساب الآخر، وإلى أي مدى كان التصنيف النصي أمينا في الدلالة عليه.
- على سبيل التمهيد.
عندما تناقلت الدوريات الإخبارية بالمغرب خبر صدور العمل الأدبي الموسوم بـ(رواء مكة)[1] لرجل السلطة المعروف حسن أوريد[2]، كان الخبر بمثابة الحدث الاستثنائي الذي استقطب انتباه القراء والنقاد و وجمهور المغاربة على اختلاف مستوياتهم، فالكاتب ليس رجلا عاديا، وموضوع الكتاب لا يقل عن صاحبه إثارة للفضول والاهتمام، فالكاتب رجل توفر له من أسباب الشهرة والسلطة والجاه والنفوذ ما يندر أن يتوفر مثله عند الأدباء، وما تشرئب إليه الأعناق وتتطلع إليه النفوس شرقا وغربا، والموضوع موقف نادر من الحياة، ومن السلطة والجاه، ومن قضايا الثقافة والهوية والإيديولوجيا المصطرعة في تخوم البلاد العربية شرقا وغربا، تتقاطع روحيا و تتصادى ذاتيا مع تجارب معدودة في التاريخ العربي والإسلامي، و تندرج ضمن متخيله في هالة قدسية شديدة الندرة، قليلة التكرار، ذلك أن التاريخ لا يمدنا دوريا برجال آثروا العزلة على الشهرة، والحياد على الالتزام، والقلة على الوفرة والثراء والجاه والسلطان.
وهكذا لن تبعد كثيرا، وأنت تقرأ النص، عن استدعاء أبي حامد الغزالي من ذكراه البعيدة، ومن كتابه الفاصل في سياقه الفكري والزمني على السواء: (المنقذ من الضلال)، حيث بسط القول في تفاصيل سفره الروحي، وتجربته الخاصة في البحث عن الحقيقة العليا، وكيف انتهى به المطاف إلى خوض غمار التجربة الصوفية التي ألفاها مظنة الحقائق كلها، وكيف خرج من بغداد متسترا و هو في قمة المجد والشهرة، تاركا الأهل والولد والمنصب والجاه العريض، سائحا ومعتزلا ومتصوفا، حتى قال الناس إنْ هذا إلا عين أصابت الإسلام والمسلمين.
إنك لن تجد في النسق الثقافي العربي، الحديث والمعاصر منه على الأقل، هذا اللون من الانحياز للذات وقيمها العليا إلا إذا استدعيت تجارب المتصوفة الكبار في ثقافتنا الإسلامية، على نحو ما ذكرت من تجربة الغزالي، أو تجربة ابن عجيبة الحسني شارح الحكم العطائية الشهير، وصاحب المصنفات الصوفية السائرة الذكر، على نحو ما فصل بدوره في سيرته الذاتية الموسومة بـ(الفهرسة)[3] من قضايا حافة باختياره الطريق الصوفي وتنكبه عن ملذات الجاه والسلطان ومباهج الحياة، وعلى نحو ما نقرأ من شأن أبي الحسن الششتري الوزير الذي تخلى على المنصب الخطير واتخذ سبيله في ميدان التصوف والعرفان، والذي قال عنه ابن ليون:” إنه كان من الأمراء وأبناء الأمراء، فصار من الفقراء وأولاد الفقراء.”[4]، وقبل هؤلاء جميعا تواتر الخبر بأن إبراهيم بن أدهم، الوجه الصوفي الشهير في مدونة التراث الإسلامي، كان ابنا لأحد ملوك خراسان قبل أن تطوح به نسائم الحقائق ويصبح حاملا للواء الزهد والتقشف والفقر و مضرب أمثال العُبَّاد السائحين المتجردين[5].
و إذا كنت كما ترى لن تجد وراء ذلك اللون من المواقف النادرة إلا تجربة صوفية قاهرة، فإن النص الذي نحن بصدده، وكما يوحي لك عنوانه المتضمن لـ(مكة) مهوى الأفئدة و موئل الأرواح، سيتدرج بك شيئا فشيئا، وقليلا قليلا، في مدارج الرحلة الروحية التي انتهت بصاحبها، من حيث درى أو لم يدر، إلى اطراح مظاهر السلطة التي تخلب الألباب، و الوفاء للذات وفاء صعبا مكلفا، و الانصراف بالكلية إلى القيم العليا التي كشفت عن مكوناتها الرحلة الروحية بصدق وأريحية تذكرك في كل صفحة بتجارب أولئك الصوفية الكبار النادرون، و تنبهك إلى أنك تلقاء تجربة أصيلة جديرة بالحفاية، من حيث إنها تقف بك أولا على الحيثيات التي تجعل من الروح عوضا عن كل شيئ، وتجعل أفرادا مخصوصين يجسدون لنا نحن – الكسالى – نماذج لرجال تمكنوا من الخلاص من ربقة جاذبية الطين والضعف البشري، وارتفعوا إلى أفق رحب من الحرية و التسامي والكمال، وتزج بك ثانيا في أفق وجودي وثيق الصلة بالبنى النفسية الإنسانية العميقة التي يشكل مفهوم (البطل) مفهوما مركزيا ضمن تصوراتها القبلية وأشواقها العليا وآمالها الكبرى، على نحو ما وضح الفيلسوف الأمريكي أرنست بيكر بالقول:” مفهوم البطولة واحد من أهم المفاهيم التي عرفها الإنسان الذي جعل غريزيا من الواقع مسرحا للبطولة، من أجل ذلك ما فتئ الفلاسفة يذكروننا، على مر العصور، أن مهمتنا الأساسية على ظهر الأرض هي البطولة.”[6] .
وذلك أن الموقف البطولي يعطي دليلا حاسما على قدرة الإنسان على تجاوز شرطه وضعفه بوعي كامل و شعور ممتلئ بالحضور في اللحظة التاريخية الفارقة المميزة للعالم الإنساني، الأمر الذي يملأ كيانه بالإعجاب بتلك القدرة وذلك التميز الفارق مهما تعذر عليه أن يكونه في أغلب الأحوال.
والنص من جهة أخرى، يزج بك منذ صفحة الغلاف الأولى، في معمعان نقدي و سردي متشابك القضايا ومتعدد الإشكالات، فما إن تقع عينك على التصنيف الأجناسي للعمل، الذي انتسب هوياتيا إلى السيرة الروائية، حتى تصكك الصفحات الأولى من العمل بأسئلة أخرى متناسلة من زخم التصنيف، كالسيرة الذاتية و التخييل الذاتي، و التخييل الروائي وسواها من التصنيفات التي تتداخل فيها قضايا الذات والأنا والواقع والمتخيل والسارد والرواي والهوية الأعلامية(Identité Onomasique) وسواها من التحديدات الأجناسية الفاصلة التي توجه القراءة الناقدة توجيها خاصا يسمح بتحديد الزوايا الهشة القابلة للاختراق و استقبال الأسئلة النقدية والتحليلية الأولى.
وعلى أساس هذا التصنيف الأولي ستلاحظ بأن العمل ينصرف بالكلية إلى كتابة الذات وتسريد الأنا وتصريف البوح و تنضيد الاعتراف وفق نظام مخصوص هو السيرة الروائية، وسوف تتساءل هل التزم النص قوانين ذلك النوع؟ أم تجاوزها وتعداها؟ أم قصر عنها تقصيرا؟ أم أساء التصنيف بالمرة؟ وإلى أي حد ينبغي إعادة إجراء التصنيف؟ و إلى أي مدى استطاع تسريد الذات أن يحتمل في أثنائه قضايا المجتمع الضيق الذي أنتج في فضائه، وفضاءه الإقليمي الواسع، وفضاءه الكوني الأوسع، وذلك أننا ” لا يمكن أن نصنع عالما روائيا يتجاوز الانفعالات الفردية ويخلق من ملكوت الذات الساردة نفسها حالة وعي جماعي بالاستناد فقط إلى تجربة مخصوصة لا امتداد لها خارج الدائرة الضيقة لفرد معزول.”[7].
وإذا تجاوزنا الجدل التصنيفي والسيري وما يكتنفه عادة في الخطاب النقدي من قضايا حافة متعلقة بالأحداث والوقائع والتخييل، فإننا سننصرف إلى تقليب النظر في المكونات الخطابية السيرية التي وظفها النص واشتغل، من خلالها وبها، ضمن أدائه السردي في إنجاز أدبيته التي تظل في نهاية المطاف هي الهدف الأسمى لأية ممارسة أدبية أجديرة بمصداقية التصنيف.
- قلق التصنيف
انتظم النص تصنيفيا ضمن جنس السيرة الروائية، موقعا بانتظامه ذلك ما يتعلق به من وثيقة العقد المبرم مع القارئ، بما يشبه الوعد المقطوع، و التحديد اللازم للطرفين بالانخراط في لعبة المقايضة والاستكشاف الأدبي ضمن جنس لا يمكن أن يعطي ما هو خارج عن حدوده، ولا أن يتضمن ما لا تتسع له آليات جنسه وأدواته التي تعهد بالإبداع ضمن شروطها المعروفة، لكن، هل يعرف القارئ العربي شروط السيرة الروائية ؟ وهو القارئ الذي ما زالت ذائقته التي يغلب عليها الموروث الكلاسيكي تتدرب وتنمي ذائقتها، شيئا فشيئا، على الرواية نفسها التي يمكن اعتبارها جنسا قارا على الرغم من كونها جنسا غربيا وافدا مع النصف الثاني في من القرن التاسع عشر إلى موطن الشعر ديوانه الأول والأقدم.
ولكي لا نكرر ما سبق لنا تفصيله وتأصيله بخصوص التخييل الذاتي[8] وما يتشابك به
مع الأجناس الأخرى[9] ـــــــ سنكتفي بمقاربة القضايا الحافة التي ما انفكت تثير الاهتمام منذ ذلك منذ ذلك الحين[10] ـــــــ وخصوصا في الغرب بلده الأصيل، مع الاعترافات وثقافتها ذات الجذور الراسخة في التراث المسيحي، منذ اعترافات[11] القديس أوغستين، إلى اعترافات جون جاك روسو في أواخر القرن التاسع عشر، بخلاف البلاد العربية والإسلامية التي قوامها الثقافي الأول يتأسس على الستر والاستتار والتحفظ، الأمر الذي يحيل دون شيوع هذه الممارسة خارج أطر التخييل الصرف غير المحيل بالقوة على المرجع الواقعي الحي.
عقد مؤخرا ، بلندن، مؤتمر أدبي بين مركز (white review) ومركز الدراسات الثقافية والأدبية المعاصرة بكينغز كولج ((Kkings colege، حيث تطرق المؤتمرون، ومن بينهم الروائي نديم أسلام Nadeem Aslam و رشيل كسك Rachel Cusk وجسي قرينغلاس Jessie Greengrass لمناقشة الموضوع التالي:” هل يتوجب علينا أن نظل نختلق الأمور؟”[12]، وقد اتفق المتدخلون، على اختلاف مشاربهم، بأن ” اتفق الروائيون بأن قضية الحقيقة و التخييل في العمل الأدبي قد أصبحت على المحك في الوقت الحالي، وذلك أن التخييل الذاتي قد عقد الأمر كثيرا، إلى درجة أن المجتمعين حاولوا خلال الأمسية أن يبرروا أعمالهم من خلال سياق التخييل الذاتي، لأن قيمة العمل حسبما أكدوا، تكمن في الوقائع الحقيقية التي يحملها على الأقل في جزء منه.”[13] ولا سيما من حيث المكون الجوهري الذي بغيابه يفقد التخييل الذاتي جدواه وحدوده الفاصلة وماهيته الأجناسية، ونعني بها التمظهر الحقيقي للشخصية ووقائعها، تمظهرا محمولا على إمكانيات التخييل اللانهائية.
ونعني بذلك ما حدده مبتدع هذا اللون الأدبي نفسه، سارج دوبروفسكي، الكاتب الفرنسي، عندما اجترح مفهوم التخييل الذاتي لأول مرة سنة 1977 توصيفا وتصنيفا لكتابه ((FILS[14]، حيث صرح بالقول:” إن التخييل الذاتي مثله مثل الحلم، والحلم ليس هو الحياة، والكتاب ليس الحياة كذلك.”[15]، هذا في جانبه الوقائعي المتعلق بالحقيقة التي ينبغي أن تكون كاملة لا يداخلها الشك، مهما بدت تحت طائلة الصياغة الأدبية كما لو كانت حلما غير دقيق التفاصيل، الأمر الذي يجعل من الكاتب في بحث دائم، وجري لاهث، و استدعاء واستبطان و إيغال في شقوق الذاكرة، وعلى هذه الأخيرة مدار الأمر كله في هذا الجنس الأدبي، مستندة إلى كاتبها الذي يصرح بهويته الحقة، كما هي في الواقع، وهوية كل الشخوص الذي يتناولهم قلمه، والذين تحيلهم الذاكرة إلى شخصيات واقعية حقة بدورهم، ولا يحق له وهو يفعل ذلك أن يتستر وراء الرواي، ولا أن يستعير أساليبه في الإيهام والتخييل، بل يتوحد الكاتب الحقيقي مع الراوي الحقيقي، في سياق يهدف إلى قول (حقيقة) الحلم، حلم الحياة، أو حياة الحلم، بأدق وأنصع وأوفى ما تستطيع الذاكرة استدعاءه.
