
المرنيسي…نحو تأسيس تصور جديد للتعامل مع التراث الديني
Mernissi.. Towards establishing a new perception of dealing with the Islamic religious heritage
الباحث إبراهيم برلال/جامعة محمد الخامس، المملكة المغربيّة
Ibrahim Parlal/Researcher at university of Mohammed V-Rabat
مقال نشر في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 62 الصفحة 25.
ملخص:تعتبر الباحثة السوسيولوجية المغربية فاطمة المرنيسي من أهم الباحثات والباحثين السوسيولوجيين الذين اهتموا بمعالجة سؤال النوع الاجتماعي بالعالم العربي. لذلك تهدف هذه المقالة إلى محاولة تقديم قراءة تحليلية تركيبية لكتابها “الحريم السياسي، النبي والنساء”. وهو الكتاب الذي يحاول تتبع الجذور التاريخية والعوامل السياسية والاجتماعية التي أدت إلى استبعاد المرأة من المجال العام وبالتالي إبعادها عن المجال السياسي، وذلك من خلال القيام بقراءة نقدية للتراث الديني الإسلامي انطلاقا من بعض الأحاديث التي تحط من شأن المرأة والتي تنسب إلى الرسول. وهو بحث ينطلق من ظواهر اجتماعية في الواقع المعيش ليصل إلى تفسير سوسيوتاريخي لها، وهي إحدى الخصائص المميزة للبحث السوسيولوجي المعتمد على المنهج التاريخي. كما أن هذه المقاربة لها قدرة تفسيرية كبيرة لواقع المجتمعات العربية.
كلمات مفتاحية: التراث الديني الاسلامي، إقصاء المرأة، الأحاديث النبوية، المجال العام.Abstract:
Moroccan sociological researcher Fatima Mernissi is considered one of the most important sociological researchers who were interested in addressing the gender question in the Arab world, so this article aims to attempt to provide a synthetic analytical reading of her book “The Political Harem The Prophet and the Women ”, a book that tries to trace the historical roots and political and social factors that led to the exclusion of women from the public sphere and thus their exclusion from the political sphere, by doing a critical reading of the Islamic religion heritage based on some hadiths that denigrate women and that are attributed to the Prophet. It is a research starts from social phenomena in the reality of living to reach a sociohistorical interpretation of it, which is one of the distinguishing characteristics of sociological research based on the historical method. Also, this approach has a great explanatory ability to the reality of Arab societies.
Key words: Islamic religious heritage, the exclusion of women, the hadiths of the Prophet, Public sphere.
تقديم:لا يختلف اثنان حول التأثير الكبير الذي أحدثه فكر الباحثة السوسيولوجية المغربية فاطمة المرنيسي في الأوساط الفكرية، والثقافية، والسياسية العربية، بل وحتى على المستوى العالمي. إذ أن الأبحاث التي أنجزتها منذ سبعينيات القرن العشرين، والتي أخذت شكل تراكم بحثي معرفي حول موضوع المرأة بالخصوص، كان لها صدا قويا لدى الباحثين في العلوم الانسانية والاجتماعية. وحري بنا هنا الاشارة إلى أن السياق الذي كان يؤطر أعمال المرنيسي كان مفعم بالنضال من أجل تحرير المرأة من قبضت التقاليد البالية والتراث الديني عموما، والذي صار التشكيك في مصداقيته كليا أمرا منتشرا في الأوساط الفكرية العربية منذ مدة خلت. في هذا السياق انصبت الدراسات السوسيولوجية بالمغرب على دراسة مواضيع متعددة تهتم بمختلف القضايا المتعلقة بالمرأة، كدراسات مليكة بلغيتي (1969، 1978)، وفاطمة المرنيسي(1975، 1983، 1991)، وسمية نعمان جسوس (1988، 2000)[1]… في هذه النقطة بالذات سنحاول تتبع أحد أعمال المرنيسي الذي هو: “الحريم السياسي، النبي والنساء” ( Le harem politique – Le Prophète et les femmes)، والذي صدر باللغة الفرنسية سنة 1987 وتمت ترجمته إلى اللغة الإنجليزية سنة 1991 تحت عنوان مغاير للعنوان الأصلي (The Veil and the Male Elite: A Feminist Interpretation of Islam. New York: Basic Books).أما الترجمة إلى العربية فقد قام بها الأستاذ المحامي عبد الهادي عباس ونشر الكتاب من طرف دار الحصاد للنشر والتوزيع بدمشق. غير أنه لم يتضمن سنة النشر، وإن كانت التقديرات ترجح أنه نشر في الفترة الممتدة ما بين صدوره باللغة الفرنسية الى حدود ترجمته إلى اللغة الانجليزية، وهي ترجمة تخون أحيانا المبتغى المعرفي الذي كانت تقصده المرنيسي. سنحاول إذا القيام بقراءة في هذا الكتاب، وبالتحديد في القسم الأول منه نظرا لاعتقادنا أن القسم الأول من الكتاب يتضمن الروح العامة التي توجه الكتاب منهجيا ومعرفيا، لذلك ستقوم قراءتنا على إشكالية أساسية صغناها كالتالي: كيف يمكن فهم ما جاء به كتاب “الحريم السياسي، النبي والنساء” على ضوء الخلفيات المنهجية والإبستيمية التي حركت ووجهت فاطمة المرنيسي في هذا العمل البحثي؟.
نشير كذلك الى أن هذا الكتاب تم حضره في المغرب إلى حدود سنة 1998، كما أن الباحثة تعرضت الى مضايقات وهجمات من طرف مجموعة من الأصوات والجهات التي تتزعمها الحركة السلفية الإسلامية منذ صدور أول كتاب لها سنة 1975 باللغة الإنجليزية تحت عنوان: (Beyond the Veil: Male-Female Dynamics in a Muslim Society)،وهو ما يمثل نوعا من الإرهاب الفكري بالمعنى الذي يعطيه له الدكتورعبد الإله بلقزيز[2]. لذلك نسعى من خلال مساهمتنا هذه إلى تقديم قراءة متأنية لعمل الباحثة بعيدا عن التيارين اللذين اقتنصا هذا العمل بشكل متطرف؛ أعني الحركاتالنسوية التي أخذت توظفه لخدمة إيديولوجيتها، وكذلك الحركات الإسلامية المتشددة التي رفضته وأعلنت الحرب على صاحبته. وهي محاولة تهدف الى تقديم قراءة للكتاب من الداخل وفق منهجية تحليلية تركيبية.
