
نص “الاستقامة من الكلام والإحالة” لسيبويه وتطبيقاته لدى البلاغيين
د. زكرياء سلمان، جامعة القاضي عياض، كلية الآداب، مراكش (المغرب)
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 48 الصفحة 59.
ملخصاهتم سيبويه بالحكم النحوي وما يترتب عليه من أثر دلالي، وأدرك بعمق علاقة التركيب بالمعنى، ولعل أبين موضع تجلت فيه هذه النظرة، هو نص الاستقامة و الإحالة، الذي صنف فيه الأنماط الكلامية إلى التقسيم الخماسي.
ويأتي هذا المقال لبيان وجه الربط بين هذا النص وبين كلام البلاغيين، والوقوف على مدى استفادتهم منه.
الكلمات المفتاحية: سيبويه، حكم ، نحو ، بلاغيون
ABSTRACT:
sebawaiyh was interested in grammtical judgment and its consequent indicative effect. He deeply understood the relationship between the structure and the meaning . This view is most clear in the text of texte « al -istiqama wa l’ihala » where sebawaiyh classified the speech patterns into quinary partition. this article shows the link between this text and rhetoricians’ ideas to see to which extent they benefit from it.
Keywords: Sebawaiyh ; judgment ; Grammar ; rhetoricians
Résumé
Sebawaiyh était intéressé par le jugement grammatical et son effet consécutif ; Il a profondément compris la relation de la structure avec le sens. L’endroit où cela est apparu Clairement : réside dans le texte « al -istiqama wa l’ihala » . Cet article vient montrer le lien entre ce texte et les idées des rhétoriciens ; afin de voir comment ils en bénéficient.
Mots-Clés : Sebawaiyh ; jugement ; Grammaire ; rhétoriciens.
مقدمةيمكن عَدُّ باب (الاستقامة من الكلام والإحالة) من كتاب سيبويه ( 180ه)، من الإرهاصات المبكرة لنشأة علم البلاغة عامة وعلم المعاني خاصة، ذلك أنه من يطالع كلام الإمام في هذا النص يجد حديثه عن التركيب حديث العارف بأسراره، و” يعرفُ أنه كان حاذقا في التمهيد لكتابه بمباحث تعد الأساس في البحث النحوي؛ لينفذ منها إلى ما هو أكثر تفصيلا، وذلك بالانتقال من موضوعات التركيب إلى بيان مواقع أجزاء الجملة وعلاقاتها بعضها ببعض. “([1]) وقد أحسن جمهرة من البلاغيين فهم كلام الإمام، وجعلوه هاديا لهم لوضع أسس علم ظل إشارات متناثرة في كتب الأوائل، وعلى رأس هؤلاء البيانيين نجد أبا هلال العسكري (395ه) وعبد القاهر الجرجاني(471ه).
أولا– سيبويه ومعاني التراكيب
خصص سيبويه بابا في بداية “الكتاب” عن الاستقامة والإحالة، وفيه نجد ” تناولا مهما لقضية العلاقة بين صحة التركيب نحويا ومدى استقامته لأداء المعنى” ([2]) ، وهي إشارة موجزة من إمام النحاة تدعم فكرة اهتمام النحو العربي بالظواهر الدلالية.
يقول سيبويه ” هذا باب الاستقامة من الكلام والإحالة:
فمنه مستقيم حسن، ومحال، ومستقيم كذب، ومستقيم قبيح، وما هو محال كذب.
فأما المستقيم الحسن فقولك: أتيتك أمس، وسآتيك غدًا.
وأما المحال فأن تنقض أول كلامك بآخره، فتقول: أتيتك غدا، وسآتيك أمس.
وأما المستقيم الكذب فقولك: حملت الجبل، وشربت ماء البحر، ونحوه.
وأما المستقيم القبيح فأن تضع اللفظ في غير موضعه، نحو قولك: قد زيدًا رأيت، وكي زيدٌ يأتيك، وأشباه هذا.
وأما المحال الكذب فأن تقول: سوف أشرب ماء البحر أمس.” ([3] )
قسم سيبويه الكلام إلى قسمين كبيرين وهما : الكلام المستقيم، والقسم الآخر: المحال
ولم يعرّف سيبويه من هذه الأنواع، كما هو بيِّن، إلا المحال من الكلام، والمستقيم القبيح، واعتمد على الأمثلة في تحديد ما يريده بالمصطلحات الأخرى.
وفيما يلي بعض التوضيح لكلام الإمام:
1- الكلام المستقيم
ويراد به كما قال السيرافي ( 368ه): ” الذي لم يكن في لفظه خلل من جهة اللغة والنحو “([4])
وأيضا الذي يكون جائزا في كلام العرب دون أن يكون مختارا “([5])
و” يعود مفهوم (مستقيم) إلى تحقق أمور ثلاثة فيه:
**- اكتمال عناصر تركيب ما.
**- تحقق المعنى المعجمي لكل عنصر.
**- توافق العلاقة بين العناصر والمعاني.. وفق قواعد الاختيار. “([6])
أما صفات الكلام المستقيم عند سيبويه فهي ثلاثة: فإما أن يكون حسنا، أو كذبا، أو قبيحا.
