
تصوير محنة طبقة “الأنتلجينسيا” العراقيّة في الرواية الحديثة
“رواية ليل علي بابا الحزين لعبد الخالق الركابيّ” أنموذجاً
Revealed the plight of the Atlantis in the modern Iraqi novel
” The Night of Ali the Sad Pope” by Abdul Khaliq Al Rukabi as a model
م.د عبّاس فاضل عبدالله الموسويّ ـ وزارة التربية/المديرية العامة للتربية في ذي قار، العراق
Abbas Fadel Abdullah Al-Musawi . Ministry of Education / Directorate General of Education in Dhi Qar
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 58 الصفحة65 .
Summary
The Arab novel, including the modern Iraqi, revealed a number of circumstances and hardships experienced by the Iraqi society, and the extraordinary and extraordinary circumstances that have plagued this society with its various sects, sects, classes and classes. Some novelists have used these experiences in various forms and styles in an effort to document and transform historical material To a narrative that predicts that the political and economic situation they experienced had a great impact on the literary texts they produced, and that the main role in making these crises stemmed from the backwardness of Arab society in the first place and the dominance of political power And the media and institutions that deal with culture and intellectuals. Many Iraqi novelists have written their narrative texts about the suffering they have suffered and explained this suffering by exposing those ruling and opportunists and clarifying the most important thing that happened to that intelligentsia, And the lack of interest in the contribution of this important class to society, forgetting its important role and the nature of its work in public awareness, and the consolidation of concepts and beliefs and modern scientific theories.
Keywords: Thinkers layer, The plight of intellectuals, Society of the novel, The imaginary and historical
المُلخص
كشفت الرواية العربيّة الحديثة ولا سيما العراقيّة عن عدد من الظروف والمحن التي مرَّ بها المجتمع العراقيّ، والظروف غير الطبيعيّة والاستثنائيّة والظواهر التي تداهم باستمرار هذا المجتمع بمختلف طوائفه ومذاهبه وشرائحه وطبقاته، وقد دأب بعض الروائيين على توظيف تلك التجارب بأشكال وأنماط مختلفة سعيًا وراء توثيق المادة التاريخيّة، وتحويلها إلى مادة سرديّة تُنبئ بأنَّ الوضع السياسيّ والاقتصاديّ الذي عايشوه كان ذا تأثير كبير على ما انتجوه من نصوص أدبيّة، وإنَّ الدور الرئيس في صنع تلك الأزمات كان نابعًا من تخلّف المجتمع العربيّ بالدرجة الأساس وهيمنة السلطة السياسيّة على الحريات العامة والخاصة وتدجين وسائل الإعلام والمؤسسات التي تعنى بالثقافة والمثقفين، وهنَّدَسَ الكثير من الروائيين العراقيين نصوصهم السرديّة حول تلك المعاناة التي جرت عليهم، وشرح تلك المعاناة من طريق فضح أولئك المتسلطين والانتهازيين وإيضاح أهم ما جرى على تلك النخبة المثقفة (الأنتليجنسيا) العراقيّة وتصوير الخذلان والنكبات وعدم اهتمام بما قدّمته هذه الطبقة المهمة للمجتمع، متناسين دورها المهم وطبيعة عملها في توعية الجماهير، وترسيخ المفاهيم والمعتقدات والنظريات العلمية الحديثة.
الكلمات المفتاحية: مفهوم الأنتلجينسيا، محنة الانتلجينسيا ، مجتمع الرواية، المتخيل والتاريخيّ .
المقدِّمة
واجهت الطبقة المثقفة العراقيّة عدداً كبيراً من المحن والمصاعب التي ربّما لم يبتلِ بها الكثيرُ من المثقفين الآخرين عربًا وغير عرب، فمن الاحتلالات المتكرّرة إلى ضياع الهوية الوطنية، وتشظي الإنسان العراقيّ وتغربه، وإشعال النظام السابق لحروب على الحدود مع الدول وحروب داخلية مع الكورد استمرت أكثر من عقدين من الزمن، ناهيك عن السجون والاعتقالات والتعذيب الوحشي، واتباع سياسة التجويع والتهميش والإقصاء بحق أبناء البلاد، وكان أكثرها تأثيراً عليهم هو فرض الحصار الاقتصاديّ على البلد لمدة تزيد على 13 عاماً، والحرب العراقيّة الإيرانيّة، ثُمّ حربا الخليج الأولى والثانية، وما نتج عن هذه الحروب من تشظّي وانكسارات وتمزق مجتمعيّ، وكما عانت (الطبقة المثقفة) من السلطة فإنّها في الوقت نفسه قد عانت من الصراع فيما بينها من أجل الوصول إلى الشهرة أو تبوء مناصب ومراكز القرار الثقافيّ، وظهور شخصيّة المثقف الانتهازي التي مثلت محنة إضافيّة للطبقة (الأنتليجنسيا) إذ كانت هذه الشخصيّة بمثابة الورم في جسم هذه الشريحة.
لقد أنفردت رواية ( ليلُ علي بابا الحزين) بمجموعة من المعاناة التي عاشتها هذه الطبقة التي تسمى بطبقة (الأنتليجنسيا) ؛ إذ يركّز الروائي عبد الخالق الركابيّ على سلسلة لا تنتهي من المآزق التي مرَّ بها المثقفون العراقيون ـ لاسيما الجيل الذي ينتمي له الركابيّ ـ وقد وقع الكثير منهم ضحيةً لتلك الظروف الصعبة.
ويكمن السبب الرئيس لاختيار الباحث نصَ هذه الرواية العراقية من دون غيرها من الروايات الآخر ـ سواء للروائي نفسه أم لروائيين آخرين ـ بأنّ الروائي (عبد الخالق الركابيّ) يعدّ من طليعة النُخب المثقفة في البلاد، وهو مخضرم عاصر ظهور جمهوريات عديدة ثمّ أفولها، كما أنّه وقع من دون اختيار في تجربة الحصار الاقتصاديّ والتحولات الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة التي رافقت التغيير المصاحب للوضع الاقتصاديّ التردي في البلاد في تلك الفترة، وما تلاها من سقوط بغداد المدوي، عندما دخل الأمريكان أرض العراق واشراخ النسيج الاجتماعيّ إلى أبعد مدياته، فتُعد هذه الرواية بمنزلة مذكرات شخصيّة للكاتب وآرائه وانطباعاته الشخصيّة ـ التي تمثّل بطبيعة الحال ـ آراء ومواقف شريحة كبيرة المثقفين والعاملين بحقل الفكر.
أولاً: مفهوم (الأنتليجنسيا) في المدونة النقديّة
يُعد الروائي الروسيّ (يوبوركون) أول من استعمل مصطلح (الأنتليجنسيا) أو (الأنتاليجنسيا) Intelliqentsia)) عام 1860م، وكان يقصد به الطبقة التي تعمل في مجال الفكر والثقافة أي الطبقة المثقفة، ثُمّ تبعه مجموعة من النقاد والروائيين، الذين مايزوا عن طريق هذا المصطلح بين نخبة تمتهن الفكر والثقافة مصدر دخل لها وبين طبقة أخرى تمتهن الأعمال اليدويّة، ثُمّ تم تداول هذا المصطلح في عموم البلدان الأوربيّة بالمعنى الذي ظهر به أول مرة ([1]).
بينما يرى باحث آخر بأنّ (Intellectual )هي الأصل اللاتيني للفظة (المفكر) التي أخدت منها اللغات الأوربيّة هذا المعنى، حينما استندت على لفظة (Intellect ) التي تعني (الفكر)([2])، ولا يبتعد هذا المصطلح عن معناه كثيراً في منظومة النقد العربيّ؛ بل ربّما يتطابق كثيراً مما جاء في الفكر الغربيّ، إذ يرى الدكتور نديم البيطار بأنّ (الأنتليجنسيا) تعني النخبة “التي تعطي ولاءها للأفكار والمعرفة، وتمثّل الجانب الخلاق في الفكر الاجتماعي السياسي. إنها تراقب، تدرس وتتأمل وتنظر وتحلل، وتنشغل نقديا بالأفكار والقيم والتصورات الأيديولوجية التي تتجاوز المشاغل والمقاصد العملية المباشرة”([3])، إذن فإنَّ هناك تمايزاً بين صنفين من المجتمع، الأوّل يتكئ على ما ينتجه العقل وتطلقه الروح من أفكار تخدم المجتمع روحياً، وهي طبقة (الأنتليجنسيا) وطبقة أخرى تمد المجتمع بالعمل اليدوي وهي طبقة (البوليتارية)، وهذا يعني بأنَّ “الإلماح إلى عقل الإنسان وفكره يعني وجود ورؤيةً ونسق يخالف السائد والمعروف ويمهد لوجود طبقة ترتقي بأفكارها فوق الطبقات المجتمعية الأخرى، ويحيلنا ذلك على أن (الأنتليجنسيا) لم تكن سيوسيولجية مجتمعية، وإنما هي طبقة ارستقراطية نخبوية همها الثقافة مما أباح تعدد أنساقها الفكرية بين الأدب والثقافة والمعرفة والسياسة والأيديولوجيا”([4])، بينما يرى البعض بأنَّ سيوسولوجيا المثقفين تنطوي على “تحليل المكانة التي يشغلها من نطلق عليهم هذا الاسم في المجتمع ما يحمل إذن على الاهتمام بالبنية التنظيمية والمؤسساتية (اقتصادية، سياسية وثقافية) للأفكار التي يتم تداولها في مجتمع معين”([5])، كما وَرَدَ هذا المصطلح في موسوعة المصطلحات المتعلقة بالسياسة، بأنه “يعني الفئة المثقفة التي تتألف من أشخاص من كل الجنسين يمارسون نشاطاً فكرياً بحكم مهنهم، ومن هذه النشاطات الفكريّة، الاشتغال بمجال البحوث المتخصصة بالعلم، والفن، والهندسة والطب، والمحاماة، والتعليم، أي أنّها تشمل الجزء الأكبر من الموظفين”([6])، و (الأنتليجنسيا) هي من تأخذ هذا الدور التاريخي، إنّها تمثل أشكال الوعي التي يمكن بها التعبير عن تحولات التاريخ وتناقضاته، ومن ثم ضبطها وتوجيهها، إذ إنّها تعطي ولاءها للأفكار والتصورات التي تتجاوز الواقع اليومي والتجريبي على العكس من طبقة العامة ، ويميّز (غرامشي) بين نوعين من عناصر طبقة (الأنتليجنسيا) ، وهم: المثقفون التقليديون، الذين يمثلون الفلاسفة ورجال الدين الذين يصورون أنفسهم بأنّهم مستقلون تماماً عن المجتمع والبيئة التي نشأوا فيها وإنّهم امتداد لسقراط وأفلاطون، أي أنهم يمثلون المعرفة المتعالية ويقومون بصناعة الخطابات المنفصلة عن اللحظة التاريخيّة، والنوع من المثقفين، هم المثقفون العضويون فهم المرتبطون بالمجتمع وملتصقون به عملياً، وينتجون البنية الفوقية والأيديولوجية، بينما يصنفهم عبدالله العروي إلى ثلاثة أصناف، هم (الشيخ أي رجل الدين) و (السياسي أي رجل الدولة والسلطة) و( التقني أي الخبير في المجالات الاقتصاديّة والأمور الإداريّة)، وكلُّ واحد من هؤلاء يقدّم وجهة نظر ورؤية تختلف عن صاحبه ([7])، فتنطلق من الفلسفة التي ترى بأنَّ مجابهة الواقع بالعقل هي القيمة الأساسية التي ينطوي عليها الفكر الإنسانيّ، وتضفي عليه مهمة اكتشاف واقع أعمق يكمن وراء كل ظاهرة من الظواهر، والقدرة على اختراقها وتعرية الواقع الأكثر عمقاً وأهمية(6)، لذلك فإنَّه يمكن القول بأنّ مهمة (الأنتليجنسيا) تنحصر في “الإعلان عن مثل عليا أو تصورات ايديولوجية مستقبلية كان القصد منها تجديد المجتمع والإنسان نفسه”([8]).