أولا: مدخل لمقاربة استبعاد المرأة من الحياة السياسية والاجتماعية:
تخالف الباحثة السوسيولوجية المغربية فاطمة المرنيسي الأعراف الكلاسيكية النمطية في الكتابة منذ أول جملة في كتابها هذا، حيث تبدأ مقدمتها بسؤال حاسم هو كالتالي؛ “هل يمكن لامرأة أن تقود المسلمين؟”[3].وهو سؤال في أصله كانت وجهته للسمان الذي كانت تتردد عليه. يتضح إذا منذ البداية أن المرنيسي توظف كما عهدناها في كتبها الأخرى منهجية السرد التي تستخدم في الكتابات الروائية والقصصية.. وهنا يبرز جانب من تصور الباحثة للكيفية التي يمكن أن ينجز من خلالها البحث السوسيولوجي، بحيث يتحرر من الضوابط الصارمة التي تصل أحيانا الى أن تصير نوعا من الأرثودوكسية(orthodoxe) المنهجية. بحيث أن توظيفها للسرد ولوقائع شخصية يجعل بحثها أكثر ارتباطا وتفاعلا مع ما يجري في المجتمع. وهذا ما يتضح عندما نجد أن الحديث الذي استدل به الزبون أثناء مرافعته عن مشروعية استبعاد المرأة يشكل منطلق وموضوع بحث المرنيسي في هذا العمل. وهذا ما تؤكده حين تقول الباحثة أن هذا الحديث دفعها إلى البحث والتنقيب من أجل كشف مدى صدق وصحة الحديث المذكور. فما هو الوضع الذي تعيشه المرأة العربية، والذي دفع المرنيسي للبحث؟
نجد أن المرنيسي تربط النقاش والفكر الذي دافعت عنه جماعة السمان بالوضع السائد -حينها- أثناء الانتخابات التشريعية، وهو وضع يكرس استبعاد المرأة واقعيا رغم ما تضمنه القوانين من حقوق مكفولة قانونيا ونظريا. وهذا ما يبرز لنا وضع جديد تعيشه المرأة؛ فبعدما كانت مستبعدة من المجال العام، ومن النشاط السياسي بالأساس في العصور التي تلت نهاية حكم الخلفاء الراشدين، وهو استبعاد يستند الى تصور رسمي للإمارة، وكذلك الى الواقع الاجتماعي الجمعي. غير أن المرأة اليوم، أصبحت يتجاذبها قطبان متناقضان؛ فهي في النصوص القانونية- في تصور الدولة الرسمي- إنسان يتمتع بحق المشاركة في الأنشطة المختلفة التي يحق للرجل المشاركة فيها، لكنها اجتماعيا وعلى مستوى الواقع المعيش( le vécu) لا زالت مستبعدة، كما يحدد مجال تحركها تصور نمطي كلاسيكي لم يتغير بعد. ومن ثم كان هدف الباحثة هو إنارة هذه الذهنيات العميقة. وهذا ما أملى عليها اتباع منهج يقوم على البحث في المصادر التي ذكرت فيها أحاديث تحط من شأن المرأة ، وبالتالي القيام بعمل توثيقي متبعة في ذلك بعد نظرتها السوسيوتاريخية ، وكذلك اطلاعها على أسس علم الإسناد في مجال الفقه. فإذا كان إصرار الجابري على تقديم ما هو جديد قد دفعه بداية إلى مراجعة الخطاب العربي المعاصر ونقده، قبل أن ينتقد التراث[4]، فإن المرنيسي بدورها عادة إلى التراث ، ولكن من أجل نقد ما لحقه من تلاعب إيديولوجي ، وفي نفس الوقت إثبات قضية معينة: الاسلام لم يقص المرأة من المجال السياسي ومن الفضاء العام عموما. فتساهم بذلك في حركية أساسية في السياق الاسلامي اليوم، والتي تحرك مصادر البحث التاريخي والدراسة النقدية للنصوص لرفع صفة التقديس عن المبادئ والمكونات الرئيسية للتراث الديني[5].
ومن بين تلك الأحاديث التي تطرقت لموضوع المرأة مقللة من شأنها، نجد الحديث الذي استدل به الزبون -والقائل: “لم يفلح قوما ولو أمرهم امرأة”[6]وهو حديث موجود في الفصل الثالث من صحيح البخاري. وسيتبين لنا أن الباحثة تعتمد على منهج “توثيقي” يقوم على تمحيص الأحاديث من حيث رواتها، وزمان روايتها… وكذلك هو بحث تاريخي، إذ تصرح الكاتبة أن ما ستقوم به هو تنقيب في الأدب الديني؛ بمعنى الرجوع إلى المصادر التاريخية للتراث الاسلامي والبحث فيها عن أهم الأحاديث التي تتناول موضوع المرأة وربطها بشروط ظهورها، بمعنى أن الباحثة بصدد مقاربة سوسيوتاريخية لموضوع إقصاء المرأة من المجال السياسي من خلال مفهوم “الحريم السياسي” الذي يشير إلى الحدود المرسومة والمقننة للعمل السياسي الذي يعتبر مثل الحريم بمعناه الديني؛ إذ لا يمكن لأي كان أن يلج الإطار الذي يتواجد وينشط فيه الحريم. ومن ذلك ذكرها لدراسة لمحمد عرافا الذي يتحدث عن أن المرأة لم يكن لها وجود في الحياة السياسية في تاريخ الاسلام، ويؤكد ذلك باستحضار تغييبها عن اجتماع سقيفة بني ساعدة لتعيين خليفة نبي الاسلام. وهو حدث تاريخي يكتسي دلالات عدة. غير أن هذا الغياب لا يعني على أي حال أن المرأة كانت غير منخرطة في العمل السياسي، فالمرنيسي تذكرنا بناء على بحثها “التوثيقي” والتاريخي بحضور زوجة الرسول (ص) عائشة في المعركة التي دارت حول شرعية الخليفة الأصولي الرابع. أي أن المرأة كانت حاضرة في الحياة السياسية، بالرغم من أن السلطة الذكورية كانت لا تعترف لها بأحقية وجودها، إلا أنها كانت تفرض وجودها مجسدة في شخصية عائشة التي استفادت من