
المقامةُ باعتبارها نصًّا سرديًا: النشأةُ والنماذجُ والتحوّلات
Makama as a narrative text: Genesis, models and transformations
أ.د. جمال حضري، قسم اللغة والأدب العربي، جامعة مسيلة، الجزائر
Dr. Jamal Hadari, department of arabic linguistics and literature
University of Mohamed Boudiaf- Msila- Algeria
مقال منشور في حمل من هنا: مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 59 الصفحة 9.
ملخص:
من خلال هذه الدراسة، تم اقتراح رابط بين تحقيب الأدب والسياق السياسي. لقد دأب مؤرخو الأدب العربي دائمًا على نسبة تطور أجناسه وأنواعه إلى ظروف غير أدبية بشكل عام، وإلى ظهور وسقوط الدول بشكل خاص. وتستجيب البيئة العربية لهذا النوع من الطرح، مع اعتبار العوامل السياسية الأكثر نشاطًا وتأثيرا. وانطلاقا من هذا الاعتبار، تتناول الدراسة نصوص المقامات، من حيث أصل هذا النوع وبنيته وأنماطه خلال الفترات المعنية، وكذلك تغيراته السياسية والفكرية، وتبرز من خلال قراءة أولية للمدونة المقامية، افتراضًا جديدًا، هو تعدد النماذج، وبالتالي فتح مجال القياس بين خصائص بنية المقامات ومحتواها.
كلمات مفتاحية: تحقيب، أجناس، أنواع، بنية، مدونة، نماذج، قياس، معايير، محتوى.
Abstract :
Through this study a link is proposed between the periodization of literature and the political context. Historians of Arabic literature have always relegated the evolution of its genres and types to non-literary conditions in general, as well as to the emergence and fall of dynasties in particular. The Arab environment largely responds to this type of survey, with political factors remaining the most active, the fastest and the most visible. Following this observation, the study of the texts of the makama will deal with the origin, structure and patterns of this kind and its monitoring during the periods concerned as well as its political and intellectual changes. This study, by a preliminary reading of the corpus of makamates, presents a new postulate, in this case, the multiplicity of models, and therefore the opening of the comparison criteria to take account of the changes made to its structure and content.
Keywords : Periodization, genres, types, structure, corpus, models, comparison, criteria, content.
إن الربط بين تحقيب الأدب والسياق السياسي أصبح لا مناص منه؛ فقد دأب مؤرخو الأدب العربي على نسبة تطور أجناسه وأنواعه إلى الظروف غير الأدبية عامة وإلى نشأة الدول وسقوطها خاصة. والبيئة العربية تستجيب بقدر كبير لهذا النوع من التحقيب، حيث إن العوامل السياسية تظل أنشط العوامل وأسرعها أيضا ظهورا وضمورا، لكن السؤال هو: إلى أي حد أثّر هذا العامل في الأدب نشأة وتطورا أو غيابا؟ وإذا كان العامل السياسي ذا خلفية مذهبية كما هي حال الدولة الفاطمية، هل نقف على أثر لهذا المذهب في الأدب عامة؟ وهل أدّى مثل هذا التحول على الصعيد السياسي إلى نشأة بعض أنواعه واختفاء أخرى، أم بقي التغيير السياسي منعزلا عن البيئة الأدبية وعن التأثير في مكوناتها؟
هذا هو الشطر الأول من الإشكالية التي تعالجها الدراسة؛ أما الشطر الثاني، فيتعلق بالنص المقامي تحديدا، متناولا نشأة هذا النوع وبنيته ونماذجه وتتبع ما طرأ عليها خلال العصور المعنية وتقلباتها السياسية والفكرية. وإذا كان أغلب الدارسين يعتبرون نص البديع ونص الحريري نموذجين للمقامة يقاس بهما ما استجد من نصوص، فإن هذه الدراسة من خلال القراءة الأولية للمدونة المقامية تطرح مصادرة جديدة هي تعدد النموذج ومن ثم فتح معايير القياس بما يستوعب التحولات الطارئة على بنية المقامة ومضامينها متمثلة في نصوصها التأسيسية أي نصوص البديع والحريري.
أولا- البيئة العامة في عصر الدول المتتابعة:
1- البيئة السياسية: لا مناص من إلقاء الضوء على ما أحاط الأدب من ظروف سياسية تولدت عنها حتما ظروف ثقافية واجتماعية كان لها أثر ظاهر أو خفي في مسيرة العقل الإبداعي العربي. وإذا استبد السياسي بغيره من العوامل فذلك منطق الواقع الذي نلمس حيثياته منذ التغيير الجوهري الذي بدأ بظهور دولة الإسلام في المدينة المنورة، إذ ما لبثت البنى الثقافية والاجتماعية القديمة أن أخذت في التفكك لصالح بنى جديدة وريثة تعضد الواقع الجديد وترسخ قيمه، فلا ديمومة للتغيير السياسي إن لم تواكبه تغييرات على مستوى القيم الثقافية والاجتماعية وهي أَدْوَمُ وأرسخ.
لم تمض مدة طويلة حتى تبلورت بالفعل في واقع المجتمع الجديد عناصر ثقافية وعلاقات اجتماعية تعكس التغيير الحاصل. وإذا أردنا التمثيل لذلك أسعفتنا أمثلة كثيرة ليس أقلها إعادة صياغة دور الشعر والشاعر في الحياة العربية على مستوى القبيلة والدولة، وبروز أدوار جديدة مثل دور العالم الشرعي أو الفقيه وعلماء اللغة وغيرهم، مما أخذ ينحو شيئا فشيئا إلى شغل مساحات واسعة من السلطة المعرفية المتمكنة على حساب سلطات قديمة، لم تعد تستجيب لمنطق العلاقات الجديد الحادث بفعل التغيير السياسي.
وفي العصر الأموي، الذي يعدّ تراجعا بالنظر إلى اتجاه التطور، تذبذبت جهود تعميق التحوّلات لأن الدولة انكفأت على عنصرها القومي، على عكس روح الرسالة الإسلامية ومجتمعها المديني الأول المنفتح على كل المكونات البشرية؛ ولن نشهد إذن حسم التحولات إلا في عصر العباسيين حين تتبلور الصورة وتتشكل معالم المجتمع المنفتح على المكونات، بما يؤدي عبر سنة التدافع الاجتماعي والثقافي إلى بروز البنى المعبرة عنها.
إذ تظهر في هذا العصر جملة من التحولات السياسية لعل أبرزها انكماش سلطة الخليفة العباسي، وتوزيعها بين سلاطين يحكمون باسمه ومن خلال شرعيته، كما نشهد تنازعا على شرعية الخليفة ذاته حين تناوشتها مراكز متعددة، مركز فاطمي في القاهرة وقبله مركز أموي في الأندلس؛ وهذه المراكز الفرعية تعرّضت هي ذاتها للتفتت من الداخل، إذ تنازعتها بؤر جديدة في المشرق والمغرب، تريد جميعا أن تعبّر عن موازين قوى ناشئة لم تجد في السلطات القائمة ما يفي بحاجاتها، ومن الطبيعي أن تتجه كل هذه المراكز السياسية إلى تدعيم وجودها من خلال سلطات اجتماعية وثقافية.
والمتتبع لمفردات الحياة الاجتماعية والثقافية في هذه الفترة بالذات وما لحقها تحت عنوان الدول المتتابعة، يلاحظ مع شيء من التمعّن انبثاق صور هذه التحولات واتجاهها نحو صياغات جديدة سواء للعلاقات الاجتماعية أو لمكونات المعطى الثقافي.
2- البيئة الاجتماعية: يصب العامل السياسي آثاره مباشرة في المجتمع، فتتنمّط الحياة حسب تراتبية تفرضها طبقة الحكم بما يستجيب لطموحاتها، وحتى نركز على موضوعنا نقول في عقب شوقي ضيف أن طائفة اجتماعية جديدة ظهرت إلى سطح الحياة عصر العباسيين وهم الساسانيون، واختصّوا بالكدية على الرغم من ادّعائهم الماضي التاريخي التليد، لأن جدّهم “كان ملكا واغتصب منه فهام على وجهه محترفا للكدية”[1]. وقد يعبر هذا الإفراز الاجتماعي عن تحلل سياسي نتج عنه تفاوت طبقي صارخ بين فقر مدقع وغنى فاحش، لم تجد طائفة من الأدباء بينهما مجال عيش كريم فانتبهت إلى استثمار أدبها في طلب العيش.
هذا الواقع الاجتماعي سيكون ذا صلة وثيقة بمولد فن نثري جديد، فقد برز من بين الساسانيين هؤلاء شاعران هما: الأحنف العكبري وأبو دلف الخزرجي؛ فأمّا الأول، فله قصيدة طويلة في الكدية بحيلها ومصطلحاتها، وللثاني قصيدة عارض بها قصيدة الأحنف في الغرض ذاته، ومن خلال هذين الشاعرين المكديين ينبثق بالفعل فن المقامة على يد البديع الهمذاني، يقول ضيف: “وصلة البديع في مقاماته بهذين الشاعرين وتأثّره بهما يقوم عليهما أدلة كثيرة”[2].