أ- المستقيم الحسن
وهو قولك: أتيتك أمس وسآتيك غداً. وقُيِّد بالحسن، وهو المختار من كلام العرب، وهذا يفهم من كلام أبي سعيد السيرافي عند تعريفه للمستقيم بقوله ” وأيضا الذي يكون جائزا في كلام العرب دون أن يكون مختارا.”([7]) وهذا الكلام المستقيم الحسن يكون مستقيما من الناحية النحوية، وحسنا من الناحية الدلالية؛ بمعنى أن هذا النوع ” جمعَ السلامة النحوية قياسا واستعمالا، والحسن دلاليا؛ بحيث تخلق بمزايا تركيبية ودلالية، من نحو بناء نحوي سليم، ووضوح الدلالة، وعدم مخالفة مضمونه .” ([8])
وهنا يمكن القول إن ما ” مثل به سيبويه للمستقيم الحسن يدل على دقة النحاة في تقصي معاني كل لفظة ومعانيها في الجملة، وعلاقتها بغيرها، وانسجامها معها، وترابطها بها. “([9])
ب- المستقيم الكذب
كقولك: حملت الجبل، وشربت ماء البحر ونحوه. يقول السيرافي ” والكذب إنما هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو به. “([10]) ويقول العسكري “وأما قولك: حملت الجبل وأشباهه فكذب، وليس بمحال، إن جاز أن يزيد الله فى قدرتك فتحمله.”([11])
وقد تحققت الاستقامة هنا في اللفظ فقط دون المعنى في هذا النوع من الكلام، فالمحتكم إليه في تقويم التراكيب الموصوفة بالكذب هو المعنى الدلالي لا النحوي.
ج-المستقيم القبيح
وهو أن تضع اللفظ في غير موضعه، نحو قولك: قد زيداً رأيت، وكي زيد يأتيك، وأشباه هذا. وأما وجه استقامته فهو عدم اشتماله على اللحن ( جاء الفاعل مرفوعا والمفعول به منصوبا) ووجه قبحه هو إنما هو وضع اللفظ في غير موضعه وهو خارج عن القياس، يقول العسكري “وإنما قبح؛ لأنك أفسدت النظام بالتقديم والتأخير.”([12])، وهذا هو مراد السيرافي إذ يقول ” فإن قال قائل كيف جاز أن يسميه مستقيما قبيحا، وهل هذا إلا بمنزلة قوله، حسن قبيح؟ لأن المستقيم هو الحسن. فإن الجواب في ذلك أن الكلام ينقسم قسمين: كلام ملحون وكلام غير ملحون، فالملحون هو الذي لُحِن به عن القصد، وكذلك معنى اللحن، إنما هو العدول عن قصد الكلام إلى غيره. وما لم يكن ملحونا فهو على القصد وعلى النحو، ومن ذلك سمي النحو نحوا، والمستقيم من طريق النحو هو ما كان على القصد سالما من اللحن، فإذا قال “قد زيدا رأيت” فهو سالم من اللحن، فكان مستقيما من هذه الجهة، وهو مع ذلك موضوع في غير موضعه فكان قبيحا من هذه الجهة. “([13])
فالوصف الأول “مستقيم ” يعني صحة وقوع الشروط الثلاثة المحددة للصحة النحوية إلا أن الوصف الثاني “قبيح” يعني وقوع خلل في ترتيب عناصر الجملة مما يفضي إلى نشوء تركيب غير مسموح به في نظام الجملة.” ([14])
ويمكن ” أن نتصور ذلك على النحو التالي:
*- من جهة الدلالة : مستقيم حسن ≠ مستقيم كذب
*- من جهة التركيب : مستقيم حسن ≠ مستقيم قبيح
*- من جهة الدلالة والتركيب : مستقيم حسن ≠ محال كذب” ([15])
ومن هنا كان “فكر سيبويه النحوي يربط بين قواعد التركيب، وينظر أيضا في مدى اتفاق المكون الدلالي ونسق قواعد التركيب” ([16])
2- الكلام المحال
وهو كما عرفه سيبويه: أن تنقض أول كلامك بآخره فتقول: أتيتك غداً، وسآتيك أمس. ويوضح السيرافي معناه فيقول: “أي أنه أحيل عن وجهه المستقيم الذي به يفهم المعنى إذا تكلم به.”([17]) ويقول العسكري “والمحال ما لا يجوز كونه البتة، كقولك: الدنيا فى بيضة. وهو ما لا يمكن تصوره في الواقع “([18]) فهو الكلام الذي ” يبدو تركيبه النحوي سليما .. ولكن هذا التتابع الصحيح نحويا قد لا يحمل أي معنى على الإطلاق؛ لأن كلماته متناقضة دلاليا، مثل: أتيتك غدا، أو سأتيك أمس.” ([19])
فيمكن أن يستقيم المحال في القياس والاستعمال، غير أن فساده راجع إلى المعنى المتضمن فيه.
وقسم سيبويه المحال إلى قسمين:
أ- محال
ويعني به سيبويه المحال الذي ليس بكذب؛ لأنه ورد في مقابل قسيمه(المحال الكذب).
يقول السيرافي: “وقد يكون كذبا وغير كذب، غير أن ما يجمع ذلك كله تناقض اللفظ فيه. “([20])
ويعرفه أبو سعيد بقوله “هو اللفظ الذي يستحيل في الأمر و في الاستفهام وفي كل موضع لا يقع فيه الكذب كقولك لمن تأمره “قم أمس” و لمن تستفهمه ” أستقوم أمس ” و هل قمت غدا.”([21])
ب- محال كذب
ومثاله عند سيبويه: سوف أشرب ماء البحر أمس.
وكلا الوصفين “المحال” والكذب ” متعلقان بالمعنى، فالمحال له عُلْقة بالتناقض، والكذب يوجب ذكر الشيء على خلاف ما هو عليه، مع إمكان أن يكون تركيبا موافقا على القياس.