صفتها أماً للمؤمنين لكي تفرض نفسها في معادلة الصراع السياسي. معناه أن التنقيب التاريخي يمكن أن يقودنا الى كشف زيف الدعاوى التي تقر بأن المرأة كائن لا سياسي بطبعه، وأن هذه الحقيقة حقيقة تاريخية في المجتمع الاسلامي. وواصلت الباحثة تنقيبها هذا بالكشف عن عدة دراسات تقول بغياب أية علاقة للمرأة بالسياسة، وحتى وجود عائشة في موقعة الجمل يعتبره سعيد الأفغاني سببا للعدد الهائل من القتلى الذين سقطوا في المعركة، أي أن المرأة وإن وجدت في السياسة فإنها تظل مصدر مشاكل وضرر على المجتمع، وهو تبرير أيضا لوضعية الاستبعاد من الحياة السياسية التي تعيشها المرأة. هذا البحث التاريخي والوثائقي الذي قامت به الباحثة من أجل تأويل مختلف للنص الديني، مكنها من وضع أسس للاشتغال في الفصول الموالية. حيث اعتمدت عموما في هذا البحث على القرءان، والتفسير، والبحوث حول أسباب النزول، والبحوث حول آيات القرءان والحديث، وكتب التاريخ الديني، والسيرة، وسيرة التابعين[7]. إذ أنها تساءل الأفغاني نفسه انطلاقا من المصادر التي اعتمد عليها من التاريخ الديني الاسلامي ليثبت أن عائشة -ومن ثم المرأة- كانت سبب إراقة دماء المسلمين. ومن هنا تقود المرنيسي بحثها التاريخي لتمحص الوقائع والأحاديث التي تم استخدامها كذريعة لإقصاء المرأة، ومن ضمنها المجلدات الثلاثة عشر للطبري. وتسأل الذين يقولون بإقصاء نبي الإسلام محمد للنساء قائلة: في أي مقياس يمكن تأويل النصوص المقدسة؟ وتبرز بذلك السياق السياسي لظهور الأحاديث، وفي نفس الأن ظهور علم الإسناد الذي يعمل على كشف صحة الأحاديث من خلال البحث في رواتها.. وقبل أن تختم المرنيسي تقديمها، تذكر بالصعوبة التي ترافق أي عمل بحثي موضوعه النصوص الدينية التراثية، وخاصة عندما يكون هذا البحث تقوده امرأة مسلمة. ثم أن الباحثة وكي تحتمي من أي هجوم محتمل عليها، تستند الى القرآن الذي يحث على القراءة والتفكير، وبالتالي تدرس التراث الديني الاسلامي من الداخل؛ أي باعتبارها مسلمة تساءل هذا التراث في إطار لا يتجاوز ما يسمح به الدين. وتصف كتابها هذا في ختام التقديم بأنه ليس كتاب تاريخ، بل أرادت له أن يكون “قصة-ذكرى”، وكتاب عبارة عن “سفينة” تعود الى زمن قريب من الهجرة لتبحث في حياة النبي[8]. وهذه الرحلة سيقودها منهج تاريخي-توثيقي – مقارن في بعض اللحظات، وهنا نجد أن المناهج المتداخلة التي وظفتها المرنيسي في هذا الكتاب، تعبر عن رؤية متحررة للكاتبة، وتكون بذلك سباقة الى اعتماد المقاربة التي تقر بتداخل التخصصات والمناهج في البحوث الاجتماعية في السياق المغربي، وجدوى هذا التداخل في الكشف عن الحقائق الاجتماعية والتاريخية.
ثانيا: النص الديني كسلاح سياسي:
1- الزمن الموجه يعوز المجتمع الاسلامي:
تبدأ المرنيسي هذا الفصل بالتأكيد على العلاقة المتوترة التي تجمع بين الإنسان المسلم وبين الزمن، وبخاصة بينه وبين الحاضر[9]. ما الذي يميز الطريقة التي يتعامل بها الإنسان الغربي مع الزمن، عن تلك التي يتعامل بها الإنسان العربي المسلم؟.للإجابة عن هاذ السؤال، تعقد الباحثة مقارنة بين تصور كل من المجتمع العربي، والمجتمع الغربي للزمن. فإذا كانت الشبيبة الغربية تعاني من الحاضر باعتباره أصبح يسير في اتجاه جعل الواقع الإنساني خال من الشعور ومن الاهتمام بالأبعاد الإنسانية، وبذلك تكون صعوبتها التي تعيشها في الحاضر منبثقة عن المآل الذي آلت إليه الثورة الشاملة التي قادتها المجتمعات الغربية من تطور جعل الفرد والمجتمع يتوفران عموما على سبل العيش الضرورية، وفي كثير من الأحيان سبل الرفاه، فإن المسلمين يواجهون صعوبات الحاضر من خلال الرجوع إلى الماضي والاحتماء به من الحاضر وصعوباته، أي أنه، عكس الإنسان الغربي الذي يبحث في الحاضر عن سبل حل الصعوبات، ويعود إلى الماضي من أجل خلق نوع من التوازن يمكنه من مواصلة اكتشاف الحاضر، يعود المسلم إلى الماضي من أجل البحث عن حلول للحاضر، بل من أجل أن يحمل ذلك الماضي ويأتي به لمجابهة الحاضر. وهذا ما ذهب إليه الجابري، الذي تعود إليه الباحثة في غير ما مرة، حين أكد أنه “وكما يحدث دائما، سواء على المستوى الفردي أو المستوى المجتمعي، فلقد اتخذت عملية تأكيد الذات شكل نكوص إلى مواقع خلفية للاحتماء بها والدفاع انطلاقا منها”[10]. هذا المنهج المقارن في التفكير يسمح بالكشف عن نقط الضعف والخلل في أسلوب التفكير الذي يتبعه المسلم لمواجهة الإشكاليات التي يطرحها الحاضر، كما يمكن في بعض الاحيان من توفير اختيارات ومسالك جديدة للتفكير. وتستحضر هنا الباحثة كل من محمد عابد الجابري وعبد الكبير الخطيبي باعتبارهما مفكرين مغربيين عمدا إلى البحث في ماضي الحضارة من أجل إعادة