من خلال هذا المثال تتضح دورة التوالد من السياسي إلى الاجتماعي إلى الثقافي والأدبي، وأهمية هذا التأثير ظاهرة إلى الحد الذي جعل أحد الباحثين يحسم بأنّ “البديع لم يكن متأثّرا حين أنشأ هذه المقامات بأحد من الكتاب الذين سبقوه وإنما كان متأثرا بواقع الحياة العامة”[3]، وقد فسّرنا هذا الواقع بانتشار ظاهرة الكدية عامة ثم ظهور كدية “المثقفين” التي سلخها البديع عن واقعيتها ليلبسها لبوس الخيال والأدب فكان من شأنها ما كان. فالبديع لم يتأثر بالشاعرين وإلا لنسج على منوالهما شعرا في الكدية، ولكنه استلهم واقعهما ووظّفه في صياغة المقامة، ليصبح الأديب مكديّا يسترزق بإبداعاته وقدراته الثقافية.
3- البيئة الثقافية: ومع أن المحيط الثقافي يتحدد -من خلال ما صادرنا عليه- على ضوء الخيارات السياسية، فإننا نجد داخل هذا الفضاء تدافعا بين الأجناس والأنواع فيؤثر بعضها في بعض؛ فليس غريبا عن بيئة العرب الأخبار والأحاديث المروية مثل أحاديث ابن دريد أو ملح الجاحظ أو روايات الأصمعي. هذا إذا شئنا البحث المستقصي عن أصول مفترضة للمقامة، أما إذا اكتفينا بملاحظة المعطيات الثقافية العامة، فإنها كافية وسط زخم المؤثرات الأخرى مثل الوسائط التعليمية آنذاك أن تتحدد صيغة المقامة حسب الحاجة التعليمية، إذ كان المؤسسون لغويين أساسا، جعلوا من طريقة المقامة وسيلة لترسيخ الدروس اللغوية، يقول ضيف في هذا الصدد: “فن المقامة من أهم فنون الأدب العربي، وخاصة من حيث الغاية التي ارتبطت به، وهي غاية التعليم وتلقين الناشئة صيغ التعبير، وهي صيغ حليت بألوان البديع، وزينت بزخارف السجع، وعني أشد العناية بنسبها ومعادلاتها اللفظية وأبعادها ومقابلاتها الصوتية”[4].
لكن هذا التأصيل المنطقي لا يخفي المنعطف الذي تمّ على صعيد النثر وفي هذا العصر بالذات. إن الأمر أشبه ما يكون بمخاض متشعّب التكوين تتولّد عنه مواليد جديدة، تتعدّل بموجبه ملامح الموجود فإذا هو أنموذج آخر قد تحوّل عن أصله أو أضاف إليه ما يكيّفه من العوامل الفاعلة كما سبقت الإشارة، ولذلك لا يستدعي الأمر تلك الجهود الحثيثة التي تريد رد جهد البديع قسرا إلى منشئ سابق عليه. أما إذا اقتربنا من فن المقامة، فنسجل عدة ملامح ثقافية تتضافر لرسم شكل الفن الوليد، فقد “شاعت في هذا العصر الألغاز، يلغز الأدباء بكلمات أو بأوصاف لأشياء يمتحنون بها ذكاء السامع ومدى حضور بديهته”[5].
ليس هذا فحسب، بل إن محيط النشأة الثقافي ترسخت فيه المباهاة بالقدرات اللغوية والثروة اللفظية، فكانت المقامة خير ميدان يفصح فيه المتابهون عن تلك القدرات، فجاء كثير منها على حالٍ تشبه المؤلّفات المختصة في التاريخ أو الجغرافيا أو اللغة أو الفقه أو المنطق وغير ذلك، كما عبّر السند المحفوظ في الفن عن ممارسة طقس له سلطة نافذة، تتمثل في الرواية الموثوقة للنصوص الشرعية، فامتدّ الأثر إلى المقامة لتأتي موافقة لهذا التقليد الراسخ، وكأنها احتفظت بالإطار الموروث وملأته بالمضامين الجديدة إلى حدّ السخرية والتلاعب بقيمة السند ورواته، بل ليظهر وكأنه غمز في أصحابه خاصة في بيئة طالها صراع الأدباء والفقهاء كبيئة الأندلس مثلا.
أما السجع، وهو أحد ملامح العصر الثقافية، فكان جسر التواصل مع الحكام، فلا ينال الكاتب رضى متلقّيه إلا من خلال إطراب الأذن بالسجع، كما يطربها الشاعر بالقافية والوزن، كيف لا وقد ترقّت المقامة سلّم الأغراض حتى غدا من أغراضها الوصف والغزل والمديح، فلا غرو إذن أن يكون السجع بساط ريحها لتصل سامعيها، لأجل ذلك نجد البديع، وهو يضع لبناتها الأولى، يستجيب بقوة لصورة العصر وضغطه الثقافي “فاختار صيغة السجع لمقاماته وكانت هي الصيغة التي يُعجب بها عصره”[6].
ثانيا- النصوص المؤسِّسة وانبثاق الأنموذج:
أ- النزاع حول الأنموذج التاريخي: هناك ما يشبه النزاع حول من أثّر في بديع الزمان حتى أنشأ أول نصوص المقامات بتلك الصورة الفريدة، فهو تارة أحمد بن فارس وابن دريد تارة أخرى والأصمعي ثالثة الخ، مع أن السياق كما استعرضناه يسمح للبديع بمثل تلك الخطوة العبقرية، فقد آن الأوان لأن تنسب الابتكارات لأصحابها دون التشويش عليهم بآباء مفترضين، وهذا دون نفي إمكانية المقارنة لرصد التحولات الثقافية بين أرباب الفنون وقراءة أسبابها ومآلاتها، ولذلك نقول إنّ نصوص البديع هي التأسيس التاريخي لفن المقامة، ولنا بعد ذلك عقد المقارنات بينه وبين من سبقه أو لحقه حسب ما نريد من غايات، أمّا إذا أردنا الانطلاق إلى رصد تحولات المقامة بعده فلنا وجهتان:
– الأولى تصادر على أن نصوص البديع، فوق كونها التأسيس التاريخي للمقامة، هي الأنموذج والنمط للمقامة العربية، ونقيس عليها ما يلحقها.
– الثانية تنطلق من كون نصوص البديع نصوصا مؤسِّسة، ولكنها ليست الأنموذج الوحيد، بل إن التحولات اللاحقة أضافت من الملامح ما سمح عن جدارة بتوزيع أقطاب الأنموذج على أكثر من جهة، ولعلّ الحريري هو أول من يفجر الوجهة الأولى، فبعض مؤرخي الأدب العربي يرون أن نصوصه قد غطّت على نصوص المؤسّس، ودشّنت مرحلة جديدة في مسار الفن[7]، فهل تابع الحريري سلفه ونَمَّى أنموذجه أم تحوّل عنه ورسم أنموذجا جديدا؟
يرى زكي مبارك أننا بين البديع والحريري بصدد نزعتين: نزعة الإبداع الفطري ونزعة الصنعة، وكلاهما انعكاس للبيئة العامة التي تبلورت فيها الشخصية الإبداعية للرجلين. ثم إن تفسير ما ذهب إليه القلقشندي من غلبة أثر الحريري على البديع يكمن في عنصر التوريث الذي خدم الأخير منهما، إذ إن مئات من الرّواة أخذوا عن الحريري مقاماته وأذاعوها مشرقا ومغربا، بينما لم تتوفر للبديع مثل هذه الإذاعة[8].
ومع وجاهة هذا الرأي، فإن المدونة المقامية الممتدة عبر العصر المدروس لا تحسم بهذا، بل إن أثر البديع ظل نشيطا في جميع البيئات الأدبية إلى جوار الحريري، مع ظهور آثار أخرى ابتعدت عن كليهما قليلا أو كثيرا. ومن هنا نرى أن الحريري لم يغط على البديع، بقدر ما طرح نموذجا جديدا، لم يستطع هو الآخر أن يغمط غيره حق طرح نماذجهم. أي إننا بصدد تعدد نماذج المقامة على مدار عصر الدول المتتابعة.