يقول السيرافي ” فأما استحالته فلاجتماع سوف وأمس فيه، وهما يتناقضان ويتعاقبان .وأما الكذب فيه، فإنا لو أزلنا عنه أمس الذي يوجب المناقضة والإحالة لبقي كذبا “([22]) ، ويضيف العسكري في الصناعتين ” ويجوز أن يكون الكلام الواحد كذبا محالا؛ وهو قولك: رأيت قائما قاعدا، ومررت بيقظان نائم؛ فتصل كذبا بمحال، فصار الذى هو الكذب هو المحال بالجمع بينهما، وإن كان لكل واحد منهما معنى على حياله؛ وذلك لمّا عقد بعضها ببعض حتى صارا كلاما واحدا.”([23])
ويعلق محمد حماسة على نص سيبويه فيقول ” في هذا النص الموجز و الدال تكمن بذور نظرية نحوية دلالية، حيث تندمج في تواؤم حميم قوانين النحو مع قوانين الدلالة، أو بعبارة أخرى قوانين المعنى النحوي الأولي وتمثله الوظائف النحوية المختلفة، مع قوانين دلالة المفردات الأولية وتمثلها الدلالة المعجمية للكلمة، وتمتزج فيما يمكن أن يسمى المعنى النحوي الدلالي. ومن خلال مناقشة هذا النص نستطيع أن نتعرف قوانين تكوين المعنى النحوي الدلالي.” ([24])
ثانيا- البلاغيون ونص سيبويه
لا شك أن دقة عبارات سيبويه في تحديده لأنماط الكلام كانت مصدرا ملهما لدى من جاء بعد أبي بشر، وهذا يدل على أن النحاة المتقدمين كانوا أصحاب خبرة مرهفة بأساليب العرب، “فهم أصحاب الفضل الأول في نشأة البلاغة، على الرغم من أنها كانت في البداية نظرات متناثرة هنا وهناك ضمن مباحثهم النحوية، ثم أتيح لمن أعقبهم أن يصوغ من هذه النظرات العابرة قواعد بلاغية ذات صبغة علمية، وقد رسخ في أذهان الباحثين عن نشأة البلاغة و تطورها أن أباعبيدة هو أول من تناول البلاغة بالحديث ولعل الذي أغراهم بهذه المجازفة في القول مصنفه “مجاز القرآن ” الذي يحمل عنوانا بلاغيا صرفا .ومن ثم أغفلت كوكبة الباحثين الحديث عن الفترة التي سبقت أباعبيدة و لم يتناولوا بالبحث آراء الخليل البلاغية ..وقريب من ذلك تلك النظرة التي ألقاها الباحثون على كتــاب سيبويه و أثـــره في نشأة هذا العلم .”([25])
هذا ما ميز نحو المتقدمين، إذ قد ضمت مباحثهم البلاغة ممتزجة بالنحو؛ بحيث نجدهم يشيرون إليها في تحليلاتهم ومناقشاتهم ومناظراتهم، فلم يكونوا يفرقون بين النحو والبلاغة، ولم يكن النحو عندهم مجرد النظر في أواخر الكلمات من حيث الإعراب والبناء، وإنما النحو عندهم يشمل هذا كله، ويشمل أيضا تأليف الجملة، ونظمها، وسر تركيبها، وبيان ما فيها من حسن أو قبح.
وقد اعترف الجرجاني بذلك في مواضع من دلائله، مشيرا إلى إدراك النحاة للدقائق، وأنهم أصحاب تمحيص واستقراء ونظر وتدبر لطيف([26]) ، رغم أنه كان يعيب عنهم قصور العبارة، والاكتفاء باللمحة الدالة، والإشارة الخاطفة.
وسنخصص بالذكر كُلا من أبي هلال العسكري([27]) وعبد القاهر الجرجاني([28]) للوقوف على مدى تأثرهما على المستوى التنظيري والتطبيقي بنص الاستقامة والإحالة؛ وجاء اختيارنا لهذين العَلمين لكونهما مبرزين في البلاغة، ولوجود إشارات عديدة في كتابيهما: الصناعتين والدلائل، تدل على حسن تمثلهما لكلام سيبويه.
1- مظاهر تأثر أبي هلال العسكري بنص سيبويه
يمكن عدُّ أبي هلال من أهم البلاغيين المتأثرين بكلام سيويه، ويتجلى ذلك من خلال مباحثه البلاغية في الصناعتين، ففضلا عما نقلناه عن العسكري من اهتمامه بنص الإمام شرحا وبيانا، نسجل له أقوالا دالة على هذا التأثر؛ ومن ذلك إيراده عند حديثه عن النظم وجودته ما يقارب تعريف سيبويه للكلام المستقيم القبيح، والذي يوضع فيه اللفظ في غير موضعه، حيث قال ” وحسن الرّصف أن توضع الألفاظ في مواضعها، وتمكّن في أماكنها، ولا يستعمل فيها التقديم والتأخير، والحذف والزيادة إلا حذفا لا يفسد الكلام، ولا يعمّى المعنى؛ وتضمّ كل لفظة منها إلى شكلها، وتضاف إلى لفقها.”([29])
ومن ذلك قوله “وليس الشأن في إيراد المعاني؛ لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه، وحسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه، مع صحة السبك والتركيب، والخلو من أود النظم والتأليف. وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابا. “ ([30]) وفي هذا النص (المقتبس أوله من كلام الجاحظ) نجد أن أبا هلال قد أدخل ما يتعلق بالصياغة والتأليف والتركيب في أداء الكلام البليغ.