ثانياً ـ تصوير الرواية العربيّة الحديثة لمحنة طبقة (الانتلجينسيا) العراقيّة
لا تنحصر المحن التي تعرَّض لها أصحاب الفكر وحاملو مشعل التنوير في العراق بجانب واحد فقط؛ بل إنّها تتعدّد وتتشعب تبعاً للظرف الذي يمرُّ به الإنسان في هذا البلد، وقد عرض الروائي عبد الخالق الركابيّ هذه المواقف في روايته ـ عينة الدراسة ـ بواسطة الأنساق الثقافيّة التي تشعبت داخل منظومة المجتمع العراقيّ بشكل لايبدو للوهلة الأولى واضحاً، ما لم يتم ربط تلك الأنساق بعضها ببعض لتشكّل بمجموعها خارطة انتماء، وإذا ما تتبعنا تلك الأنساق نجد بأنّها تنقسم وبحسب التسلسل الزمني للأحداث التاريخيّة بدءاً من تشكيل أول حكومة عراقيّة إلى عام 2005 حيث اندلاع الحرب الأهلية، ودخول تنظيم القاعدة الإرهابيّ إلى المناطق السكنية الآمنة والعبث بمقدرات المواطنين والولوغ بدمائهم، وظهور مجاميع وعصابات الخطف والسرقة، وانسحاب القوات الأمريكيّة من الشارع العراقي وتحصنهم داخل قواعدهم، تاركين الأهالي يعيشون مرارة الخطف والابتزاز والقتل اليوميّ على الهوية، ودخول البلاد في دوامة العنف، وكان المثقف العراقيّ يحاول أن يتشبث بالقشة من أجل البقاء والتغلب على الصعاب، وأن يدفع الآخرين بأمل الحياة وعدم الاستسلام للظرف الراهن، ويمكن تقسيم المحن التي تعرضت لها طبقة (الأنتليجنسيا) بوصفها من أكثر الطبقات الاجتماعية أهميةً في البلاد إلى ما يأتي:
1ـ تصوير محنة (الانتلجينسيا) العراقيّة في الاحتلال الإنكليزيّ
يسرد الراوي ـ الذي لم يذكر لنا عبد الخالق الركابيّ اسمه صريحاً أو هيئته ـ الأحداث التي جرت من أيام الملكيّة الأولى ودخول الإنكليز الأراضي العراقيّة محتلين وليس فاتحين، فبواسطة (بدر الطارش) ينقلنا إلى الأعوام التي سبقت تشكيل أول حكومة وطنية وتتويج أول ملك على العراق من أصول عربيّة، وعن طريق تقنية (الفلاش باك) يستذكر الطارش تلك الأحداث التي جمعته مع (المستر تومسون) و(المسز بيل) والعمل معهم في البحث عن الآثار العراقيّة المدفونة وتأسيس متحف صغير لها وسط بغداد، ويوضح انبثاق الحركة الوطنية الشبابية وانطلاقها منذ نهاية الثلاثينيات ـ وكان الطارش مؤيداً لها ـ ومواقفها من المعاهدات التي كانت تُعقد مع بريطانيا، وغيرها من الأمور الأخرى التي كانت تمس سيادة البلاد، ولم يكن الركابيّ معنياً بالسرد التاريخيّ بقدر عنايته في توظيف سرد التاريخ من أجل كتابة رواية تدور أحداثها عن أهم الشخصيّات العراقيّة، سواءً تلك التي كانت مؤيدة للحكم الملكي ومتعاونة مع الإنكليز أم المناوئة لهم التي ترى بأنّ الملك ألعوبة بأيديهم، و الركابيّ دعّم هذا التناقض الذي حدث بين فئات المجتمع العراقيّ ـ لاسيما المثقفون ـ والشرخ الذي أحدثته تلك المواقف في البنية المجتمعيّة، فاستعمل موضوعة (الاستشراق) في الإفصاح عن دور المثقف أو موقف طبقة (الأنتلجيسيا) بصورة عامة من هذا الاحتلال المبني وفق أنساق مضمرة وليست ظاهرة وواضحة للعيان بشكل مباشر، إذ كانت وسائل الهيمنة على الشرق مغلّفة بالبحث العلمي والاستكشافات الجغرافية للمنطقة ومحاولة استعادة ما مدفون من لُقى ورقم طينية وتماثيل ورسومات في التلال الأثرية، وهذا يعني فيما يعنيه دخول البعثات الأوربيّة إلى أرض الرافدين تحت مسميات العلمية، والمنظمات الإنسانيّة لمساعدة دول العالم الثالث المتخلفة عن ركب الحضارة الغربيّة، فيركّز الروائي وكده على هذه المسألة فيقول:
“وحدّث (تومسون) (بدر) كيف أن بلاده ما بين النهرين باتت، عقب ذلك الاكتشاف، مصدر اهتمام عدد كبير من رجال الدين المسيحيين؛ فأخذوا يتدفقون عليها منتحلين مختلف الصفات التي كانوا يتسترون بها على مهمتهم الحقيقية، فثمة من قدم كمنقب آثار أو طبيب أو تاجر أو سائح، واستطرد موضحاً أن تقاطر هؤلاء الغربيين لم يقتصر على ذلك النمط من المغامرين، فثمة حركة تبشير بالدين المسيحي نشطت أواخر القرن التاسع عشر ـ 1889 على وجه التحديد ـ كانت مدينة (تيوبرونزويك) الأمريكية مركزها الرئيس حيث صادق عدد من شبان أمريكيين متحمسين على تأسيس منظمة تدعى (الإرسالية العربية الأمريكية) هدفها الرئيس التبشير بالمسيحية في منطقة الخليج والجزيرة العربية”([9])، إنّ موقف (المثقفين الثوريين) كان شبه موحد تجاه هذه اللعبة التي باتت مكشوفة جداً، بسبب انحراف الأمور عن مسارها الأصلي والرئيس، وهو تقديم المساعدة الإنسانية علناً، لكنها تستبطن التجسس ورسم المصالح الاستعماريّة للدول العظمى على حساب مصلحة مواطني البلد الأصليين، وهنا يكمن عمل ودور الطبقة (الأنتليجنسيا) إذ تقع عليها مسؤولية تنوير وتثقيف الجماهير وتحضيرها لمواجهة مشاريع (الاستشراق) وفتح الآفاق المعرفية لها عن طريق بث الروح العلمية وترويج الأفكار التي تحض على مواكبة المسيرة العلمية من دون خلع ثوب التراث العربيّ الضارب في جذر الحضارة شرقاً وغرباً، فـيرى إدوارد سعيد بأنّ (الاستشراق) هو “ليس مجرد مذهب ايجابي حول الشرق يوجد في وقت واحد محدد في الغرب، بل هو كذلك تقليد جامعي ذو تأثير (حين يشير المرء إلى مختصّ جامعي يدعى مستشرقاً) ، كما أنه اقليم للاهتمام يحدده الرحال، والمشروعات التجارية، والحكومات، والحمولات العسكرية، وقرّاء الروايات ومسارد المغامرات الغريبة المدهشة، والمؤرخون الطبيعيون والحجاج الذين يمثل الشرق لهم نمطاً مخصصاً من المعرفة حول أماكن، وشعوب وحضارات معينة”([10])، وهذا يعني بأنّ (الاستشراق) عمل منظّم قائم على مؤسسات هادفة، ولمواجهة هذا التنظيم الدقيق، لا بدَّ من عمل قائم على المكافحة الفكريّة البناءة وهدم ما ينوي عليه الغرب بوصفه مرجعية كبرى لـ(الاستشراق).
من هنا انطلق الركابيّ ـ في روايته هذه ـ نحو استجلاء الآراء التي تعبّر عن موقف المثقفين من هذا التحدي الحقيقيّ الذي يلاحقهم عن طريق أوهامه وخيالاته بأنّه ـ أي الاستشراق ـ جسرٌ للعبور إلى الضفة الأخرى من العالم، لذلك نجده يسلط الضوء على حقيقة (احتلال العراق) المُخطّط لها، وقد كشفها العقل الثقافي وإن كان متأخراً ـ إدوارد سعيد ـ الذي عِملَ على نبش الماضي وتفكيك بنيته من أجل الوصول إلى فضح المؤامرات الغربيّة، ونجد الركابيّ يعدّ هذا من مسؤولية الأدباء والروائيين لتوظيف النتائج التي توصل إليها نقاد (الاستشراق) وتضمينها سردياتهم بوصفها إنتاجاً لما بعد (الكولونياليّة) ، فنقرأ مثلاً في الرواية حواراً بين الراوي و(بدر الطارش) الذي يستقي الروائي منه مصدره التاريخيّ لكتابة الرواية تدور حول الكيفية التي استطاع عن طريقها الغرب بسط سيطرته إعلامياً “هكذا كان يسترسل في كلام طويل متحدثاً عن أمور سبق لي أن صغيت على نماذج مماثلة لها من خلال قراءتي لبعض الكتب الخاصة بهذا الموضوع وفي مقدمتها كتاب (الاستشراق) الذي فضح فيه تلك الصور النمطية التي اعتاد الغربيون النظر بها إلى الشرق، كان من الواضح أن أبرز ما لفت انتباهه، وهو صبي، تمثّل بحرص وسائل الإعلام الأمريكية على الاستعانة بالأفلام والكتب الرائجة والمجلات الواسعة الانتشار لغرض الترويج لتخلّف العرب والمسلمين، فقد شاهد آنذاك ثلاثة افلام أمريكية عرضت في بغداد هي فيلم (الشيخ) و(لص بغداد) و(باردة جميلة)”([11])، وهذا النسق الثقافي يدلنا على المحنة الكبرى التي وقعت فيها (الأنتليجنسيا) وهي كيفية التفريق بين الثقافة بوصفها نمطاً حضارياً وفعلاً تواصلياً مع الآخر وبين كونها أداة استعمارية الغرض منها الترويج لأيديولوجيّة ما.