اكتشاف الذات العربية. ويؤكد الجابري، مثلا، على الحضور القوي للمتدين والإمام في نطاق الانتاج الفكري، وحضور الماضي كمعطى مقدس يوجه الفعل السياسي، فكان بذلك عصر التدوين منطلقا لممارسة الرقابة. إذ أن عصر التدوين يشكل الإطار المرجعي للفكر العربي[11]، حيث يفرض نفسه تاريخيا كإطار مرجعي لما قبله وما بعده[12]. ومن خلال المقارنة نفسها، يتضح أن الزمن في الغرب يلعب الدور الأساس في مختلف مناحي الحياة، إذ صار مقياس للأشياء والأنشطة. بل إن سيطرة وحظوة الحضارة الغربية ترجع في جزء كبير منها الى تعاملها وتحكمها الجيد في الزمن، بل إن فرض سيادة الحضارة الغربية وقيمها يتم، من خلال، وبالساعة؛ من خلال رقابة الزمن بدل الهيمنة العسكرية التي لم يعد لها في غالب الأحيان حضور ولا جدوى. هذه الأفكار التي تعود لموسكوفيتش والتي اقتبستها المرنيسي تؤكد على جانب مهم أصبح اليوم أكثر وضوحا؛ علاقة المسلم والمجتمعات الاسلامية والعربية بالخصوص غير المنتظمة وغير المحكمة مع الزمان تساهم بشكل كبير في تخلفه عن تحقيق التنمية. فكثيرا ما يلاحظ الاستخفاف بأهمية الدقائق والساعات داخل الإدارات والمرافق العامة، وهذا التصور للعمل والزمن الذي يحمله الفرد-الموظف في المغرب يضاف إليه استخفاف ممنهج بأهمية حضور المرأة في مختلف الأنشطة والفعل السياسي،مما يزيد من توسيع هامش تفويت الفرصة على المجتمع المغربي كي يكون في مصاف المجتمعات التي قطعت طريقا ليس بالقصير من أجل بلوغ مجتمع الديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية. وقد نجد اليوم في المغرب خير مثال على ما ذكرنا أعلاه. إذ أن مفهوم الاستثمار نفسه يخفي وراءه مجموعة من علاقات السيطرة والسيادة، باعتباره مفهوم مرتبط أيضا بالزمن ويجسد الامبريالية الجديدة التي لم تعد مرئية ومعروفة أنها إمبريالية. هنا تبرز أهمية استدعاء الماضي، ماضي المجتمعات العربية الذي قد يحوي داخله ما يمكن أن يساعدها على النهوض من مرضها الذي طال واستطال، ولكن هذا الاستدعاء للماضي يجب ألا يكون بِنِيةِ جعل الماضي يحمل رحيله ليستقر في الحاضر ويسير مع المجتمع الأن كما كان يسير في رحلاته الطويلة عبر قوافل تجوب الأمصار العربية طيلة أيام وسنوات!
تواصل الباحثة مقاربتها المقارنة بين الحضارة الغربية والحضارة الاسلامية لتربط المقارنة هذه المرة بسؤال الموت والماضي. فإذا كانت الموت مصير البشرية، فإن الغرب أنساه المستقبل بفكرة الموت وجعله مفتتن بالإمكانات التي توفرها الحياة ، مما جعله يحرر طاقاته الخلاقة ويرى الماضي كالحلوى التي تستعمل لخلق السعادة لدى الأطفال في لحظات معينة. أما المسلمين فاختاروا العودة إلى الماضي باعتباره الصحن الرئيسي والكأس الذي لا يمكن الشرب من غيره، فاختاروا بذلك الموت قبل أن يعيشوا[13]. هي دعوة إذا إلى ضرورة وحتمية التفكير في الحاضر من أجل المستقبل فقط، وليس من أجل الاستمرار في جر أذيال الماضي في الحاضر من أجل أن يستمر في المستقبل، في الوقت الذي يجب أن يكون الماضي مجرد وسيلة من الوسائل المتاحة التي يمكن أن تساعد على السير نحو المستقبل بعزيمة وثبات وعقلانية. وتستحضر الباحثة مرة أخرى الجابري الذي يؤكد أن بحثنا المرضي عن الماضي يمنعنا من قراءته. بل إننا غير مؤهلين لقراءة هذا الماضي لأننا منشغلون بوضع همومنا الحالية على صفحاته. يتبين أن المرنيسي إلى حد الأن تقوم بنوع من التأسيس النظري لموضوعها بالأساس- إن صح القول، يساعدها في التأسيس لما ستأتي عليه من أفكار وتفصيلات، من خلال طرح بعض الأفكار التي تبرز أهمية الموضوع، وهنا نفسر استدعاء كل من موسكوفيتش وكذلك الجابري بالخصوص. إذ أنها تنتقل مباشرة إلى تحديد المعنى الإجرائي لعبارة “نحن المسلمين”، وهي عبارة تشير إلى انتماء الفرد إلى جماعة تعتنق الدين الاسلامي كدين جماعي، مثلما يعتنق المناضلون التقدميون الأفكار والمبادئ الماركسية. أي أنها تتحدث عن الإسلام كقانون، وليس كعقيدة، وخيار شخصي. وتؤكد أن الخلط بينهما كان سببا لفشل الحركات الماركسية في العالم الإسلامي. وهذا الخلط أيضا كان وراء إبعاد المرأة عن السياسة كذلك. وفي لحظة فارقة في تاريخ البلدان الاسلامية- بما فيها المغرب- وجدت هذه البلدان نفسها بعد الاستقلال مضطرة إلى أن تعيد تعريف مواطنيها، أي أنه لم يعد ممكن للدول الإسلامية المستقلة حديثا أن تنخرط في المجتمع الدولي دون أن تعيد النظر في القوانين التي تحدد هوية ومكانة المواطنين والمواطنات. بهذا تلقت الهيمنة الذكورية ضربة قوية في أهم ركائزها؛ القانون والأعراف الرسمية التي تقر بنوع من القيم والهوية الخاصة بالجنسين[14]. غير أن استمرار وجود جماعات إسلامية ترفض دخول المرأة إلى