من أجل هذا اللون من الممارسة، المنتسبة إلى الحقيقة والمتشبثة بها، أصبحت الكتابة الأدبية، لا تستدعي اختلاق الأمور على نحو ما أسلفنا، وإنما أصبحت حيوات الكتاب، مهما كان نصيبها من الفقر أو الثراء، من الضيق و الاتساع، قادرة على أن تستحيل تحت أقلام أصحابها إلى أعمال أدبية متجاوزة لجدل الواقع والمتخيل، ومنصرفة بالكلية إلى صياغة الذات صياغة أنانية رومانسية متعالية، تهدف إلى الحفاظ على الماضي واستعادته باعتباره جزءا راسخا من الشخصية وتاريخها، لأن ” الإنسان يصعب عليه صنع ماضيه، إنما يمكنه الاحتفاظ به. في مثل هذا الوضع يتحول التخييل بكل تعبيراته، وتجلياته إلى خزان للذاكرة، ضد التلاشي، ومحصنا لها ضد قهر القصف، ولعنة التدمير، وسياسة المحو.”[16].
وعلى هذا الأساس تصبح اللغة والذاكرة والحقيقة، والقدرة على الاستقصاء والتأمل وتفسير الوقائع الحياتية، واستدعاء تفاصيلها بكل حمولتها العاطفية والانفعالية، وصياغتها وفق منظور استرجاعي لا يخلو من تخييل، هي الأدوات الوحيدة التي في يد الكاتب، ومن خلالها يتحتم عليه أن ينجز سردية ذاتية جديرة بالقراءة والاهتمام، وقادرة على توفير المتعة الفنية التي توفرها الأعمال الأدبية الناجحة، وهنا تكمن عبقرية التخييل الذاتي التي لم يستطع استيعاب مفارقتها والإبداع ضمن شروطها إلا كتاب معدودون، لأنه إبداع يصدر عن الحقيقة ويتكئ عليها وينجزها في نهاية المطاف، بعيدا عن الابتداع، والخلق، والاصطناع، و سواها من العناصر الروائية المعروفة في الممارسة الروائية والقصصية، خلاف التخييل الذاتي الذي ينبغي أن يقوم على ” تخييل أحداث ووقائع حقيقية جدا.”[17] على حد تعبير دوبروفسكي.
وبالنظر إلى ارتباط السيرة الروائية بالذات/الأنا، وما تستدعيه من قضايا الذاكرة والهوية والحقيقة والصدق والكذب والخيال، فإنه استطاع أن يفرض نفسه في مشهد المقروئية الأدبية لما يتمتع به من جاذبية ” تصنعها لحظة الاعتراف بالذات، لحظة غير مريحة لكنها حقيقية.”[18]، دفعت به في النهاية إلى صدارة القضايا النقدية الشاغلة للخطاب النقدي الغربي المعاصر، وصار يثير الكثير من الضجيج والاهتمام، على نحو ما تساءلت الكاتبة كلير لاودون في صحيفة الصانداي تايمز:” ما هو التخييل الذاتي؟ ولماذا كل هذا الضجيج المتعلق بآخر تحققاته؟.”[19]، لتجيب لاحقا بأن الأمر كله متعلق بالإغواء الذي تمارسه الحقيقة العارية، إذ أننا نجد الأعمال السينمائية التي تصدر نفسها بالتنبيه إلى أن وقائع ما سيعرض مأخوذة من قصة حقيقية تثير الاهتمام والحماس أكثر من غيرها، وتحقق النجاح أكثر من سواها، بما بلغي نهائيا أطروحة رولان بارت الشهيرة حول موت المؤلف، إذ لم يعد ممكنا تذوق التخييل الذاتي واستيعابه وفهمه ودراسته خارج سياق ذات الكاتب وتاريخه الشخصي، و هكذا يمكن قلب الأطروحة البارتية بشكل آخر، بالتأكيد على موت الخيال التخييلي الصرف إن صح القول، بمعنى موت الأعمال الأدبية التي تنهض بالكلية على أسس خيالية مختلقة، على الرغم من تأكيد النقد قديما وحديثا على استحالة خلو الأعمال الأدبية مهما جنح بها الخيال من تفاصيل سيرية ذاتية.
لقد كان التخييل وقضاياه مصدر إلهام لكثير من النظريات الفلسفية والنقدية قديما وحديثا، لعل أطرفها وأعمقها هو طرد أفلاطون الشعراء من جمهوريته الفاضلة، بسبب ابتعادهم عن الحقيقة بمراحل، فاتحا الباب من ذلك الحين على التساؤل أساسا عن أهمية الأدب، وقيمته، وجدواه، وهو المعبر عنه في الوقت الحالي في مباحث الكتاب تحت عنوان: لم يكتب الكاتب؟ ولمن يكتب؟، وهي أسئلة فلسفية منطوية على قلق وجودي لا تخلوا منه الذات الكاتبة في بعض منعرجات الحياة التي تستدعي التساؤل عن الماضي والحاضر والمعنى والمآل، يستدعي إدراجها ضمن النصوص الروائية التقليدية إعدادات هيكلية روائية خاصة لا يتطلبها التخييل الذاتي، المنفتح من حيث التعريف، على مساءلة الذات ومنجزاتها وإعادة صياغة تاريخها الخاص صياغة تهدف إلى المكاشفة والتأمل، و الانتصار للفعل الإيجابي للذات والمقاومة الناعمة للسياقات الاجتماعية الظالمة غير المنصفة[20]، أو محاكمتها و فضح ازدواجية معاييرها ونفاقها[21] من خلال ذات جريئة، مشاكسة، متمردة و مختلفة[22]، وهو يفعل ذلك من خلال ” تحويل ذاته الواقعية إلى مادة متخيلة، ويقيم معها مسافة عبر وسائط السرد، فتصبح ذاته الذات الأخرى التي يسعى لمعرفة حقيقتها وطبيعة وعيها، كما يستثمر ملفوظات الآخرين من أصدقاء وكتاب وقراء ويحولها إلى واجهات سردية تتجلى فيها ذاته المرغوب في اكتشافها.”[23].
إن الرغبة المكينة في معرفة الذات هي التي تنصب في قلب الممارسة السردية الملتبسة بالسيرة في مختلف تمظهراتها التخييلية، سواء في السيرة الروائية أو في السيرة الذاتية الصرف، أو في التخييل الذاتي، لكنها تبدو في هذا التأخير أكثر إلحاحا، و بروزا، حيث تبدو، في أغلب الأحيان، لا مبرر أدبي لها سوى الرغبة العميقة في الاستبطان والكشف والتعريف و إعادة استكشاف التجارب القديمة على ضوء المكتسبات البعدية، من النضج والوعي والثقافة و مستجدات المعرفة، وعلى هذا الأساس كثيرا ما تحيل هذه الرغبة سياقات التسريد التأملي للذات إلى ما يشبه المونولوغ الممل، و الفخر الكلاسيكي المعروف في أغراض الشعر العربي القديم، حيث يقع بسهولة في قبضة النرجسية الفجة والذاتية المتضخمة، والأنا/Ego المتسلط إلى حد السطوة[24].
بيد أننا لا نعدم ممارسات أخرى استطاعت تجاوز المحذورات السالفة لسطوة الذات، حيث مسرحتها وساءلتها وكتبتها في سياقها الحياتي العام باحثة عن المعنى، و ناظرة إليها في سياق اجتماعي شامل لا يقتصر اهتمامه وحفايته على الذات وموروثها الفردي فحسب، ولكن يفعل ذلك من خلال استيعابها لمقتضيات وجودها في زمان ومكان وسياق ثقافي مخصوص[25]، حيث إن ” الأنا السيرية تكبل الفعل السردي وتقلص من حجمه وتعوق انطلاقه نحو ارتياد العوالم التخييلية في كامل غناها وتنوعها.”[26]، لأنها ملزمة في أدائها السردي بالذات والذاكرة والحقيقة، عناصرها الخاصة، وقانونها النوعي المميز.
من الصعب حقا ألا نلاحظ انزلاق الممارسة السردية المعاصرة، رواية وتخييلا ذاتيا وسيرة بكل أنواعها، نحو نرجسية ضيقة جعلت كلود أرنو[27] يؤكد بأننا نعيش عصرا استثنائيا يمكن أن نطلق عليه عصر(تخييل الأنا (l’ego-fiction، و قد وجدنا كاتب التخييل الذاتي على وجه الخصوص لا يستنكف من التصريح بأنه يعري ذاته الحميمة ومعها ذوات الآخرين، كما يراها أو كما تصورها له أوهامه، و قد يدفعه البحث المحموم عن هويته وفق التساؤل الوجودي الأنطولوجي المعروف:(من أنا؟)، بفعل غياب أو ضعف اليقينيات الدينية أو الفلسفية وحتى الإيديولوجية إلى أحضان الذاتية الصرف، حيث أكد في سياق آخر بأننا ” بمساعدة السوسيولوجيا والتحليل النفسي، بدأنا نعرف أنفسنا من خلال تفاعلنا مع الآخر داخل الفضاء المهني أو العاطفي أو الشخصي أكثر مما نعرف أنفسنا بالقياس إلى أجدادنا……وقد أخذت التصورات المتعلقة بالتنمية الذاتية حيزا مهما في حياتنا مثلها مثل التساؤلات المتعلقة بأسس الذات.”[28].
لقد شهد العالم في السنوات الأخيرة انهيارا كليا لمنظومة القيم الموروثة عن عصر الحداثة، كما شهد تنامي وهيمنة منظومة قيمية أخرى تنتمي إبستيمولوجيا إلى ما بعد الحداثة، متشعبة في اتجاهين مختلفين أشد الاختلاف، ففي الوقت الذي بدأ فيه العالم ينزع ظاهريا نحو الشمولية والعولمة و وحدة النمط الحياتي والثقافي، كان في العمق يبلور منظومة قيمية موغلة في الذات والذاتية، كالنرجسية و النزعة الفردية و نزعة الشك و مبدأ اللذة و تشذر الهوية، وقد أثرت النزعة الأخيرة أكثر من غيرها في التصور المعتاد للأدب وقضاياه وظيفته الاجتماعية خصوصا، حيث أدت إلى ظهور لون جديد من الكتابة المتجاوزة للقواعد والحدود والقوانين، وقد تمكنت من التعبير عن نزعتها التجاوزية تلك عبر التخييل الذاتي كلون أدبي جديد تمكن من الاستثمار في الجهاز المفاهيمي الذي جاءت به ثورة ما بعد الحداثة، وأن يتكرس كممارسة إشكالية أعادت صياغة جملة من القضايا كالعلاقة القائمة بين الذات والآخر والواقع والتخييل، وغيرها من المفاهيم التي غيبها الجموح البنيوي لسنوات الخمسينبات والستينيات، وتشريد لمؤلف وتجريده من عمله وإبداعه عبر مقولة موت المؤلف، مما جعل هذا الأخير يعلن عن حضوره الطاغي بسلسلة من الكتابات الأوتوبيوغرافية الدافعة بالذات إلى أقصى مداها عبر التخييل الذاتي والسيرة الروائية وغيرها من الممارسات المتجاوزة للحدود الأجناسية الضيقة ” قصص معيشة، تخييل أو سرود واقعية.”[29].
مهما يكن من أمر، فإن التخييل الذاتي قد انتهى إلى نتيجة لم يكن يتوقعها في بداياته المحتشمة، حيث أصبح رائد الممارسة الروائية المعاصرة التي تخلت عن طموحاتها التجريبية الخالصة من أجل تخييلات بيوغرافية قائمة على محكيات مترددة بين التأكيد وعدم التأكيد، الصحة الزيف، الحقيقة والاختلاق، وترتكن إلى الذات والتجاوز قبل كل اعتبار آخر، الذاتية بالإعلان عن الاغتراف الصريح من التجربة الشخصية وتوسل الذات في شعريتها الحميمة، والتجاوز برشاقة الجنس الروائي القادر على القفز بين الأنواع وفوقها، دون أن يخسر جوهر العملية التخييلية والسردية المتمثلة في استدراج القارئ والزج به في خضم عواملها وأفضيتها وفق آليتها القرائية القائمة على التحليل والتأويل وإعادة البناء[30].