2ـ تصوير محنة طبقة (الانتلجينسيا العراقيّة) في موقفها من الحرب العراقيّة ـ الإيرانيّة
تتقاطع أفكار ورؤى الطبقة المثقفة بطبيعة الحال مع الأيديولوجيات التي تحملها الطبقة السياسيّة، فالأولى تنظر إلى الآثار والكوارث والأمراض والعاهات الجسديّة التي عادة ما تخلفها كلُّ حرب، مهما كانت النتيجة، بينما ما ينتظره السياسيون من الحرب، هو رسم خرائط جديدة للبلاد، وتثبيت دعائم الحكم ومد شراكات مع الدول القريبة والبعيدة بناءً على شبكة المصالح، وواحدة من الحروب التي تُعد الأكثر عبثية في تاريخ المنطقة، هي الحرب العراقية الإيرانيّة التي امتدت لأكثر من ثماني سنوات، خسر فيها البلد الكثير من مصادره المالية والبشرية، واُستنزفت فيها الطاقات الخلّاقة أسوأ استخدام، فأصبح العراق الذي خرج من هذه الحرب مثقلاً بالديون والعقوبات الاقتصاديّة بعبعاً يهدد الجيران باستمرار، كانت محنة (الطبقة المثقفة) لا تقف في هذه الحرب عند تجنيدها في المعركة فقط، بل أصبح عليها لزاماً أن تكون من ضمن الجوقة الإعلاميّة لتزويق صورة الحرب البشعة، وإيهام الجماهير بضرورة الدفاع عن الأرض ضد الفرس، من طريق ضخ الدم في العروق العربيّة بوصف العراق هو حامي البوابة الشرقية للوطن الكبير، والمساهمة في بلورة الوعي الطبقي بقدسية هذه الحرب ومشروعيتها وزرع الأفكار الخادعة.
ولم يتوقف الروائي كثيراً عند موضوعة الحرب في روايته هذه، لكن يمكننا تلمس خيط من العلامات والإحالات الإشاريّة عليها، من طريق اتّهام بعض المثقفين أمثال (يحيى) من الذين يسكنون المناطق الحدودية مع إيران بتهمة التخابر أو التهريب مع هذه الدولة الممتدة على مدى آلاف الكيلو مترات، كذلك أشار الركابيّ إلى الآثار النفسيّة التي تركتها الحرب على أفراد الشعب. مع ذلك كان الروائي يريد العبور إلى المنطقة الأكثر تأثيراً من الحرب نفسها، وهي مرحلتا الحصار؛ لأنّه أذاب العلاقات الإنسانيّة، وساهم في تأجيج مكامن الشر عند المجتمع، والاحتلال حين انهارت منظومة الدولة الحاكمة بالكامل وحل المؤسسات الدفاعية فيه وإدخاله بحالة من الفوضى، احتاج البلد إلى سنوات من العمل المستمر كي يعاد بناء تلك المؤسسات الضرورية لقيام الحكومة، بينما كانت الحرب على بشاعتها ومرارة خساراتها لكنها أبقت الهيكل الحكومي قائماً بحسب رأي بعض المفكرين.
3ـ تصوير محنة طبقة (الانتليجنسيا العراقيّة) في ظروف الحصار الاقتصادي
لقد أعطى الروائي أهمية كبيرة لمرحلة الحصار الاقتصاديّ الذي فُرض على البلاد لأكثر من 13 عاماً، ويكمن سبب هذا الاهتمام لتدهور بنية القيم الأخلاقية للمجتمع العراقيّ وتفكّكه، وتدني مستويات الثقافة والتعليم إلى درجات منخفضة جداً، إضافة إلى ذلك ـ وهو الأخطرـ هو انخفاض المستوى المعيشي للفرد لاسيما طبقة الموظفين مما دفع أغلبهم إلى العمل بعد انتهاء العمل الوظيفيّ أو ترك العمل في الدوائر الحكوميّة والاتجاه إلى السوق، ولأنّ الروائي كان واحداً من شريحة الناس في هذه البلاد فنجده يسرد معاناة طبقته ويشير إلى الآثار السلبية التي انعكست على المؤسسة الثقافيّة وعلى الإنتاج الثقافيّ نفسه، لاسيما بعدما اتجه أغلب الأدباء إلى الهجرة للخارج من أجل البحث عن فرص عمل ملائمة، وأيضاً توقف أغلب النشاطات والفعاليات الثقافيّة والمهرجانات لفترة ليست بالقصيرة أبداً، أدت إلى سبات الحالة الفنية للبلاد أو اجترار الماضي بأساليب جديدة، وإعادة المستهلك منه من دون إضافة التطورات له؛ إذ إنّ الحصار عزل البلاد عن العالم الخارجيّ بشكل يكاد أن يكون تاماً، بينما بدأ هذا العالم بالتطور بقفزات علمية للأمام.
إنَّ الركابي كان يصوّر سنوات الحصار الضروس بواقعية رومانسية، محاولاً التغلب على تلك الصعوبات التي واجهت المثقف وطبقته وهزت كيانه، ويشرح المعاناة التي كان أبناء جيله يخوض فيها يومياً حاملين الهم المعرفيّ/الفكريّ على أكتافهم، فكانت هذه الرواية هي أشبه بسيرة لكاتبها يصف فيها ضيق ذات اليد والخناق الذي طوق حول عنق الطبقة التي ينتمي إليها، إذ يقول:
“كنت أعمد إلى إرسال ما أنتهي من قراءته إلى يحيى لغرض استنساخه لزبائنه من القراء؛ فمنذ فرض الحصار على العراق، في أعقاب حرب “عاصفة الصحراء”، عُدّت الكتب من ضمن (الكماليات) التي لا ضرورة لاستيرادها؛ فبات الحصول على الإصدارات الجديدة أمراً بالغ الصعوبة: يتم التعامل مع النسخ الشحيحة التي تتسرب إلى الداخل عبر الحدود مثل منشورات سرية يهرع أصحاب مكاتب الاستنساخ إلى تصويرها وتجليدها قبل بيعها إلى زبائنهم بأسعار مغرية”([12])، فأيُّة ثقافة ستبقى إذا كان هذا الحال هو المسيطر على الوضع العام، فتضاعفت المحنة على (طبقة الأنتليجنسيا) مرتين، الأولى في بحثها عن رزقها الشحيح جداً وسط الغلاء الفاحش وانخفاض قدرة الراتب الشرائيّة، والثانيّة بحثها عن مبتغاها الروحي وهو الكتاب الذي بدأ بالاضمحلال أيضاً بسبب المنع الحكوميّ له وانعدامه لارتفاع سعره؛ بل نجد (بدر الطارش) يسأل الراوي الذي كان يزوره في مدينة (الأسلاف) بين مدّة وأخرى، عن جدوى الكتابة والفائدة المرجوّة منها والمعاناة التي يتحملها في قدومه إلى هذه المدينة وسط ظروف مالية صعبة جداً، بينما ستكون عائلته ـ أي الكاتب ـ بحاجة إلى هذه النقود على قلتها أكثر من نشر رواية قد تكلفه ما لا يطيق، لكن الروائي يجيبه مبرّراً شغفه بالكتابة، فيقول على لسان (الطارش): “إنها لبطولة لا تحسد عليها وأنت تجاهد من أجل كتابة رواية أدرك جيداً أنها لن تخفف من معاناة أسرتك، هذا إن لم تزد من أعبائها وأنت تسعى لغرض نشرها.
وعاد يسألني بعد لحظات:
ـ هناك سؤال لا أستطيع الامتناع عن طرحه على نفسي كلما رأيت الدنيا لا تكاد تسعك مع انجاز كل رواية جديدة: ألم تتعب من تعاطي هذه المهنة التي تورث لك ولأسرتك ـ في مثل هذه السنين العجاف ـ غير الخسران والخيبة؟! فسألته بدوري:
ـ وهل تعبت أنت أو ندمت لأنك نذرت عمرك لأجل إنشاء متحف مدينة الأسلاف؟
ـ الأمر مختلف معي؛ فقد شرعت في عملي ذاك وثمة ملعقة ذهب ـ كما يقال ـ في فمي!
ـ محال .. لولا رغبتك في انجاز ذلك العمل الجبار لما قمت به لقاء كل ملاعق الذهب في الدنيا. وأردفت مستبقاً رده:
ـ ما من متعة تعادل متعة الخلق والإبداع، بل لا أكتمك أنني أسقط اليوم الذي لا أبدع في من روزنامة عمري”([13])، إن هذا الذي يكشف عنه الروائي كان هو اليومي والمعاش زمن الحصار، وبواسطة التحدي الذي اتخذه المثقف العراقيّ والإصرار تجاوز المحنة هذه وإن بقيت آثارها السلبية واضحة جداً، فيما عد ولغاية الآن، ولا يمكن أن تُمحى من الذاكرة الجمعيّة للشعب. وكانت مواقف المثقفين حول هذا الحصار تتسم بالواقعيّة الرومانسيّة محاولين الثبات من أجل تجاوز هذه الأزمة الصعبة وتحدّيها، بإقامة المهرجانات والندوات الشعريّة، إذ يرى بعض مقاد الثقافة العراقيّة بأنّ “الثقافة العربية في العراق ورغم هذا الحصار الشامل استطاعت ان تقف متحدية وتواصل نشاطها في خلق الإبداع ورفد الثقافة العرية بالجديد وفي مختلف مناحي الإبداع، وما مهرجان المربد هذا وعقده في احلك الظروف الا صورة مؤثرة وقوية لتحدي الشعب العراقي الحضاري للعدوان الامريكي وحلفائه، ورسالة مشرقة على ان الحياة التي يصنعها الشعب العربي في العراق لا يمكن ان يسحقها الحصار مهما طال”([14])، وهم بذلك يدفعون الشعب بمثقفيه بأن يتدرعوا بالأمل بغدٍ أكثر إشراقاً.
