
سيمياء الحواس في قصة رمادي([1]) لنادرة العويتي(*)
د. صفاء امحمد ضياء الدين فنيخرة
الجامعة الأسمرية-كلية اللغة العربية- زليتن. ليبيا
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 48 الصفحة 23.
ملخص:
وظفت الكاتبة نادرة العويتي في القصة القصيرة (رمادي) القدرات التعبيرية للحواس في استبطان دلالات العالم القصصي، وبـخاصة البصرية ويليها السمعية والشمية متفاعلة مع نمط الخطاب وسيرورته، وأنتجت فاعليتها على مستوى الحكاية والخطاب والدلالة، وقد خضع تحليل هذه المدركات الحواسية سيميائيًّا لمفارقات تقوم على رصد تناقضات الألوان والحركات والحجوم والأشكال على مستوى حاسة البصر، والأصوات والروائح على مستوى حاستي السمع والشم .
الكلمات المفتاحية :
سيمياء الحواس– الصورة – المفارقة – العتبات النصية – المدرك البصري – المدرك السمعي – المدرك الشمي .
تمهيد :
تعدّ الفنون وسيلة تعبيرية تعبر عن رؤية وتصورات الإنسان عن ذاته وعالمه، وهذا ما أهلها لصياغة وتشكيل التجارب الإنسانية على اختلاف أنماطها ودرجات عمقها وتعقدها أو بساطتها، وهي تقدم هذه الرؤى والتصورات بوسائط متنوعة بصرية أو لفظية أو سمعية أو مختلطة، وقد شهد الإبداع الأدبي المعاصر ما يعرف بالتجريب الذي يعد من أهم مظاهره توظيف التقنيات الحواسية .
وتتميز القصة القصيرة (رمادي) للكاتبة نادرة العويتي بـهذه السمة؛ ولـهذا وجدتني منجذبة لتأمل رؤيتها السردية التي تكاد تخلو من طرق التعبير التلفظي، حيث اكتفت الذات المدركة بقراءة الفضاء الخارجي حواسيًّا، وبرزت المدركات الحواسية وبخاصة البصرية ويليها السمعية والشمية متفاعلة مع نمط الخطاب وسيرورته، وأنتجت فاعليتها على مستوى الحكاية والخطاب والدلالة، وقد خضع تحليل هذه المدركات سيميائيًّا لمفارقات وتقاطبات تقوم على رصد تناقضات الألوان والحركات والحجوم والأشكال على مستوى حاسة البصر، والأصوات والروائح على مستوى حاستي السمع والشم، وهذا يحتم على القارئ دراسة العلاقة بينها وبين الذات المدركة من جهة، وبين الإدراك اللغوي من جهة أخرى، ومعرفة كيفية تجليها داخل منظومة الخطاب القصصي، وهي صلة فريدة بين الحواسي والبصري خاصة واللفظي باعتبارهما وسيلة الذات لإعادة بناء وترتيب الواقع المادي بحسب إدراكها ووعيها الخاص بـها .
والهدف من هذا البحث دراسة كيفية اشتغال الحواس في هذه القصة، وارتباطه بالرؤية السردية، وسيميائية هذه اللغة الحواسية –إن صح التعبير_ ودلالاتـها الحضارية والاجتماعية والأدبية، فلم تعد الحاسة البصرية أو السمعية –مثلا- وسيلة لالتقاط الصور والأصوات، أو معرفتها انطباعياً ونقلها، بل لها قدرة على إقامة علاقة جدلية مع العالم الخارجي بكل مكوناته، وللحواس دور في صياغة منظور الذات إلى ذاتـها وإلى العالم الآخر ، فالنظر للذات وللآخر ليس بالعين الباصرة وحدها ، بل بالحواس كلهــــا .
وقد اقتضت منهجية البحث التمهيد التعريفي بـمفاهيم المصطلحات الأساسية في الدراسة كالسيمياء والحواس في اللغة والاصطلاح، ودور الحواس في الأدب عامة والقصة خاصة، ثم تلج الدراسة الجانب التطبيقي لسيمياء الحواس في القصة وينقسم إلى عدة جوانب: سيمياء العنوان _ سيمياء الصورة وتشمل الغلافين الخارجي والداخلي – سيمياء المدرك البصري _ سيمياء المدرك السمعي _ سيمياء المدرك الشمِّي، ثم خاتــمة البحث .