ب- نموذج الهمذاني: تلقف كثير من المقاميين ميراث الهمذاني، لعل أولهم ابن شرف القيرواني (ت 461 ه) الذي ذكره ابن بسام في الذخيرة فقال: ” ولابن شرف مقامات عارض بها البديع في بابه وصب فيها على قالبه”[9]، بل إن ابن شرف ذاته يقول في إعلام الكلام: “واحتذيت فيما ذهبت إليه ووقع تعريضي عليه، من بث هذه الأحاديث، ما رأيت الأوائل قد وضعته في كتاب كليلة ودمنة، فأضافوا حكمه إلى الطير الحوائم، ونطقوا به على ألسنة الوحش والبهائم، لتتعلق به شهوات الأحداث، وتستعذب بثمره ألفاظ الحداث وقد نحا هذا النحو سهل بن هارون الكاتب، في تأليفه كتاب النمر والثعلب وهو مشهور الحكايات، بديع المراسلات، مليح المكاتبات، وزوّر أيضا بديع الزمان، الحافظ الهمذاني وهو الأستاذ أبو الفضل أحمد بن الحسين مقامات كان ينشئها نديها في أواخر مجلسه، وينسبها إلى راوية رواها له، يسميه عيسى بن هشام، وزعم أنه حدثه بها عن بليغ يسميه أبا الفتح الاسكندري، وعددها فيما يزعم رواتها عشرون مقامة إلا أنها لم تصل هذه العدة إلينا وهي متضمنة معاني مختلفة ومبنية على معاني شتى غير مؤتلفة لينتفع بها من الكتاب والمحاضرين من صرفها من هزل إلى جد ومن ند إلى ضد، فأقمت من هذا النحو عشرين حديثا، أرجو أن يتبين فضلها ولا تقصر عما قبلها”[10]. مع العلم أن إفصاح القيرواني في هذه الديباجة عن الأنموذج المتبع والمنوال المنتخب، جاء ضمن مؤلَّف لم يتضمن غير مقامتين إحداهما أطول من الثانية بمقدار كبير، غير أن الموضوع واحد يتمثل في الموازنة بين الشعراء قديما وحديثا، وقيمة الشعر وأساليبه واختيار الشعر وتذوقه. أما من حيث أركان المقامة وبناؤها ومركزية الأديب المكدي فإنها غائبة تماما، حيث تبدأ المقامة الأولى عنده كالآتي: “وجاريت أبا الريان في الشعر والشعراء ..واستكشفته عن مذهبه فيهم ومذاهب طبقته في قديمهم وحديثهم فقال:..”[11]، في حين تبدأ الثانية بـ: “قال محمد: وطلبتني نفسي بمعرفة مذهب أبي الريان في اختيار الشعر..”[12]، ونجد ابن شرف أقرب إلى القالب المشار إليه في مقامة ثالثة يوردها ابن بسام في الذخيرة تحت عنوان: مقامة له أخرى تبدأ كالآتي: “حدثني الجرجاني قال: كان فتى بجرجان من أبناء الأقيال..”[13] وتنتهي بـ”..فدفنه الفتى في أطماره وسألنا كتمان أخباره، وأفن لعمري أي أفن أن يطمع لخبر هذا في دفن بل هو منشور إلى يوم النشور”[14].
من هنا نجد أن نموذج الهمذاني قد تعرض سريعا لعملية تطويع كلية، قبل أن يأخذ الحريري خيط المقامة ليصطنع لنفسه قمة مقامية أخرى. فابن شرف يصرح أنه شيّد قالبه من نصوص كليلة ودمنة ثم من نصوص الهمذاني، وهو مشروع جدير بالإشادة لأنه يجمع أنموذجين متباعدين على الأقل من حيث الرواة بشرا وحيوانا، لكن الأمر يبدو لنا أعمق من مجرد الراوي، إذ لم نجد مثالا عن الراوي الحيواني تأتي على لسانه الحكم والمواعظ. ولذلك يظهر أن القيرواني قصد إلى المبدأ العام في صياغة المقامة ألا وهو تجاوز الأسلوب المباشر إلى الأسلوب غير المباشر. بالفعل، إن المقامة عند الهمذاني تحديدا تنبني على ثلاثة مستويات:
المستوى خارج النص: متمثلا في العلاقة: الكاتب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القارئ
المستوى داخل النص: وينقسم إلى مستويين آخرين: السارد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المسرود له
الراوي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المروي له
لنأخذ مثالا المقامة السجستانية للهمذاني: “حدثنا عيسى بن هشام قال: حدا بي إلى سجستان إرب فاقتعدت طيته وامتطيت مطيته..”[15]: يقع المستوى الأول خارج النص تماما، و من ثم فهو لا يترك أية آثار تدل عليه، أمّا المستوى الثاني، فيبرزه النص المقامي بوضوح: فالسارد هنا هو من يقول “حدثنا…” وهو ضمير جمع المتكلمين المفتوح على كل الاحتمالات، والمسرود له عن طريق التضمين هو ضمير “أنتم” المفتوح هو الآخر على سياقات التخاطب الممكنة.
أما المستوى الثالث فيتمثل في الراوي “عيسى بن هشام” والمروي له القائل: “حدثنا”.
إن عيسى بن هشام الراوي يساهم في أحداث المقامة ويشارك كممثل[16] مع أبي الفتح الاسكندري فيها، ثم يرويها للسارد الذي يرويها بدوره ليتشكل منها النص المقامي. فهل السارد هو الكاتب نفسه أي الهمذاني؟ لن نستطيع الإجابة طبعا لأننا لا نستطيع الانتقال من العوالم الممكنة إلى العوالم الحقيقية بمثل هذا القفز. لكن الفرق يجب أن يكون واضحا بين السارد والراوي، فالأول لابد منه كي تنبي المقامة مع إمكانية أن يظهر السارد في النص أو نستنتجه ضمنيا أما الراوي فهو جزء من عوالم[17] المقامة الممكنة ويمكن الاستغناء عنه أو تعديد الممثلين الذين يقومون بدوره، فتصبح المقامة حوارية[18] بامتياز.
ما الذي تؤديه مثل هذه الآلية في المقامة؟ إنه دور مهمّ جدا، ومع ذلك لم ينل حظه من الدراسة بالشكل الكافي، عدا جهود عبد الفتاح كليطو المتميزة مع أنه لم يشر إلى ما نحن بصدده، وهو انبناء المقامة على استراتيجية تلفظية محكمة، يمكننا على ضوئها تلمس العالم الأيديولوجي للمؤلف نفسه وتقاطعها أو تمايزها عن عوالم النص التخييلي المتمثل في المقامة.
إن مستويات التلفظ التي مثّلنا لها سابقا، تكشف إمكانيتين للعلاقة بين النص وصاحبه، وهو ما درجت الدراسات التداولية على تسميته بالمسافة[19]. فبإمكان المتلفظ أو السارد أن يتبنى ملفوظه، وفي هذه الحالة يتصل الكلام مباشرة به، أو يتباعد عنه من خلال إحالته على الغير، وهناك عدة وسائل تبرز هاتين الحالتين من بينها:
– استخدام الراوي أو الاستغناء عنه – وإظهار السارد أو تضمينه.
فإذا عدنا بعد هذا إلى مقارنة التلفظ أو السرد بين الهمذاني والقيرواني، نلاحظ بكل وضوح أن الهمذاني تباعد عن نصه، من خلال البقاء خارج النص، وإنابة سارد في النص يصرح بوجوده من خلال الضمير (نا) ويعقد علاقة مع راو، يبلغه وقائع المقامة كما دارت بحضوره من خلال الممثل[20] (acteur) الاسكندري. ومن ثم نوافق تماما على ما قاله شوقي ضيف وهو يعقد مقارنة بين سندي ابن دريد والهمذاني: “وقلده في ذلك البديع ولكنه لم يجر أحاديثه أو مقاماته في سند مكذوب على شاكلة الأسانيد اللغوية والتاريخية المكذوبة. إنما أجراها في سنده الخاص الذي أنشأه لنفسه إنشاء واخترعه اختراعا”[21]، لأن السارد كلّما وظّف أسانيد تباعد عن ملفوظه وأحاله على من أسنده إليهم. بخلاف القيرواني الذي نجده اختزل مستويي التلفظ داخل النص إلى مستوى واحد، فالسارد هو الراوي ذاته متفاعلا مع شخصية الممثل في المقامة، وهو تارة الجرجاني وتارة أبو الريان، بما يعني أن القيرواني يكاد يتبنى مباشرة نص المقامة، لأنه لا يجعل مسافة بين السارد وعوالم المقامة التخييلية.
وهنا نضع اليد على النقلة التي نقل إليها القيرواني نموذج المقامة عند الهمذاني، ألا وهو المسافة السردية أو التلفظية بين مستويي السرد والرواية. وبهذا يصبح السند المتوارث في بناء المقامة أهم من كونه محاكاة لأنموذج نقل الخبر في التراث العربي لكونه ذا دلالة مبثوثة في كيفية تبني الملفوظات السردية. فإذا لاحظنا العصر الذي عاش فيه الرجلان وجدناهما متقاربين جدا، فالهمذاني توفي في 398ه والقيرواني توفي في 460ه، فهل تفسر القرابة الزمنية هذا التباين السريع في توارث الفن؟ ربما يتبادر إلى الذهن موضوع الكدية الذي يهيمن على مضامين المقامة عند الأول، فكان أحرى به أن يعمد إلى التخييل العميق والتباعد التلفظي الصارم، أما مضامين الثاني فلم تحفل بالمضمون ذاته، بل هي أحفل بشحن المقامات بفنون النقد والموازنات الشعرية، وكأنها إطار مختزل لإبراز المواقف النقدية للقيرواني ليس إلا.