4ـ تصوير محنة (الانتليجنسيا العراقيّة) في موقفها من الاحتلال الأمريكي عام 2003
لم تكن طبقة (الأنتليجنسيا) بمنأى عن الأحداث الكبرى التي عصفت بالمجتمع العراقيّ، ولم تكن الحرب على العراق وسقوط بغداد المدوي عام 2003 حادثة عابرة مطلقاً؛ بل نجدها أي هذه الطبقة قد أنقسمت إلى فئتين رئيستين حول موقفها من هذا الموضوع، يحدّد هذه المواقف قرب كلَّ شريحة وبعدها عن المؤسسة الثقافيّة الحكوميّة، وأيضاً درجة استفادتها من هذه المؤسسات، بالمقابل مدى استعداد تلك المؤسسات ـ التي يديرها غالباً مثقفون متحزبون ـ للاحتفاء بطليعة (الأنتليجنسيا) وتقديم الرعايا لهم، مثل نشر أو إعادة نشر مؤلفاتهم، إعطاؤهم الحرية في التعبير عن الواقع والحياة في البلاد.
انقسمَ المثقفون في هذه الرواية إلى قسمين، الأول يعولون كثيراً على نهضة شاملة ستقوم بها (الأنتليجنسيا) بعد أن فتحت أميركا أبواب الحرية على مصراعيها، ثُمَّ رجوع العراق إلى المسار العلميّ العالميّ، وكما يصفه الإعلاميون (نهوض العملاق النائم) ونفض غبار الحروب عن رأسه، ولا يتم هذا النهوض ـ بحسب رأيهم ـ ما لم يكن هناك استعداد للقبول بالآخر والسير مع ركب الحضارة لا عكسه، والاستفادة قدر الإمكان من التجارب العالمّية لا سيما تلك الدول التي مرّت بالأزمات نفسها، وهؤلاء يرون بأنّ إسقاط النظام البعثيّ في العراق كان نتيجة حتمية لا مفرّ منها بسبب سياساته العدائية لجميع دول المنطقة بوصفه يمثل تهديداً مستمراً للجيران، وفي الوقت نفسه فهم يرون بأنّ الفوضى والخراب الذين صاحبا هذا التغيير الشامل كان ردّة فعل طبيعية ومتوقعة، وهم أيضاً لا يرون ضرراً بأن تكون هناك علاقة بين المستعمِر والمستعمَر لإعادة بناء البلاد، بينما يرى الفريق الآخر من المثقفين بأنّ إسقاط النظام بهذه الطريقة كان مفتاح شر على البلاد، إذ إنّهم يرون هذا النظام على مساوئه أفضل بكثير من الاحتلال والتدخلات الخارجيّة في شؤون البلاد والذهاب نحو تقسيمها، كما أنهم يؤيدون المقاومة بكافة أشكالها التي كانت تدّعي إخراج الأمريكان من البلاد بشتى الطرق ولو كانت على حساب القتل وانتشار العنف، وفي الحالتين فإنّ ممثلي هذه الطبقة (الأنتليجنسيا) قد سقط في مأزق المحنة، إذ لا يمكن التوفيق بين الموقفين أو رفضهما تماماً، فلا بدَّ من التوصل إلى موقف يقرب وجهات النظر بينهما ويضع الأسباب الموضوعية البعيدة عن التعصب الحزبيّ أو القوميّ، والنظر إلى المسألة بشمولية وروية، ويبدو بأنّ الروائي قد سجّل لنا مواقف ومسوغات كلِّ فريق، وقد عقد الصلة بذلك بين ما كان يكشفه له (بدر الطارش) من أحداث تعود للاحتلال الإنكليزيّ وبين ما عايشه هو من أحداث قُبيل وبعدَ الاحتلال الأمريكيّ، وكأن البلاد عاشت بين احتلالين على مدى قرن واحد، ويبدو بأنَّ الموقف من الاحتلال هو تابع للموقف من السلطة الحاكمة للبلاد قبل سقوط بغداد عام 2003.
لقد وقع المثقف العراقيّ في فخ الانتماء شاء أم أبى، ووجهت له أصابع الاتهام والتخوين والتخلّي عن رؤيته الفكريّة للوضع القائم آنذاك من قبل السلطة القمعية في البلاد، فإمّا أن يكون حزبيّا أو يكون خارج إطار المؤسسة الثقافيّة، التي تمارس بكل صلاحية عليه عامل الترغيب أو الترهيب والإقصاء والتهميش، ومثّل الروائي لهذا الأمر في نصه من طريق الاعتقال الذي طال بطل الرواية وراويها أيضا، وصديقه الحميم (يحيى) وما شاهدوه في السجن من فظائع تُرتكب بحق الشعب بسبب تشابه بين الأسماء أو لمح بعض العلامات غير المرضية عن شخص ما وتلفيق التهم الجاهزة لهم، فكانت التهمة للبطل وصديقه بأنّهما يلتقطان الصور في منطقة تُعد خطرة لأنها حدودية مع إيران وهي مدينة (الأسلاف) التي تساوي واقعياً مدينة (بدرة) التي ينتمي لها الراوي جسداً وروحاً، فالآراء التي أدلى بها الراوي بواسطة استدعاء ذكرياته بعد الحرب الأمريكيّة على العراقي تمثّل الصدى أو الانعكاس الحقيقي لما كان يعتمل في صدور المفكرين إبان تلك الفترة المعتمة، وأراد الروائي أنّ يضع المتلقي أمام تخيله للصورة التي سيكون عليها حاله حين يقوم من يحتل بلاده بتحريره من سجن السلطة الظالمة، ستضع (الأنتليجنسيا) بكل سهولة في موقف محرج جداً، وقد وظّف حادثة (السجن) للتعبير عن العراق بوصفه أصبح سجناً كبيراً للمثقفين وغير المثقفين أيضاً، وقيام الأمريكان بالدخول إلى هذه السجن الذي كان عبارة عن سرداب في أحد مقرات الحزب الحاكم هو تعبير عن الدخول إلى العراق بطبيعة الحال، فينقل الراوي لنا هذه المفارقة ليستبطن دلالاتها الثقافيّة، إذ يقول للنزلاء المسجونين معه، الذين سيكون لكلِّ واحد منهم شأنٌّ يختلف عن الآخرين بعد خروجهم إلى العالم مرةً أخرى، وتحولهم إلى ذوات جديدة قد استشرفها الروائي لنا بوضع علامات توحي بذلك في النص:
“علينا أن نتمسك بالصبر؛ إذ لا يعقل ألا يلفت هذا البيت ـ الذي شغله أحد الأجهزة الأمنية ـ الانتباه.
قلتها محاولاً في واقع الحال، طمأنة نفسي، فأيدني نحيب بقوله:
ـ من المؤكد أن الأمريكان ـ في حالة احتلالهم المدينة ـ سيتفقدون من فورهم الدوائر الحكومية واحدة واحدة.
فصاح يحيى ضاحكاً:
ـ إنها لمفارقة أن يتم تحريرنا على أيدي الأمريكيين!
ووجدتني أجفل على الرغم مني؛ فبقدر منطقية ذلك الكلام لكنني لم استطع أن أهضم فكرة أن أفاجأ بأمريكي هو الذي يفتح لي ذلك الباب الحديدي المقفل!
ـ ستكون مفارقة حقاً أن يتم تحريرنا على أيدي من يحتل بلادنا!”([15])
فالمحنة الكبرى بالنسبة للراوي الذي هو صوت الروائي وصورته الحقيقيّة بكيفية تقبل الأمر، وكيف سيتم التعامل مع هذا الأجنبي (المساعد/المعارض) في الوقت نفسه، بل كيف ستتم الكتابة عنه بوصفه محتلاً أم منقذاً للشعب العراقيّ، وكيف ستؤثر هذه الازدواجيّة في كتابات المفكرين العراقيين لما (بعد الكولنيالية)؟
والموقف الآخر للمثقفين العراقيين من الاحتلال تمثّل بـ(وجهة نظر) استعملها الروائي من أجل تسليط الضوء على هذا الموقف أكثر؛ إذ بدأ يشعر بالإهانة الحقيقيّة حين تحوّل الجيش العراقيّ الذي جعله النظام الفاشي ألعوبة بيده إلى مجموعة من الركام محطّمة وسط شوارع بغداد، وستكون النتيجة الحتمية هي القبول بالنتائج مادامت مقدِّماته قد أوحت بذلك، والرضوخ للواقع الذي فُرض على العراقيين، لكن بشرط عدم الاستسلام، بل البدء على إعادة الروح وبثّها من أجل النهوض به مُجدّداً بمساعدة الآخرين، فيصف الروائي بعض ما شاهده وهو عائداً إلى منزله من مدينته الأثيرة (الأسلاف)؛ إذ يعلّق على أفكار أحد أصدقائه المنبهرين بالديموقراطيّة الأمريكيّة الجديدة:
” لقد تخطت العولمة تلك الأفكار البالية عن الوكن والاستقلال؛ ذلك لأنها كانت المسوغ الوحيد لاستمرار النظم الشمولية التي لم تعد تطاق.
ـ لم أجبه مكتفياً بالابتسام تاركاً إياه ينظّر لأفكاره بالطريقة التي لم يقنعني بها يوماً ما؛ فكراهية النظام السابق ـ وهذا أمر اشاركه فيه ـ لا تعني الترحيب بالاحتلال”([16]) .