وعلى هذا الأساس عنونا فرعيا هذا المبحث بسمة قلق التصنيف، إشارة إلى ما اعتور العمل، رواء مكة، من اضطراب شامل في مكوناته السردية، ومضامينه، ولغته، بحيث ألفيناه يمارس ألوانا شتى من الممارسات الكتابية غير المنضبطة بقوانين النوع الذي اندرج تحته في عقده القرائي على دفة العمل الأولى، فقد ألفيناه يعقد فصولا عديدة لا رابط بين بينها سوى الرغبة المؤكدة في كتابة التجارب الخاصة، سواء تعلق الأمر بشذرات خاطفة من الطفولة وعالم القرية، وأيام المدرسة، ثم مرحلة الوعي الحضاري بالصراعات المضرمة في فضائه المغاربي والعربي والإفريقي، وذكريات خاصة عن أساتذته الذين أثروا فيه، وصفحات طويلة ليوميات الحج والانطباعات الروحية عن الإسلام والقرآن والمسلمين وقضاياهم، وهي التي استأثرت بالحيز الأكبر من العمل، لا سيما وأن الحج ذاته هو العامل الجوهري الذي عجل برحلته الروحية، و سفره التطهري، و مغامرته صوب الكمال والرواء.
بدأ القلق التصنيفي مبكرا بالاندراج ضمن جنس السيرة الروائية وليس التخييل الذاتي، على الرغم من افتقاره إلى مكوناتهما معا، و قربه أكثر للأخير وأحقيته بالاندراج تحته، و إذا كان التخييل الذاتي يستدعي توحد الكاتب والراوي و احتمال الشخصيات لأسمائها الواقعية في الحياة العامة، والالتزام بصدقية الوقائع والأحداث وفق ما تقتضيه جمالية التخييل وليس إكراهات الوضع الكرونولوجي، فإن السيرة الروائية، بجمعها بين جنسين أدبيين شديدي الاختلاف، السيرة بما تقتضيه من وفاء مطلق للمرجع، و الروايه بما تبيحه من اختلاق كلي للوقائع والأحداث، دون أن يعني ذلك تجردها الكلي عن العناصر السيرية وفق ما أكده الخطاب النقدي في أبحاثه العميقة حول قضايا التخييل و المرجعي والواقعي، و حيثيات تسلل الذات إليهما معا بالقوة وبالفعل في نهاية المطاف، قد جعلت النص يخطئ تصنيفه وإنجاز عقديته القرائية باندراجه ضمن السيرة الروائية لسبب أساسي وهو خلوه من أي عنصر روائي، سواء تعلق الأمر بالراوي الذي جاء متطابقا مع الكاتب نفسه، أو في الشخوص الذين احتملوا أسماءهم الحقيقية في الواقع، و حتى في الأحداث التي وردت مختصرة خاضعة لاقتصاد لغوي و تخييلي جردها من ممكنات السرد الشعرية و التخييلية التي يتيحها الجنس الروائي.
يباغتنا ذلك الاقتصاد اللغوي منذ الصفحات الأولى للعمل، من خلال الاندراج ضمن إنشاء أسلوبي تعليمي يستدعي نصوص أدباء النهضة والمدرسة الإحيائية العربية الكلاسيكية، العقاد والمازني والرافعي وطه حسين و احمد أمين وسواهم ممن شكلت أعمالهم نصوص الأدب المختارة في كتب القراءة والمطالعة المبرمجة في حصص اللغة العربية في المدارس العربية شرقا وغربا، وهي وإن كانت نماذج بليغة من الترسل النثري العربي، فإنها ببالغتها و إيجازها و مجراها التقليدي، تعطل الأداء اللغوي الذي تستدعيه الرواية الحديثة التي تقوم على الرشاقة والخفة و التفاصيل وطول النفس السردي، واللغة المتجردة من الترهل البلاغي القديم و عقده، المنفتحة على العصر ومعارفه، و المتضمنة لقضاياه وإعلامه وأدواته و تعابيره الكونية، كقوله في الفقرة الأولى من العمل الذي عقده تحت عتبة (ومضات) ليشرح مجموعة الظروف والملابسات والصدف التي دفعت به إلى الحج :” خواطر شتى تجاذبتني وأنا أتوجه من مكناس، حيث كنت أقيم، إلى مطار الدار البيضاء لأداء فريضة الحج..هل قدرت يوما أني سأشد الرحال إلى الديار المقدسة وقد نفرت عن ما كنت أراه رسيس تربية ومخلفات ثقافة.. هل يستقيم هذا العزم وقد نبذت ماضي ورائي ظهريا؟ وهل هو حج أم استكشاف؟ وأي استكشاف يكون؟ ألم أدفع كل الدعوات التي تلقيتها لأداء الحج؟ (…) كنت أرى في الحج وقد تواترت حوادث الازدحام والحرائق والضحايا مخاطرة…ثم ما يفيد أن يطوف المرء وسط الزحام و يرشق نصبا بالحجارة؟… فأي رحلة هذه التي سلكت، من رافض للحج، متندر بشؤونه، إلى مقدم عليه؟ وهل هي أوبة إلى ذلك الحضن الذي احتضنني وأنا بعد صغير، أم هو استكشاف لطقوس وعبادة ووقوف على تجمع ضخم هائل ليس إلا؟ هل هي مصالحة مع الإسلام، أم هي قطيعة نهائية تأخذ شكل سفر للوقوف على وجه من وجوهه؟.”[31].
وفق هذا الشكل من التسريد والأسلبة والتعبير، سوف يتنقل بنا الناص في مراحل مختلفة من طفولته وشبابه و مشاربه الإيديولوجية وأسئلته الوجودية و الهوياتية القومية، وانسلاخه المبكر من رابطة الإيمان، وما تلا ذلك من أسئلة وبحث وتجاوز ورفض وتمرد وسواها من المراحل التي يعبرها كثير من المتفلسفة والمفكرون والمثقفون، ومن تتاح لهم سبل المعرفة العميقة بالثقافة الغربية، قبل أن يعاودوا نزول النهر من مصبه إلى منبعه فيتصالحوا مع ذواتهم وهوياتهم الإسلامية الراسخة[32]، كل ذلك، دون أن يستشعر الحاجة، على مسافة العمل كلها، إلى استعارة الأدوات التخييلية المذهلة التي تتيحها السيرة الروائية التي اندرج ضمنها وتصنف تحتها تحت عتبة العنوان، من قبيل الشعرية و التخييل و الاستبطان و التمثيل، مندرجا بذلك، وبقوة، تحت جنس آخر من الممارسة السيرية التي وسمها بول ريكور بتوصيف السيرة العقلية ( Autobiographie intellectuelle)[33]، حيث وضح اختياره لهذا التصنيف بتصنيف آخر قريب من التخييل الذاتي (autofiction) هو ما يمكن ترجمته بالتفهيم الذاتي أو الفهم الذاتي (Autocomprehension)[34]، مصرحا بأن العنوان المختار لهذه السيرة الذاتية العقلية المتعلقة بالتفهيم الذاتي (Autocomprehension) تسطر الحدود المفروضة على هذه العملية، وأن ذلك التوصيف يؤكد فقط على تطوري العقلي، وأنني لن أذكر من حياتي الشخصية إلا ما يوضح هذه العملية.”[35].
الأمر نفسه و جدناه في العمل السيري الذي أنجزه المؤرخ الفرنسي الشهير مارك فيرو Marc Ferro بمعية جيرار جورلاند Gérard Jorland تحت عنوان سيرة ذاتية عقلية (Autobiographie intellectuelle)[36]، حيث تم فيه تعقب السيرورة الفكرية للمؤرخ منذ طفولته الاولى حتى النضج و ظهور الأعمال التاريخية الأولى، وما تحكم في خطها التحريري من ظروف حياتية وثقافية وإيديولوجية أملتها تلك السيرورة وفق مصادفات الحياة من جهة و من حيث الاختيارات الواعية من جهة أخرى، وعلى هذا الأساس يصبح هذا التصنيف العقلي المجرد أولى بالأعمال التي تنصرف إلى بحث هذا الجانب من الشخصية الإنسانية، لأنه جانب لا يستدعي البحث فيه، والكتابة عنه، استعارة الأدوات التخييلية المعروفة و إنما تستدعي الكتابة الموضوعية الواعية بالمراحل العقلية والثقافية والملابسات التي وجهت الشخصية وجهة مخصوصة خلاف الوجهات الأخرى، بما يشبه البحث الأركيولوجي في طبقات الوعي الصافية وطبقات اللاوعي ذات الغموض السيكولوجي المتراكم شديد التعقيد.
وإذا تدبرنا تفاصيل السيرة التي سمح الناص بمرورها عبر الذات الكاتبة الواعية، مادامت كل ” كتابة سردية هي كتابة انتقائية ومن ثم فهي متحيزة.”[37] بحسب بول ريكور، فإنها جاءت في مجملها عقلية ثقافية تؤرخ للطفولة منذ الكتاب إلى المدرسة إلى الجامعة، وتؤرخ للكتب والدراسات، والأفكار والتيارات الإيديولوجية والقضايا القومية و الهوياتية التي شغلته طوال حياته، على نحو ما سنفصل لاحقا، بما فيها الأفكار الفلسفية المبكرة التي أزالت عن نفسه وعقله بكارتهما الإيمانية التي غرسها فيه الجو الإيماني التعبدي البسيط الذي فتح عينيه عليه في قريته الأمازيغية الجنوبية الفقيرة، إلى لحظة الضعف الإنساني التي اعترته عندما أصيب بوعكة صحية، فقطع وعدا على نفسه أنه إن شافاه الله وعافاه أن يحج بيته الحرام، جاعلا من هذا الوعد المقطوع حجة للسرد و حجة للبوح وحجة للعمل برمته، بما جعل العمل ينطلق من هذا الوعد وينبني عليه ويشرح تفاصيل التجربة العقلية التي أسلمته في منتصف العمر إلى تجربة أخرى، روحية إيمانية هذه المرة، تجبره في النهاية على التكيف مع مقتضياتها الإيمانية بصدق وجرأة و حماس.
- أزمة التشخيص
لما تقرر، لدينا بعد التحليل الذي قدمناه في قلق التصنيف، بأن النص قد جانبه التوفيق في الانضواء تحت الجنس السردي المناسب، وفي إبرام عقده القرائي مع المتلقي بالانتساب إلى السيرة العقلية التي توفر على معظم خصائصها ومكوناتها، فإن أول ما يتوجب بيانه بعد ذلك هو وقوع النص تحت طائلة العري التمثيلي و الفقر التشخيصي الذي يتربص بهذا اللون من الممارسة، ونعني بذلك ما ذهب إليه أمبرتو إيكو من أن فن السرد الحقيقي ليس حكي أحداث وإنما يكمن في إنجاز وصياغة عوالم تخييلية ترتاح إليها النفس.
من المؤكد أن تلك العوالم التي يشير إليها إيكو ليست عوالم العقل العارية، ولا وقائع الحياة الخام، ولا الفضاءات الإنسانية مجردة من الذات الناظرة، والخيال، والمشاعر، والرؤى المختلفة التي ينجزها الانفعال بالعالم، وإنما هي أساسا اختيارات واعية لمعادلات موضوعية وموازيات قادرة على إنجاز التمثيل الفني للواقع، لأن التشخيص ” في الفكر والممارسة على السواء، هو الانتقال من حالات التجربة التي تصف الحياة من خلال حدود قيمية إلى إسقاط أو تصور وقائع تعد معادلا محسوسا للوجه المجرد المجسد في (أحداث).”[38]، الأمر الذي يجعلنا نقف منذ الصفحات الأولى للنص على انصرافه الكلي عن التمثيل والتشخيص نحو تسريد الوقائع الحياتية تسريدا خطيا مطابقا للأحداث والوقائع، بحرص وأمانة، وحرفية أحيانا، ملغية بذلك لممكنات الرواية التخييلية والتشخيصية على السواء، بما يعنيه ذلك، من الجانب الآخر، من (عجز) عن اصطناع الزمنية الروائية المدركة بفعل التمثيل، على نحو ما بين ذلك بول ريكور بقوله: أننا ” لا نستطيع صياغة حدود الزمنية من خلال خطاب فينومونولوجي مباشر، فالزمنية تشترط توسط الخطاب غير المباشر الذي يوفره السرد.”[39].
لكن ذلك الخطاب غير المباشر الذي يوفره السرد، وتستدعيه السيرة الروائية بما هي رواية على وجه الخصوص، هو بالتحديد ما جعل النص الذي بين أيدينا يقع على مسافة بعيدة، باردة وحيادية، عن الممكنات التخييلية الروائية، على الرغم من حرصه في كثير من المواطن على استدرار العاطفة، و تصريف الانفعال صوب حدث إنساني بعينه، يتوفر في مخيال المتلقي على تراكم عاطفي تاريخي راسخ في الوجدان الجمعي، كالقضية الفلسطينية، ورمزية مكة، وحالات الضعف الإنساني كالمرض والموت والفقدان وسواها، وهي الحالات التي تضمنتها المقدمة الطويلة التي عقدها الكاتب لبيان الملابسات التي أحاطت بالنذر الذي قطعه على نفسه بالحج، والذي يشكل مبررا سرديا مركزيا للعمل أولا، و للتحول الجوهري في حياة صاحبه ثانيا.