لتأكيد هذا التفسير نحتاج إلى توسيع الفحص ليتناول رجلا آخر قريب من عصر الهمذاني، ألا وهو ابن شهيد الأندلسي. ولنبدأ بهذه الملاحظة عن العلاقة بين الرجلين: “يتبين لنا أن ابن شهيد أخذ المقامة الإبليسية لبديع الزمان ونماها وتوسع في خيالاتها وأضاف إليها ما جعلها تخدم غرضه الخاص في كتابة قصته الطويلة. وابن شهيد متأثر بعد ذلك بعدد آخر من مقامات بديع الزمان مثل المقامة البشرية والمقامة الحمدانية وفيها وصف جميل للفرس يقابله وصف الإوزة في التوابع والزوابع، والمقامة الجاحظية وفيها وصف لبلاغة الجاحظ وابن المقفع يقابله وصف لبلاغة الجاحظ وعبد الحميد عند ابن شهيد، ويظهر تأثر ابن شهيد ببديع الزمان في الموضوع والأسلوب والفكرة في وصفه الحلوى”[22]. إن نقاط التقاطع هذه تحتاج إلى فحص جديد لتلمّس الإضافة السريعة لنموذج الهمذاني من قبل رجل يكاد يعاصر المؤسس، فقد ولد سنة 383 ه وتوفي سنة 426 ه، مما يعني أننا بصدد حيوية فائقة في التواصل الثقافي بين مشرق العرب ومغربهم، ثم حيوية التلقي والتفاعل مع نوع أدبي، لم يجف بعد مداد واضعه لكي يتسع لهذا التجديد متمثلا في رسالة التوابع والزوابع.
إن مفتاح المقارنة الذي اعتمدناه هو مسافة التلفظ، وكيف عقد السارد علاقته بنصه المقامي. فأما نصوص الهمذاني المذكورة فهي تعقد المسافة كالآتي:
الإبليسية: “حدثنا عيسى بن هشام قال: أضللت إبلا لي فخرجت…” ص 182
البشرية: “حدثنا عيسى بن هشام قال: كان بشر بن عوانة العبدي صعلوكا..” ص 247
الحمدانية: ” حدثنا عيسى بن هشام قال: حضرنا مجلس سيف الدولة بن حمدان يوما.. ” ص 150 الجاحظية: ” حدثنا عيسى بن هشام قال: أثارتني ورفقة وليمة فأجبت إليها.. ” ص 69
من المهم أن نلاحظ استقرار استراتيجية التباعد لدى الهمذاني متمثلة في السارد (نا) وراويه عيسى بن هشام. الفارق الوحيد بين هذه المقامات الأربع، هو اتجاه المقامة البشرية إلى إخراج الراوي من عالم الوقائع المقامية وتكليفه بوظيفة النقل السردي فقط؛ وتجنح الثلاث الأخرى إلى إدراج الراوي في غمار الأحداث، فلدينا إذن راو وسيط فقط، ولدينا راو وسيط وممثل[23]. فكيف تعامل ابن شهيد يا ترى مع هذا الإطار الذي يصرّ البديع على ترسيخه واستثماره؟
فيما يخص مضمون الرسالة يقول بطرس البستاني: “فكيفما سرنا في رسالة التوابع والزوابع نجد أبا عامر شديد الإنحاء على خصمائه، شديد المباهاة بأدبه ونبوغه، يناقش الشرق والغرب، والقديم والمحدث، ويدفع حملات النقاد والمتعنتين، ولا يرضى أن يجاز إلا شاعرا وخطيبا على السواء”[24]. إن فكرة التابع من الجن ليست جديدة في البيئة الأدبية العربية القديمة، وبناء على هذا فإن من الصعب أن ينعقد بها قرار عن تأثر التوابع والزوابع بالإبليسية، كيف وقد نهجت كل واحدة نهجا مخصوصا في تنمية هذه النواة واستثمارها، ففي الإبليسية يتركز البناء على بيان عبقرية أبي الفتح الذي استطاع أن يشحذ على إبليس[25]، مما يعني امتداد فكرة الأديب المكدي الذي لم يسلم إبليس من حيله، في حين نجد الغرض في الثانية منصبا -كما تم التلميح إليه- على بيان علو كعب السارد على سائر أقرانه شعرا ونثرا، وسبيله أن يتلقى الإجازة من كل من سبقه من قمم الفَنَّيْن[26]، مما يعني أن مضمون الكدية اختفى تماما، وتم استثمار الإطار لصالح مضمون جديد كما فعل القيرواني وإن كان تاليا لابن شهيد. وربما تتضح صورة التمايز أكثر من خلال عرض استراتيجية التباعد التي اعتمدناها معيارا للتقليد أو التجديد. فإذا حافظ الهمذاني على إطار التلفظ أو السرد ذي المستويين، و من ثم تباعد عن محكياته ونسبها إلى القائمين بالسرد كما يظهرون في النصوص، فهل سلك ابن شهيد هذا المسلك؟ قال ابن شهيد: “لله أبا بكر ظن رميته فأصميت، وحدس أملته فما أشويت، أبديت بهما وجه الجلية، وكشفت عن غرة الحقيقة، حين لمحت صاحبك الذي تكسبته ورأيته قد أخذ بأطراف السماء…أما إن به شيطانا يهديه وشيصبانا يأتيه. وأقسم أن له تابعة تنجده وزابعة تؤيده، ليس هذا في قدرة الإنس، ولا هذا النّفَس لهذه النفْس. فأما وقد قلتها، أبا بكر، فأصخ أسمعك العجب العجاب: كنتُ أيام الهجاء أحن إلى الأدباء..”[27]. لاشك أن المتلفظ أو السارد هو المتحدث بضمير المتكلم (أنا) وقد صرح بالمسرود له (أنت) وصوّره في شخص (أبي بكر)[28]. وفي آخر المقدمة يوجه الساردُ الكلامَ إلى المخاطبِ ليبدأ رواية حكايته بضمير المتكلم. فنحن إذن إزاء مسافة الصفر من التباعد، إذ يتكفل السارد ذاته بالرواية، ويقوم بدور الممثل والوسيط والسرد. وتتمحور أحداث المقامة-الرسالة حوله، جاعلا من كل الممثلين الواردة شخوصهم فيها، أطرافا مشاركة له في رسم مشاهدها ونسج علاقاتها. ولكنه يتخذ إلى سرد تلك الوقائع ونسج اللقاءات وسيلة تتمثل في تابعٍ جنّي اصطفاه سماه زهير بن نمير، فإطار التلفظ حسم إذن الطريقة التي انتقلت إليها المقامة من خلال تجاوز التخييل إلى المباشرة والتباعد إلى التبني.
ج- محاولات تعديل أنموذج الهمذاني: قبل أن نفحص النموذج الثاني الذي طرحه الحريري كثاني مؤسس للمقامة، يجدر بنا إلقاء الضوء على مقامات ابن ناقيا (416ه-485ه) الذي يكاد يسبق الحريري (446ه-516ه)، ويمثل امتدادا تاريخيا لتيار المقامة الهمذانية، ثم نثني بمقامة دعوة الأطباء على مذهب كليلة ودمنة لابن بطلان (ت 455ه) لشهرتها. فكيف كانت حالهما بالنسبة لنموذج الهمذاني؟ لدينا لحسن الحظ جملة من مقامات الأول ومقامة الثاني مما يمكِّن من بسط طريقتيهما وتقييمهما.
فأما الأول، فقد وضع نسقا سرديا مختلفا تماما عما سبقه، فنجده يستهل مقاماته كالآتي: المقامة النباشية (وهي المقامة الوحيدة المسمّاة في المخطوط): “حدثني بعض الفتاك، قال خرجت في السلاح الشاك، وقد نشر الظلام سربه، وقضى النهار نحبه..وإذا شخص قد ظهر لم ينتظم مثله سلك النظر”[29]، المقامة الثالثة: “حدثني بعض الشاميين، قال يممت العراق في بعض السنين، فانتهيت إلى مدينة السلام والنفقة صحبة الغلام..فقلت لصاحبي..”[30]، في المقامة الرابعة: “حدثني بعض الأصدقاء، النازلين بشرق الزوراء، قال أنصت ليلة من الليالي، وأنا في نفر من العيال، قد ضم جمعنا الطعام، وأيقظ مصباحنا الظلام، إلى سائل بالباب، يتوحّى بكلامه الأعراب..”[31]، والخامسة: “حدثني بعض أهل الجوار، بشعب بني سوار، قال بينا أنا في الليلة الظلماء، من ليالي الشتاء..فانتهيت إلى قصر الوليد وإذا بشخص في فنائه فريد..”[32] وفي السادسة: “حدثنا بعض المتكلمين، قال دخلت بعض البساتين، وذلك عند ناجم النهار..وإذا برجل في ظل غاطيه، وبين يديه باطية..فاحتملت منه أشد الغيض..”[33] وفي الثامنة: “حدثني بعض أهل الأدب، ممن يصحب أرباب الطرب، ويركض في ميدان اللعب، قال خرجت في زمن الخريف، مع إلف ظريف..حتى طلع علينا شخص..”[34] وفي التاسعة: “حدثني بعض الكتاب، قال حضرت مجلسا من مجالس الشراب..وإذا اليشكري قد حضر..”[35].