5ـ تصوير محنة (الانتليجنسيا العراقيّة) في أثناء تغييبها عن المشهد
على الرغم من أنَّ الطبقة المثقفة قد دفعت الكثير من التضحيات في ظل الوضع المُربك، الذي غزا المشهد العراقي بشكل عام، وتوقف أكثر الأنشطة الحيويّة لها، وانتشار الدمار والقتل العشوائي، إلّا أنّها بقيت تتخيل الشعور بالأمل أحياناً، وكان هذا من طريق الترويج بأنَّ الوضع في الشارع العراقيّ بعد الاحتلال ليس ـ تماماً ـ كما تصوره وسائل الإعلام العربيّة والغربيّة، بل وحتى المحليّة منها، وبدأت هذه الطبقة (الأنتليجنسيا) بتحدي قطع الطرق أو الجسور وفرض حظر التجوال أحياناً، وذلك التحدي بإقامة مهرجان ثقافيّ أو معرض للرسم أو ندوة فكريّة أو جلسة شعريّة، بينما كان (شارع المتنبي) هو المكان (اليوتيوبي) الأثير لدى الأكثريّة من أبناء هذه الطبقة، بينما مثَّل التحدي الآخر، والاكثر أهمية بالنسبة للأول، هو البقاء في البلاد وعدم التفكير بالهجرة إلى خارجه، إيماناً منها بعدم تمكين المحتل أو الجماعات التكفيريّة المرتبطة بالنظام السابق من تطبيق مؤامرتهم بإفراغ البلاد من الكفاءات والعقول التي كانت بالأصل مضطهدة من قبل النظام البعثيّ، فواجهت هذه الطبقة تلك الظروف التي توصف بالسرياليّة بنوع من الرومانسيّة، أو(الكوميديا السوداء) ، فكانت تعرف جيداً بأنّ الأمور باتت تفلت من يد الحكومة المؤقتة وسلطة الائتلاف أمنياً، لكنها كانت تشجع الناس على العودة إلى مزاولة أعمالهم والمواظبة على الدوام في دوائر الدولة وتقديم الخدمات لإثبات وطنيتهم بعدما تم تغييبها لسنوات، ويسوق لنا الروائي بعض النماذج في سيرته هذه على شكل توقفات هنا وهناك، جعلها أشبه بمحطات تذكّر لتلك اللحظات الصعبة التي كان فيها بمواجهة الموت وجهاً لوجه، لاسيما وإنّه يعيش وسط العاصمة بغداد التي أصبحت هدفاً أولاً للعمليات الإرهابيّة، وهذا هو بؤرة السرد لبنية الرواية التي هي بمثابة إدانة للتطرف وانبعاث السلفية الجهاديّة، فيقول الراوي وهو في معرض حديثه عن مشاهد يوميّة ستتحول فيما بعد إلى نسق ثقافي مهيمن على الأوضاع المتردية جداً التي تنبئ بأنّ القادم سيكون سيئاً للغاية:
“بيد أن المفارقة أن هذا التطور حصل في أعقاب مشهد (سريالي) لم نحسب آنذاك أنه سيكون أشبه بنذير لأكثر الحوادث عنفاً ودمويّة: مشهد قطيع من الماعز ـ من تلك القطعان التي اعتاد رعاتها الكسالى تركها تسرح على أطراف البيوت ـ وقد أُخفيت أعضاؤها التناسلية وأثداؤها الطافحة باللبن بملابس داخلية بمختلف الألوان ـ يطغى عليها اللونان الأحمر والوردي ـ خيطت خصيصاً لذلك الغرض”([17])، وهذا يعني بأنّ مواجهة طبقة (الأنتليجنسيا) ستكون صعبة، وهم سوف يوجهون فكراً رجعياً يتعبّد بظاهر النصوص الدينية ويتوقف عند التاريخ من دون أن يتزحزح تبعاً لتطور الحياة واختلاف البنية الثقافية بين الحضارات.
وبالرغم من أنّ أزمة (المثقف الانتهازي) كانت موجودة في الأصل داخل هذه الشريحة (الأنتليجنسيا العراقيّة) بدءاً من زمن تكوّنها إلّا إنها ازدادت بعد عام 2003 بشكل مثير، وليس هذا بسبب عدالة النظام السابق مطلقاً، وإنما يرجع بالأصل إلى بسبب التنافس الحزبيّ حتى بين المثقفين على تسنم المسؤولية الثقافيّة، مما أدى إلى انعدام المعايير في اختيار الكفوء وجعله بالمكان المناسب، فكانت الوصولية معتمدة على مدى قرابته من رأس النظام أولاً، ودرجة انتمائه الحزبيّة، بينما بعد التغيير سقطت أقنعة هؤلاء وانكشف زيفهم الثقافيّ، فيشير الروائي لهذه الظاهرة بواسطة تكرار حضور نمطي معين لهذا المثقف، من طريق رسم هيئته وملامحه الشخصيّة التركيز على نسق الجمل والأفعال التي يستعملها باستمرار التي يمثّل تداولها تقلباته من فكر لآخر، وعلى الرغم من أنّ هؤلاء كانوا أبواقاً للسلطة السابقة، إلّا أنّ حضورهم مازال شبه موجود داخل المشهد الثقافيّ وأحياناً بقوّة، والسبب في ذلك يعود إلى تغير المواقف مع بوصلة المصلحة الشخصيّة، ويطلق الركابي على هذا الصنف الفارغ من المثقفين (الغندور) التي تعني من جملة ما تعنيه التبختر والخيلاء وهي من صفات طائر الطاووس في الثقافات الشعبيّة التي تصفه بالمغرور، وتفوقه بالجمال فقط على سائر الطيور، وكأنّ الروائي يضع معادلة بين حال المثقفين في العراق وداعمي الحركات التقدّمية الذين يمتهن أغلبهم مهنة بيع الكتب (الكتبيين) وبين المثقف العاطل عن العمل أو العالة الثقافيّة على المجتمع، إذ يمارس هذا النوع عملاً فكريّاً ساذجاً أو (بطالة مقنّعة) كما يسميها الاقتصاديون، وبالمقابل فهو يتسلّم مبالغ نقدية كبيرة من خزينة الدولة، ورعاية واهتمام من المؤسسة الثقافيّة في داخل البلاد وخارجه، وهذه الظاهرة تشكّل حالة سلبية وفلسفة إحباطية لطبقة (الأنتليجنسيا) ومعززة لنكوص دور المثقف، ويرى الروائي الذي هو بطبيعة الحال والأصل (راوٍ ضمني) بأنّ أمثال هذا المثقف غير العضوي الذي لا ينتمي لمشاكل المجتمع وتطلعات نخبه المثقفة، بل إنّ الحالة الثقافيّة التي يمرُّ بها مجرد إكسسوارات لا أكثر، وقد تفسخت هذه الشخصيّة الازدواجية في البنية الثقافية كثيراً وأصبحت وبالاً على (الأنتليجنسيا) وتكوينها أكثر منها رصيداً فكرياً سيغني العالم برؤاه وفلسفته، إذ يقول الروائي على لسان أحد أصدقائه المتهكمين وهو يحاول إغرائه بالقدوم لشارع المتنبي يوم الجمعة:
“وهناك صديقك (الغندور) بهجت لطيف؛ فهو دائم السؤال عنك: لا يكاد يتفقّد حلقتنا بحثاً عنك ، مفعاً أنوفنا برائحة أحد العطور المستوردة، حتى يغادرنا ليواصل تجواله في المقهى متنقلاً من تخت إلى آخر عارضاً للأنظار في كل مرة بزة جديدة!”([18])
وقد يكون تركيز الروائي على مباهج الحياة التي تتمسك بها شخصيّة (الغندور) هي بسبب الانتماء الطبقي للمثقفين العراقيين ـ وربّما العرب أيضاً ـ الذين ينحدرون من الطبقات المهمشة في المجتمع أو الطبقة العاملة (طبقة البورتالية) وفي أندر الحالات من (الطبقة البرجوازية الوسطى) ، بينما هذا النموذج الذي يتوقف عنده الروائي كان ممثلاً للطبقة العليا (الأرستقراطية) الفارغة تماماً من كل فكر وأيديولوجية، وهي فقط تتباهى بالمظهر الخارجي، وهذا ما عالجته الرواية أو حاولت ذلك في بعض بنياتها السرديّة.
وتشكل النكبة الكبرى التي مُنيت بها طبقة (الأنتليجنسيا) في العراق التي لم تمرُّ بمثلها طيلة العقود الماضية، هي تفجير شارع الثقافة الفريد من نوعه في الدول العربيّة (شارع المتنبي) ، إذ كانت تُعد رسالة بليغة جداً من قبل الإرهابيين بأنّ الثقافة والمثقفين هم عدو للتنظيمات المتشدّدة ما داموا لا ينتمون إليها، وقد رسم الروائي صورة واضحة جداً عن هذه المأساة من طريق انعكاسات هذا التفجير على الوضع الثقافيّ في البلاد لسنوات عديدة تلت الحادث، إذ يقول:
“وهكذا، التقينا، في اليوم التالي، قرب (القشلة) العثمانية حيث الريح كانت تطيّر نتف الأوراق المحترقة من حولنا، مغطية أرض الشارع بالرماد، وثمة رائحة حريق خانقة تكاد تكتم الأنفاس تثقل الهواء. لم نكد نصل إلى مقهى (الشابندر) حتى وقفنا مصعوقين، نتأمل بذهول ما خلفه الانفجار المروع من دمار على امتداد الشارع”([19])، فلم يكن هذا التفجير شيئاً عادياً أبداً، بل كان هو بمثابة الرصاصة التي اُطلقت على الحيوية والديمومة التي كان يضجُّ بها هذا المكان بوصفه ملتقى لكل النخب، وهذا يعني بأنّ الاستهداف كان موجهاً لهذه النخب والكفاءات والطاقات الخلّاقة وليس للكتب فقط، وهذا الفعل الهمجي ليس بالجديد تماماً ـ مع الفارق الزمني والأسباب ـ على روّاد الفكر، فإنّه شبيه بما فعله المغول ببغداد.