1 / مفهوم السيمياء :
السيمياء لغة بمعنى العلامة، فمادة (سوم) يشتق منها السيمة والسُّوْمَة والسيماء والسيمياء وكلها بالمعنى نفسه، سوَّم الفرس: جعل عليها السيمة قال تعالى: ﴿حِجَارِةً مِّنْ طِينٍ.مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾([2])، أي معلمة ببياض وحمرة([3])، ويتضح من هذه الدلالة اللغوية تطابق المعنيين اللغوي والاصطلاحي، فالسيمياء: علم العلامات، وهو يبحث في نظام العلامات أو الإشارات اللغوية وغير اللغوية، وقد اعتبر اللغوي فرديناند دي سوسير النظام اللغوي (الشفاهي والمكتوب) جزءاً منه ، وكل ماعداه من أنظمة الإشارات التي ترتكز على اعتباطية الإشارة جزءاً من السيمياء ، لأنـها كاللغة عبارة عن نسق دلالي يعبر عن المعنى ، كوسائل التعبير التي يستخدمها الـمـجتمع وتعتمد على السلوك الـجماعي ، والطقوس الرمزية، وأشكال اللياقة وآداب السلوك ، والإشارات المتعارف عليها لدى الجنود وغيرهم ، فالسيمياء علامة لغوية واجتماعية، كما أنـها أوسع من اللغة، واللغة جزء منها([4])، فإشارة الخرس مثلاً لغة وإن لم تكن منطوقة .
أمّــا إيكو فقد اتسعت رؤيته للسيمياء ، حيث اعتبر علامات كثيرة تدخل ضمنها، مثل: “علامات الحيوانات، علامات الشم، الاتصال بواسطة اللمس، كودة الـمذاق، الاتصال البصري، أنـماط الأصوات والتنغيم(…) التشخيص الطبي، حركات وأوضاع الجسد، الموسيقى، اللغات الصورية، اللغات الـمكتوبة، الأبجديات المجهولة، قواعد الآداب، الأيديولوجيات، الموضوعات االجمالية والبلاغة”([5]) ، وهي أنماط كثيرة ومتنوعة من أنماط الاتصال والتبليغ لـها علاقة وثيقة بالسيمياء .
وإذا كانت السيمياء تعني دراسة أساليب التواصل والأدوات المستخدمة للتأثير في المتلقي قصد إقناعه والتأثير فيه بواسطة الإشارة أو العلامة، فإن المنهج السيميائي ينصب على قراءة النصوص قراءة منظمة تـهدف إلى الوقوف عند هذه العلامات وتفجير طاقاتــها ومحمولاتــها الإشارية الكامنة ومـخـزونــــهـا الفاعل، من خلال الاحتكام إلى العلاقة بين الدوال ومدلولاتــــها .
2 / مفهوم الحواس :
تفيد مادة الحِسُّ في المعجم اللغوي ومشتقاتـها معاني الإدراك والوعي والمعرفة، فتطلق على الصوتُ الخَفِيُّ([6])والشعور بالشيء والعلم به، فالحواس جمع حاسة وهي القوة التي بـها ندرك الأعراض الحسية من قولهم: أحسست، أي علمت بالشيء ([7])، قال تعالى: ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾([8])، والاسم منه (الحِسُّ) بكسر الحاء: من أحْسَسْتُ بالشيء، حسَّ بالشيء يَحُسُّ حَسّاً وحَسِيساً، وأحَسَّ به وأحَسَّه: شعر به، والإحساس وجدان الشيء بالحاسة”([9])، وهي إشارة إلى الحواس الخمس، وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس، التي هي قنوات معرفية نطل بـها على المدركات المحسوسة الخارجية كالمسموع والمرئي .
وقد توسع البعض في دلالة الحواس فجعل من ضمنها الإحساس النفسي الوجداني، نظراً لوجود حواس ظاهرة وأخرى باطنة، فالإحساس هو “إدراك الشيء بإحدى الحواس الخمس الظاهرة أو الباطنة، فإن كان الإحساس بالحس الظاهر فهو المشاهدة وان كان بالحس الباطن فهو الوجدان”([10]).