يتمثل نسق السرد الجديد في حضور السارد دائما من خلال ضمير المتكلم المفرد غالبا وضمير الجمع مرة واحدة، محيلا دورة السرد والتلفظ على راوية غير مشخص بالاسم العلم كما استقر في نموذج الهمذاني ثم عند القيرواني وابن شهيد، إذ مارسوا عملية الانتقال إلى عالم المقامة التخييلي عبر راوٍ مشخص بكينونة مميزة. أما في مدونة ابن ناقيا فلا نلمس خواص الراوي، بقدر ما يتم التبئير على شخص السارد الحاضر بضمير التكلم، وينبثق الراوي من كينونة جمعية تمهد لغرض المقامة، فهو من: الفتاك، أو بعض الشاميين أو بعض الأصدقاء أو بعض أهل الجوار أو بعض المتكلمين أو بعض أهل الأدب أو بعض الكتاب، ولذلك نلمس ملمحا تجديديا فارقا يتمثل في نسبة الراوي إلى البيئة التي ستتمحور عليها المقامة، بخلاف ما كان ساريا في تسمية الرواة، التي تحفل غالبا بالتغريب والإدهاش. والملمح الثاني يتمثل في انحسار دور السارد في إقامة دورة التلفظ دون الانخراط في وقائع المقامة كما رأينا عند الهمذاني وعلى خلاف ما رأينا عند القيرواني وابن شهيد. مما يعني أن ابن ناقيا، من هذا المنظور، حافظ على نهج الهمذاني في التباعد ورسم المسافة الضرورية بين عالم التلفظ وعالم التخييل المقامي.
لكن الراوي عند ابن ناقيا يتميز عن نظيره عند الهمذاني من حيث مساهمته في وقائع المقامة وأداء وظائفها السردية، ولا يكتفي بعملية التعرف والكشف[36]، لكنه أبقى على خيط يربط مقاماته من حيث وحّد شخصية الممثل الرئيسي متمثلا في اليشكري، الذي يتقلب داخل أقنعته حتى تتنوع المشاهد من سياق مقامي إلى آخر.
وقد ترافقت مقامات ابن ناقيا المذكورة من قبل بمقامات أخرى للحنفي أبي العلاء أحمد بن أبي بكر الرازي، ولكن عدم تحديد تاريخ وفاته[37] يصعّب من إدراجه في موقع دقيق من تاريخ المقامة. لكنني أستوحي مقدمته المهمة لتبيان إضافته لهذا الفن، يقول فيها: “غير أن البديع حرر كلامه على الخطاب الفصل، وقرر مرامه وهو متحام عن السخف والهزل، وابن الحريري أورد اللغات الوعره، وأظهر المعاني المشكلة العسره، ذا أوجز وهذا أعجز، وما أنا واضعه كريم الطرفين مشتملا على كلا الوصفين، لا بكثير يمل ولا بوجيز يقل، وكل يعمل على شاكلته..وهذا أول ما بدأت به المقامة، أبدأ بذكر الفارس بن بسام المصري، على زنة الحارث بن همام البصري، وعنه أسوق الكلام إلى أبي عمرو التنوخي، على وِزَان أبي زيد السروجي، مقتديا في هذا التحرير بابن الحريري، كاقتدائه بصاحب ابن هشام والإسكندري، غير أني أورد المقامات أكثرها متضادة المعاني، وأسردها سردا متباينة المباني، كما ترى الجد بعد الهزل، والكلام النازل قبل الجزل، ولم أفضل كلام أبي عمرو على ابن بسام، كما فعلوا ولا أقدم مسجد الضرار على المسجد الحرام، كما نقلوا بل أورد المقامات عنهما على سبيل المناوبة، وأسردها ككتب المكاتبات على وجه المجاوبة..”[38] .
تبرز المقامات الثلاثين للحنفي أنموذجا جديدا بالفعل يتمثل في ملمحين أساسيين هما: تحريك راويه الفارس ابن بسام المصري وبطله أبي عمرو التنوخي، فيتبادلان أدوار البطولة، مما حدا به إلى رسم ملمح ثان للمقامات يتمثل في المقابلة، إذ تأتي المقامات ردودا، تردّ فيها التالية على الأولى، مما تولّد عنه سبك يجمع المقامات جميعا. ومع أنه فارق موضوعة الكدية، العزيز على الهمذاني والحريري، فقد حافظ الحنفي على نسق التباعد السردي، لكنه أبعد فيه وزاد عما كان عند البديع، فنعثر على المسافة الفاصلة بين موقع السرد وموقع الحكاية، وقد غاب عن مقاماته ضمير السرد المتكلم ولازمته (حدّثنا)، لتعوّض بـ(حكى الفارس ابن بسام)[39] زيادة في التباعد ونسبة الحكي إلى راويه. وقد أشار المصنف بالفعل عن بعض هذه الملامح في مقدمته التي أوردناها للتو خاصة حين يقول: “غير أني أورد المقامات أكثرها متضادة المعاني، وأسردها سردا متباينة المباني”. لكن التزامه بالحفاظ على ثنائية الراوي والبطل، كما أومأ إليه، ليس كما رأينا على النسق السابق عليه نفسه، خاصة وهو يمحو ظهور السارد ويبرز الراوي عبر فعل الحكي، ثم تحريكه الراوي ليؤدي الوظائف السردية على المستوى نفسه مع البطل، وكأننا عند الحنفي بصدد بطلين لا بطل واحد، وهو بالضبط ما يمكن أن يكون عناه بقوله في المقدمة: “ولم أفضل كلام أبي عمرو على ابن بسام”، بمعنى أن محورية المقامة لم تعد حول أبي عمرو بل هي تتناوب بينه وبين ابن بسام، إضافة إلى دور النقل والرواية الذي يضطلع به الأخير.
أما الثاني أي ابن بطلان[40] (ت 455 ه) ومقامته الذائعة “دعوة الأطباء”، فنستشف نسيج مواقع السرد فيها انطلاقا من هذا الاستهلال: “قال بعضهم لما دخلت ميافارقين سألت عمن بها من المتطببين.. فأرشدت إلى دكة بالعطارين عليها شيخ من أبناء السبعين..”[41]. إنها مواقع مضمرة تماما سواء على صعيد موقع السرد أو صعيد العالم التخييلي للمقامة، فلا يظهر السارد كما ألفناه عند الهمذاني بضمير المتكلم، بل تسند الرواية مباشرة عن طريق فعل القول (قال بعضهم..)، ثم تمضي المقامة تعرض الوقائع على لسان هذا الراوي المبهم. وبهذا تبني هذه المقامة ظلا من التعميم تهمش بفعله كيانات الشخصيات، ليتم التبئير على الملفوظات وما تتضمنه من معلومات. وعلى الرغم من آلية الحوار التي تتخللها والرسائل القيمية التي تنطوي عليها، فإن المقامة تحولت عند ابن بطلان إلى سفر طبي ذي فصول وأبواب[42]، عامرة بالمعارف، مخلّفا وراءه كل ما استقر من ملامح المقامة، خصوصا ما تعلق برمزية أعلامها وحبكة حيلها وانكشاف خداعها، مستبدلة موضوعة[43] الكدية بموضوعة البخل. إضافة إلى طول مسرف تجاوز لفتات المقامة النموذجية السريعة، وارتباطها بالمجالس وحواراتها الخاطفة، لتنقلب مؤلفا ذا نفس مسترسل، وكأن سارد هذا النموذج الجديد يتوجه إلى قارئ خالي البال ذي كفاءة قرائية متينة، وليس إلى متلق يبحث عن المزحة الخفيفة والملحة الذكية. وبهذا تغيّرُ مقامة “دعوة الأطباء” ليس كيان المقامة وإطارها السردي فحسب، ولكنها تعدّل تقاليد التلقي وتفترض نمطا جديدا هو المتلقي المطالع. فقد توجّه الهمذاني إلى متلق صاحب بديهة وحضور مؤقت، استوجب بناء نموذج مقامي خاطف، قال الشريشي في صدر شرحه لمقامات الحريري قائلا: “وجرى ذكر مقاماته في مجلس بعض مشايخنا، وكان حافظا أديبا، فقال: مقامات البديع يحكى أنها ارتجال، وأن البديع كان يقول لأصحابه في آخر مجلسه: اقترحوا غرضا نبني عليه مقامة، فيقترحون ما شاءوا، فيملي عليهم المقامة ارتجالا في الغرض الذي اقترحوه”[44].
ت- أنموذج الحريري: حان الآن أوان القطب الثاني في مسار المقامة ألا وهو أبو محمد القاسم الحريري. لنفحص إلى أي حد تمكن من وضع نموذج جديد يتميز عن سلفه الهمذاني، ونحدد أهم ملامح هذا التميز حسب المعيار السردي الذي تبنيناه. شيد الحريري مدونته ضمن خمسين مقامة[45] يضيق المقام عن إيراد جميع استهلالاتها التلفظية، ولذلك نكتفي بالتمثيل لها: ففي الصنعانية[46]: “حدّث الحارث بن همام قال..”، وفي الحلوانية[47]: “حكى الحارث بن همام قال..”، وفي الدينارية[48]: “روى الحارث بن همام قال..”، وفي الدمياطية[49] “أخبر الحارث بن همام قال..”، وفي الإسكندرانية[50]: “قال الحارث بن همام..”، وفي الحرامية[51]: “روى الحارث بن همام عن أبي زيد السروجي قال..”.