وقال أيضا في (باب في البيان عن حسن النظم وجودة الوصف والسبك) ” أجناس الكلام المنظوم ثلاثة: الرسائل، والخطب، والشّعر، وجميعها تحتاج إلى حسن التأليف وجودة التركيب. وحسن التأليف يزيد المعنى وضوحا وشرحا، ومع سوء التأليف ورداءة الرّصف والتركيب شعبة من التّعمية، فإذا كان المعنى سبيّا، ووصف الكلام رديّا لم يوجد له قبول، ولم تظهر عليه طلاوة. وإذا كان المعنى وسطا، ورصف الكلام جيّدا كان أحسن موقعا، وأطيب مستمعا؛ ... وحسن الرّصف أن توضع الألفاظ في مواضعها، وتمكّن في أماكنها، ولا يستعمل فيها التقديم والتأخير، والحذف والزيادة إلا حذفا لا يفسد الكلام، ولا يعمّى المعنى؛ وتضمّ كل لفظة منها إلى شكلها، وتضاف إلى لفقها. وسوء الرّصف تقديم ما ينبغي تأخيره منها، وصرفها عن وجوهها، وتغيير صيغتها، ومخالفة الاستعمال في نظمها. “([31])
ومن يتدبر كلام أبي هلال العسكري يجد أنه لا يختلف كثيرا عما قاله سيبويه فقد أراد بقـوله “مخالفة الاستعمال ” أي مخالفة القواعد التي استنبطها النحاة من استقراء كلام العرب ونصوص العربية المدونة. كما أراد بقوله ” توضع الألفاظ في مواضعها و تمكن في أماكنها ” تطبيق الأحكام النحوية في تأليف الجمل وإسناد الألفاظ بعضها إلى بعض، وهذا ما تحدث عنه سيبويه في باب الاستقامة والإحالة .
2- تنظيرات الجرجاني المستوحاة من نص سيبويه
يعد الجرجاني من البلاغيين القلائل الذين برزوا في النحو والبلاغة معا، وقد أسعفته إمامته في النحو في حسن استيعاب كلام النحاة السابقين، فقد أدرك من كلام سيبويه على وجازته أنه متضمن ” كل الجوانب التي يستقي منها التفسير الدلالي للجملة. وقد اقتفى عبد القاهر أثره، غير أنه شرح هذه الفكرة على مدى كتاب بأكمله هو “دلائل الإعجاز.. وقد تكفل عبد القاهر الجرجاني بشرح أصول هذه النظرية والتطبيق المتكرر لجزئياتها وعناصرها. “([32]) .
من ذلك إشارته، في غير ما موضع من دلائل الإعجاز، إلى ما يساوي “المستقيم الحسن” عند سيبويه كقوله ” اعلم أنْ ليسَ “النظمُ” إِلا أن تضعَ كلامكَ الوضعَ الذي يَقتضيهِ “علمُ النحو”، وتعملَ على قوانينهِ وأُصولِه، وتعرفَ مناهجَه التي نُهِجتْ فلا تزيغَ عنها، وتحفَظ الرُّسومَ التي رُسمتْ لك، فلا تُخِلَّ بشيءٍ منها. وذلك أنَّا لا نَعلم شيئاً يبتغيهِ الناظمُ بنَظْمه غيرَ أنَ ينظرَ في وُجوهِ كل بابٍ وفُروقهِ “([33]) .
فقوله ” لا تخل بشيء منها ” دال على الاستقامة، أما النظر و التدبر في الفروق التي يتيحها علم النحو وتخير الوجوه بحسب الأغراض، فهو الذي يحقق حُسن الكلام.
وأوضَحُ من ذلك قول عبد القاهر، بعد تحليله لنماذج شعرية، ” فيصيب بكل من ذلك مكانَه، ويستعملَه على الصِّحة وعَلَى ما ينبغي له. “([34])
ومن المواضع التي تجلى فيها استعمال الجرجاني ألفاظ نص “الاستقامة والإحالة”، وعلى استغلاله الأحكام النحوية خدمة للمعنى كما وردت في نص سيبويه قوله « ومِنْ أَبْيَن شيءٍ في ذلك “الاستفهامُ بالهمزةِ”، فإنَّ موضعَ الكلام على أَنك إذا قلتَ: “أَفَعلْتَ؟ فبدأتَ بالفعل، كان الشكُّ في الفِعل نَفْسِه، وكان غَرضُكَ مِن استفهامِك أنْ تَعْلم وُجودَه. وإِذا قلتَ: “أأَنْتَ فعلتَ؟ “، فبدأْتَ بالاسمِ، كان الشكُّ في الفاعِل مَنْ هوَ، وكان التردُّدُ فيه…فهذا منَ الفَرْق لا يَدْفعُه دافعٌ، ولا يَشكُّ فيه شاكٌّ، ولا يَخْفى فسادُ أحدِهما في موضع الآخر. فلو قلتَ: “أأَنْتَ بَنيتَ الدارَ التي كنتَ على أنْ تَبنيها؟ “، “أَأَنْتَ قلتَ الشعرَ الذي كان في نفسِك أن تَقولَه؟ “، “أأَنْتَ فرغْتَ منَ الكِتاب الذي كنتَ تكْتُبه؟ “، خرَجْتَ منِ كلام الناس. وكذلك لو قلْتَ: “أبَنَيْتَ هذه الدارَ؟ “، “أَقلت هذا الشعرَ؟ “، “أَكتبتَ هذا الكتابَ؟ “، قلْتَ ما ليس بقولِ. ذاكَ لِفَساد أنْ تقولَ في الشيء المُشَاهَدِ الذي هو نُصْبُ عينيكَ أَموجودٌ أم لا؟ ومما يُعلَمُ به ضرورةً أنه لا تكونُ البدايةُ بالفعل كالبداية بِالاسم أَنك تقولُ: “أقلتَ شعراً قط؟ “، “أرأيتَ اليومَ إِنساناً؟ “، فيكونُ كلاماً مستقيماً. ولَو قلتَ: “أأنتَ قلت شعرًا قط؟ “، “أأنت رأيت إنسانًا”، أحلت، وذاك أَنه لا مَعْنى للسؤالِ عن الفاعلِ مَنْ هو في مثلِ هذا، لأنَّ ذلك إِنما يُتَصوَّر إِذا كانتِ الإشارةُ إِلى فعلٍ مخصوصٍ نَحْوَ أَنْ تقولُ: “مَنْ قال هذا الشعر؟ “، و “من بنى هذه الدار؟ ” و “من أتاك اليوم؟ “، و “من أذن لك في الذي فعلتَ؟ “، وما أشبَه ذلك مما يُمكنُ أن يُنَصَّ فيه على مُعَيَّنٍ. فأمَّا قيلُ شعرٍ على الجملة، ورؤيةُ إنسانٍ على الإِطلاق، فمُحَالٌ ذلك فيه، لأَنه ليس مما يُخْتصُّ بهذا دون ذاكَ حتى يُسْأَلَ عن عينِ فاعلهِ. ولو كان تقديمُ الاسم لا يُوجب ما ذكَرْنا، من أنْ يكونَ السؤالُ عن الفاعل مَنْ هو؟ وكان يَصِحُّ أن يكونَ سؤالاً عن الفعلِ أكانَ أمْ لم يكُنْ؟ لكانَ ينبغي أَنْ يستقيمَ ذلك. “([35])
ونلاحظ فيما أورده عبد القاهر من أمثلة صناعية في كلامه، أنه قد جاءت كل كلمة في وضعها الملائم نحويا وحققت هدفها الدلالي، فهي إذن كلام مستقيم حسن ومثاله (أقلتَ شعراً قط؟) .وفي مقابلها أورد الشيخ، بعد أن غير ترتيب كلماتها، ما يمثل الكلام المحال (أأنتَ قلت شعرًا قط؟ )
ونسجل في هذا النص، حضور عدد من الأحكام النحوية التقويمية للكلام، فيما مثَّل به الجرجاني من مثل ” ولا يَخْفى فسادُ أحدِهما في موضع الآخر – خرَجْتَ منِ كلام الناس– قلْتَ ما ليس بقولِ – فمُحَالٌ ذلك فيه – أحلت) (وهذه تخص أحكام المنع)، وكقوله (فيكونُ كلاماً مستقيماً– يُوجب ما ذكَرْنا– يستقيم) وهذه أحكام الوجوب.
ومن خلال ما سبق، نجد عبد القاهر يشيد بالتركيب الصائب المستقيم، وينتصر له، ويستعمل للتعبير عليه ألفاظ التحسين والتجويد والاستقامة، إذا ما وافق الفصيح من كلام العرب؛ لأن التركيب الصائب هو من لوازم مزية الكلام، وأساس من أسس النظم لديه وهو ما عرف بالتعليق فينا بين الكلم .
وفي المقابل يرفض عبد القاهر الاستعمال غير الصحيح الخارج عن الفصاحة ولغة العرب، ويعبر عنه بألفاظ كالقبيح والخطأ والمحال والممتنع ونحو ذلك.
وهنا تظهر معالم الدلالة النحوية عند الجرجاني وهي “الدلالة التي تحصل من خلال العلاقات النحوية بين الكلمات التي تتخذ كل منها موقعا معينا في الجملة حسب قــــــوانين اللغة، إذ أن كل كلمة في التركيب لا بد أن تكون لها وظيفة نحوية من خلال موقعها.” ([36]) فهي تحصل نتيجة التفاعل بين الوظائف النحوية والمفردات المختارة، ولا بد إذ ذاك، أن يستتبعها معنى معين؛ بحيث لو اختل نظام الجملة لغمض المعنى.
فلا تتحقق المزية لدى الشيخ بمجرد رصد الحركة الإعرابية فحسب، يقول عبد القاهر ” ومن هاهنا لم يجز إذا عدت الوجوه التي تظهر بها المزية أن يعد فيها الإعراب، وذلك أن العلم بالإعراب مشترك بين العرب كلهم وليس هو مما يستنبط بالفكر ويستعان عليه بالروية .. ولكن بالوصف الموجب للإعراب.” ([37])
ويقول في موضع آخر ” فإن قلت: أفليس هو كلاماً قد اطرد على الصواب، وسلم من العيب؟ أفما يكون في كثرة الصواب فضيلة؟ قيل: أما والصواب كما ترى فلا. لأنا لسنا في ذكر تقويم اللسان والتحرز من اللحن، وزيغ الإعراب. فنعتد بمثل هذا الصواب. وإنما نحن في أمور تدرك بالفكر اللطيفة، ودقائق يوصل إليها بثاقب الفهم، فليس درك صواب دركاً فيما نحن فيه حتى يشرف موضعه، ويصعب الوصول إليه، وكذلك لا يكون ترك خطأ تركاً، حتى يحتاج في التحفظ منه إلى لطف نظر، وفضل روية، وقوة ذهن، وشدة تيقظ. وهذا باب ينبغي أن تراعيه، وأن تعنى به. حتى إذا وازنت بين كلام وكلام ودريت كيف تصنع، فضممت إلى كل شكل شكله، وقابلته بما هو نظير له، وميزت ما الصنعة منه في لفظه، مما هي منه في نظمه”([38]).