ويبدو جلياً ارتباط الحواس بالمشاعر فقد قال بعض اللغويين إنـها تسمى بالمشاعر الخمس، وهي اللمس والذوق والسمع والبصر والشم([11])، أما مصطلح الحواس الخمس “فهو متأخر اقتضته طبيعة الحياة، وتطور اللغة”([12])، ولاتزال الحواس الداخلية كحاسة الشعور بالرضا، وحاسة الحاجة إلى الطعام، وحاسة الاطمئنان.. وغيرها، موضع بحث لدراسة ظواهرها وإدراكاتــها، وإثبات أعضائها، وتعد الحواس الخارجية والداخلية كلاً متكاملاً يسمو معه الإنسان، فالداخلي ينتمي للنفس أو الروح، والخارجي للجسم أو الجسد؛ لأن جواهر الأشياء تقوم على ثنائية الـمادي والـمعنوي([13]) .
وبين ابن الجوزي أنّ آلاتَ الحس خمسٌ هي: السمع وهي الحاسة المدرِكة للأصوات، ووصفها بأنــها أدق الحواس وأغمضها في كيفية تحصيل الإدراك بــها، والبصر وهي الحاسة التي تدرَك بـــها المُبصَرات، وأنــها أغلظ من السمع وأدق من غيره، والشم وهي الحاسة التي تدرك بــــها الروائح الطيبة والكريهة، والذوق، وهي الحاسة التي يدرك بــــها الطعوم من الحلو والحامض وغيره، واللمس وهي الحاسة التي يدرك بــــــها الناعم من الخشن، ووصفها بأنـــــــها أغلظ الحواس جميعاً([14]).
أما كيفية الإحساس فقد فسره علماء النفس فسيولوجيَّا بأنّه قرع المنبهات الحسية لحواسنا، وانتقال أثرها إلى المخ عن طريق أعصاب خاصة، وتحول هذه المنبهات إلى حالات شعورية نوعية بسيطة ، فهو الأثر النفسي الذي ينشأ مباشرة من انفعال حاسة أو عضو حاس، وتأثر مراكز الحس في الدماغ، كالإحساس بالألوان والأصوات والروائح والأطعمة والحرارة والبرودة([15])، ويرى علماء النفس أن الحواس قد تكون باطنية كالإحساس بالجوع والشبع أو الاتزان والدوار، وحواس خارجية تتصل بالعالم الخارجي وتخضع للجهاز العصبي المركزي، وتجسد الاستجابة للمثيرات الخارجية، وهي السمع والبصر واللمس والذوق والشم([16]) .
ولا تخفى علاقة الحواس بالإدراك، فنحن لا يمكننا الحديث عن المحسوسات إلا من خلال إدراكنا لــها، الإدراك الذي هو عملية عقلية تنتج من الإحساس، وهو الوسيلة لمعرفة العالم واستكشافه والعلم بـما حولنا، أو بما نسمع أو بـما نتخيله ونفترض وجوده ، أي أن الإدراك مرتبط بالحواس، ولكن لا يكون العالم الخارجي موجوداً إلا بكونه بؤرة للرؤية، فالذات تفهم العالم بإدراكها له، وتستوعبه بالعين والجسد فيتفاعلان معاً حفاظاً على هذه الصلة .
فالحديث عن الحواس يقودنا إلى مفهوم (الرؤية) في الخطاب القصصي، تلك التي جعلت السرديين يتساءلون من رأى؟ وما الأداة التي تُنقل بـها هذه الرؤية، ولا شك أنـها أوسع مجالاً من أن تكون رؤيـة بصرية، بل هي تتسع لجميع أنواع الإدراك، فهي “عملية المعرفة أو الإدراك بواسطة الفكر والحواس”([17])، فعلى سبيل المثال تعدّ “حاسة السمع هي أولى أبواب الإدراك في (الأيام) لطه حسين، وحاسة الشم مرصد(*)المحيط ومصدر المادة القصصية في الفقرة الآتية: (رائحة عكر الخمور، ورائحة عرق الأبدان، ورائحة زيت المصابيح)… وفي هذا السياق قد يكون التداول بين الحواس تقنية طريفة في القصة -مهما يكن مَـحْمَلُها- فرب رؤية بصرية أرجعت الرائي إلى أصوات من الماضي، وكم من شم أعاد أمام ناظري صاحبِهِ حقولاً غناء أو حدائق فيحاء”([18]) .