قال:” ثم استحضرت تلك اللحظة التي قطعت فيها النذر، أذكرها بكل ملابساتها…يونيو 2006. كان يوم جمعة وقد أنهيت أشغالي ولم يبق إلا أن أحضر معرضا للمنتوجات التقليدية لجمعية فلسطينية من غزة حلت بالمغرب واستضفتها بمكناس مساعدة لها على الحصار المضروب على المدينة وساكنتها…ثم شاهدنا فيلما وثائقيا يعرض للمعاناة التي يتعرض لها الفلسطينيون، وكان منها صورة طفل تعرض للضرب المبرح من طرف جندي إسرائيلي، فغلبتني دموعي، ثم اعتذرت للحضور، ولم أكن أخبرت أحدا أني مقبل على إجراء عملية. كانت تلك الفرصة الأخيرة للبرء من الآلام التي عانيت منها الأمرين لزهاء(كذا) عشر سنوات نتيجة خطأ طبي…كنت أعاني في صمت، وكانت آلامي الجسدية قد أثرت على نفسيتي، فأضحيت فاتر العزيمة، شارد الذهن، متأثرا لأدنى حادث، وقد ملك ذلك نفسي حتى غلب علي الأسى وران علي الحزن. و قصدت فرنسا مرتين لأجراء العملية لمعالجة الخطأ الطبي عند من يعد من كبار المختصين، وفي أرقى المستشفيات، ولم تكلل العملية بالنجاح. فلم أر بدا أن أقصد طبيبا مغربيا، في مستشفى عمومي…أثار انتباهي بهدوئه وسمته. كان ذا لحية خفيفة تنم عن تدينه…”[40].
انطلاقا من اللحظات الانفعالية التي خلفها مشهد الطفل الفلسطيني المتألم تحت ضربات الجندي الإسرائيلي، إلى برحاء الألم الذي خله الخطأ الطبي الذي عجز عن تصحيحه الأطباء الفرنسيون المختصون، في مستشفياتهم الراقية، إلى الاستسلام لإجرائها على يد طبيب مغربي ملتح ومتدين ومنضبط في عمله، في مستشفى محلي عمومي، كلها إعدادات إيحائية بيقظة الحس الديني المغيب، و باضطراب رسيس الروح الراكد منذ عقود، تحت تراكمات الخيبات القومية، و غطرسة النظريات الوافدة، و فتنة الفتوحات العلمية الغربية، التي بدأت فجأة عاجزة، في الوقت الذي بدأت فيه لحية الطبيب المتدين الخفيفة بديلا صالحا لكل ذلك، وإعلانا شجاعا عن رسوخ الروح في العالم، وعن جدارتها و استحقاقها و قدرتها على تعويض كل الخسارات والانكسارات والهزائم متى أتيح لها المجال. و هكذا ” حل الطبيب، لم يبد على ملامحه أنه كان واثقا، بل لم يبد أنه كان مهتما..حضر في الموعد المضروب، ووصف لي مهدئات، ثم وعد بأن يأتي عند الغد على الساعة السابعة صباحا. وعن ذاك الطبيب في الموعد، كما لو هو ساعة سويسرية. لا أزال أذكر، والليل بهيم، وآلام شديدة تعتصرني بعد العملية…أشعلت التلفاز لأسلو، لأنسى آلامي…ووقعت على قناة تي في5 الفرنسية في حديث مع الناشطة الحقوقية الإيرانية تشرين عبادي، حائزة جائزة نوبل.. سألها الصحفي إن كانت تؤمن بالله، فردت أن نعم، وكنت أحسبها علمانية، بله ملحدة، لإصرارها على السفور، ورفضها ارتداء الشادور في نظام يفرض ارتداء الشادور. حكت، وهي في مقتبل عمرها، أن أمها مرضت مرضا وبيلا، تردد أنها لن تشفى منه، فابتهلت إلى الله أن يشفي أعز عزيز لديها. وكان أن شفيت أمها وعاشت بعد ذلك سنين عديدة. أطفأت التلفزيون إثرها، ورددت في تلك اللحظة أني لو أشفى فسأذهب إلى الحج.”[41].
كان نذرا تلقائيا، أو على الأقل ذلك ما بدا من خلال النص، لكن ما تقدمه من حضور لافت للسياق الديني في تفاصيل عديدة متراوحة بين الحضور والغياب، الظهور والاستتار، وبين التصريح والتلميح، جعل النذر ممكنا، بل واجبا، فقد سبق للرجل الآلام وعجز الغربيين في شفائه، مثله الأعلى، و نموذجه الأوحد لفعالية الفكر والحضارة، قبل أن ينكفئ إلى تربته الأولى، ووطنه الأول، وما يتوفران عليه من ممكنات وقدرات و معجزات، كانت خافية عليه، أو كان جاهلا بها أو متجاهلا لها، مصروفا عنها بحجاب الافتتان، بالغرب وحضارته و فكره وماديته العملية البراغماتية القريبة.
فالطبيب الشاب، ولحيته وتدينه الظاهر، و انضباطه، و (وقاره) الذي تجلى في البرود واللامبالاة، بل في الهدوء والسكينة تلقاء العملية برمتها، توحي بتعلقه بقيمة روحية عليا جنبته شطط القلق واللهفة و التعلق بالقدرات الإنسانية المحدودة، بالإضافة إلى استسلام البطل للوحدة والعجز والمرض، وسط سكون الليل، في مواجهة سافرة مع حقيقته، حقيقة الحياة، وحقيقة الوجود برمته، حيث بدا الضياع و التيه و الشعور القاهر بالعجز، والرغبة العارمة في التعلق بقوة عليا، قريبة من القلب، بعيدة عن العقل، يحسها ولا يعيها، عبرت عنها الناشطة الإيرانية شيرين عبادي[42] بإيمان صرف، و تعلق طفولي، لم يكونا باديين وسط معمعان الحفاية الإعلامية الغربية بها، من خلال الإيمان بالقدرة الإلهية اللانهائية التي استجابت لدعواتها لشفاء والدتها من مرضها العضال. بدا الشفاء معجزة، وبدا الإيمان راسخا رغم الثقافة الغربية و قيمها الكبرى المشكلة لخلفيتها الفكرية والنضالية والحقوقية التي جعلت الكاتب في لحظته الانفعالية المؤثرة تلك، يتماهى معها، ويجد فيها موازيا ثقافيا وفكريا لشخصيته المتشظية بين الشرق والغرب، وبين الإيمان والإلحاد، فيقرر أن (يجرب) القدر، والإيمان، والدعاء، فالمعجزات تقع كل يوم، والدعاء ينفع صاحبه، وليس في الأمر مخاطرة من أي نوع، فليجرب، ولينذر أن يحج إن تعافى.
وهو سوف يتعافى، وسوف يحج، وسوف يستعيد إيمانه الطفولي البريء بعد جهد ولأي، وسوف يحدثنا عن التحولات العميقة التي اعتورت وجدانه، واكتنفت شعوره، وسوف يجد الرواء الكلي لروحه العطشى في فناء مكة، وسوف يكرع فيها حتى الثمالة، وسوف تنكسر في نفسه، للمرة الأولى، و منذ عقود، خطية الافتتان العارم بالغرب، روحا وإيمانا على وجه الخصوص، لا فكرا وتبصرا بالحياة على وجه العموم، فيتصالح صلح الشجعان مع تاريخه وهويته وروحه وإيمانه.
سوف يحدثنا النص عن كل ذلك بالتفصيل، وسوف نفهم التحولات التي أحدثتها الرحلة الروحية في وجدانه العميق وكيانه و شخصيته، لكنه لا يتمكن نصيا من إنجاز أدبية ما، بسبب انكفائه على نقل الوقائع المعطاة بشكل سابق على الذات، منتقاة من سلوك يومي ناجز ومألوف، ولم ترسم حدوده وفق تمثيلات وتناظرات قيمية ما، ومن نافلة القول ” إن الحدود المجردة لا تصنع فنا، ولا تبني نصوصا سردية ( تماما كما أن الأفكار لا تصنع شعرا كما كان يقول بول فاليري).”[43]، و”المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من النسيج وجنس من التصوير.”[44]، كما قال الجاحظ (تـ 255ه) بدوره في سياق الجدل البلاغي القديم حول ثنائية اللفظ والمعنى، بما يجعل من الأدبية قضية وراء المعاني، والأفكار، والنوايا، و قداسة الموضوع، وسواها من الاعتبارات الوافدة من خارج النص، وتركز العملية برمتها في الشكل والأسلوب والبناء.
وعلى هذا الأساس تواردت القضايا الفكرية والمعنوية، وتعاضدت، وتشابكت بعواطف و انفعالات إنسانية راقية، لم تستطع رغم تضافرها أن تتلافى سقوط النص في التقريرية الوقائعية المجردة عن لباس الأسلوب والأداء اللغوي الذي يكون أحيانا بديلا صالحا يستدرك على النص نقائصه، بتلبية الحاجة الجمالية إلى الأداء اللغوي الرشيق و الجميل، إذ لا يخلو النص الأدبي الناجح من إمتاع في كل الأحوال، لأنه في الأخير، وبغض النظر عن كل التشقيقات التعريفية والتنظيرية، كيان لغوي له وجه و ظهر، ظاهر وباطن، معنى ومبنى، أي أفكار وأسلوب، وهو شخصيات وحبكة وعقدة وحل وخطاب ورؤية خاصة إلى العالم، مهما أخطأ النجاح في باب من الأبواب، وفي جانب من الجوانب، تداركه وتلافاه في غيره، ولاسيما الجانب الأسلوبي، فإنه لينتصب لوحده في كثير من الأعمال مبررا قويا لوجودها و نجاحها، لأن الذائقة اللغوية، ملكة راسخة في التداول الأدبي والبياني، تجد ضالتها في ما أطلق عليه رولان بارت لذة النص[45].
بيد أن النص لم يلتفت إلى كل ذلك، أو التفت إليه ولكنه قصر عنه، أو أن السيرة العقلية التي وقع فيها بالفعل والقوة قد جرته إلى ممارسة عقلية صرف، ولعل تلك العوامل كلها قد تضافرت في النهاية لتسحب النص صوب أدائه الحيادي المتردد بين العاطفة والخيال والغرابة والأسلوب المدرسي الذي لم يكتسب الثقة الكاملة في النفس للانطلاق والتعبير الحر وطول النفس المطلوب في الرواية على وجه الخصوص، من ذلك مثلا تعبيراته الواردة في قوله:” أتملى حولي ممن يملأ قلوبهم الإيمان، فأعجب لسمتهم وسكينتهم..هل يمكن أن تصرف الحياة بالعقل وحده؟ هل حياة الإنسان مقاولة تخضع لمنطق الربح والخسارة، و الحساب الدقيق..”[46]، و ” ما جدوى أن أنفر إلى مكة حاجا وأزور المدينة إن لم أتحول؟”[47]، و ” مسجد صغير في حي تيمدقين الشعبي بإفران، والبرد والثلج، والزمن بداية الثمانينات، والساعة العشاءان وعمري لا يربو على العشرين إلا قليلا.”[48]، و ” وكنت لما أن التحقت بالرباط للدراسة الثانوية بالمدرسة المولوية بعثه والدي إلى بوذنيب على الحدود الجزائرية عسى أن يُخَضِّدَ القسم الداخلي من حدته. كان شَمُوسًا، أبيا، عصيا، وكان يرفض ما تواضع الناس حوله واستقروا بشأنه.”[49]، و ” كان مع أترابه وهم دون الثانية عشرة من أعمارهم يلعبون في أرباض الثانوية.”[50]، و ” كأنما أحال هذا الحادث أخي شخصا آخر، منطويا على نفسه، يملأه الفرق…و ماهي إلا أيام حتى يعود سيرته ويضرب في الغاب…فكيف يعيش المرء وسط برد إفران القارس في فصل الشتاء بلا دثار؟…كيف يواجه الوحوش الضارية من الخنازير البرية؟…وتمليت بيت الله فلم أجد إلا الفراغ…كانت تلك اللحظة القطيعة مع كل موروثي…لم أشعر بشيئ يملأ ذلك المكان أو يختصه بشيئ. ورجعت على عقبي. خبطت العشواء وسط الغابة وأنا أعتمد عصا…كنت أرمق السماء، كانت دكناء، ولم يكن من نور ينبعث منها. كان الفراغ…وهل يرضي السماء هذا الذي نبلو؟ إن كانت السماء تعي هذا العناء فكيف لا تحنو على هذه القلوب المنفطرة…أم نحن من ملأناها من أسانا و توهماتنا.”[51]
عندما نتأمل المقبوسات السالفة، من زاوية أسلوبية صرف، سوف يشد انتباهنا قلق البنى الإفرادية والتركيبية في تجاورهما ضمن الجملة الواحدة، انظر مثلا: أتملى، أنفر إلى مكة حاجا، والساعة العشاءان وعمري لا يربو على العشرين إلا قليلا، عسى أن يُخَضِّدَ القسم الداخلي من حدته، و في أرباض الثانوية، و يملأه الفرق، يضرب في الغاب، فكيف يعيش المرء وسط برد إفران القارس في فصل الشتاء بلا دثار؟، و كيف يواجه الوحوش الضارية من الخنازير البرية؟، وخبطت العشواء وسط الغابة وأنا أعتمد عصا، و وهل يرضي السماء هذا الذي نبلو؟، و هذه القلوب المنفطرة، وغيرها كثير مما تردد في سياق النص برمته، حتى إنه ليجعل من قراءته لدى القارئ المحترف على الأقل، مهمة تستدعي التعود بسرعة على هذه النغمات (الشاذة) النشاز قبل أن تتحول إلى (ألم) لغوي حقيقي إن صح التعبير. لكن القراء ليسوا صنفا واحدا، وليسوا على مستوى واحد من الحساسية اللغوية، وهو ما يعطي للنص شرعية ما تؤهله لأن يتداول عند قطاع عريض من القراء.