المجال السياسي، وكذلك وجود مكونات عدة لا يخدمها ولوج النساء إلى مجال لطالما كن مقصيات منه، جعل مشكلة المرأة وإثارتها تسمح باستمرار بالتصدي للتغيرات الكونية للسلطة دون تسميتها. فلقد برزت المنظمات الأممية والدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية كهيئات تعمل ،كما هو مسطر في قوانينها، على نشر حقوق الانسان والديمقراطية وحماية الأقليات… ومن ثم كانت الدول التابعة عموما ملزمة بإقرار المساواة الاجتماعية والجنسية وغيرها. كما أن الفكر نفسه لا يخرج عن هذا السياق باعتباره حركة عقلية لا تجري في التاريخ مستقلة، أي لا يمكن أن يجري الفكر في معزل عن الحركات الاجتماعية التي تنشط من كل جانب[15]. إن استحضار السياق الدولي في تحليل التغيرات التي ستطرأ على وضع المرأة من طرف الباحثة ينم عن نظرة وأفق للتحليل يدمج البعد العالمي الذي يؤثر على الثقافات والمجتمعات المحلية، والبعد المحلي الذي يتميز بنوع من الاستقرار والثبات من حيث القيم والسلوكات، من أجل مقاربة أكثر شمولا لوضع معقد تتداخل عدة عوامل في تشكيله. وهو وضع ازادت الأسئلةحوله طرحا في خضم ما ترتب عن خروج الاستعمار وما لحق بوضعية المرأة من تغيير؛ حيث أصبحت بعض النساء تعملن وتتلقين أجورا وتنافسن الرجال في العمل.
2- النبي والحديث:
في هذا الجزء تتساءل المرنيسي بداية عن السبب الذي جعل “رجل أمي عرقي يتمكن من نشر رسالته في مختلف الأمصار، وهل لهذا النجاح معنى كاف خارج المعني القصصي”[16]. فنبي الإسلام ولد في وسط شعب متخلف (التخلف نقصد به المعنى اللغوي للكلمة، أي التخلف عن ركب المجتمعات القوية .. وليس بالمعنى الإيديولوجي للمفهوم) بالمقارنة مع الحضارات التي كانت سائدة حينها، وكذلك تابعا ومنعزلا نظرا لضعفه العسكري. وهنا تربط الكاتبة بين من ينادون بإحياء الإسلام وتوظيفه كما كان في مرحلة بداياته بشبه الجزيرة العربية من أجل حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها المجتمعات الإسلامية، وبين المرحلة التي ظهر فيها الاسلام حيث اتصف بالقوة والعزم على إعلاء كعب قوم مهمشون، والانتصارات التي حققت حينها بناء على قيادة نبي طموح. هذا الاستحضار تبغي الكاتبة من ورائه لفت الانتباه لما صار الأن معروفا في العلوم الاجتماعية ؛ كون معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في كل مجتمع تتم وفقا لفحص الشروط المحلية التي أنتجتها والبحث في الحاضر من أجل إيجاد حلول لها، وهذا البحث يغنى من خلال استحضار الأبعاد والمقاربات الأخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة تأطير الموضوع تاريخيا من أجل فهم دقيق للموضوع. ثم تعرج الباحثة بشيء من الاستفاضة على سياق لقاء وزواج نبي الإسلام محمد (ص) بالتاجرة خديجة، ونزول أول أية قرآنية تدعو الى القراءة سنة 610م، واعتناق الإسلام من طرف خديجة كأول إنسان يعتنقه. كما أن الإسلام ولد بالمدينة، وهو ما يثير إشكالية وصم التخلف الذي يلصق بالمجتمعات الإسلامية كونها طبيعيا كذلك. وبعد موت الرسول (ص) فرضت مسألة الحديث نفسها بقوة الى يومنا هذا. فبموت الرسول (ص)، لم يعد ممكنا البحث عن الأجوبة المقدمة من طرف الله عن طريق نبيه للمسلمين، وبذلك مضى الخبراء يبحثون عن تطوير نظرية الخلافة السياسية؛ ماهي صفات وطرق تعيين الخليفة الذي يقود المسلمين؟ ومن هؤلاء الخبراء ومدارسهم ومنظريهم انبثق أدب كامل. ونشأ الفقه كعلم ديني يرتكز على الشريعة. فكان اختيار الرئيس السياسي العادل وعدم الخطأ في تفسير الشريعة المستخلصة من القرءان والسنة المحوران اللذان حركا التاريخ الإسلامي. ولفهم مكانة كتابة النص المقدس واستعماله على مستوى رقعة الشطرنج السياسي بالأمس واليوم، تعود الكاتبة إلى الأيام التي تلت وفاة الرسول، وخاصة تعيين الخلفاء الأربعة المعتبرون أصوليين. حيث نشب الخلاف حول قرار تعيين خليفة النبي الذي استقر في النهاية على أبي بكر، ثم عمر ثم عثمان الذي أغتيل وعين علي مكانه لتبدأ الفتن السياسية، والتي تعمقت مع محاربة عائشة لعلي في موقعة الجمل واغتيال علي بعدها، والتي ستنقش في ذاكرة التاريخ الإسلامي إلى اليوم. فكانت بداية تجميع الحديث مقترنة بالخوف من الإرهاب والعنف السياسي؛ ماذا قال الرسول بشأن الحرب الأهلية؟ ما هو الطريق الذي على المسلمين أن يسلكوه في هذه الحالة؟ هل يجوز قبول خليفة ظالم شريطة أن يضمن السلام؟ هذه الأسئلة وغيرها شكلت السياق الذي فيه تلون و نشأ الحديث. وعلم الحديث يقدم للقارء مضمون معين يحمله الحديث، كما يقدم كذلك معلومات عن ناقله من خلال قاعدة الاسناد[17]. وتنبه الباحثة القارئ إلى أن الإسلام في قرونه الأولى كان دين الفرد المسؤول العاقل القادر على التمييز بين الحقيقي والكاذب، غير أنه عُمل على مر القرون على تغييب المسلم العاقل وإبداله بآخر خانع مراقب شاكر أكثر. وهذا ما يحيل على العمل الإيديولوجي الذي رافق تدوين الحديث في عصر كان الحديث فيه وسيلة أساسية للاستمرار في الحكم وضبط الفرد، وذلك بعد أن تمزق العالم الإسلامي بالفتن. وهنا يمكن مماثلة وضع استغلال الحديث لتثبيت الحكم، بالوضع الذي عرفته المجتمعات الاسلامية المعاصرة من استغلال الحديث كذلك لإبعاد المرأة عن المجال العام، وهو ليس أمر جديد بقدر ما أنه استمرار لوضع وأسلوب قديم أخذ يتبع في مجتمع وسياق مختلف. ومن نتائج الصراع حول السلطة، الذي انطلق حين كان النبي في غرفته ميتا مغطى بعباءته والجماعة تبحث عن الخليفة المناسب، تلك الفتن التي اندلعت منذ اغتيال عثمان بن عفان، إذ أن المسلمين انقسموا إلى سنة وشيعة، فأصبحت كتابة الأحاديث التي تبرر إيديولوجية كل طرف عملية نشطة جدا. وبعد اشتعال الفتة وانتصار علي في موقعة الجمل، روي الحديث الذي ستقوم الباحثة بفحصه وتمحيصه وهو: “إنه لم يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة”. وهو حديث جاء قبيل تعيين معاوية خليفة وبداية عهد نوع جديد من الأرستقراطية القبلية التي لطالما عمل النبي على تجنبها، وهو ظاهرة الأسرة الحاكمة الاستبدادية (La dynastie) التي ستطبع التاريخ الإسلامي اللاحق. وهنا تقوم الباحثة برصد تاريخي للسياق الذي كتب فيه البخاري الحديث باعتباره أحد أهم الرموز المدونة للأحاديث. حيث اعتمد في تدوينه على روايات متعددة لأفراد كثر. غير أنه واجه مشكلة مدى صحة الروايات بعد حوالي مائتي سنة على وفاة الرسول!حيث انتشرت الأحاديث الكاذبة التي تنسب إلى الرسول، والتي تكون إما عن قصد، وإما يكون التلاعب بها على مستوى الرواة، وإما يكون قول أحاديث لم يسمع بها الراوي أبدا. فكانت كتابة الحديث عملية أساسية تخدم ضمان الولاء، كما تخدم الرمزية الدينية اليوم الانتخابات. يتبين إذا أن الباحثة قامت هنا بنوع من التأسيس المنهجي والإبستيمي الذي يجعل العملية التي ستقوم بها في الفقرات الموالية أمرا مشروعا علميا ومقبولا في الأوساط الدينية. لتختم هذا المحور بالإشارة مع شيء من التفصيل إلى الدراسة التي قام بها طه حسين للشعر الجاهلي، والتي انتهي فيها الى التشكيك في صحة هذا الشعر الذي يعتبر أحد أعمدة المعرفة العربية[18].
3– بحث حول حديث ضد النساء وحول منشئه أبو بكرة:
حسب حديث البخاري، فإن أبي بكرة هو الذي سمع الرسول يقول: “لم يفلح قوم ولو أمرهم امرأة”. وللتأكد من صحته قامت الباحثة ببحث تاريخي ومنهجي وذلك بصفتها امرأة مسلمة. وتبدأ هذا البحث من خلال الأسئلة الأساسية التي يتضمنها المنهج التاريخي، متسائلة؛ من كتب الحديث؟ ومتى؟ ولمن؟ ولماذا؟ وأين؟ لتقوم الباحثة بتقص تاريخي لسياق رواية هذا الحديث وراويه مستعينة بكتاب فتح الباري لابن حجر. فأبو بكرة تذكر هذا الحديث بعد حوالي ربع قرن من موت النبي، وهذا يتطلب ذاكرة أسطورية، إذ أنه روى الحديث إبان هزيمة عائشة في موقعة الجمل. وقاد التمحيص الذي قادته المرنيسي إلى كشف مجموعة من الحقائق التاريخية حول أبو بكرة، من قبيل أنه تغِيب سيرة مفصلة عنه في كتب الإسناد والكتب المخصصة لسير الصحابة. وكذلك كون أبو بكرة كان مضطر التبرئة نفسه بعدما تخلف عن المشاركة في المعركة إلى جانب جيش علي بعد أن هزم جيش عائشة. وكذلك الشكوك التي أثيرت حول صدق رواياته بعد أن اكتشف أنه روى عدة أحاديث في سياقات تخدم أحد الأطراف المتنازعة حول السلطة، كما حصل مع حديث؛ “إن الحسن بن علي سوف يكون رجل المصالحات”[19]. وبهذا تضع المرنيسي الحديث في سياقه التاريخي متبعة ما تتيحه منهجية الفقه في التحقيق من قواعد. وقد بين هذا المنظور الذي يعتبر الدين كعلم يجب التأكد من كل شيء يقال داخله، أن عديد من الرواة كانوا غير مؤهلين وغير جديرين بالثقة. إذ صار الاهتمام بسلوك الفرد في الحياة اليومية ومدى استقامته، وهنا نجد أن أبي بكرة قد أدين من طرف عمر وأجلد[20]. هذا التقصي والتمحيص للحديث الذي يقصي المرأة من الحياة السياسية، بل ويجعل من المرأة علامة للشر والفشل إذا ما دخلت مجال الحكم، توصلت من خلاله الباحثة إلى عدة خلاصات. وأولى الخلاصات التي يسوقها لنا، هي أن الحديث ليس بتلك القدسية والصدقية التي تروج له والتي نقشت في الذاكرة الإسلامية عبر التاريخ، بل إنه محط استخدام إيديولوجي لتحقيق المصالح السياسية بالأساس. بهذا المعنى نجد أنفسنا مدعوين للتفكير في مختلف المؤسسات والسلوكات والقواعد وكل ما يستمد شرعيته من هذا التراث الديني الإسلامي، كما هو الشأن مع استبعاد المرأة الذي تعالجه المرنيسي.