ولغة الحواس في النص الأدبي هي لغة الإيحاء والرمز؛ لأنـها تحاول تجاوز وظيفتها الطبيعية، ولا تكتفي بوصف ما تراه بل تصف ما هو غير مرئي أيضاً، ولهذا ترتبط الحواس في السرد الأدبي بالإدراك التخييلي والإحساس والتذكر والإسقاطات الداخلية على الخارجي، فالحواس هي الجسور التي تخلقها القصة من أجل إقامة علائق وصلات بين الشخصيات القصصية ومحيطها، أو هي تفسير مرآوي يعكس ما وراء الظاهر .
ويستطيع السارد من خلال هذه اللغة الحواسية بناء عالم حكائي تخييلي على أنقاض العالم الواقعي، وتشكيل عناصر المحكي، عالم تتحول فيه الأشياء إلى علامات دالة، وذلك بالمزاوجة بين السرد والوصف والتصوير، وهذا يفتح للقارئ مجالاً رحباً للقراءة والتأويل لمدى علاقة هذا المحسوس بالذات أو بالسارد نفسه ورؤيته للعالم، ومدى تكثيفها للحظة، وتفجيرها للأفكار والعواطف، فظاهرة اشتغال الحواس في السرد القصصي ظاهرة سيميائية أسلوبية يركز فيها الناقد على علاقة الحسي باللغوي أو التلفظي .
وقد تأسست قصة (رمادي) على ثنائية كبرى قوامها المفارقة بين الاتصال والانفصال والداخل والخارج، فتضارب الخارج الظاهري الهادئ للمكان (مبنى المصرف الذي جمع شخصيات القصة ومن ضمنهم الساردة) مع الداخل المفخخ بالبؤس والـهم ، وذلك من خلال قراءة سيميائية لظواهر الشخصيات والفضاء السردي وقد وظفت الساردة المدركات الحسية لتجسيد هذه المفارقات الحواسية .
3 / سيمياء الحواس في قصة ( رمادي ) :
3/1 . سيمياء المدرك البصري (اللون) في (عتبة العنوان) :
تُظهر العتبة الأولى للنص وهي العنوان (رمادي) اهتماماً جلياً بتوظيف الحاسة البصرية، بتضمينه علامة بصرية ذات دلالة سيميائية وهي اللون، ويعتبر العنوان مرتكزاً أساسيًّا في بيان أبعاد النص، ومفتاحاً تأويلياً يتلقفه القارئ، فهو أول ما يقرع سمعه ويلفت بصره على بياض الصفحة، وسيميائيته جزء من استراتيجية النص الحديث، حيث يتصل العنوان بمضمون النص اتصال الشفرة بدلالتها، فهو “سمة العمل الفني أو الأدبي الأول، من حيث هو يضم النص الواسع في حالة اختزال وكمون كبيرين، ويختزن فيه بنيته أو دلالته أو كليهما في آن، وقد يضم العنوان الهدف من العمل ذاته”([19])، وقد اهتم علم السيمياء بالعنوان لكونه نظاماً سيميائياً ذا أبعاد دلالية ورمزية تغري الباحث بتتبع دلالاته، ومحاولة فك شفرته الرامزة([20])، فهو يشير بكيفية أو بأخرى إلى طبيعة النظام السيميائي للنص ودلالاته الرمزية، فهو جزء من الخطاب القصصي هو والغلاف الخارجي والصور المصاحبة للقصة والإخراج الطباعي، كلها عتبات لتأويل النص وفك شفراته وقراءته من خلال جمالية التلقي .