6 ـ تصوير محنة (الانتليجنسيا العراقية) في أزمة الطائفيّة
على الرغم من تقاطع الآراء حول بناء الدولة الجديدة بعد عام 2003 في العراق، وفق مفاهيم جديدة ونظم قد لا تروق للبعض، إلّا أنَّ غالبية طبقة المثقفين العراقيين (الأنتليجنسيا) كانوا إيجابيين في التعاطي مع الظرف الأمني، من طريق الإيمان بضرورة تقوية القانون وبسط ظله، متيقنين بأنّ ذلك سيمنحهم الحرية التي ناظل أغلبهم من أجلها، وقد ساهم بعض المثقفين ـ لاسيما من كان يعمل منهم في مجال الصحافة والإعلام ـ في محاولة لخلق وعي قادر في أحيان كثيرة بث فكرة جوهريّة ترى بأنّه لا طائل من الاختلافات الفرعيّة، والقبول بالآخر الدينيّ والقوميّ والمناطقيّ بوصفه شريكاً أساسياً في البلاد وليس أقليات طارئة على تاريخه وحضارته، من هنا كان بعض هؤلاء حريصين على تبني حركة إحياء الجانب المعنوي الضامر في جسد الجماهير من أجل مواجهة مشكلة الأمن التي بدأت بالاستفحال على المشاكل الأخرى، ونجد صدى هذه الأفكار بارزاً جداً في نص الرواية ـ عينة الدراسة ـ مؤكداً الركابيّ هذه الخاصية التي تمسك بها الكثير من المثقفين، واستشرافاً للمستقبل، والملاحظ في ذلك كلّه ينطلق من حرصه في تصوير الأشياء بواقعيتها :
“هكذا استعدت تلك الذكريات على امتداد الطريق، حتى إذا ما وصلنا إلى شارع المتنبي ركن بهجت سيارته قرب مقهى (الشابندر)، لنشرع في القيام بالجولة التقليدية التي تسبق عادة الجلوس في المقهى؛ فالوقت لا يزال مبكراً على قدوم الأصدقاء والمعارف.
وبدا الشارع كما عهدته، يضج بالاستعدادات التي يقوم بها الباعة في عرض بضاعتهم على الأرصفة: بفرش كل واحد منهم كتبه في مكانه المعهود إلى جوار زميل له قد يكون سبقه إلى إنجاز المهمة”([20]).
وبذلك يرسم الروائي صورة دقيقة وواضحة جداً عن هذا المكان الثقافي الذي ولدت على أرضه نظريات علمية وكتب نقدية وروايات وقصائد وعنوانات متنوعة، فكأنه (الروائي) دليل سياحي يقدّم إعلاناً عن شارع الثقافة الوحيد ـ تقريباً ـ عند العرب في العصر الحديث، يجتمع فيه المثقفون في موعد معلوم من دون تحديد مسبق له، بل أصبح طقساً أسبوعياً، وبذلك يتقارب هذا (شارع الرشيد والمتنبي) مع (سوق عكاظ) من حيث الموعد والموضوعة التي يجتمع من أجلها المجتمعون.
7ـ تصوير محنة (الانتلجينسيا العراقيّة) في قضية أدباء الخارج والداخل
لم يكن هناك أحد من طبقة (الأنتليجنسيا العراقيّة) بعيداً عن نار السلطة الديكتاتوريّة، سواءً أكان عائشاً داخل البلاد أم خارجها، باستثناء من كان منهم إلى جانب السلطة ـ طبعاًـ ، كان المنتمون لهذه الطبقة يعانون مرارة شظف العيش، وانعدام الحرية، والخوف من المجهول لكنهم بقوا بالرغم من ذلك صامدين بوجه النظام وأخذوا على عاتقهم حمل الهم الثقافيّ بما متوفر من امكانات بسيطة والاعتماد على الجهود الذاتية لإدامة الحركة الثقافيّة في البلاد مستغلين بعض الفرص على قلتها التي تتيحها السلطة لعقد الاحتفالات والندوات تحت أنظار الرقيب ـ لاسيما بعد أحداث التسعينات لإسقاط النظام ـ ، بينما كان المثقف العراقيّ خارج البلاد حاملاً حقائبه باستمرار بحثاً عن المكان الآمن، وبين هذين المستويين في داخل طبقة (الأنتليجنسيا) العراقيّة يظهر الشد والجذب، وتظهر الإيحاءات بأنّهم على إطلاع تام على ما يدور في العالم وما يُطرح من نظريات علميّة سواءً في مجال العلوم الصرفة أم في مجال الإنسانيات والنقد والحداثة والفكر واللغات والحضارة والفن بمختلف أجناسه، والتماس المباشر مع الثقافات والحضارات الإنسانيّة والانفتاح عليها.
إنّ الوهم الخفي الذي يلف بعض الأفكار هو النقطة الرئيسة للاختلاف بين شريحتي الداخل والخارج من هذه الطبقة، متناسين بأنّ كلَّ شريحة منهما كان له دور كبير في تطوير الفكر والثقافة والفنون والعلوم في البلاد، انطلاقاً من الدافع الذي يقف وراء حرص طبقة (الأنتليجنسيا) على صيانة المكتسبات، والسعي من أجل إنجازات جديدة فإنّ “أغلب المثقفين في البلاد المتخلفة أو النامية، التي خضعت لثقافة أجنبية ، عادة ما يلمون جميع الصفات التي عرضها عليهم التاريخ الذي كونهم، فإذا هم يضعون أنفسهم راساً في أفق عالمي”([21])
إنّ المشكلة الحقيقية في هذه المحنة التي تعرضت لها طبقة (الأنتليجنسيا العراقيّة) تكمن في أنّ أغلب أدباء الخارج كانوا معارضين للسلطة السابقة، وهم معارضون بعد تغييره وإزالته، وظل نقدهم للحالة العراقيّة بعيداً عن الوقع اليوميّ والمعاش، بينما كان المثقفون في الداخل أغلبهم معارضاً للسلطة السابقة ومشاركاً في السلطة بعد التغيير ومشاركاً وفاعلاً فيها، وهذا ما فضحه الروائي بسرده الأحداث بصورة تقابليّة مع رؤى الشخصيّات التي اختارها من داخل هذه الطبقة التي تمثل مثقفي الداخل وهم يغمزون أصحاب الخارج وينعتونهم بالعمالة للمحتل الأجنبي وتبعيتهم له، وإنهم جاءوا معه ودخلوا أرض الوطن بدباباته :
” إنهم ثملون بانتصار سادتهم الأمريكان: يرمقون ما حولهم بنظرات متسلطة في انتظار أن ندنو منهم ـ نحن أدباء الداخل ـ بذلّة مقدمين لهم فروض الطاعة والولاء بحكم كونهم يهيئون أنفسهم لقيادة الثقافة (العولمة) في هذا الوطن المنحوس!
(…)
ـ صاح هاني الأحمد(…)
ـ لا شأن لمناضلي فنادق (الخمسة نجوم) بالقيادة مادام دورهم لم يتخط (القوادة) للأمريكان!”([22]).
وينسحب هذا الموقف على طبيعة التعامل مع المشروع الثقافي الجديد الذي تتبناه طبقة أدباء الخارج، وهو إعادة بناء المؤسسة الثقافيّة في ضوء الحداثة، بينما يلاقي اعتراضاً من الأطراف الأخرى من المثقفين الذين بقوا في الإطار التقليديّ، بينما يكون مثقفو الخارج معارضين في الوقت نفسه للعقليّة المتحجرة والرجعيّة ثقافياً التي تعكف على البنى المهيمنة، وقد كان من أكثر الأمور الجدليّة بين الطرفين، هو مسألة مزدوجي الجنسية التي تقف حائلاً ـ عند بعض المثقفين ـ دون الإحساس بالوطن، وإنّها سببت التشظي في العودة إلى أحضانه مرةً ثانية.
إنّ المعالجة التي لجأ إليها الروائي في عرض حجج وانفعالات ومبرّرات كل طرف من المثقفين، يوحي بأنّ هذه الأزمة لم تكن مفتعلة وإنّما هي حقيقيّة وخطيرة جداً بسبب تبعاتها على الثقافة وعلى المشتغلين في حقل الفكر، كما أنّها تبدد الجهود في صياغة كيان معرفيّ يأخذ على عاتقه تصحيح مسار الثقافة الذي شوهته الحروب والنكسات والنكبات السياسيّة تباعاً؛ لذلك نشعر بأنَّ الروائي وكأنّه يجس نبض الشارع وموقفه من (مثقفي الداخل والخارج) بنكهة تحمل السخرية المرّة من التطرف في المواقف والتعميم والتسويف والتخوين متناسين بأنّ أولئك الذين عاشوا مشردين كانوا هم لسان الشعب في نقل الصورة الحقيقيّة لمأساته داخل أروقة الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانيّة، وإنّ (مثقفي الداخل) كانوا أيضاً مرحبين بتحرير العراق من السلطة البعثيّة:
“وسرعان ما أنبرى له أحد الجالسين معترضاً، مؤكداً له أنه من الإجحاف أن يوسم أدباء الخارج دون استثناء بهذه النعوت، فهم لا يخلون من وطنيين يدركون أبعاد المؤامرة الدولية التي لم تستهدف السلطة السابقة فحسب قدر استهدافها العراق كله!
وعلى الفور ارتفعت موجة تعليقات الجالسين: فبقدر ما كان مستاؤون مما حصل يحاولون الإفصاح عن مواقفهم بشيء من الحيطة والحذر، كان المرحبون بالاحتلال ـ وكانوا يسمونه تحريراً ! ـ يسوغون موقفهم زاعمين أنه لم يكن هناك مفر من الاستعانة بالأمريكان يعدما ورط النظام السابق، بتهوره ورعونته، البلاد بإدخالها تحت البند السابع!”([23]).
8ـ تصوير محنة (الانتلجينسيا العراقيّة) من سلطة الرقابة والرقيب
عانى أفراد (طبقة الأنتليجنسيا) في العراق منذ عقد الخمسينيات من القرن العشرين حتى وصول حزب البعث إلى السلطة من مشكلة (الرقابة الصارمة) حول المطبوعات والمنشورات بمختلف أنواعها، ففُرض عليهم تشديدٌ كبيرٌ حول مسألة التأليف والكتابة، لمعرفة هذه السلطة بمدى تأثير الأفكار على الجمهور، ومدى استجابة هذا الجمهور إلى الوافد منها، وقد انتقلت هذه الرقابة أول الأمر من التشدد على الصحافة وتقييد حرياتها، الأمر الذي أدى إلى غلق صحف كاملة وإيداع أصحابها السجن، بحجة التشهير والقذف، أو مس السيادة الملكية أو شخصيّة الزعيم والقائد، أو بسبب قصيدة قيلت في مناسبة ما، فكان السجن والمتابعة والعقوبات المعنوية تُلاحق قائلها سنوات، وقد بلغت الأمور مداها في الثمانينات ثُمَّ التسعينات، إذ راح ضحية مقال واحد عدد من الصحفيين بسبب سوء تفسير (سلطة الرقيب) ، وخير مثال على ذلك ما فعله النظام مع الكاتب عزيز السيد جاسم الذي أذاب جسده بأحواض التيزاب؛ لأنه نشر مقالاً يكشف فيه عن الأسباب التي أدت إلى ثورة أبناء الجنوب في عام 1991، وهكذا دواليك استمر النظام السابق في تكميم الأفواه وغلقها إلى الأبد إذا اقتضى الأمر. واضطر بعض الكتاب إلى تغيير عنوانات كتبهم وقصصهم أو رواياتهم خوفاً من (مقص الرقيب) الذي يحول دون نشر تلك الأعمال وركنها في أدراج النسيان إلى الأبد، ولا تقتصر هذه (الرقابة) على السياسية فقط، فقد تكون تابوهات اجتماعيّة أو دينيّة، فقد يكون العنوان مصدر قلق للرقابة فضلاً عن النصوص([24]) .