4– البحث عن أحاديث أخرى معادية للنساء:
تعود مرة أخرى الباحثة إلى سرد مجموعة من ذكريات الطفولة، ولكن ليس بهدف إضفاء طابع جمالي على البحث، ولكن تماشيا مع منهجها السوسيوتاريخي المفكك للأحاديث المنسوبة إلى النبي خدمة لمبتغى تأويلي جديد، فتستحضر تلك اللحظات التي تفيد في فهم وتحليل المعطيات التاريخية وكيف اشتغلت ولا زالت تشتغل في المخيال الجمعي. فكلام للاياسمينة؛ “يجب قراءة القرءان كما نزل من السماء”[21]يسمح لنا بتصور ومعرفة بعض ملامح العقلية الفقهية التي كانت سائدة- ولا يمكن الجزم أنها انتفت- بالمجتمع المغربي. ومرة أخرى ستضع الباحثة الحديث الذي ورد في صحيح البخاري؛ “الكلب والحمار والمرأة تقطع الصلاة إذا مرت أمام المؤمن ، فاصلة بينه، وبين القبلة” موضع البحث. وتعرج في بحثها أولا على تعريف القبلة التي هي اتجاه مكة (بعد أن كانت توجه نحو القدس) حيث توجد الكعبة، التي تعطي لصلاة المسلم بعدها الكوني. ثم أن الكاتبة تقدم تحليلا واستعراضا للشروط الاجتماعية التي رافقت ظهور الاسلام، في علاقتها بالعوامل والاوضاع السوسيواقتصادية التي كانت تعيشها المجتمعات العربية ، وكذلك الجماعات الدينية والاثنية. وتستخلص أن الاسلام دين توجه إلى كل الناس؛ لأن جامع محمد، خلافا للأديان الأخرى، ليس بناء وإنشاء، وإنما أفق. والجامع هو كل مكان، يكفي المؤمن للصلاة أن يعدل اتجاهه صوب مكة وأن يضع أمامه شيئا يمثل رمزيا القبر المقدس. وإبعاد النساء عن القبلة هو إبعادهن عن كل شيء. وحشر المرأة مع حيوانين داجنين كونها تحدث اضطراب بين المصلي والجوهر الالهي، “هو تأكيد للتعارض بين جوهرها والجوهر الالهي”[22]. وتعود مرة أخرى الى سيرة أبي هريرة، حيث أن له مشكلة مع النساء تعود وتحضر في لقبه نفسه، كما تعود الى أيام اشتغاله في بيت النبي. وتعرض بعد ذلك حديث؛ “سمعت أبا هريرة يروي أن من يفاجئه الفجر وهو جنب لا يمكنه أن يصوم” الذي نفته أم سلمة وعائشة. وقد تراجع عن هذا الحديث قبل موته. فقد كان الجنس والمرأة الحائض في شبه الجزيرة العربية قبل الاسلام رمزا للقذارة والتدنيس. هكذا، وتبعا للمبادئ التي حددها علم الاسناد للتأكد من صدق الأحاديث المنسوبة للنبي، يتبين أن أبا هريرة لم يكن من النوع الذي يمكن الوثوق في روايته كما يوضح الطبري. وبالتالي اعتبار المرأة ك”نجاسة” أو كمفسد للصلاة لا يملك سندا دينيا أكيدا.
خلاصة تركيبية:
لقد اهتمت الباحثة بسؤال مشاركة المرأة في الحياة السياسية خصوصا، والحياة الاجتماعية عموما، ليس من أجل إنجاز بحث أكاديمي يتميز بالجدية والراهنية فقط، بل إن بحثها ينطلق من إشكالية ومشكلة اجتماعية عاشتها الباحثة، وأثارت مخيلتها وفكرها النقدي الذي قادها إلى إنجاز هذا البحث. فانطلقت من الواقع الاجتماعي المغربي الذي يتميز بحصار ومراقبة صارمة مفروضة على المرأة، وهي مراقبة تتفاعل مع استبعاد المرأة من الحياة السياسية والحياة الاجتماعية في المجال العام لتغيبها بشكل شبه نهائي عن التمتع بحقوقها المختلفة كإنسان، لتبحث عن مدى مطابقة المبادئ والأفكار التي يقوم عليها هذا الفكر المستند للسنة النبوية والقرآن لروح الاسلام الحقيقية- أو إن شئنا تدقيق القول؛ مقاصد الاسلام، وإلى ما جاء به نبي الاسلام نقلا، وتجسيدا؛ سواء في سلوكه أو في أفكاره وتوجيهاته. وهكذا، لجأت إلى علم الاسناد للتأكد من الحديث الذي رواه أبو بكرة في أنه لا يصلح لقوم أن تحكمهم امرأة. وهو حديث يتهاوى أمام قوة الحقائق التاريخية التي تؤكد وجود عائشة، مثلا، في ساحة الصراع السياسي الذي عقب وفاة عثمان مقتولا. هذا الحدث سوف يشكل، من بين الّأحداث الأخرى، بداية انقسام وتأزم للحياة السياسية في المجتمع الاسلامي. بل إن نتائجه سوف تتسرب إلى بنية التفكير في العقل العربي الذي سوف يصبح أرثودوكسيا جدا في القرون اللاحقة. ومن هذا أن التفكير في المشاكل التي يعيشها الإنسان العربي أصبح يتم في اتجاه استدعاء الماضي والنكوص إلى الذكريات السعيدة التي تحملها فترة الفتوحات الإسلامية؛ فصار التفكير في الحاضر يتم من خلال الاستكانة إلى الماضي والترجي أمام بابه كي يقدم الحلول للواقع الحالي المتأزم. صحيح أن الإسلام حقق إنجازات كبيرة في فترات تاريخية معينة، خاصة الفترة التي كان العالم الاسلامي تحت قيادة رجل متبصر يقدر دور المرأة والأفراد عموما ويستشير من شأنه أن يفيد في حسن تدبير أمور المسلمين، غير أن هذه النجاحات تمت في فترة زمنية محددة وفق شروط سوسيوتاريخية محددة كذلك، وبالتالي محاولة إحياء ذلك وإعادة تشييد نموذج مماثل في واقع مختلف هو أمر لا يملك أي سند علمي أو منطقي. دون أن يعني هذا أن التراث الديني الإسلامي يجب القطع معه نهائيا، بل- كما تؤكد المرنيسي- يجب فقط فحصه واكتشاف ما لحق به من تحوير وتشويه لمبادئه الرئيسية، وهذا بغية إيجاد ما يمكن أن يفيد في حل صعوبات ومشاكل