وإذا كان العنوان دالاً علاميًّا للنص فإن اللون الرمادي هنا قد اصطبغت به القصة القصيرة وتخلل إلى مفاصلها السردية، وتمركزت وحداتـها كلها حول هذا العنوان اللوني، بحيث كان مرآة مصغرة للنسيج النصي، وهذا يعكس ارتكازاً أساسياً من الساردة على العالم المرئي من حولها وقراءته بصرياً، فالعنوان مفردة لونية خلقت لغة خاصة، وإضاءات دالة انسبغت عليه من أوله إلى آخره، ولعلّ تنكيره ليعم ويشمل كل الموجودات السردية، وهذا ما يدفع القارئ إلى التساؤل ماهي المسارات الدلالية لهذا اللون؟ وما وظيفته السيميائية والجمالية في القصة؟ وهل تناغمت حاسة البصر مع الحواس الأخرى؟ وما مدى تبادل مدركاتها؟ وما دور ذلك كله في صنع وتدشين الرؤية السردية؟ وهذا ما سنحاول الإجابة عنه في البدء من خلال سيميائية اللون (رمادي) .
تعد الألوان الأبيض والأسود والرمادي الذي هو مزج بينهما، من الألوان الحيادية-من وجهة النظر العلمية-بل إن الأبيض والأسود ليسا لونين حقيقيين “فالسطح الأسود يمتص معظم وربما كل الضوء الذي يسقط عليه، أما الأبيض فيعكس كل الضوء الذي يسقط عليه، وتعد الألوان البيضاء والسوداء والمركب منها –أي الرمادي- هي ألوان لا لونية أو محايدة من دون وجود أية خاصية تتعلق بالهوية اللونية المميزة لها”([21])، وإذا كانت السيميائية الثقافية للون الأبيض هي النقاء أو الفراغ، وعكسه السواد فهو علامة ثقافية للحزن والهزيمة والموت والحداد، فإن الرمادي يقترب بحياء من هذه الدائرة، وإن كان اندراجه في اللغة الأدبية شعراً وسرداً أقل بكثير من توظيف اللونين الأبيض والأسود، ودلالته العلامية في الأنماط الثقافية والاجتماعية تشي بالميل للكآبة والحزن والرحيل والانطفاء، ولعل اشتقاق اللفظ من (الرماد) وهو بقايا جذوة النار الخامدة توحي بكل ذلك .
وتعد الألوان من أغنى الرموز اللغوية التي توسع مدى الرؤيا في شعرية الصورة السردية وتشكيل أطرها لما تحمله من طاقات دلالية، وما تحدثه من إشارات حسية وانفعالات في القارئ([22]) .
3/2 . سيمياء المدرك البصري (الصورة) في (الغلاف الخارجي والداخلي) :
تعد صور الغلاف والصورة التي تتصدر القصة عتبة هامة في التلقي القرائي والنقدي، فهي رسائل بصرية كالكلمات وككل الأنظمة العلامية الأخرى لا يمكن أن تنفلت من تورطها في لعبة المعنى([23])، فالصورة علامة أيقونية وخطاب مشكل كمتتالية غير قابلة للتقطيع؛ لأنــها تسعى إلى تحريك الدواخل والانفعالات للرائي (القارئ)، وهذا ما يبرز جمالية المرئي الذي تتضافر عناصره من أجل تأكيد المكتوب، فالصورة هنا تنقل الفكرة بلغة خفية شديدة التركيز، تخاطب الحاسة باللون والشكل والظلال، تحث العقل والإدراك على استخدام شتى مهاراته، وكانت الصورة الخاصة بقصة (رمادي) أيقونة رامزة للشخصية بطلة القصة، وهي شخصية كلية متفاعلة، وأصل فكرها وإحساسها وانفعالها ليس الداخل، بل الواقع الخارجي ذو الأبعاد التاريخية والاجتماعية والاقتصادية، وهي كما في صورة (1) صورة فوتوغرافية لبورترية جانبية معتمة لامرأة غائبة الملامح، قد تقصد إخفاء ملامحها عمداً أو بغير عمد، وهي ترنو بنظرها إلى المجهول وكأنــها في حالة تأمل أو مناجاة وبوح وشجن وتفريغ هموم دفينة، ويوحي شعرها الأشعث بالفقر أو بإقصاء الجانب الأنثوي فيها، الأمر الذي يدفعنا إلى إسقاط ذلك على بطلة القصة، أما اللون الرمادي الموحد فينبئ عن سيطرة الحالة الذهنية وتعتيم التفاصيل الذاتية التي تعزلها عن هموم الجماعة، وقد أحدث تفاعلاً وتماهياً مع القصة عنواناً ومحتوى ووحدات سردية، أما الغلاف الخارجي فيشير بألوانه المتنوعة إلى تنوع المضامين والإشارات في القصص القصيرة، كما هو في الصورة (2)
الصورة (1) الصورة (2)
إنّ القصة تعلن منذ العتبات الأولى تورطها في لعبة الألوان، فالرمادي وصف لشيء يتصف به، فهو –إذاً- لون حاضر بقوة في النص، الأمر الذي أعطاه نوعاً من لفت الانتباه يغري القارئ بإطلاق الاحتمالات الممكنة لردم مساحات الغياب، وتتبع إحالاته في داخل الخطاب القصصي وخارجه أيضاً، فقد تناغم هذا اللون مع الغلاف الخارجي للمجموعة القصصية، بل مع كل الصور المصاحبة للقصص التي ارتكزت على اللون الرمادي بدرجات متفاوتة .