وهنا نتساءل، هل تكفي النوايا الحسنة، والمضامين الشريفة، أن تعطي للعمل الأدبي شرعية ما؟ و هل تستطيع أن تجنبه مشاكسة النقد وأسئلته العميقة؟ بمعنى آخر: هل تعتبر مبررات كافية لتجعل منه عملا أدبيا يتوجب التعامل معه على أنه كذلك مهما اكتنفته النقائص؟. الحقيقة أن هذا السؤال بالتحديد هو ما جعل الجاحظ يرسم تحديداته المعروفة في مقالته الشهيرة حول الألفاظ والمعاني، وهي نفسها التي اطردت في مختلف الكتابات النقدية التي تناولت الشعر الصوفي، التي وجدت نفسها تواجه المعضلة نفسها: أيصح إدراج الشعر الصوفي ضمن متون الشعر العربي وعاموده وتاريخه عامة أم يتوجب إدراجه في تصنيف خاص به، بالنظر لما يتوفر عليه من جمالية خاصة، تختلف في وجوه عن الشعر العربي و تشترك معه في الوقت نفسه في كثير من الوجوه، على الرغم مما تضطره إليه موضوعاته الخاصة، المتعلقة بالمقولات الصوفية، من تجريد و ووعظ وتغليب للمضمون على الشكل[52].
الواقع إن نص الرواء يستدعي النظر إليه من هذه الزاوية النقدية أكثر من أية زاوية أخرى، فهي المنطقة الرخوة التي تسمح بالنفاذ إلى جوهر النص، جوهره الروحي والفكري المتجاوز للأداء الأدبي إلى الأداء الفكري، لأن الكاتب ليس أديبا محترفا متمرسا بالنصوص الأدبية الهادفة إلى الإمتاع الأدبي بقدر ما هو مفكر يميل إلى المطارحة الفكرية والمؤانسة الفلسفية العميقة.
- جدل الأحداث والوقائع.
لابد من الإشارة هنا إلى الفرق الجوهري بين الحدث والواقعة، فإذا كانت الأخيرة تنصرف إلى ما يعتور الحياة من وقائع متتالية في الزمان والمكان، متعلقة بالحياة اليومية للأفراد، في سياقات اجتماعية وثقافية مخصوصة، تصبح عن استدعائها فنيا من خلال الفعل الاسترجاعي في السيرة والتخييل الذاتي شيئا واقعا خارج الذات المبدعة، شيئا ناجزا ومنتهيا يتطلب النظر إليه، في سياقه الأدبي، وفق أجهزة مفاهيمية مختلفة عن الأجهزة التي ينظر بها ومن خلاها إلى الحدث، التي يطلق لتحديد التمثيلات التخييلية التي ينجزها الناص فنيا وفق بناء خاص ضمن منظوره الفني الشامل، إنه ليس فكرة مسبقة، أو قيمة دلالية مستقلة عن أي سياق، بل هو صياغة لفكرة من خلال سياق، فالحدث ” بما هو مدى محسوس يؤطره كم زمني يقود إلى الفصل بين الحالات والتحولات، ليس معطى جاهزا، إنه كيان مبني، فهو رصد لعلاقات ليست مرئية في التجلي المباشر للوقائع الإنسانية.”[53]، ولهذا ” لا يمكن لأي كم سلوكي أن يصبح حدثا. فهذا الذي وقع قد لا يكون حدثا أو قد يكون كذلك ضمن سياق بعينه لا في جميع السياقات.”[54].
من أجل ذلك، ومن أجل السياق الحدثي الذي ألحقنا به النص في المقدمة، وما بيناه من حيثياته الخاصة المتعلقة بتجربة الكاتب الفريدة في سياق السلطة والسياسة والروح والبحث عن المعنى، وجدنا البحث في مقومات التجربة الروحية المركوزة في قلب النص بديلا صالحا عن سواها من القضايا الحافة التي تثيرها الأعمال الأدبية بصفة عامة، لسببين جوهريين، يتعلق أولهما بما أسلفنا الإشارة إليه بخصوص (الحدثية) الخاصة للنص، وثانيهما يتعلق بكون الأعمال الأدبية لا تستجيب بطريقة آلية لفرضيات النقد المسبقة، إذ لا تنفك تتحداها وتتجاوزها و تحاصرها بأسئلة متجددة ومطردة حسب السياقات والثقافات والشخصيات الكاتبة، حيث ” تضع الرواية النقد الأدبي في التجربة الراهنة، أمام تحديات كثيرة، ولعل أهم تحد يتمثل في ضرورة تحيين النقد لسؤال اشتغاله، ووضعيته الفلسفية، ومراجعته لخلفيته النظرية في علاقة ما تقترحه تجربة النص السردي العربي الراهن من طرق مختلفة في صوغ التخييل، وبناء السرد، ثم في مدى قدرته على الانطلاق من مشهد التحولات التي تعرفها الرواية، وصياغة جديدة لمنطق التلقي خارج ثقافة الاستقبال الروائي المألوفة، كما تختبر الرواية بتجلياتها الراهنة حدود النقد، وإمكانياته المعرفية والفلسفية والمنهجية في التفكير في راهنية السرد، بدلا من اعتماد المألوف، وإعادة تسويقه.”[55].
وهكذا يصبح لزاما على النقد أن يعيد النظر في مسلماته وإعداداته السابقة الحين بعد الحين، فليس الثبات من صفات الأدب، ولا الجمود ولا الانصباب في قالب واحد حاسم ونهائي، و لا ينفك يضع النقد المتشبث بالرسوخ أمام حرج معرفي ومنهجي متجدد، حين ” تختبر قدرته على تجاوز النظريات، وبناء تعاقد جديد مع النص، من الداخل، وباعتماد مقاربة جديدة تنطلق من الاعتقاد بقدرة الرواية العربية على صياغة تمثلاتها المفاهيمية؟ ألا يمكن أن نقرأ من هيمنة ظاهرة التجاذب النقدي بين الرواية الواحدة، ما يجعل الرواية الواحدة تحتمل القبول فنيا، والرفض الروائي لدى البعض الآخر؟ في غياب وجود متلق لتوازن يعيد للنص شرعيته الروائية صورة للنقد الروائي الذي عندما تجاوزت الرواية أنظمتها السابقة، وحكت موضوعاتها ضمن أبنية تشبه زمنها، ضاع النقد إليها؟.”[56].
هذه الأسئلة وسواها من الأسئلة الجوهرية المتعلقة بالأصل الفلسفي الوجودي لماهية الأدب، و لماهية التسريد، من جهة أخرى، وللعمل الأدبي بالمفهوم البارتي (رولان بارث)،[57] تلزم النقد المتطلع إلى الفاعلية والاتساق مع السياق والزمن أن ينفتح على مختلف الفرضيات والممكنات، وأن يحسن الاستماع إلى مضامين النص بغية الكشف عن منظومته الداخلية، فالمطلوب من أي نص في نهاية المطاف، هو أن يكون مثل الزجاج المعشق، يحيل على الداخل والخارج معا، يستجلب النظر إلى نفسه، ويسمح بتجاوزه إلى المضمون في نفس الوقت، فهو يؤدي وظيفة مزدوجة مركبة ومعقدة في الوقت نفسه، وظيفة نفعية وجمالية، قوامها التوازن المرهف، والتعادل بين البعدين، و حسن توزيع الإيقاع بين الدورين.
و على هذا الأساس تصبح مقاربة نص الرواء وفق التحديدات النقدية المنجزة حول الرواية عموما والعربية منها على وجه الخصوص، عملا بروكسيتيا[58] يفرض على حيوية الحياة وتعددها قوالب ذهنية و مادية صارمة، بدل الانكباب على النص نفسه وقراءته وفق نظام تشكله الخاص الذي عمل من خلاله على إنجاز معناه و تداول مقصده، حيث وجه مسار النص طوب نقطة مضيئة منتصبة في آخر النفق، نفق التيه والضياع الذي كانت الهواجس الإلحادية لحمته وسداه، بينما كان النور موازيا للتطهر و الإيمان الراسخ و التصالح النهائي مع الذات والهوية والتاريخ الفردي والجمعي، و الانصراف بالكلية إلى مقتضيات النتيجة التي انجابت عنها التجربة برمتها.
بدأت الوقائع النصية من الوقائع الحياتية نفسها، متطابقة على مستوى الراوي و الشخصية، وبدون أية مسافة تخييلية حابلة بالاحتمال والتأويل، منذ لحظة النذر الذي أسلفنا بيان إلى حيثياتها، إلى تفاصيل الحج ذاته، حيث كان، وهو يؤدي أركانه وشعائره، تتجاذبه الشكوك، و تنتابه الهواجس، وتعاوده الأسئلة الوجودية المقلقة، و تشده إلى الماضي بكل شهواته ومتعه و أفكاره، لاسيما تلك المتعلقة بهويته الأمازيغية، وثقافته الغربية المكينة، و طبيعته الفكرية المتمردة على الدين وقيمه و شعائره وتاريخه، وقد مثل لذلك، وهي المرة الوحيدة التي فعل ذلك، وعلى طول النص، بشاب مغربي أمازيغي جاءه وراجعه المغزى من حجه، وعاتبه على التفريط في قضيته، قضية الهوية الأمازيغية، و ذكره بمواقفه السالفة، و بخطابه القديم، وبشخصيته التي فقدت وهجها و ملامحها وهي تنخرط في المنظومة الإسلامية التي شوهت تاريخ أمته العريق.
قال:” كنت خارجا من المسجد النبوي بعد صلاة الفجر، وما أن بلغت ساحته حتى ابتدرني شاب وسيم، يلبس لباسا عصريا، وهو ما أثارني في حمى المسجد، وفي موسم الحج، وإذا هو يحدثني بلسان أمازيغي:- يا ابن عشيرتنا أريد أن أتحدث إليك (أوينخ، ريخْ، أذاك ساولغْ)…كان مما أذكره من حديثه المسترسل الطويل ما أثبته هاهنا:ـــــــ لقد كنت فخرنا حين حملت مشعل لغتنا الأمازيغية تنافح عنها، ولقد كنت من أوعى الناس أن اللغة ليست إلا جانب(هكذا) من معركتنا لنحقق ذاتيتنا، ولننفصل عن هيمنة العنصر العربي وغطرسته…كنت أقرأ كتاباتك بشغف، وكنت أراك حاملا لمشعل صراع جيل، ولذلك لم أفهم أن تأتي إلى هنا لتؤدي فريضة الحج…”[59].
تمكن الكاتب من خلال عنصره التمثيلي هذا، أن ينجز يشبه المعادل الموضوعي لهواجسه الذاتية، فالشاب أمازيغي مثله، وسيم في لباسه الغربي العصري، في ساحة المسجد النبوي وقت الحج، وحيث المحاورة باللسان الأمازيغي، لسانه القومي ولغته الأم، وقضيته[60] التي ناضل العمر كله من أجل ترسيخها وتثبيتها وإعطائها حقها في الوجود في تربتها الأصلية، مؤكدا بأن حجه إلغاء جذري كلي لنضاله السابق، وأياديه السابقة، و تخل عن الزعامة التي كان يمثلها، و عن الريادة التي كان يقود بها بني عشريته نحو تحقيق الذات بالتحرر من سطوة الثقافة العربية وهيمنتها، أما الإسلام ” فليس إلا غطاء لهيمنة العنصر العربي. ألا تذكر قول الأديب الإنجليزي نيبول ذي الأصل الكاريبي؟ هل تظل أن نظل مسودين بأرضنا؟ ولسوف نظل كذلك مادام الإسلام مهيمنا بساحتنا ثقافيا وسياسيا. ليس الإسلام إلا خديعة من أجل تحقيق إمبريالية العنصر العربي .. فرس وأتراك ومصريون وأفارقة يعفرون جباههم للعروبة من بوابة الإسلام .. وهل تريد أن نكون كذلك نحن الأمازيغ؟ .. نحن في مفترق الطرق بين الفرس والأتراك الذين حافظوا على لغتهم وسؤددهم، ولو هم في جانب كبير أضاعوا روحهم، وبين مصر التي أضاعت لغتها وروحها. ما تزال لغتنا قائمة رغم كل شيئ، ونود من خلالها أن نبقي على روحنا، تلك التي نستمدها من عهود سحيقة قبل أن يحل الإسلام بأرضنا. عد من حيث أتيت، وإن لم تفعل، فاجعل من سفرك هذا تجربة أكاديمية، وكشفا أنثروبولوجيا. ألق ظهريا بكل هذا العبث.”[61].