الحاضر. فالباحثة تتبنى رؤية تقوم على اعتبار أن الإسلام دين يتضمن ما من شأنه أن يساهم في إقامة مجتمع تسوده العدالة وينعم أفراده بحياة كريمة وفي شروط متكافئة بين مختلف مكوناته. غير أنه يجب مراجعة وتمحيص التراث الديني الذي تم تضمينه أشياء تتنافى مع ما أمر به الله عن طريق رسوله. ومن ذلك مثلا حديث أبو بكرة الذي يجسد نموذجا لاستغلال الدين مقابل تحقيق مصالح معينة، أو لإشباع نزوات شخصية. بل كما نجد في كتاب “صحيح البخاري، نهاية أسطورة” لرشيد أيلال أن أحد أهم المصادر التي يقوم عليها هذا التراث أصبحت مجرد “أسطورة”. هذا التوظيف الإيديولوجي، إذا، للدين وما استتبعه من خلق لأحاديث جديدة نسبت للنبي دون أن يكون قد قالها مطلقا، ترسخ في الحياة الاجتماعية وفي التقاليد كما يبين المثال الذي ساقته المرنيسي؛ فالأستاذ المحاضر الذي يتحدث عن أن الرسول قال أن المرأة والكلب.. يفسدان صلاة المؤمن إذا مروا أمامه.. لميثر فيه أي ريبة أو تساؤل حول واقعية هذا الحديث، وهذا يعود، من بين ما يعود إليه، إلى النظرة المقدسة التي تم إصباغها على التراث الديني. وبالتالي فالمرنيسي لم تكشف فقط عن زيف الدعاوى والتصورات التي تذهب إلى ضرورة إبعاد المرأة عن المجال العام وعن الشأن السياسي، بل كشفتعن ثغرات وجوانب مزيفة في التراث الديني الاسلامي، وهو كشف، بالإضافة الى ذلك الذي قاده الجابري وغيره، جعل القول بقدسية هذا التراث يفقد مصداقيته. كما أن كتابها بين على أن ثنائيات؛ أنثى/ذكر، عربي/غربي.. لا زالت تحكم نمط التفكير لدى العديد من مكونات العالم الاسلامي العربي. يمكننا القول أن العقل العربي صار، بدل أن يفكر في قضاياه بغية حلها، يفكر في كيفية إثبات أشياء من الماضي من خلال الحاضر. وبالنتيجة، فقراءة ومساءلة المرنيسي يجب ألا تغفل المنطلق المنهجي للمرنيسي، كي يكون النقد والقراءة واقعيين ومستوفيين للشرط العلمي.
قائمة المراجع:
1.أبي نادر نايلة، التراث والمنهج: بين أركون والجابري، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2006.
- الجابري محمد عابد، نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2006.
3.الجابري محمد عابد، نقد العقل العربي(1)، تكوين العقل العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2009.
- المرنيسي فاطمة، الحريم السياسي: النبي والنساء، ترجمة عبد الهادي عباس، دمشق، دار الحصاد.
- بلقزيز عبد الاله، نهاية الداعية: الممكن والممتنع في أدوار المثقفين، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2010.
6.فروج عمر، تاريخ الفكر العربي الى أيام ابن خلدون، بيروت ، دار العلم للملايين، 1972.
- 7. La sociologie au Maroc, Hassan RAchik et RahmaBourqia, 2011 : http://journals.openedition.org/sociologies/3719
- Mernissi Fatéma, Le harem politique : Le prophète et les femmes, Casablanca, Le Fennec, 2017.
- Mernissi Fatema, Le harem politique : Le prophète et les femmes, Paris, Albin Michel, 2010.
[1]]-La sociologie au Maroc, Hassan RAchik et RahmaBourqia, 2011 : http://journals.openedition.org/sociologies/3719.
[2]بلقزيز عبد الإله، نهاية الداعية: الممكن والممتنع في أدوار المثقفين، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2010، ص79.
[3]MernissiFatema, Le harem politique : Le prophète et les femmes, Paris, Albin Michel, 2010, p7.
[4]أبي نادر نايلة، التراث والمنهج: بين أركون والجابري، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2006، ص59.
[5]MernissiFatéma, Le harem politique : Le prophète et les femmes, Casablanca, Le Fennec, 2017, p6.
[6]المرنيسي فاطمة، الحريم السياسي: النبي والنساء، ترجمة عبد الهادي عباس، دمشق، دار الحصاد، ص 14.
[7] Voire Le harem politique. 2017,l’annexes : Sources, p297.
[8]المرنيسي فاطمة، مرجع سبق ذكره، ص21.
[9]Mernissi, Fatema. 2010, ibid,p23.
[10]الجابري محمد عابد، نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2006، ص16.
[11]الجابري محمد عابد، نقد العقل العربي(1)، تكوين العقل العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2009، ص56.
[12]الجابري محمد عابد، المرجع السابق، ص61.
[13]المرنيسي فاطمة، مرجع سبق ذكره،ص32.
[14]المرنيسي فاطمة، مرجع سبق ذكره، ص34.
[15]فروج عمر، تاريخ الفكر العربي الى أيام ابن خلدون، بيروت ، دار العلم للملايين، 1972، ص7.
[16]المرنيسي فاطمة، مرجع سبق ذكره، ص39.
[17]المرنيسي فاطمة، مرجع سبق ذكره، ص50.
[18]المرنيسي فاطمة، مرجع سبق ذكره، ص62.
[19]المرنيسي فاطمة، مرجع سبق ذكره، ص76.
[20]المرنيسي فاطمة، مرجع سبق ذكره، ص77.
[21]المرنيسي فاطمة، مرجع سبق ذكره، ص84.
[22]المرنيسي فاطمة، مرجع سبق ذكره، ص90.