3/3 . المفارقات البصرية في القصة :
لقد اتضح تأسيس الخطاب القصصي على عنصر بصري مكاني غلب عليه اللون وبخاصة اللون الرمادي … جدران مبنى المصرف الذي ترتاده الشخصية، ولباس المرتادين له بل ولون العيون أيضاً .
وإذا كان الرمادي حلا وسطاً بين الأبيض والأسود وهما من الألوان الحيادية، فهل يعني ذلك أن القصة تثور على الحياد وترفض المفاهيم السلبية التي تقف عندها؟ أم أن الرمادي يأخذ من اللونين مفارقة تشي باجتماع المتناقضات كالفقر والغنى والعدم والامتلاء والجمال والقبح والطهر والدنس، والسلام والحرب؟ وإذا كان البياض يعني الفراغ والسواد كذلك، فقد يكون اللون الرمادي فعلاً تخييلياً يملأ هذا الفراغ، ويؤسس نواة لنص أدبي، فعلاً يبدأ من الكتابة نفسها، وقد يكون رمزاً للكتابة نفسها، وقد تكون صورة لونية قاتمة لوضع اجتماعي سياسي اقتصادي ميئوس منه، فهي كالرماد وقد كان شعلة متقدة ملؤها الحركة والضوء واللهب .
إنــها احتمالاتٌ مختلفة تقفزُ على مسارات السرد، قد تَـمنحُ مفاتيحَ التأويلِ، وقد يُـستغنى عنها لاكتشاف تأويلات أخرى .
وقد جعلت الكاتبة هذا اللون هو المفتاح والوسيلة لتسريد الرؤية البصرية، وتحويل مضمونـها إلى وحدات تقابلية مفارقية، من خلال التركيز البصري على اللون بشكل عام، واللون الرمادي على نحو خاص، الذي غلب على لون الجدران ولباس الأشخاص، فطغى على كل شيء داخل المبنى، وتضارب مع الرمادي نفسه رمادي لماع الخادع للأبصار، ويتماهى اللون الرمادي للباس الموظف المسن مع اللون الرمادي لغيوم مثقلة بالرماد في عينيه أما بياض شعره فيشي بزوال زمن الأمل والآمال، “ذاك الموظف القديم بقميصه الرمادي وشعره الأبيض المكدس خلف أذنيه(…) غيمة رمادية كانت تطوف في مجال عينيه تشتهي أن تنسكب لتروي حالته”([24])، وتتساوى صفة القدم للإنسان مع وصف الشيء غير العاقل فبِدَلُ الرجال قديمة ذات لون كالح، والموظف قديم أيضاً وهي مفارقة مؤلمة تدل على تشيئ البشر وانعدام قيمتهم الإنسانية، كما تظهر المفارقة اللونية بين المظهر الخارجي اللوني للباس الذي لم يفلح في إزالة اللون الشاحب لوجهه والهزال في بدنه: “البدلة الزرقاء الموقرة ربما أضفت عليه مسحة كبرياء قداسة.. لكن الشحوب لم يترك للبدلة دوراً مؤثراً مقنعاً إلى حد كبير”([25]) .