لقد كانت هذه المرة الأولى التي يتضعضع فيها كيانه الفكري، المتماسك إلى الآن، أمام (شبهة) وافدة من ماضيه النضالي القومي، ممثلا في ريادته الفكرية والثقافية ضمن تاريخ القضية الأمازيغية، و قد كانت من القوة بحيث أنها غيرت مزاجه فجأة و طوحت به خارج دائرة السكينة الإيمانية التي بدأت تستقر شيئا فشيئا داخل روحه المتوجهة بكل قوة صوب الحق والسلام والجمال المطلق. قال: ” ارتعت لما سمعت، ونهضت دون استئذان، وقصدت غرفة الفندق، ونظرت إلي زوجتي فقرأت انزعاجي، ولم تجرؤ أن تسألني، ولو فعلت لما حدثتها بشيء.”[62].
في لحظة شك مقلق، أوشك أن يصرف النظر بالكلية عن الحج و قيمته في منظومة الشعائر والعقائد الإسلامية، ويعتبر رحلته رحلة علمية مكنته من دراسة الحج باعتباره شعيرة دينية كغيرها من الشعائر في مختلف الديانات التي يدين بها البشر شرقا وغربا، يحجون إلى أماكن مخصوصة، في أوقات مخصوصة من الزمان، ويقومون بشعائر محددة، لها معانيها المخصوصة في ثقافتهم وديانتهم، بما يلغي عن الحج ما يحوط به في الشعور الجمعي الإسلامي من قداسة وطهر و سواها من المعاني الغيبية، حيث لا يمثل في العمق سوى ظاهرة انثروبولوجية جديرة بالدراسة والتحليل لاستخلاص المعاني الثقافية الشعائرية وحسب.
تجدر الإشارة إلى أن هذا الخاطر الطارئ الملتبس بقضايا الهوية والتاريخ الشخصي والانتماء كان خاطرا وحيدا في النص كله، فقد حياله الكاتب تماسكه الإيماني، و بدا قاب قوسين أو أدنى من (ردة) عارمة ورفض كلي للمنظومة الإيمانية التي أعاد اكتشافها بالتدريج منذ نذر الحج وهو على سرير المرض، إذ لم يكن الخاطر فلسفيا ولا ميتافيزيقيا ولا متعلقا بقضايا الإيمان الكلاسيكية التي يتداولها الملاحدة، كوجود الخالق أو عدمه، وقضايا نظرية التطور، والوجود من العدم، والغائية الكونية، والتصميم الذكي، والعشوائية، والنبوات، والوحي، وسواها من القضايا، بل ارتبطت هواجسه وخواطره بما يمكن توصيفه بالعصبية، للقومية والعشيرة والأهل، من خلال رفض الذوبان في القومية الوافدة، والتخلي عن القومية الأمازيغية العريقة السابقة في الزمان والمكان للقومية العربية المحمولة في تضاعيف المنظومة القيمية للدين الإسلامي، مستشهدا بنماذج ثلاثة للقوميات التي نازعت العربية الوجود، وتلك التي استسلمت لها نهائيا، وتلك التي ما زالت تقاوم التلاشي.
إلى جانب هذا الخاطر القومي الهوياتي المقلق، أورد خاطرا ثانيا متناسلا منه، ولاحقا به، أملاه العقل هذه المرة، العقل المشبع بالثقافة الغربية وقيمها و أساليبها و أدواته التفكيرية المتجردة عن الأهواء والعواطف والمعاني الروحية، قال:” وحدث يوما بعد أن صليت العشاء في المسجد النبوي بالمدينة أن خرجت إلى ساحة معركة أحد، وارتقيت ربوة الرماة وأنا أتملى منظر الساحة التي احتضنت المعركة، وأنظر إلى الربوة التي احتمى بها المسلمون الأوائل قبل أن تستثيرهم الغنائم، فينزلون منها، فيغير عليهم خالد بن الوليد بجمعه…وما أن بلغت أسفل الكدية حتى بادرني الشاب الذي التقيته قبل أيام خارج المسجد النبوي..هو عينه بابتسامته الماكرة، وهو يحدثني هذه المرة بالفرنسية، وكانت فرنسيته راقية عذبة:- هي ذي ساحة معركة أحد التي قرأت عنها مرات ومرات. أفلا ترى أنها لا تعدو أن تكون ساحة ملعب كرة القدم، والمعركة مناوشة أبناء حي، لا أكثر ولا أقل، ضخمتها الأسطورة…ألا ترى قوة الأساطير؟.. ومع ذلك فمعركة أحد في وجدان المسلمين تزري بمعركة البيلوبونيز الإغريقية، بل بمعركة أوسترليتز بين نابليون وروسيا ومعارك فردان و المارن في الحرب العالمية الأولى.”[63].
و عندما ينهره و يطلب منه الكف عنه ويسأله من أنت، يجيبه الشاب:” أنا أنت، أنا عقلك.”[64]، ذلك العقل الذي خاطبه بلغة فرنسية صافية وراقية، ونبهه، وهو يقف على ربوة الرماة في ساحة أحد، أن أحدا الواقعية ليست أحدا الراسخة في مخيال المسلمين، فليست في واقع الأمر بكل تلك الهالة ولا بتلك الضخامة، فهي ساحة صغيرة في حجم ملعب كرة، والمعركة مجرد مناوشة بين أفراد الحي الواحد كما يحدث في معظم مدن العالم بين عصابات المدن الكبيرة، في أمريكا والبرازيل والمكسيك وسواها، لكن الأسطورة الدينية المتلفعة بالقداسة والإيمان والتسليم و (تغييب) العقل تولت تضخيم الحادثة وجعلها ماهي عليه في وجدان المسلمين، فالقضية في النهاية هي قضية نص، وتقديس، وتأسيس أسطوري، وتأويل، و مخيال جمعي ليس إلا، إذ أن أُحُدًا، المكان، والمعركة، لا يقاسان بما عرف التاريخ البشري من معارك مهولة، ضخمة وفاصلة في التاريخ بعدتها و عديدها، معارك البيلوبونيز، فاردان، أوسترليتز، وسواها من المعارك الشهيرة.
- سيرة الرواء.
الواقع إن تينك الحادثتين الاثنتين كانتا الواقعتين الوحيدتين اللتين مثلهما الناص تمثيلا تخييليا من جهة، وجعل الشاب الذي يغشاه الحين بعد الحين موازيا سرديا لأناه وعقله و شعوره الواعي، كما كانتا الواقعتين الوحدتين اللتين كشف فيهما خواطره العميقة المتسللة من كيانه العميق صوب ساحة الشعور، محملة بقيمه العلمية والفكرية والثقافية الأصيلة التي ظلت تتجاذبه دون أن يستسلم لها نهائيا، قال:” كنت نهبا لتجاذبات صحبتني أثناء الحج وبعده، ولم تهدأ إلا كما يهدأ البركان، ويخمد أواره وينطفئ لهيبه، رويدا رويدا.”[65]، لكن التغير الحقيقي في حياته سيحدث فجأة، في لحظة صوفية راقية لم يكن ينتظرها أو يتوقعها، وردت من رحم الغيب، ومن فيض الرحمة الإلهية، فكانت رواء روحه، و (رواء) النص، من حيث هي رواء مكة، فحولت حياته بالكلية، وطهرت روحه من الشكوك و التجاذبات و العناد و الحرص ومكابرة العقل وغرور المعرفة، فيقع التصالح النهائي مع هويته الإسلامية العميقة التي رضعا من لبن أمه ومع تراتيل القرآن الفجرية الندية التي كان يرتلها والده في قريته الأمازيغية البعيدة، فراح يقول لنفسه ” بلغة فرنسية، ولا أدري لم، أنا مسلم، أنا مسلم”[66].
ولكن لم قال ذلك لنفسه بالفرنسية؟ ولم في تلك اللحظة بالذات؟ لأن (الوراد) الروحي، كما يسميه المتصوفة، كان انفعالا قويا مشوبا بنشوة[67] المعرفة الخالصة، و بالإدراك، واليقين، و(الصحو) المفاجئ، وبعد (محو) الخواطر الذاتية القديمة المستندة على مقولات العقل والمنطق المحددة ذاتيا لا موضوعيا لمعاني الإيمان والغيب والله والمتافيزيقا وكل المقولات الخارجة عن تحديداته. كما أن استعارة اللغة الفرنسية للتعبير عن هذه اللحظة الانفعالية الحميمة، قد يوحي برد فعل لاشعوري، ضمن لغة الخطاب العقلي والإيديولوجي الذي تشربه الكاتب في رحلته العلمية الطويلة، يشبه التحدي والصمود والكبرياء والرفض النهائي و التأكيد على هوية الذات الأصيلة، بما يشبه الكوجيتو الديكارتي: (أنا أفكر إذن أنا موجود) يصبح كوجيتو الكاتب/النص: (أنا مسلم أذن أنا موجود).
أما التحول الجوهري الذي سيقلب حياته رأسا على عقب، والذي سيركز جذوة الإيمان ومعانيها في قلبه، دافعا إياه إلى تغيير رؤيته إلى العالم، وفلسفته الخاصة، وطريقته في الحياة، فقد جاء في آخر لحظة، لحظة غير متوقعة في خضم قيامه بشعائر الحج وفاء بالنذر، قال:” لقد قمت بشعائر الحج وأنا موزع بين شخصين .. شخص يقوم بالشعائر، وشخص يرمقه في الوقت ذاته..وكدت لمرات كثيرة أن أهوى كمن يعبر الصراط. كدت لمرات كثيرة أن أقول هذا عبث..أشياء كثيرة كانت تنفرني، ولكن أشياء كثيرة تفوقها كانت تفعم خاطري..لقد رصدت ذلك كله..كنت أرصد ذبذبات تحول، إلى أن وقع ذلك الشعور العجيب وأنا بفناء المسجد الحرام وقد فرغت من طواف الإفاضة ومن السعي..ووقع التحول في آخر لحظة… أما ما وقع فهو نور يقذفه الله في قلب المؤمن، كما يقول الإمام الغزالي… هو مسألة لا تدرك إلا بالذوق…ولذلك أنا عاجز عن التعبير عنها.”[68].
لقد كانت لحظة صوفية نادرة أطلق عليها توصيف (الرواء)، جاعلا منها مرادفا للامتلاء الروحي العارم بعد الجفاف والقحط والتيه والضياع، ومرادفا لتواضع الحكمة واتزانها في مواجهة الكبرياء والغرور والزهو والجفاء، ومرادفا لوضوح القصد بعد العمى و (الضلال) و غياب الهدف:” وتحولت، أصبح لحياتي معنى..أدركت المعاني الدقيقة لنداء (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)..كنت منقبضا فأصبحت منشرحا. كنت أخشى الحياة وصروفها، وأصبحت أهزأ منها ومن أحابيلها. كنت أهوى نفسي، وأأتمر بهواي، وأضحيت أضبط جماحها، أو أسعى لضبط جماحها، وكان الهوى يثبط العزيمة ويفت من الإرادة. كانت غشاوة ترين على ذهني فلا أبصر، وانجلت الغشاوة. كنت مقمحا، كالبعير المكبلة التي ترفع رأسها في شمم وإباء وترفض أن تكرع من الماء، وانحنيت بلا تأفف، لم يثنن وضعي، ولا ما نلت من معرفة وعلوم عقلية لأنهل من نبع ثر صاف يكرع منه المؤمنون..ذاك (الرواء) بفتح الراء غير حياتي رأسا على عقب.”[69].
إن ذلك النبع الثر بعينه هو قوام الروح الإيماني عندما يتحلل من جاذبية الطين و شراهة النفس و أهوائها، وهو النبع نفسه الذي يحدث عنه كل المهتدين، وجميع الوافدين إلى ساحة الإيمان، سواء من أبنائه الذين شردوا عنه، أو من الغرباء الذين (اهتدوا) إليه بعد عناء البحث و وعثاء السفر الروحي، حيث يكون (الوصول) شبيها باستراحة المحارب، أو المسافر، على جنبات نهر وارف الظلال منعش الهواء بارد المشرب طاهره ونقيه.
الواقع إنه من الصعب ألا نضطر إلى استعارة المفردات الصوفية ومعانيها للتعبير عن (الرواء) الذي وجده الكاتب، لأنها في العمق مفاهيم روحية عميقة تدور على مشرب واحد، ومعنى فريد، يتصل بلحظة (الوصل) مع الحقيقة العليا، و (محو) الأكوان، و (التعرف) النهائي على الطبيعة العليا للذات الإنسانية وأشواقها المتصلة بالمطلق الخلاب.