ومن هذين النصين ندرك أن الدلالة النحوية عند عبد القاهر ليست هي العلاقات النحوية التي بها تصح الجملة ويستقيم الإعراب؛ لأن كون الكلام صوابا لا يتوجب له مزية ولا فضل عنده، ولكنها ذلك الاختيار الموفق الدقيق بين المفردات والعلاقات النحوية.
فدلالة المستقيم الحسن كما وردت عند سيبويه، تعني مقومات الدلالة النحوي لدى عبد القاهر، القائمة على مراعاة المعاني النحوية، وكيفية ترتيبها معا في علاقات مخصوصة، مع مراعاة الصحة النحوية أولا لأن ” الجملة التي ينكسر فيها النظام النحوي انكسارا غير مسموح به مطلقا في المستوى اللغوي المعين لا تعد جملة صحيحة مطلقا لا نحويا ولا دلاليا ، فالصحة الدلالية هنا مشروطة بالصحة النحوية. “([39])
3- نموذج تطبيقي من الصناعتين والدلائل
نخلص من خلال ما سبق إلى أن البلاغيَين العالمين أبا هلال وعبد القاهر قد أحسنا تنزيل ما استوعباه من كلام سيبويه في كتابيهما، ومفاده أن صحة الكلام جزء لازم للبيان، وهو التي تتطلبه الاستقامة، ولكنه غير كاف لتحقق جودته، ذلك أن الفضيلة تتنوع بتنوع سياق الكلام وتعدد أغراض المتكلمين” فليسَ مِنْ فضلٍ ومزيةٍ إلاَّ بحسَبِ الموضع، وبحَسبِ المعنى الذي تُريدُ والغرض([40]) الذي تؤُمُّ. “([41])
ونورد مقارنة لهذا الأمر في بيتين ورد فيهما “لفظ نكرة” في سياق مستقيم، فحُكِم على أحدهما بالجودة وعلى الآخر بالرداءة:
المعنى النحوي | مثال راق فيه التنكير | مثال جاء فيه التنكير قبيحا |
وهذان الشاهدان يدلان على أن مجرد التنكير ليس فضيلة في ذاته، وإنما إذا وقع موقعا مناسبا كما في بيت البحتري، أما إذا لم يصادف موقعه، فلا فضيلة، بل قد يكسبه الموقع غير المناسب قبحا، ويجعله مستكرها، كما في شاهد العسكري. ” تفسيرُ هذا: أنَّه ليسَ إِذا راقَكَ التنكيرُ … فإِنه يَجبُ أنْ يروقَكَ أبداً وفي كلَّ شيء … وأنه ينبغي أَن لا تراهُ في مكان إلا أعطيته مثل استحسانك ههنا. “([45])
فلا يقال إذن إن التنكير ينشئ في الكلام مزية أبدا وباطراد، فلا مزية في الكلام إلا بتفاعل معنى من معاني النحو، وغرض ملائم، وأن يقع هذا الكلام موقعا يليق به.
خاتمة
تبين لنا من نص الإمام سيبويه وتنظيرات العسكري والجرجاني أن التراكيب اللغوية لا بد لها أن تستمد قيمتها من الدلالة التي تحقق مقاصد المتكلم، وإن الاستقامة النحوية لازمة بدورها للإبانة.
ومن ثم فالنحو والدلالة متلازمان. وبيان ذلك أن كل تغير يحدث لهذا التركيب، إنما يرجع للدلالة ومتطلباتها، وبمعنى آخر، فإن الدلالة هي التي تتطلب هذا التغير.
ونستطيع أن نقرر بأن أبا هلال والجرجاني قد أوليا الجانب الدلالي الأهمية التي أولاها للتركيب النحوي، “وأن كليهما في الميزان راجحان، ولا ينبغي أن ننسب للواحد منهما فضلا أو تميزا على الأخر “([46])، فهما يتضافران من أجل الوصول إلى الكلام البليغ. وهذا ما جعل لكلامهما قيمة علمية لدى الخالفين، وجعلهما من مؤسسي علم البيان العربي، وما ذلك إلا بحسن استقرائهما تراث الأسلاف، الذي يتضمن خبيئات دالة على براعة علمائنا المتقدمين ( وخاصة النحاة)، والتي كانت موطئة لنشأة علم البلاغة.