يقف الركابيّ في روايته (ليلُ علي بابا الحزين) على هذه المحنة، ويلمح إلى تداعياتها على المثقفين العرب ومنهم العراقيون طبعاً، فقد لاحقه (الرقيب الأمني) المتلبس بهندام (الاجتماعي) الحريص على الوطن وسمعة القبيلة، من طريق اتهامه بأنّه يزدري مدينة (الأسلاف) في كتاباته الروائية، وإنّه سبب رئيس في التجنّي على هذه المدينة التي ولد فيها وأكل من خيراتها، وعلى أبنائها؛ لأنهم مختلفون معه أيديولوجياً، ويركّز هذا الرقيب على رواية (سابع أيام الخلق) وهي إحدى ثلاثيّة (الراووق) التي كان الراوي قد تناول فيها مدينة الأسلاف بوصفها مكاناً أثيراً حصلت عليه الكثير من الأحداث التي وثّقها بمخطوطات متوارثة عبر الأجيال تمتد من الاحتلال العثمانيّ للوطن العربيّ ومن ضمنه العراق إلى بداية النهضة نهاية العهد الملكي وبداية الحكم الجمهوريّ في البلاد، ويعتقد هنا (الرقيب/رياض) بأنّ هذه الرواية هي أكبر تجني على أبناء البلدة؛ لهذا يحذّر يحيى صديقه الرواي والروائي، منبهاً له خطورة الوضع في حال استمر(الرقيب /رياض) بتعامله مع هذا المثقف بهذه الطريقة التي ستوصله إلى حبل المشنقة بتهمة التجاسر على المعتقدات والأصول، ويختلط هنا الواقعي مع الخيال الفني في هذا النص من طريق ذكر اسم الرواية الحقيقيّ، فيكون حضور (الميتانص) واضحًا وقويًا جدًا من دون أن يكون هناك خلطًا مشينًا بين العالمين، بل على العكس يكون موفقاً بسبب حكمة ودربة وخبرة الكاتب وثراء تجربته السرديّة، فينص الراوي على أنّ هذا (الرقيب) الذي كان يتربص به كان يومًا ما أحد العوامل المساعدة على كتابة هذه الرواية التي بين أيدينا، حين كان يعمل سكرتيرًا مطيعًا وأمينًا (مؤقتًا) عند عمه (بدر فرهود الطارش) أحد ساردي الرواية ومرجعيات مادتها الرئيسة، لكنّه كشف عن أنيابه بعد موت العم العجوز وتنصيبه مديراً للمتحف والمكتبة التي ورثها، وانتماؤه لجهات أمنيّة وحزبيّة تابعة للنظام:
“وأنا أتصفح تلك النسخة، عما دفعه إلى تصويرها؟ فأوضح أن سبب ذلك يعود لكون أحد أقسام كلية الآداب في جامعة الأسلاف قرر روايتي تلك على طلبته ضمن منهاجه الدراسي في إحدى السنوات، فازداد الإقبال على الرواية، فوجدها فرصة سانحة لتصوير نسخته الشخصية المتوجة بإهدائي
وعلق ضاحكاً وسط نفثتي دخان:
ـ وبذلك أسهمت في ذيوع شهرة روايتك بين مثقفي الأسلاف؛ فقد وجدوا سجلاً حافلاً لتاريخ مدينتهم ولأساطيرها ومأثوراتها وصراعاتها العشائرية و…
ـ …وشاء سوء حظك أن (رياض) كان أحد هؤلاء المثقفين!
وتأملني لحظات أن يضيف موضحاً:
ـ … فقد تعامل معها لا كنص إبداعي، بل كوثيقة اتهام تقتضي التدقيق في كل ما ورد فيها!
والحق أنني كنت أُدرك مبلغ استياء رياض من تلك الرواية، فما من مرة تطرّقنا، في لقاءاتنا في بيت بدر، إلى ذكرها إلا أفصح عن ذلك الاستياء بحذر دون أن يجرؤ على فضح حقيقة مشاعره نحوها، حتى أنه تساءل، مرة، بشيء من التردد، إن كان يحق لمن يؤلف رواية لقلب ماضي الناس على هواه أن يدرك أنه بذلك يوقع نفسه تحت”([25]) .
ولم يقف الروائي عند هذه النقطة التي تبيّن مدى الحيف و القهر الذي وقع على هذه الطبقة؛ بل اتخذ من بعض الشخصيّات نماذج حيّة وشاهدة على فداحة التعصب والانغلاق وعدم الاستماع للآراء الأخرى أو الوقوف على مدياتها وأفكارها، والعمل على تهميشها وإقصائها من المشهد الثقافيّ العراقيّ، فيختار مثلاً لذلك (غافل النجار) الذي كان أحد ضحايا (الرقيب السياسيّ والفكريّ) قبل وبعد التغيير عام 2003، وهو مفكر وصاحب مشروع فلسفي لم يكتب له النجاح، بسبب (مقص الرقيب) الذي شارك فيه هذه المرّة المثقف نفسه، بوصفه ناقداً نغوصياً ناقماً على المشاريع الفكريّة، وهذا يعود أحياناً إلى تدهور العلاقات الشخصيّة وتأثيرها على وجهات النظر التي من المفترض أن تكون أكثر استقلالاً وجدية.
“ولعل أطرف الشخصيات تمثّل بغافل النجار؛ فعلى النقيض مما عرف عن كونه مجنوناً ـ فقد حمل هذه الوصمة على أثر إيداعه مدة من الزمن مستشفى (الشماعية) للأمراض العقلية ـ كان مثال الرزانة والعقل؛ لا ينحرف قيد أنملة عما تقتضيه الأعراف والأصول: يقدم عادة حليق الذقن، مضمخاً برائحة عطرة، يبادر بإلقاء التحية دون أن ينسى ترديد (الله بالخير) المعهودة حال جلوسك، حتى إذا مرت لحظات دنا منك على استحياء ليدس في كفك ـ أو أحياناً في جيبك ـ ورقة مطوية وهو يهمس لك بصوت خفيض:
ـ تفضل يا أستاذ …اقرأ كيف أنني…
وبقية كلامه تتلخص (…) بمجموعة من (أساتذة) يحاربونه بسبب حسدهم من (مشروعه الفلسفي) المتمثل بـ(جمهورية غافل النجار)”([26])، وهكذا فإن (متلازمة الرقيب) بكل أشكاله تبقى الهاجس المخيف لكلِّ المثقفين.
ولا يسلم من هذا الرقيب وسلطته الأمنيّة المطلقة والمتسلطة على رقاب الناس حتى بائعو الكتب، إذ إنَّ الخوف كان يحيط بهم وهم يسعون لتوفير بعض العنوانات المهمة لزبائنهم، وكانت هذه المهمة قد تكلفهم قضاء أياماً أو شهوراً داخل أروقة التوقيف والتحقيق، ويصف الروائي غير العليم هذه الحالة وتفاقمها، واستمرارها حتى بعد زوال النظام الشمولي، الذي كان يمنع تداول الكتب السياسية او حتى التي فيها ملمح يعتقد بأنه سياسيّ، كي يمنع المثقفين من التواصل مع الخارج المتآمرـ بحسب رأي النظام ـ على الداخل، وعد تبصير الطبقة الواعية بما يجري في العالم مخافة انتقاله الى أبناء الطبقة وتأجيج الوضع وتعكير صفو المسؤولين أو إشغالهم وزعزعة الأمن الموهوم، فينقلنا الروائي مرة أخرى إلى الأجواء المشحونة بالتعاطف بين العاملين في حقل الثقافة والمثاقفة في البلاد، ففي جولات الروائي بين أروقة (شارع المتنبي) يصادف غالباً الباعة القدماء وهم جزء من تاريخ هذا الشارع العتيد، بل كأنهم إحدى أعمدته أو أرصفته، ذائبين في ناره وثلجه :
” ولم أنس تفقّد أحوال بعض أصدقائي من باعة كتب الأرصفة حيث استقبلني (عبد شندي) بجديته الملازمة له؛ فانزوى بي جانباً كمن هو بصدد أن يسرّ لي بأمر بالغ الخطورة:
ـ الكتب التي سبق لك أن أوصيتني عليها يا استاذ اقتنيتها لك وبأسعار زهيدة”([27]).
ولأنّ هذه الرواية تُعد بمثابة إدانة واضحة لكلِّ ما أصاب المنتمين لهذه الشريحة، والاغتراب الذي عايشوه عقوداً من الزمن، وخسروا نتيجة ذلك الكثير من المبادئ والأرواح والوظائف والأعمال، نشعر بأنَّ الروائي قد خط لنفسه فيها خطاً خاصاً به، يتمثّل بالنزوع نحو البحث عن البدائل، واتخاذ سبيل المراوغة في الوصول أو الإيصال للكم الهائل من المعلومات:
“كان يحيى ينشغل بتدخين سجائره تاركاً إياي أنصرف إلى تقليب كتبه المستنسخة والمرتبة على الرفوف، باحثاً عن عنوان كتاب قد يغريني بقراءته، بيد أن النتيجة تكون عادة مخيبة لي؛ ذلك لأن مصدر غالبية تلك الكتب لم يكن سواي؛ فبفضل عملي محرراً في إحدى المجلات الثقافية كانت تسنح لي فرصة الحصول على كتب جديدة، فكنت أعمد إلى إرسال ما أنتهي من قراءته إلى يحيى لغرض استنساخه لزبائنه من القراء”([28]).