ينبني نسق السرد على عملية التباعد كما دشنها الهمذاني. لكن الحريري يواري سارده ولا يستدعيه كما فعل الأول من خلال ضمير المتكلمين (نا)، بل يضمره ويبئر على الراوي. وخلال الخمسين مقامة التي ردّد فيها وسائط النقل الآتية: حدّث وحكى وروى وأخبر وقال، لم ينزح مرة واحدة عن هذا النسق، فظل السارد متواريا ومتباعدا، ولا يظهر في مشهد التلفظ غير الراوي الحارث بن همام ناقلا عن الممثل الرئيس أبي زيد السروجي. فهل نُرجِعُ هذا التمايز المقصود في سند السرد إلى كون البديع أنشأ المقامات في سياق شفاهي عارض كما أخبر الشريشي كشفت فيه ذات السرد عن نفسها، وأن الحريري نهض إلى تأليف مقاماته دفعة واحدة بعدما صقلها عقدا كما يقول شوقي ضيف[52] (من 495ه إلى 504ه)؟
يبدو أن تصلب النسقين يرجع إلى فارق الشفاهية والكتابة. فنسق الحريري أكثر ضبطا لأنه أدخل داخل النسق الصلب مرونة في أفعال النقل كما أوضحنا آنفا. فنجده يراوح بين خمسة أفعال لنقل وقائع المقامة من حيز الحكاية إلى حيز السرد (حدّث، حكى، روى، أخبر، قال). بينما حافظ الهمذاني بشكل لافت على لازمته (حدثنا عيسى بن هشام قال)، ولم يخرج عنها في مقاماته الإحدى والخمسين إلا مرتين، مرة في المقامة الغيلانية حين عدل عن لازمته التلفظية (حدثنا) فقال: “حدثني عيسى بن هشام..”[53] والثانية حين عدل في المقامة الأذربيجانية عن اللازمة الحضورية إلى الغياب فقال: “قال عيسى بن هشام..”[54]. فالحريري ذو نسق مصطنع أملته غاية أدبية ورقابة علوية قد نرجعها إلى طلب سلطة زمانه منه إنشاءها، فجاءت محبوكة البناء حتى في مستوى مواقع التلفظ ووسائطها. ليختفي وراء الإضمار وخلف أقنعة ممثليه، حتى يتفادى حضورا لا يليق بمقام مقصوده الأول[55]. في حين يرجع ثبات النسق عند الهمذاني مرجعه إلى الغاية التعليمية، وانفكاكه عن رقابة أعلى، غير رقابة مكانته، فكان أكثر حضورا في عملية السرد. أما بنية الممثلين فقد تماهتا بين الرجلين إلى حدّ التناظر بين الراويين عيسى بن هشام والحارث بن همام، والممثلين الرئيسين أبي الفتح الإسكندري وأبي زيد السروجي. مما يترك الانطباع بكون التباعد على مستوى التمثيل متشابها، على خلاف ما فعل القيرواني مثلا أو ابن ناقيا وابن بطلان حين أسفروا عن ذواتهم، وأسندوا قيادة الوقائع إلى ذوات السرد. مع أن هذا التواري خلف الممثلين لم يمنع الشريشي شارح الحريري من القول بناء على مضمون المقامات أن الحريري “إنما عنى بالحارث بن همام نفسه، لأنه يصفه بأشياء لا تليق إلا بالدهر ..وفي الخمسين له كلام لا يليق إلا بالدهر، فجعل أخذ الحارث من أبي زيد، كناية عن علم الحريري بما جرب من صروف الدهر”[56].
نخلص إلى القول بأن الحريري لم يضف من حيث عملية التمثيل[57] كثيرا إلى ما فعله الهمذاني، أما التمايز الحقيقي الذي كاد أن يهمله الباحثون، فتم على مستوى التباعد السردي، من حيث عمد الأول إلى استراتيجية الحضور، واختار الثاني استراتيجية الغياب. ولكلٍّ غاياتٌ ومقاصد كما حاولنا إيضاحه. في حيز ما بقي من فضاء البحث يمكننا التعريج على علم آخر من أعلام المقامات هو السرقسطي صاحب اللزوميات.
ث- محاولات تعديل أنموذج الحريري: وضع السرقسطي (ت538ه) عددا كبيرا من المقامات سميت باللزومية[58] سمىّ بعضا منها، مثل المقامة الفارسية (رقم 12)، الثلاثية (16)، المرصعة (17)، المدبجة والموشحة (18)، مقامة القاضي (25)، مقامة الحمقاء (26)، مقامة الشعراء (30)، النجومية (31)، مقامة الفرس (34)، مقامة الدب (35)، العنقاء (36)، الحمامة (37)، القردية (38)، الأسد (39)، في النظم والنثر (40)، البربرية (41)، الطريفية (43). أما المقامات الملحقة فتسع، سمَّى خمسا منها هي: الهمزية والبائية والجيمية والدالية والنونية.
وقد جاءت مواقعها التلفظية كما يلي: النموذج: حدّث المنذر بن حمام قال: حدّث السائب بن تمام قال
تندرج فيه المقامات: (1)، (4)، (6)، (7)، (9)، (15)، (50).
النموذج: حدّث المنذر بن حمام قال حدثنا السائب بن تمام قال: ويضم المقامة (2).
النموذج: حدث المنذر بن حمام قال أخبرنا السائب بن تمام: ويضم المقامات (17)، (18)، (20)، (21)، (22)، (23)، (24)، (25)، (26)، (27)، (28)، (29)، (32)، (33)، (35)، (36)، (37)، (38)، (39)، (42)، (43)، (44)، (46)، (47).
النموذج: حكى المنذر بن حُمام قال حدثنا السائب بن تمام قال: ويضم المقامة (3).
النموذج: حدث المنذر بن حمام، قال السائب بن تمام: يضم المقامة (16)
نموذج بلا راو أول مع فعل وسيط: حدث السائب بن تمام قال: يضم (5) و(8).
نموذج بلا راو أول ولا فعل وسيط: قال (/ حدّث) السائب بن تمام
يضم: (10) و(11) و(13) و(14) و(30) و(34) و(40) و(41) و(48) و(49).
النموذج: حدث المنذر بن حمام قال أخبرني السائب بن تمام قال: يضم (19).
النموذج: حدث المنذر بن حمام عن السائب بن تمام قال: يضم (45).
نموذج بلا راو: قال..: يضم (12) و(31).
تبدو أنساق السرقسطي التلفظية إذن شديدة التنويع، فقد أكثر من النماذج التلفظية كما يوضحه الفحص السابق. لكن الأنساق جميعا تخضع لاستراتيجية تلفظية واحدة، تتمثل في اختفاء السارد في كل هذه النماذج، فلم نعثر على أي نموذج يفصح فيه السارد عن نفسه، لا بضمير المتكلمين (نا) كما جرى عند الهمذاني، ولا بضمير المتكلم المفرد (ني) كما فعل القيرواني حين اختزل نسق السرد ومسح الراوي من فضاء المقامة. هذا يعني أن السرقسطي استثمر نموذج الحريري حين غيّب السارد تماما، وجاءت أفعال السرد والتلفظ جميعا بصيغة الماضي مراوحا بين الأفعال: حدث، قال، حكى.
لكن السرقسطي أضاف إلى النسق راويا ثانيا هو المنذر بن حمام، وجعله ناقلا للوقائع التي تتمحور حول الممثل المكدي والمحتال أبي حبيب السدوسي من خلال الممثل الكاشف والمرتحل السائب بن تمام (أبو الغر). وتجاه تصلّب المفصل التلفظي الاستهلالي الذي يأتي دائما بصيغة فعل الماضي مسندا إلى الغائب المفرد، يتنوع المفصل التلفظي الثاني الرابط بين الراويين بحيث تغلب صيغة فعل الماضي مسندا إلى المتكلم الجمع، كما يسند إلى ضمير الغائب، ونادرا ما يسند إلى المتكلم المفرد. ولا تظهر فائدة واضحة من إضافة الراوي الثاني، لأنه على صعيد تحليل التلفظ السردي ليس له موقع تلفظي ذي دلالة، فالسارد ظل مضمرا وظل الراوي الذي يشارك في الوقائع وناقلا لها واحدا، ولم يزد إدراج المنذر بن حمام غير لمسة شخصية في سند المقامات. ولذلك سرعان ما نجده يستثمر نموذجا آخر يستغني فيه عن هذا الراوي، ويربط مباشرة بين موقع السرد المضمر والراوي الثاني السائب بن تمام: (5) و(8) و(10)، و(11)، و(13) و(14) و(30) و(34) و(40) و(41) و(48) و(49)، والمقامة (7) من الملحقات. وكأن السرقسطي يعود هنا إلى الحريري ونموذجه في التباعد السردي عن ملفوظات مقاماته وشخصياتها؛ بل إن بعضا من المقامات جرّدها من مواقع الرواية تماما، فجاءت عارية من موقعي المنذر والسائب كليهما: المقامتان (12) الفارسية و(31) النجومية. وهو النسق الذي ساد كليا المقامات التسع الملحقة، فتمّت التعمية على موقعي الرواية، كما تم إضمار موقع السرد في لمسة جديدة من السرقسطي تجاه الميراث المقامي: الهمزية ص 475، والبائية ص 485، والجيمية ص491، والدالية ص 497، والنونية ص 503، والسادسة على نسق الحروف ص 509، الثامنة على نسق حروف أبجد ص 515، التاسعة على نسق حروف أبجد ص 519. فهل يبدو من خلال هذا استمرارا للحريري، أو ينظر إلى بديعه ولزومياته فيسلك في تيار أبي العلاء المعري؟ أو ينصب قطبا ذا نموذج منفتح جرّب فيه كل تقليبات النقل والسند. إن الجواب الذي ينسجم ومصادرة البحث، تجعله مجددا في تيار الحريري من حيث حافظ على استراتيجية التباعد وتعميق التخييل، دون أن ينسى لمساته الخاصة في تنويع مفاصل الرواية وممثليها.