المصادر والمراجع
– بحيري (سعيد حسن)، عناصر النظرية النحوية في كتاب سيبويه (محاولة لإعادة التشكيل في ضوء الاتجاه المعجمي الوظيفي- علم اللغة التقابلي) الطبعة الأولى، مكتبة الأنجلو المصرية،1410ه/1989م ،
– الباخرزي، دمية القصر و عصرة العصر ، تحقيق محمد التونجي، ط 1 ، دار الجيل , بيروت ، 1414 هـ
– البهنساوي (حسام) ، أهمية الربط بين التفكير اللغوي عند العرب ونظريات البحث اللغوي الحديث،دون ط،
مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 1414هـ/1994م ،
– الجرجاني ( عبد القاهر)،دلائل الإعجاز ، قراءة وتعليق: محمود شاكر ،ط3 ، دار المدني بجدة ،1413ه
– حاتم (لطيف)، الكلام المستقيم في النظر النحوي عند سيبويه (دراسة في المصطلح واستعماله)، مجلة القادسية
للعلوم الإنسانية العراق، المجلد 8 ، العددان 3و 4 ،سنة 2005م
– حسين (عبد القادر)، أثر النحاة في البحث البلاغي ، دار غريب للطباعة والنشر القاهرة، 1998م،
– حماسة ( عبد اللطيف)، النحو والدلالة، مدخل لدراسة المعنى النحوي الدلالي ، ط1 دار الشروق،
مصر،1420هـ
– الخالدي ( كريم) نظرية المعنى، نظرية المعنى في الدراسات النحوية ،ط1، دار صفاء، عمّان، الأردن، 2006م،
– زينب (مديح)، الدلالة النحوية بين القدامى والمحدثين، مجلة واسط للعلوم الإنسانية، العراق،ع12 ،2009م
– سيبويه (أبو بشر)، الكتاب، تحقيق: عبد السلام هارون ،ط3، مكتبة الخانجي القاهرة ،
– السيرافي(أبو سعيد)، شرح الكتاب تحقيق: رمضان عبدالتواب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،1986م
– السيوطي (جلال الدين)، بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الأولى، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1384ه
– طاش كبرى زاده، مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم، ط1، دار الكتب العلمية، 1405ه
– العسكري(أبو هلال)، الصناعتين، علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العنصرية ،بيروت،
لبنان، 1419ه
– القزويني ( جلال الدين)، الإيضاح في علوم البلاغة تحقيق: محمد عبد المنعم خفاجي ط3، دار الجيل، بيروت.
([1] ) الخالدي، نظرية المعنى في الدراسات النحوية ،ط1، دار صفاء ، عمّان ،الأردن ، 2006م، ص316
([2] ) حجازي، مدخل إلى علم اللغة، دون. ط ،دار قباء القاهرة 1997م، ص 108
([3] ) سيبويه، الكتاب، تحقيق: عبد السلام هارون ،ط3، مكتبة الخانجي القاهرة ، 1408 ه/1988م، ج1 ص 25
([4]) السيرافي، شرح الكتاب تحقيق: رمضان عبدالتواب، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1986 القاهرة ج2 ص 89
([6]) بحيري، عناصر النظرية النحوية في كتاب سيبويه (محاولة لإعادة التشكيل في ضوء الاتجاه المعجمي الوظيفي- علم اللغة التقابلي) الطبعة الأولى،
مكتبة الأنجلو المصرية،1410ه/1989م ، ص 156
([7]) السيرافي، شرح الكتاب، ج2 ص 90
([8]) حاتم لطيف، الكلام المستقيم في النظر النحوي عند سيبويه (دراسة في المصطلح واستعماله)، مجلة القادسية للعلوم الإنسانية العراق، المجلد 8
العددان 3و 4 ،سنة 2005م (ص197-206)، ص 182
([9]) الخالدي، نظرية المعنى ، ص 319
([10]) السيرافي، شرح الكتاب، ج2 ص 93
([11]) العسكري، الصناعتين، ، علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم المكتبة العنصرية ،بيروت 1419ه ص 70
([13]) السيرافي، شرح كتاب سيبويه، ج2 ص 92
([14]) بحيري، عناصر النظرية النحوية، ص 158
([15]) بحيري، عناصر النظرية النحوية ، ص 159
([16]) حجازي، مدخل الى علم اللغة، ص 108
([17]) السيرافي، شرح كتاب سيبويه، ج2 ص 90
([18]) العسكري، الصناعتين، ص70
([19]) حجازي، مدخل الى علم اللغة، ص 108
([20]) السيرافي، شرح الكتاب ج2 ص 94
([22]) السيرافي، شرح الكتاب ،ج2 ص 92
([24]) حماسة ، النحو والدلالة، مدخل لدراسة المعنى النحوي الدلالي ، ط1 دار الشروق – مصر،1420هـ/2000م ص 65
([25]) حسين عبد القادر، أثر النحاة في البحث البلاغي ، دار غريب للطباعة والنشر القاهرة، 1998م، ص 3