إن هذه الحقائق العليا عندما تحل بالذات تنفرد بـ(عرش) القلب، و (كرسي) الروح فلا تساكنها فيهما الأضداد، ولا الأشياء، ولا الأهواء، بل تفرد سلطانها الأعلى على محيطها وتجره جرا نحو الأقدس والأطهر والأعلى، ويصبح ماعدا ذلك ماضيا كئيبا و قبيحا يتوجب ستره، والنفور منه، بل التوبة الكلية عنه، مهما كان مهما، متصلا بالهوية العميقة المحددة للانتماء وللتاريخ الشخصي العزيز، وهو ما انتبه إليه الكاتب في معرض حديثه عن التحولات العميقة التي حدثت في سلمه القيمي، و في اهتماماته وأفكاره و في الأجواء الروحية الإيمانية التي أصبحت مدار تفكيره وشعوره الواعي، حيث حدث عن سياحة له في تركيا، صلى فيها الجمعة وراء إمام بوسني خطب بمزيج غير واضح من التركية والعربية، شاركه الغداء بعد الصلاة، ثم سأله ابنه ذي السنين السبع عن رأيه في هؤلاء المسلمين مختلفي الأعراق الذين شاركوه الصلاة والغداء: ” أتجدهم ودودين؟ قال: نعم. قلت: أتدري لم؟ قال: لا. وتلوت عليه الآية الكريمة ( إنما المؤمنون إخوة)…كنت في الحقيقة أحدث نفسي… وكأني لحظتي تلك قد وقفت على عبث الأعراق وجهالة الأنساب…هؤلاء هشوا بي، ولا أعرفهم، وغالب الظن أنني لن ألتقي بهم، ولو التقيت بهم يوما ما فلن أعرفهم، ولقد جمعتنا آصرة هي فوق الأنساب وتتجاوز الزمان. ومن أكون؟ عابر وسط عابرين. أما الآصرة فلا. أما الإسلام فأثيل. وتهاوى من فؤادي صنم الأعراق.”[70].
لقد كان صنم الأعراق ثاني الأصنام الذي تهاوى في تجربة الرجل الإيمانية ورحلته الروحية، بعد صنم العقل الذي كان أكثر الأصنام صلابة وغواية و ثباتا، وهو أرسخ الأصنام على الإطلاق، وأقواها وأشدها، لأن قوامه العقل وأدواته، التفكير والتحليل والعلم والمعرفة، تحدث باجتماعها رجفة الزهو، ونشوة الغرور، و هيلمان المعرفة، تستمد ذلك من جذوة النار المقدسة التي تحتفظ بها (الآلهة) لنفسها في قمة جبلها الأسطوري[71]. أما أصنام الشهوات فما أيسر ما تتهاوى من تلقاء نفسها عندما يتهاوى الصنم الأول، وذلك أن أصنام الشهوة التي قوامها النفس واقعة تحت سلطان العقل، تجري مجراه وتأتمر بأمره، لذلك، ما أسرع ما تخلى الكاتب طواعية عن أهم مكون من مكونات شخصيته، وانتمائه ووجوده، وهو المكون الأمازيغي الذي كان قضيته الأولى، ومبرر وجوده، و مبدأه الإيديولوجي الذي كرس له جانبا مهما من حياته الفكرية والنضالية، وانتهى إلى (الولاء والبراء) الإيماني، جوهر القضايا الإسلامية القاضية بموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، وانتبه إلى زيف قضيته القومية، ومحدوديتها في سياق التاريخ البشري الآيل إلى الفناء برمته، و أن الإيمان وآصرته ومعناه هو في الحقيقة أنشودة الوجود الأولى، و قضيته النهائية التي عليها سيطوى العالم طي السجل للكتاب.
يحدثنا مرة أخرى عن عمق التحول الحاصل في أعماقه لما انصرف من صلاة الصبح إلى بيته، وقلب النظر في مكتبته العامرة بالكتب: ” أغلبها فلسفي، من منزع غربي يدعو إلى العقل.”[72]، يختار من بينها ديوان شعر لشاعره المفضل، ييتس، الإيرلندي، لكنه سرعان ما ” طرحت الديوان جانبا ثم فتحت القرآن الكريم وسبحت في أنواره وانجلت عني الغشاوة.”[73]، على حد تعبيره. ثم يتساءل بحسرة تلخص بشكل ما فحوى العمل كله:” ما صرفني عن هذا النبع الثر؟(…)عجبا، فيم(هكذا) كنت من ذي قبل لا أهتدي لأسرار القرآن؟ “[74]. وليس النبع كما هو واضح إلا ذلك (الرواء) الذي استشعره فجأة وهو خارج من المسجد الحرام بعد إتمام مناسك الحج، ثم يجيب، بعدما يكتشف الحقيقة الباهرة، ويسكن إليها في النهاية، بأن سبب شقائه كله كان عقله ولا شيء سواه: ” كنت مقمحا، رافع الرأس، أأبى أن أنحني معتدا بعقلي ووضعي.. فلما انحنيت ارتويت.. كان انحناء، وركوعا وسجودا لأنهل من نبع صاف يسبغ على حياتي معنى، ويسري عني من كروب الدنيا ويمدني بالقوة، ويمنحني العزة والكرامة.”[75].
استقى الكاتب الكثير من الملفوظات المعجمية الدالة على الري والعطش والشرب، وهي وحدات معجمية تحيل في هذا السياق على المعنى نفسه الذي حمله العنوان منذ الصفحة الأولى، رواء مكة، ومحيلا في الوقت نفسه على المعنى الصوفي المتعلق بالشرب وإيحاءاته التأويلية الممكنة في جملة (قد علم كل أناس مشربهم) من الآية القرآنية رقم 60 من سورة البقرة[76]، حيث يقول السلمي، في تفسيره الصوفي الإشاري، حقائق التفاسير، في معنى الآية ما يلي:” قيل: فيه مشرب كل أحد حيث أنزله رائده، فمن كان رائده نفسه فمشربه الدنيا، ومن كان رائده قلبه فمشربه الآخرة، ومن كان رائده سره فمشربه الجنة، ومن كان مشربه روحه فرائده السلسبيل، ومن كان رائده ربه فمشربه في الحضرة على المشاهدة حيث يقول: (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) به عن كل ما سواه.”[77]، وعلى هذا يصبح الشرب معنى روحيا خالصا يحيل على (الوصل) الصوفي، و(الريادة) العقلية أو النفسية أو الروحية أو الإيمانية، التي اختار منها الكاتب الريادة الإيمانية بما هي إسلام، واستسلام للحق، وإذعان له، و تخلص من رعونة العقل وزهوه التي عبر عنها بـ(الإقماح)، وهي لفظة قرآنية قال عنها :” كنت من المقمحين.. كم من مرة مررت على الكلمة ولم أهتد لمعناها، كما مررت على الحياة ولم أنفذ للغاية منها؟ هل تدري، يا صح، ما المقمح؟ هي البعير حينما تغلها أغلال تشد رأسها وتمنعها أن ترد الحوض.. هي ترى الماء ولكنها لا تهتدي إليه لأنها لا تستطيع النزول إليه.”[78].
الواقع إنه ليس بعد هذا مزيد وصل، فليس بعد (الوصل) الصوفي إلا (الفناء)، فقد انصرف الكاتب نهائيا عن كل المعاني الحياتية المحيلة على خلاف (الشرب) و(الرواء)، والمتصلة بغرور الدنيا و ما يعتريها من (إقماح)، وسوف يحدثنا الكاتب عن تفاصيل كثيرة متصلة بالفضاء الروحي الجديد الذي اكتشفه واهتدى إليه واعتنقه بإيمان صادق وشغف عميق، وسوف يتجلى ذلك بقوة في خاتمة رحلته الروحية بالتخلي الطوعي عن المنصب الرفيع والجاه العريض، في الفصل الأخير من الكتاب الذي عنونه بـ(كانت هجرة) تصادى فيها مع هجرة النبي محمد، وشرح كيف جفلت زوجته وهو يسر إليها بعزمه على الهجرة إلى الله ورسوله من منصبه ناطقا رسميا باسم القصر الملكي المغربي، الذي كان يوفر له وضعا اعتباريا وماديا مريحا وممتازا له ولعائلته، وكيف سرح سائقه أمام أولاده المتباكين، وكيف أجابها بحسم:” كاين الله “[79]، مصرا على المضي في سبيله الروحي الجديد، مؤسسا لعهد جديد من الصفاء و الوفاء للمعاني الجديدة رغم المحن والآلام، قال: ” دخلت والأولاد مرحلة عصيبة. كنت أراهم يبكون و قد أنفوا أن يحرموا من وضع درجوا عليه… كنت أرى هولا وأداريه، وأستعين عليه بالصبر والصلاة.”[80].
وذلك شأن الهجرة على كل حال، انتقال من وضع إلى وضع، ومن حال إلى حال، لعل أسماها وأعوصها في الوقت نفسه هي الهجرة الروحية من الرجس إلى الطهر، ومن العقل وضراوته إلى الروح ونقاوته، ومن الكون إلى مكونه، مسؤولية شاقة، وقفزة شجاعة لا يستطيعها إلى الذين امتلئوا فجأة من رواء دافق، واكتشفوا زيف الظاهر والمظاهر، وآثروا الحق والحقائق، لأن أشواق الروح إلى بارئها أعمق و أصدق من أشواق الطفل إلى الأب، حاجة ماسة، راسخة، وقوية، لا يشفي نوازعها إلا بلوغ المنتهى.
قائمة المصادر والمراجع
- المراجع العربية:
- ابن عجيبة الحسني، الفهرسة.
- بن ليون التيجيبي، الإنالة العلمية للانتصار للطائفة الصوفية.
- سعيد بنكراد، السرد الروائي وتجربة المعنى
- عبدالله شطاح، نرجسية بلا ضفاف، التخييل الذاتي في أدب واسيني الأعرج
- زهور كرام، نحو الوعي بتحولات السرد الروائي العربي
- زهور كرام، ذات المؤلف من السيرة الذاتية إلى التخييل الذاتي
- أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، كتاب الحيوان
- زكي مبارك. التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق
- أبو عبد الرحمن السلمي، حقائق التفاسير، تفسير القرآن العزيز
- المراجع الأجنبية:
- Moine Dhamma Sæmi, La Vie de Boudhha et de ses principaux disciples
- Martin Puchner, The written world.
- Ernest Becker, The Denial of Death
- Alice Attlee, Fiction of Facts
- Serge debrovsky, Fils
- Claire Lowdon, the Sunday Times
- Claude Arno, Qui dit je en nous ?
- ( Poétique ) septembre 2007, n°151
- ANTHONY FLEW with ROY ABRAHAM VARGHESE, There is a GOD
- Paul Ricoeur, Reflexion Faite, Autobiographie intellectuelle
- Autobiographie intellectuelle, Marc Ferro et Gérard Jorland
- Paul Ricoeur : Temps et récit, 3 le temps raconté
- Roland Barthes, Le plaisir du Texte
[1] . المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/المغرب – بيروت/لبنان، ط/1، سنة/2019.
[2] . شخصية سياسية وفكرية بارزة. ولج قصور السلطة من بابها الواسع كأول ناطق باسم القصر الملكي في المغرب، ثم عاد الرجل الذي تقاسم صف الدراسة مع الملك محمد السادس إلى الساحة العامة، مستقلا عن السلطة، بإسهام أدبي وفكري وتاريخي غزير وبنقد حاد لبنيات الدولة في المغرب مما وضعه في مناسبات كثيرة في قلب الجدل، انظر: حسن أريد، مثقف زهد في السلطة، على موقع الجزيرة: https://www.aljazeera.net/encyclopedia/icons/2015/8/18/
[3] . ابن عجيبة الحسني، الفهرسة، ط/1، ( دار الغد العربي – القاهرة، 1990) .
[4] . ابن ليون التيجيبي، الإنالة العلمية للانتصار للطائفة الصوفية،( دار الثقافة-بيروت، د/ط)، ص/03.
[5] . قبل هؤلاء المتصوفة المسلمين الذي ضربوا أروع الأمثلة عن التسامي والتجرد عن متع الحياة، و عن الجاه والسلطان وما يجري مجراهما، يذكر التاريخ أن بوذا، مؤسس الديانة البوذية التأملية الروحية المعروفة، كان يعيش حياة ملكية مترفة، ومعدا ليكون ملكا متوجا أو إمبراطورا عظيما، لكنه نوازعه الروحية التي أملتها تأملاته في مآلات الحياة، دفعته إلى مغادرة القصر والترف والحياة الرغيدة صوب السياحة في العالم و البحث عن المعنى العميق للحياة، الذي سيشكل فحوى ديانته في ما بعد،راجع: Moine Dhamma Sæmi, La Vie de Boudhha et de ses principaux disciples, http://www.dhammadana.org/
و Martin Puchner, The written world, ed : Random House, New York, 2017, p :89/90/91.
[6] .Ernest Becker, The Denial of Death, The free Press, N.York, USA, 1975, p :01.
[7] . سعيد بنكراد، السرد الروائي وتجربة المعنى، ط/1 ( الدار البيضاء – المركز الثقافي العربي، 2008)، ص/266.