إنّ مكاشفة الروائي للمتلقي جاءت بما يؤمّن العلاقة بينهما، وفق نظام تبادل الأماكن أو الأدوار، بوصف الكاتب جزءًا من هذا الوطن، والمتلقي يقع على ضفاف هذا الوطن نفسه المسلوب الإرادة، والذي هو بأمس الحاجة إلى صدمة ثقافيّة حرّة تُعيد له مكانته الأوليّة وقيمته الصحيحة، فالركابيّ يقول: “لا أومن بالرواية الموعظة، فالمطلوب من الروائي أن يكون صادقا في طرح أفكاره وألا يؤدلج نصه لجهة ما على حساب أخرى، ولا سيما في وضع ملتبس مثل وضع العراق”([29])؛ إذ إنَّ الروائي من طريق روايته هذه وغيرها من رواياته الأخر يحاول ترميم العراق المنهار حاليًا وإعادة بنائه من جديد، وفق الرؤية والأفكار الحديثة لا الرجعيّة المتخلّفة، وهذه هي إحدى تطلعات الطبقة (الأنتليجنسيا) في العراق التي ما زالت تحلم بتطبيقها لتساهم بخلق مجتمع حقيقيّ على غرار ما مطروح الآن في العالم من نماذج عالية، وقد يكون الركابيّ أراد من روايته هذه التأكيد على أنّه يبحث عن تأسيس نوع من الكتابة يقوم على بث آرائه النقديّة من طريق السرد حول بعض الظواهر الأدبيّة والاجتماعيّة والإنسانيّة من دون إظهار الرغبة في تبنّي أحد هذه الآراء أو التشجيع عليها، لذلك نجده محاولاً التستر خلف قناع السارد العليم او السارد العادي مقتنصاً الفرص كي يشبع مادته السرديّة بالوثائق والنصوص والعنوانات التي يستعيرها من مرجعيّات عديدة، ويخلطها مع مزيج من الخيال لينتج لنا بالتالي نصًّا روائيًا لا يداخله الشك بأنّه جاء بعد رسم وتخطيط وجهد جهيد ومعاناة تشابه ألم الولادة عند المرأة.
خاتمة البحث
بعدَ استقصاء عدد من (المحن) التي تعرّض لها المثقفون العراقيون أو ما يطلق عليها (طبقة الأنتليجنسيا العراقيّة) في البلاد، والصور التي تجسِّدت فيها تلك المحن في رواية (ليلُ علي بابا الحزين) يمكننا أن نقول بأننا انتهينا إلى ما يأتي:
- تكاد لا تخلو أغلب الروايات العربيّة الحديثة من الإشارات؛ إذا لم يكن توظيفاً كاملاً ورئيساً للمثقف، وللمحن التي تعرض ويتعرض لها يوميًا في ظل مجتمع نصف متخلف، ونصفه الآخر يمجّد الطاغية والدكتاتور الذي يكون سيفاً للقضاء على كل فكر ومفكر نهضويّ، لقد انبثق التركيز على هذه الظاهرة داخل النصوص الروائيّة التي تتبعت أسباب نشوء العداوة ضد الثقافة والتنوير والسعي إلى وراء اكتشاف المزيد من فنون الاضطهاد والمراوغة وأساليب تهميش الطبقة المثقفة داخل الأوساط العربيّة، وقد تكون هذه المحاولات صادرة من المؤسسات الثقافيّة نفسها، التي افترض بها أن تكون هي الراعي الرسمي لنشوء هذه الطبقة وفق الظروف الطبيعيّة لكلِّ مجتمع من المجتمعات.
- حاولت هذه الدراسة الكشف عن مجموعة من نماذج (المحن) التي وقع في فخاخها الإنسان العراقيّ بصورة عامة والمثقف بشكل خاص، التي كانت نتاج سوء استعمال السلطة، والعبث بمقدرات البلاد، والقضاء على مصادر التنوير الفكريّ والمعرفيّ بمختلف أنواعه كي يمكن لتلك السلطة قيادة المجتمع بسهولة من دون معارضة أو مناورة أو اعتراض. وتم عرض المحن الأكثر شيوعاً في المجتمع وأعمقها تأثيراً في نفسية الروائيين، لذلك كان التعبير عنها سرديًا بوصفها انعكاسًا لكلِّ ما يدور في مخيلة الروائي.
- إنّ أغلب الروائيين اهتموا كثيراً بقضية أزمة المثقف والثقافة وعوالمهم وهمومهم، ليس بوصفه الشريحة الأكثر ضعفًا، لكن بسبب كونهم أنّهم الطبقة الأكثر تأثيرًا في الجماهير، الواعيّة أو التي تسير في درب الوعي من فلاحين وعمّال وكسبة وطلاب.
قائمة مصادر البحث
- إدوارد سعيد الاستشراق (المعرفة ، السلطة ، الإنشاء)، إدوارد سعيد، ترجمة كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط 2 1984.
- أنتلجينسيا الشعر العربي الحديث في الرواية الغربية “رواية حيث تلتقي الأنهار اختياراً” مجلة الآداب/ جامعة ذي قار، العدد 18 لسنة 2016 .
- الجواهري، محمد مهدي ، ذكرياتي، الجزء الأول، دار الرافدين ، دمشق ـ 1988 .
- جيرار ليكلرك، سيوسيولوجيا المثقفين، ترجمة جورج كتوره، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت لبنان، ط 1ـ 2008
- الركابي عبد الخالق، بالرواية أرمم خراب العراق ، لقاء ، موقع الجزيرة نت https://www.aljazeera.net/.
- الركابي عبدالخالق ،رواية (ليل علي بابا الحزين) ، دار ومكتبة عدنان للنشر والتوزيع ، بغداد ، ط 1، 2013.
- الطائي علي، (المثقف والثقافة والحصار) ضمن كتاب الشعر والمناهج النقدية الحديثة، بحوث الحلقة الدراسية، مهرجان المربد الشعري الثالث عشر24 ـ11/1ـ12 ـ 1997.
- طارق مخنان أزمة غياب دور النخبة المثقفة الجزائرية في التغيير، رسالة ماجستير، جامعة قاصدي رباح/ كلية الآداب، قسم العلوم الاجتماعية، للعام الدراسي 2012.
- عبد الوهاب شعلان، هواجس النخب العربية وقضاياها الفكرية “الاستشراق، الإصلاح الديني، الإنتليجنسيا، اللغة والهوية، مكتبة الآداب /القاهرة، ط1ـ 2013 .
- أ. د عواد كاظم لفته، أنتلجينسيا الشعر العربي الحديث في الرواية الغربية “رواية حيث تلتقي الأنهار اختياراً” . مجلة الآداب ـ جامعة ذي قار، العدد 8، 2016.
- قسطنين زريق، أي غدٍ؟ دراسات لبعض بواعث نهضتنا، قسطنطين زريق، دار العلم للملايين القاهرة، ط 1ـ 1957.
- الكيالي عبد الوهاب وآخرون موسوعة السياسة، ج 1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت لبنان، د.ت .
- الثقافة والمثقف في الوطن العربي: مجموعة من الباحثين، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1 ـ 2002.
- الموسوي عباس فاضل، العنوان في الرواية العراقيّة من عام 1966 ـ1980 “دراسة في البنية والوظائف والظواهر”، رسالة ماجستير، جامعة بغداد /كلية الآداب ـ 2014.
- نديم البيطار، المثقفون والثورة ” الأنتليجنسيا كظاهرة تاريخية” ، بيسان للنشر والتوزيع والإعلام، بيروت ، ط2 ـ 2001.
[1] ـ يُنظر: الثقافة والمثقف في الوطن العربي: مجموعة من الباحثين، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1 ـ 2002: 334.
[2] ـ يُنظر: طارق مخنان، أزمة غياب دور النخبة المثقفة الجزائرية في التغيير رسالة ماجستير، جامعة قاصدي رباح/ كلية الآداب، قسم العلوم الاجتماعية، للعام الدراسي 2012:24.
[3] ـ نديم البيطار، المثقفون والثورة ” الأنتليجنسيا كظاهرة تاريخية” ، بيسان للنشر والتوزيع والإعلام، بيروت ، ط2 ـ 2001.:63.
[4] ـ أ. د عواد كاظم لفته، أنتلجينسيا الشعر العربي الحديث في الرواية الغربية “رواية حيث تلتقي الأنهار اختياراً” مجلة الآداب ـ جامعة ذي قار، العدد 8، 2016 :196.
[5] ـ جيرار ليكلرك، سيوسيولوجيا المثقفين، ترجمة جورج كتوره، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت لبنان، ط 1ـ 2008: 34.
[6] ـ يُنظر: الكيالي عبد الوهاب وآخرون موسوعة السياسة، ج 1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت لبنان، د.ت .مج 1: 348.
[7] ـ د عبد الوهاب شعلان ، هواجس النخب العربية وقضاياها الفكرية،:112.
[8] ـ قسطنطين زريق ، أي غدٍ؟ دراسات لبعض بواعث نهضتنا،:338.
[9] ـ الركابي عبدالخالق ، رواية (ليل علي بابا الحزين) دار ومكتبة عدنان للنشر والتوزيع ، بغداد ، ط 1، 2013:299 ومابعدها
[10] ـ إدوارد سعيد ، الاستشراق (المعرفة ، السلطة ، الإنشاء)،:215.
[11] ـ الرواية :139 وما بعدها.
[12] ـ الرواية:62
[13] ـ الرواية:202 ،203.
[14] ـ علي الطائي (المثقف والثقافة والحصار) ضمن كتاب الشعر والمناهج النقدية الحديثة، بحوث الحلقة الدراسية، مهرجان المربد الشعري الثالث عشر24 ـ11/1ـ12 ـ 1997،:275.
[15] ـ الرواية:110.
[16] ـ الرواية:148.
[17] ـ 284.
[18] ـ 23.
[19] ـ الرواية:314 وما بعدها.
[20] ـ الرواية:154.
[21] ـ الرواية:158.
[22] ـ الرواية 158 وما بعدها.
[23] ـ يُنظر: الجواهري، محمد مهدي، الجزء الأول، دار الرافدين ، دمشق ـ 1988 452 وما بعدها.
[24] ـ يُنظر: الموسوي ، عباس فاضل العنوان في الرواية العراقيّة من عام 1966 ـ1980 “دراسة في البنية والوظائف والظواهر”، رسالة ماجستير، جامعة بغداد /كلية الآداب ـ 2014: 116.
[25] ـ الرواية 123.
[26] ـ الرواية 123.
[27] ـ الرواية :28.
[28] ـ الرواية:232.
[29] ـ الركابي عبد الخالق ، بالرواية أرمم خراب العراق ، لقاء مع الروائي ، موقع الجزيرة نت https://www.aljazeera.net/