([26]) – أشاد الجرجاني بجواب أبي العباس ثعلب (291ه ) بما نقله عنه فقال ” رُويَ عن ابن الأنباريِّ أَنه قال: ركبَ الكنْديُّ المتفلسِف إلى أبي العبّاس وقال له: إني لأَجِدُ في كلامِ العَرب حَشْواً! فقال له أبو العباس: في أي وضع وجَدْتَ ذلك؟ فقال: أَجدُ العربَ يقولون: “عبدُ الله قائمٌ”، ثم يقولون “إنَّ عبدَ الله قائمٌ”، ثم يقولونَ: “إنَّ عبدَ اللهَ لقائمٌ”، فالألفاظُ متكررةٌ والمعنى واحدٌ. فقال أبو العباس: بل المعني مختلفةٌ لاختلافِ الألفاظِ، فقولُهم: “عبدُ الله قائمٌ”، إخبار عن قيامه وقولهم: “إن عبد الله قائمٌ”، جوابٌ عن سؤالِ سائلٍ وقوله: “إنَّ عبدَ اللهِ لقائمٌ”، جوابٌ عن إنكارِ مُنْكِرٍ قيامَهُ، فقد تَكرَرَّت الألفاظُ لتكرُّرِ المعاني. قال فما أَحَارَ المتفلسِفُ جواباً. ..واعلمْ أنَّ ههنا دقائقَ لو أنَّ الكنديَّ استقرى وتصفَّحَ وتَتَبَّع مواقِعَ “إنَّ”، ثم ألْطَفَ النظرَ وأكثرَ التدبُّرَ، لعَلِمَ عِلْمَ ضرورةٍ أنْ ليس سواء دخولها وأن لا تدخل” .الدلائل، قراءة وتعليق: محمود شاكر ،ط3 ، دار المدني بجدة ،1413ه/ 1992ه ص315
([27]) – أَبُو هِلَال العسكري الْحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهْرَان. هُوَ تلميذ أبي أَحْمد العسكري الَّذِي قبله، توافقا فِي الِاسْم وَاسم الْأَب وَالنِّسْبَة. وَكَانَ مَوْصُوفا بِالْعلمِ وَالْفِقْه، وَالْغَالِب عَلَيْهِ الْأَدَب وَالشعر، وَكَانَ يتبزز احْتِرَازًا من الطمع والدناءة. روى عَنهُ أَبُو سعد السمان وَغَيره.وَله من التصانيف: كتاب صناعتي النّظم والنثر، مُفِيد جدا، التَّلْخِيص فِي اللُّغَة، جمهرة الْأَمْثَال، شرح الحماسة، من احتكم من الْخُلَفَاء إِلَى الْقُضَاة، لحن الْخَاصَّة، الْأَوَائِل، نَوَادِر الْوَاحِد وَالْجمع، تَفْسِير الْقُرْآن، الدِّرْهَم وَالدِّينَار، رِسَالَة فِي الْعُزْلَة والاستئناس بالوحدة، ديوَان شعره؛ وَغير ذَلِك.قَالَ ياقوت: وَلم يبلغنِي شَيْء فِي وَفَاته إِلَّا أَنه فرغ من إملاء ” الْأَوَائِل ” يَوْم الْأَرْبَعَاء لعشر خلت من شعْبَان سنة خمس وَتِسْعين وثلاثمائة.
ينظر: السيوطي (جلال الدين)، بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الأولى، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1384ه/ 1965م ، ج1ص507
([28]) – هو أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني فارسي الأصل، تصدّر بجرجان، الملقب بالنحوي، قال عنه معاصره الباخرزي:” اتّفقت على إمـــــــــامته الألسنة، وتجمّلت بمكـــــــــانه وزمـــــــــــــــــــانه الأمكنة والأزمنة.وأثنى عليه طيب العنـــــــــاصر، وثنيت به عقود الخنـــــــــــــاصر. فهو فرد في علمه الغزير، لا بل هو العـــــــــــلم الفرد في الأئـــــــــمة المشاهير”. وُصفت مؤلفات الجرجاني بالجيدة، والجليلة، والمفيدة، والكثيرة، وأشهرها كتابيه الدلائل والأسرار وقد أبدى كثير من العلماء شدة إعجابهم بهذين الكتابين، من ذلك ما قاله صاحب مفتاح السعادة (968ه) “وهما الآية الكبرى، واليد البيضاء في العلمين المذكورين ، وإليهما ينتهي علم من تأخر في ذينك العلمين ” طاش كبرى زاده، مفتاح السعادة و مصباح السيادة في موضوعات العلوم، ص 166 . وأضاف في موضع آخر “ومن أراد الوقوف في علم البلاغة على العجب العجاب والتبحر في هذا الباب، فعليه بكتابي: ( دلائل الإعجاز ) و( أسرار البلاغة )، كلاهما من مؤلفات الشيخ عبد القاهر الجرجاني… وقيل: إن كتابيه في هذه الفنون بحران ينشعب منها العيون. ” طاش كبرى زاده، مفتاح السعادة و مصباح السيادة في موضوعات العلوم ، ط1، دار الكتب العلمية ، 1405 ه/ 1985م ص 198
ينظر للاستزادة في ترجمة الجرجاني : الباخرزي دمية القصر وعصرة العصر ، تحقيق محمد التونجي، ط 1 ، دار الجيل , بيروت ،لبنان، 1414 هـ، ج1، ص 578
([29]) حجازي، مدخل الى علم اللغة ، ص 161
([32]) حماسة، النحو والدلالة، ص99
([36]) زينب مديح، الدلالة النحوية بين القدامى والمحدثين، مجلة واسط للعلوم الإنسانية، العراق،ع12 ،2009م (ص9-37)
([39]) حماسة، النحو والدلالة، ص 57
([40]) والغرض في كلام عبد القاهر هو نفسه فكرة مقتضى الحال الذي جاء به السكــــــــــــــــــــــاكي وقد أشار الخطيب القزويني إلى هذه العلاقة بين النظم
ومقتضى الحال فقال” وهذا -أعني تطبيق الكلام على مقتضى الحـــــــــال- هو الذي يسميه الشيخ عبد القـــــــــاهر بالنظم ؛ حيث يقـــــــــــول: “النظم تأخِّي
(هكذا عنده)معاني النحو فيما بين الكَلِم على بحسب الأغراض التي يُصاغ لها الكلام”. الإيضــــــــــاح في علــــــــــوم البــــــــــلاغة تحقـــــــــــــيق :محمد عبد المنعم
خفاجي ط3، دار الجيل،بيروت، ج1 ص44
([42]) البيت بدون نسبة في الصناعتين .
([46]) حسام البهنساوي، أهمية الربط بين التفكير اللغوي عند العرب ونظريات البحث اللغوي الحديث،دون ط، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 1414هـ/1994م ، ص 38