خاتــــــــــــمة: ليست هذه النتف المدروسة غير محطات من مسار المقامة في الأدب العربي. التي ولدت ونمت في عصر الدول المتتابعة. وحتى وإن كانت الأمثلة الواردة ظهرت تحديدا في عصر بني بويه والفاطميين وعصر ملوك الطوائف، فهي قد تناولت أشهر أقطاب المقامة، وحاولت من خلال معيار شكلاني هو مواقع التلفظ واستراتيجية التباعد، أن تستكشف ملامح التجديد والتقليد في جهودهم. وكانت الرغبة ملحة في أن يتم الربط بين هذه التطورات وآثار البيئة السياسية خصوصا. لكن واقع نمو المقامة وانتشارها لم يعكس بشكل واضح تلك الآثار.
فالترحال والتقلب في الوضع الاجتماعي لم يؤثرا جوهريا على بناء المقامة، عدا ما أشارت إليه من أحوال الممثل الأساسي وهو يتنكب البلدان بفعل غزو أو تقلب حال. أما فنيا فقد حافظت المقامة على نزعتها البديعية، واتجاه واضعها نحو المباهاة وإبراز القدرات وبزّ الأقران. وعلى الرغم من حال التمزق السياسي التي شهدتها تلك العصور، فقد حافظ الجو الثقافي على خطوط تواصله وإمداده، وظهرت كما رأينا ملامح التأثر بين أقطاب المقامة رغم بعد الشقة. ولحسن الحظ، فقد تناول الفحص مشارقة ومغاربة أو أندلسيين، وقد ظل التالون منهم يشيدون بالسابقين، ويصرحون باقتفاء آثارهم والنسج على منوالهم، حتى وإن كان الأمر لا يتجاوز أحيانا المجاملة وإظهار التواضع، لكن مظهر الوحدة الثقافية العربية لا يمكن إخفاؤه.
وفي المحصلة، فإن إنشاء المقامة ونموها وإن ظل في إطار الصنعة البديعية، فقد حاول بمرور الوقت تجديد الأدوات وتجاوز معضلة أفضلية القديم. ولئن كان تناول النقاد ينصب دائما على ملاحظة الأسلوب أو الشخصيات، فإن هذه الدراسة نقلت اهتمامها إلى عنصر خفي هو علاقة المؤلف بنصه، أو ما أصبح يعرف في التداوليات السيميائية بمواقع السرد والتلفظ. وعلى هذا الصعيد حاول البحث تلمس ملامح المتابعة أو المفارقة، فكانت فرصة لتأكيد بعض الآراء، مثل اختلاف مقامات الحريري عن مقامات الهمذاني وهو اختلاف يقوم الآن على أساس شكلاني، هو تباعد الثاني عن ملفوظاته المقامية في مقابل تبنيها عند الأول، ليس هذا فحسب، بل إن المهم هو أن نمو المقامة أو اختلافها عن نصوص المؤسس لم تنتظر الحريري حتى تبرز ملامح تجديدية، بل إن التغيير سرعان ما أصاب نموذج الهمذاني على يد القيرواني وابن ناقيا، إذ اختزل الأول مستويي التلفظ وأصبح السارد هو الراوي ذاته. فهو يتبنى نص المقامة من خلال جسر المسافة بين السارد وعالم المقامة التخييلي. وهو مسلك ابن شهيد نفسه الذي جعل مسافة التباعد صفرا لأن السارد نفسه يقود أحداث المقامة وينقلها[59].
أما ابن ناقيا الذي احتفظ بنسق التماهي كما خطه الهمذاني، فقد ميّز راويه عن نظيره عنده من حيث المشاركة في الوقائع وأداء الوظائف السردية ولا يكتفي بالتعرف على الممثل المحتال.
وبهؤلاء المقاميين وغيرهم كثير، لم تنتظر المقامة الحريري لتقفز إلى منصة التجديد، بل إن ذلك ظل ديدن اللاحقين بكثير تغيير أو قليل، ليضع كل واحد بصمته ولمسته عليها. ولو انفسح المجال لأطللنا على حشد آخر منهم كالسيوطي والوهراني وغيرهما، ولعل فرصا أخرى وفضاء أرحب يوفر مناسبة للولوج إلى العالم الدلالي للمقامة مشفوعا بالإطار السردي.
قائمة المصادر والمراجع:
أ- المصادر:
ابن بسام الشنتريني، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ت إحسان عباس، دار الثقافة، لبنان، 1997، ج1
ابن بطلان، دعوة الأطباء على مذهب كليلة ودمنة، الأول في فاتحة الكتاب، تصحيح بشارة زلزل، طبعة الإسكندرية، 1901
ابن شرف القيرواني، إعلام الكلام، مكتبة الخانجي، ط1، 1926
ابن شهيد الأندلسي، رسالة التوابع والزوابع، تحقيق بطرس البستاني، دار صادر، بيروت، 1996
أبو الطاهر محمد بن يوسف السرقسطي، المقامات اللزومية، تحقيق وتعليق حسن الوراكلي، جدارا للكتاب العالمي وعالم الكتب الحديث، عمان، الأردن، ط2، 2006
أبو الفضل بديع الزمان الهمذاني، المقامات، شرح الشيخ محمد عبده، المطبعة الكاثوليكية، 1889
الحنفي وابن ناقيا وغيرهما، المقامات، استانبول، مطبعة أحمد كامل، 1330 هـ
الشريشي، شرح مقامات الحريري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، 1992
القلقشندي ، صبح الأعشى، دار الكتب المصرية، 1922، ج 14
ب-المراجع: 1- باللغة العربية
ابن خالكان، وفيات الأعيان، ت إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1972 ج 4
أحمد هيكل، الأدب الأندلسي من الفتح إلى سقوط الخلافة، ، منشورات دار المعارف، القاهرة، ط 4، 1968
أمبرتو إيكو، القارئ في الحكاية، ترجمة أنطوان أبو زيد، المركز الثقافي العربي، ط1، 1996
تزفيتان تودوروف، باختين: المبدأ الحواري، ترجمة فخري صالح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1996
جوزيف كورتيس، المدخل إلى السيميائية السردية والخطابية، ترجمة جمال حضري، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2007
حسن عباس، نشأة المقامة في الأدب العربي، دار المعارف، مصر، 1989
خير الدين الزركلي، الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط 15، 2002، ج 1
زكي مبارك، النثر الفني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010، ج1
شوقي ضيف، المقامة، دار المعارف، مصر، ط 3، 1973
عبد الفتاح كليطو، المقامات، السرد والأنساق الثقافية، ترجمة الشرقاوي، دار توبقال، ط2، 2001
محمود غناوي الزهيري، الأدب في ظل بني بويه، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1949
مصطفى الشكعة، الأدب الأندلسي، موضوعاته وفنونه، ط3، دار العلم للملايين، بيروت، ط4، 1979
2- باللغة الأجنبية:
Joseph Courtès, Du lisible au Visible, De Boeck Université, 1995
[1] – شوقي ضيف، المقامة، دار المعارف، مصر، ط3، ص 20
[2] – المرجع نفسه ص 21
[3] – محمود غناوي الزهيري، الأدب في ظل بني بويه، مطبعة الأمانة القاهرة 1949، ص 231/ وذكره حسن عباس، نشأة المقامة في الأدب العربي، دار المعارف، ص 47
[4] – شوقي ضيف، المقامة، ص 5
[5] – المرجع نفسه، ص 62
[6] – المرجع نفسه ص 32
[7] – يقول القلقشندي: “واعلم أن أول من فتح باب عمل المقامات …البديع الهمذاني، فعمل مقاماته المشهورة المنسوبة إليه وهي غاية البلاغة وعلو المرتبة في الصنعة، ثم تلاه الإمام أبو محمد القاسم الحريري، فعمل مقاماته الخمسين المشهورة، فجاءت نهاية في الحسن وأتت على الجزء الوافر من الحظ وأقبل عليها الخاص والعام حتى أنست مقامات البديع وصيرتها كالمرفوضة”، صبح الأعشى، دار الكتب المصرية، 1922، ج 14، ص 110
[8] – زكي مبارك، النثر الفني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010، ج1 ص 249
[9] – ابن بسام الشنتريني، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ت إحسان عباس، دار الثقافة، لبنان، 1997، ج1، قسم4، ص 196
[10] – ابن شرف القيرواني، إعلام الكلام، مكتبة الخانجي، ط1، 1926، ص 13-14
[11] – المصدر نفسه ص 14
[12] – المصدر نفسه ص 47
[13] – ابن بسام، الذخيرة، ص 212
[14] – المصدر نفسه ص 214
[15] – مقامات أبي الفضل بديع الزمان الهمذاني، شرح الشيخ محمد عبده، المطبعة الكاثوليكية، 1889، ص 14
[16] – Joseph Courtès, Du lisible au Visible, De Boeck Université, 1995, chap 3, p 123 et suite
[17] – أمبرتو إيكو، القارئ في الحكاية، ترجمة أنطوان أبو زيد، المركز الثقافي العربي، ط1، 1996، ص 161
[18] – تزفيتان تودوروف، باختين: المبدأ الحواري، ترجمة فخري صالح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1996، فصل التلفظ ص 100
[19] – (distance) وهو المصطلح الذي فرعت عنه السيميائية السردية آليتين للتلفظ: (embrayage): حين يتبنى المتلفظ ملفوظه، و(débrayge) حين يتباعد المتلفظ عن ملفوظه: Joseph Courtès, Du lisible au Visible, De Boeck Université, 1995, chap 3, p 123 et suite
[20] – تستعيض السيميائية السردية عن الشخصية بالممثلين حتى تبتعد عن النزعة النفسية لصالح توجه موضوعي وهو ما أخذنا به، ينظر جوزيف كورتيس، المدخل إلى السيميائية السردية والخطابية، ترجمة جمال حضري، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2007
[21] – شوقي ضيف، المقامة، ص 24
[22] – مصطفى الشكعة، الأدب الأندلسي، موضوعاته وفنونه، ط3، دار العلم للملايين، بيروت، ص 680 ذكره حسن عباس، نشأة المقامة، ص 94
[23] – médiateur + acteur
[24] – ابن شهيد الأندلسي، رسالة التوابع والزوابع، تحقيق بطرس البستاني، دار صادر، بيروت، 1996، ص 71
[25] – ورد في نص المقامة الإبليسية صفحة 187 على لسان الراوي: “فقلت: يا أبا الفتح شحذت على إبليس إنك لشحاذ”.