[8] . أول ما يجب التنبيه إليه في هذا المدخل، هو أن التخييل الذاتي ممارسة سردية ما زالت تؤسس لنفسها ضمن خريطة الأجناس الأدبية المعروفة، وتلتمس الشفاعة الفنية بغية الانتصاب جنسا أدبيا مكرسا وقارا، على الرغم من أن البدايات الأولى لمجموعة من النصوص التي وصفت نفسها بالتخييل الذاتي تعود إلى بدايات السبعينيات من القرن الماضي، في فرنسا بالتحديد، وقد حظيت باستقبال خاص وباهتمام نسبي في البداية قبل أن تصبح محورا لمباحث نقدية مهمة، ومتنا إبداعيا تأسيسيا عند نقاد فرنسيين كبار نذكر منهم فيليب لوجون و فنسون كولونا وجيرار جنيت. وقد أثار التخييل الذاتي، منذ ظهور النصوص الأولى التي انتسبت إليه، أسئلة كثيرة وجدلا واسعا، بسبب وقوفه في المنزلة بن المنزلتين من جنسين أدبيين معروفين ومكرسين هما: الرواية والسيرة الذاتية، إذ يستمد أدواته وآلياته منهما جميعا، في نفس الوقت، وعلى المستوى النصي الواحد، غير منحاز بالكلية إلى أحدهما على حساب الآخر.=
[9] .= فمن الأول يستمد مشروعية التخييل، بكل ما يتيحه التخييل من حرية مطلقة في بناء الأحداث والشخصيات والفضاء المكاني خصوصا، ومن الثاني يستمد مشروعية الذات والمرجع. إذ تتأسس الذات محوريا لتصير القطب والمناط والمبتدى والمنتهى، تبصر العالم، وتستعيد الأحداث السابقة، تحللها وتعلق عليها وتستكنهها وتعيد تأويل تفاصيلها وفق منظورها الراهن بمحموله من خبرات الحياة والتجارب والثقافة، و تمارس من حيث تدري أو لا تدري أسمى تمظهرات النرجسية الأدبية، لأن السارد فيها هو الكاتب نفسه وليس راويا تخييليا ينوب عن الكاتب نيابة أدبية وأخلاقية، غير أنها وهي تفعل ذلك، تربك المتلقي أيما إرباك، أإلى التخييل ينبغي عليه أن يصرف وقائع النص ومكوناته أو إلى المرجع الحي الواقعي الذي هو بالمناسبة حياة المؤلف عينه المعلن عنه؟ انظر لمزيد من التفصيل كتابنا: نرجسية بلا ضفاف، التخييل الذاتي في أدب واسيني الأعرج، ط/1، ( دار الحكمة – الجزائر، 2012)، ص/07.
[10] . صدر الكتاب سنة 2012.
[11] . Confessionsوهو لون من السيرة الذاتية الحميمية التي أرسى دعائمها القديس أوغسطين في القرن الخامس الميلادي، وكتب فيها وفي لونها الفيلسوف الفرنسي جون جاك روسو كتابا شهيرا بنفس العنوان.
[12] . Alice Attlee, Fiction of Facts, TLS ON LINE, May 09, 2019.
[13] . المرجع نفسه.
[14] . Paris, Galilée, 1977.
[15] . المرجع نفسه.
[16] . زهور كرام، نحو الوعي بتحولات السرد الروائي العربي،ط/1، (منشورات كتارا، الدوحة/قطر، 2017)، ص/47.
[17] . Alice Attlee, Fiction of Facts, ibid.
[18] The Financial times, July 2018.
[19] . Claire Lowdon, the Sunday Times, August 2018.
[20] . كتاب (الأيام) لطه حسين مثلا.
[21] . الخبز الحافي لمحمد شكري مثلا.
[22] . Anticonformiste، متمرد على التقاليد والأعراف الاجتماعية المستقرة.
[23] . زهور كرام، ذات المؤلف من السيرة الذاتية إلى التخييل الذاتي، ط/1، (دار الأمان، المغرب، 2013)، ص/83.
[24] . يمكن الاستدلال بسهولة على هذا في أعمال الكاتب الفرنسي سارج دوبروفسكي مؤسس التخييل الذاتي نفسه، خصوصا في كتابه laissé pour compte(متروك للحكاية)، وفي ثلاثية واسيني الأعرج ( ذاكرة الماء – شرفات بحر الشمال – أنثى السراب).
[25] . يمكن التدليل على ذلك من خلال أعمال عبد القادر الشاوي، محمد برادة، ومحمد شكري.
[26] . سعيد بنكراد، السرد الروائي وتجربة المعنى، مرجع سابق، ص/266.
[27] . Qui dit je en nous ? Grasset, 2007
[28] . ينظر المرجع نفسه،ص:33.
[29] . ( Poétique ) septembre 2007, n°151
[30] . راجع لمزيد من التوضيح كتابنا( نرجسية بلا ضفافا.التخييل الذاتي في أدب واسيني الأعرج، ص/27/28 وما بعدهما.
[31] . حسن أوريد، رواء مكة، مصدر سابق، ص/13/14.
[32] . يحضرنا في هذا السياق نموذجان رائعان من مفكري الثقافة العربية الإسلامية اللذان عبرا عن رحلتيهما نحو الشك و الإلحاد ثم العودة إلى نبع الإيمان الصافي، الأول هو أبو حامد الغزالي، وقد عبر عن تفاصيل تلك الرحلة في كتابه (المنقذ من الضلال)، والثاني هو مصطفى محمود الذي عبر عن تجربته تلك في كتابه (حوار مع صديقي الملحد)، و ما أكثر ما يعيش الناس هذه التجربة شرقا وغربا، لعل أشهرها على الإطلاق هي تجربة أنطوني فلو الذي حمل لواء الإلحاد في انجلترا لما يقرب من نصف قرن، فلسفة وتنظيرا و منافحة إعلامية، قبل أن يهتدي إلى الإيمان في آخر حياته ويكتب كتابه الذي أحدث ضجة ما زالت أصداؤها تتردد في الوسط الثقافي الغربي ولا سيما تيار ه الإلحادي، عنوان الكتاب هو(هناك إله) أسفله عنوان فرعي( كيف غير أشهر الملحدين العالميين رأيه) انظر لمزيد من التفصيل:ANTHONY FLEW with ROY ABRAHAM VARGHESE, There is a GOD, How The World’s Most Notorious AtheistChanged His Mind, Harper Colins Publishers Ltd.London , V6JB, UK.www.uk.harpercollinsebooks.com
[33] .Paul Ricoeur, Reflexion Faite, Autobiographie intellectuelle, Editions Esprit, Paris 1995.
[34] . المرجع نفسه، ص/11.
[35] . المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[36] . Autobiographie intellectuelle, Marc Ferro et Gérard Jorland, Edition PERRIN, France, 2011.
[37] . Paul Ricœur, Réflexion Faite, Autobiographie intellectuelle, ibid, p/11.
[38] . سعيد بنكراد، السرد الروائي وتجربة المعنى، مرجع سابق، ص:254/255.
[39] .Paul Ricoeur : Temps et récit, 3 le temps raconté, éd :Seuil, 1985 ;p :435.
[40] . رواء مكة، ص:15.
[41] . رواء مكة، ص: 16.
[42] . ناشطة حقوقية ومحامية ومعارضة شرسة للنظام الإيراني، عرفت بانتقاداتها الشديدة لسجل بلادها في مجال حقوق الإنسان، نالت جائزة نوبل للسلام عام 2003. انظر لمزيد من التفصيل موسوعة الجزيرة : https://www.aljazeera.net/encyclopedia/icons/2018/1/2/
[43] . سعيد بنكراد، السرد الروائي وتجربة المعنى، مرجع سابق، ص:256/257.
[44] . أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، كتاب الحيوان، ج/3، ص/131.
[45] . انظر لمزيد من التوسع Roland Barthes, Le plaisir du Texte
[46] . الرواء، ص:17.
[47] . نفسه، ص:19.
[48] . نفسه، ص:20.
[49] . نفسه، الصفحة نفسها.
[50] . نفسه، ص:21.
[51] . الرواء، ص:20/21.
[52] . انظر لمزيد من التوسع حول هذه القضية كتاب: التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق، لزكي مبارك
[53] . سعيد بنكراد، السرد الروائي وتجربة المعنى، مرجع سابق، ص:259.
[54] . المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[55] . زهور كرام، نحو الوعي بتحولات السرد الروائي العربي، مرجع سابق، ص:121.
[56] . المرجع نفسه، ص:123.
[57] . نشير إلى مفهوم العمل الأدبي l’œuvre littéraire عند رولان بارث، وهو مفهوم مخالف للنص، إذ يتضمن القارئ الفعلي، وليس الضمني، فيشكلان بتضافرهما العمل، وبغياب القارئ يكون نصا ولا يرقى إلى مستوى العمل.
[58] . نقصد بروكرست وهو شخصية من الميثولوجيا اليونانية، كان حداداً وقاطع طريق من أتيكا، كان يهاجم الناس ويقوم بمط أجسادهم بحسب سريره الحديدي، فمن تقاصر عنه مططه وجذبه، ومن تطاول عنه وفاض عليه قطع أطرافه حتى يتساوى جسده به. يطلق لفظ البروكرستية أي نزعة إلى “فرض قوالب” على الأشياء (الأشخاص أو الأفكار..) أو لي الحقائق و تشويه المعطيات لكي تتناسب قسراً مع مخطط ذهني مسبق. انظر لمزيد من التفصيل: https://ar.wikipedia.org/wiki
[59] . الرواء، ص:135/136.
[60] . نشير هنا إلى ما يعرف في البلاد المغاربية ( ليبيا – تونس- الجزائر – المغرب الأقصى) بالحركة الأمزيغية المهتمة بالقضية الأمازيغية، محور أحزاب وجمعيات ثقافية و وسائل إعلامية كثيرة، تسعى جميعا إلى ترسيم اللغة الأمازيغية وإعطائها الصبغة الرسمية الدستورية، و كذا الاهتمام بإعادة الاعتبار إلى الهوية الأمازيغية الراسخة للبلاد، باعتبارها المكون الأول، السابق للوجود العربي الإسلامي، وقد تمكنت في المغرب والجزائر أخيرا من تحقيق الاعتراف الرسمي بها، ومن ثم إدراجها ضمن البرامج الدراسية، و تنصيب (يناير) عيدا وطنيا رسميا، بالإضافة إلى توفير تخصصات جامعية في اللغة الأمازيغية وثقافتها.
[61] . الرواء، ص:136.
[62] . نفسه، الصفحة نفسها.
[63] . الرواء، ص:136/137.
[64] . نفسه، ص:138.
[65] . الرواء، ص:139.
[66] . نفسه، ص:92.
[67] . هناك دراسات سيكولوجية كثيرة تبحث في علم النفس التطوري تؤكد بأن حالة النشوة والسكر تهيج مناطق محدودة في الدماغ خاصة باللغات الأجنبية، حيث يميل السكارى إلى تفضيل الحديث بها على حساب لغاتهم الأم.
[68] . الرواء، ص:91/92.
[69] . نفسه، ص:93.
[70] . الرواء، ص:143.
[71] . نشير هنا إلى دلالات أسطورة بروميثيوس اليونانية الشهيرة التي تروي كيف سرق بروميثيوس شعلة المعرفة من زيوس كبير الآلهة ليعطيها للبشر، لأنه ارتأى أن المعرفة لا يصح أن تبقى لدى الآلهة فقط، و لم يكن أبداً مؤيداً لزيوس في عزلته عن البشر و احتقاره لهم، و بالرغم من تحذيرات زيوس له بأن المعرفة المقدسة لا تصلح للبشر ، فقد خدعه بروميثيوس و أعطى للبشر – الساكنين في الكهف المظلم آنذاك – ما قد يفتح لهم مجال الألوهية، فوهبهم حرفة النجارة، و علوم الفلك لمعرفة الأزمان و النجوم، ثم أعطاهم الكتابة، و أخيراً سرق شعلة النار المقدسة من عند زيوس و وهبها للبشر. حين أضاءت النار المقدسة الكهف المظلم، تفجّر الإبداع لدى البشر و بدا أنهم قد يصيرون هم أيضا آلهةً أو ما شابه، عندها، حمى غضب زيوس – كبير الآلهة – على بروميثيوس و على البشر فقرر أن يعاقب الجميع. عوقب بروميثيوس – الإله الطيب – بأن عُلِّق على جبل القوقاز عارياً، و سلط عليه نسراً يأكل كبده، و حتى يدوم عقابه للأبد، فقد أمر زيوس بأن يُخلق له كبدٌ جديد كلما فنى الكبد المأكول.
[72] . الرواء، ص:143.
[73] . نفسه، الصفحة نفسها.
[74] , نفسه، الصفحة نفسها.
[75] . الرواء، ص:145.
[76] . وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين.
[77] . أبو عبد الرحمن السلمي، حقائق التفاسير، تفسير القرآن العزيز،( دار الكتب العلمية، بيروت/لبنان، بدون تاريخ) الجزء/1، ص:60/61.
[78] . الرواء، ص:145.
[79] . نفسه، ص:207…وهي عبارة مغربية تعني (الله موجود).
[80] . نفسه، الصفحة نفسها.