[26] – تنتهي مقابلات السارد لتوابع الشعراء بهذا التصريح: “..ثم قال: اذهب فقد أجزتك. وغاب عنا”، رسالة التوابع والزوابع، ص 93
[27] – ابن شهيد، التوابع والزوابع، ص 87-88
[28] – أبو بكر بن حزم، سليل أسرة أندلسية من الفقهاء والوزراء وكانت بينه وبين ابن شهيد مكاتبات ومداعبات (هامش الزوابع والتوابع ص 87)
[29] – مقامات الحنفي وابن ناقيا وغيرهما، استانبول، مطبعة أحمد كامل، 1330 هـ، ص 125
[30] – المصدر نفسه ص 128-129
[31] – المصدر نفسه ص 132
[32] – المصدر نفسه، ص 136-137
[33] – المصدر نفسه ص 139
[34] – المصدر نفسه ص 144-145
[35] – المصدر نفسه ص 148- 149
[36] – عبد الفتاح كليطو، المقامات، السرد والأنساق الثقافية، ترجمة الشرقاوي، دار توبقال، ط2، 2001، ص 19 وما بعدها
[37] – ذكر الزركلي أنه توفي بعد 630هـ ، الأعلام، الزركلي، ج 1، ص 217: غير أنني بعد طول بحث أدركت أن من ترجم له الزركلي غير الرازي صاحب المقامات الذي أدرس ههنا مقاماته، فصاحب المقامات الإثني عشر هو سيدي أحمد بن المعظم بينما الحنفي هو أبو العلاء أحمد بن أبي بكر بن أحمد الرازي، وهو الذي خدم بالمقامات القاضي الشهرزوري حيث يقول في مقدمة المقامات وعددها ثلاثون وليس أتثنتا عشر مقامة كما ذكر الزركلي: “أما بعد فإني لما وجدت الفضل نزل بجناب معين..وهو جناب الصدر الأجل، الأوحد الأكمل الأفضل، الأمجد محيي الدين عز الإسلام، أقضى القضاة رئيس الحكام، أبي حامد محمد بن محمد بن القاسم الشهرزوري أدام الله علاه.. ” ص 2 والقاضي الشهرزوري ولد عام 510 هـ، ولي قضاء دمشق وحلب للملك الصالح بن نورالدين زنكي لكنه عاد إلى الموصل وولي قضاءها للسلطان مسعود زنكي وتوفي بها سنة 586هـ . ابن خالكان، وفيات الأعيان، ت إحسان عباس، دار صادر، بيروت، الجزء الرابع، ص 246-247-248
[38] – مقامات الحنفي وابن ناقيا وغيرهما، استانبول، مطبعة أحمد كامل، 1330 هـ، ص 4 و5 و6.
[39] – المقامات: الحروفية (ص 6)، جوابها (ص 9)، الحمامية (ص 13) جوابها (ص 16)، المحبريّة (ص 21)، جوابها (ص 23)، الدواتية (ص 26)، جوابها (ص 29)، القلمية (ص 32)، جوابها (ص 36)، المقلمية (ص 39)، جوابها (ص 42)، الوعظية (ص 47)، جوابها (ص 51)، الطائية (ص 55)، جوابها (ص 59)، العرسية (ص 62)، جوابها (ص 67)، الخطبية (ص 71)، جوابها (ص 77)، النظرية (ص 82)، جوابها (ص 86)، الفرسية (ص 92)، الأبوية (ص 96)، جوابها (ص 100)، المعركية (ص 104)، جوابها (ص 108)، الترسلية (ص 110)، جوابها (ص 112).
[40] – عاصر المستنصر بالله الفاطمي حين قصد مصر سنة 441هـ وقد خرج من بغداد في 339هـ مارا بحلب حيث أكرمه فيها معز الدولة ثمال بن صالح. وقد ألف المقامة للأمير نصر الدولة أبي نصر أحمد بن مروان صاحب ميافارقين سنة 450هـ/ 1365 م، ترجمة المصنف في الرسالة نقلا عن عيون الأنباء في طبقات الأطباء.
[41] ابن بطلان، دعوة الأطباء على مذهب كليلة ودمنة، الأول في فاتحة الكتاب، تصحيح بشارة زلزل، طبعة الإسكندرية، 1901، ص 11
[42] – الأول في مدح بغداد وذم ميافارقين والثاني في ذكر مجالس الطعام وذكر الحجج التي تحمي عن الأكل والثالث في نعت مجلس الشراب واللذة والرابع في اعتبار الطبائعي بمسائل توضح فضله وتظهر جهله والخامس في سؤال الكحال عما لا يسعه جهله والسادس في اعتبار الجرائحي بمعرفة التشريح والمنافع والسابع في امتحان الفاصد في ما يحتاج إلى معرفته والثامن في اعتبار الصيادلة بمعرفة العقاقير والأدوية والتاسع في غيرة الأطباء وتغايرهم على المرضى والعاشر في اعتذار الطبيب المصروف وذم الصارف له والحادي عشر في استهانة العامة بالصناعة الطبية والثاني عشر في خاتمة الكتاب وذكر سبب انقطاع الزيارة والاجتناب.
[43] – thématique
[44] – شرح مقامات الحريري للشريشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، 1992، ص 24
[45] – شرح مقامات الحريري للشريشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، 1992
[46] – المصدر نفسه، ج 1 ص 48
[47] – المصدر نفسه، ج 1 ص 76
[48] – المصدر نفسه، ج 1 ص 131
[49] – المصدر نفسه، ج 1 ص 158
[50] – المصدر نفسه، ج 1 ص 333
[51] – المصدر نفسه، ج 5 ص 294
[52] – شوقي ضيف، المقامة، ص 66
[53] – المرجع نفسه، ص 35
[54] – المرجع نفسه، ص 40
[55] يقول الحريري: “فأشار من إشارته حكم وطاعته غنم، إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها تلو البديع، وإن لم يدرك الظالع شأو الضليع..” الضليع..”، شرح المقامات للشريشي، ج 1 ص 25
[56] – شرح الشريشي، ج1 ص 49
[57] – أي توظيف الممثلين من خلال أدوار في الحكاية
[58] – أبو الطاهر محمد بن يوسف السرقسطي، المقامات اللزومية، تحقيق وتعليق حسن الوراكلي، جدارا للكتاب العالمي وعالم الكتب الحديث، عمان، الأردن، ط2، 2006
[59] – ويذهب باحثون إلى تأثر ابن شهيد برسالة الغفران للمعري، لكن د. أحمد هيكل حسم بالقول أن المعري أولى باقتفاء أثر ابن شهيد، لأن رسالة الغفران جاءت بعد الزوابع والتوابع بتسع سنين. يراجع الأدب الأندلسي من الفتح إلى سقوط الخلافة، ، منشورات دار المعارف، ط 4، القاهرة 1968، ص 381 وما بعدها.