وإدراك الساردة للمدرك الحسي اللوني باعتباره بنية سطحية ليس بالضرورة أن يكون نقلاً ومحاكاة للصورة الواقعية، بل له آثاره على الدلالة، ويرتبط بالعاطفي والقيمي، كما أن المدركات السمعية والشمية لها علاقة بالضغط النفسي والتوتر، أو الهدوء والراحة، وقد وظفت الساردة الحواس (البصر والسمع والشم) وذلك في إطار الحوار الداخلي للشخصية التي لاتني واصفة كل ما يقع في مجال الرؤية الحواسية: البصرية أو السمعية أو الشمية، وإن كانت الحاسة البصرية هي التي طغت على غيرها بطبيعة الفضاء المكاني الخارجي للقصة، وهو (مبنى المصرف) مكان يقبع في الصمت والبلادة والألوان الباردة الكئيبة، رغم ما يحتويه من حركة وضجيج، تتحرك فيه سلسلة من الذوات بموضوعات قيمية متعددة تملك عوالمها الخاصة، وتجمع الساردة بينها بصرياً في لوحة تشكيلية فيها الكثير من الشعرية على الرغم من اعتياديتها وبساطة لغتها، معتمدة على المدركات الحسية (البصرية): كالشخوص (الشرطي والوجوه المحنطة الواقفة في طابور الانتظار، والموظف المسؤول القابع خلف الرخامة الرمادية) والأشياء التي خَلَقت لها شعرية دالة كالرخامة الرمادية الفاصلة بين الموظفين والجمهور، وأشعة الشمس المنسابة، والحركة الرتيبة ليد الشرطي، وأيدي المتعاملين، وحركة الطابور المترنح، ملابس النساء الطويلة البالية المتسخة بالغبار، وعيونــهن الناعسة، وقد أشارت السادرة إلى المفارقة الصارخة بين دلالة اللون الخارجي ودلالة الداخل؛ أي مفارقة المضمون للشكل والباطن للظاهر ومفارقة القيمة الحقيقية للشيء وغلافها الخارجي الذي لا يوحي بحقيقتها غالباً، فصورة الشرطي حارس هذا المبنى الكبير (المصرف) تتضمن العديد من المفارقات والتناقض بين الصورة المفترضة التخيلية وهي الدلالة على القوة البدنية والنشاط والتفاعل مع المكان والقدرة على الحماية، والصورة الواقعية الماثلة في اللحظة الحاضرة بعكس ذلك فهو ضعيف البنية هزيل مسترخ منطو على نفسه ومنعزل عن العالم الخارجي، ” تصورت أنه سيقف فوراً وبحركة سريعة مباغتة سيعيد لي محفظتي إذا ما انتشلها أحدهم من يدي . تصورت ذلك.. وتخيلت المشهد كما لو أنه يدور الآن أمامي.. لكنه شرطي نحيل.. نحيل للغاية. وجه شاحب، يدان مسترخيتان باستكانة على حافتي الكرسي لاحول ولا قوة.”([26])، والمفارقة بين الحضور المفترض والغياب الماثل حقيقة في الواقع: “نظرة شاردة في البعيد لا علاقة لها بكل ما يدور في هذا المكان”([27])، وقد اعتمدت الساردة في ذلك كله على الوصف السردي لهذه اللوحات برؤية مغرقة في الذاتية، وأغلبها صور بصرية سينمائية تعتمد أبعاد الإضاءة والتركيز على المرئي والحركة والألوان والمشاهد، مثل: “الجدران أيضاً مطلية بطلاء رمادي لماع .. والمكان تخترقه أشعة الشمس المتسللة من النوافذ الأمامية المطلة على الشارع الرئيسي والإضاءة الأساسية تأتي من المصابيح الزرقاء المستطيلة”([28])، والإضاءة وسيلة الاتصال بالمدرك البصري، كما لا يدرك الضوء إلا بإسقاطه على المرئيات، ويشتمل ضوء الشمس الذي هو ضوء أبيض على كل ألوان الضوء التي تشكل الجانب المرئي من الطيف الكهرومغناطيسي([29])، ومثال الصورة البصرية المعتمدة على الحركة “سيقف فوراً وبحركة سريعة مباغتة”([30])، “الرجل يمد دفتر حسابه ليستلم مرتبه بحركة فيها شيء من الاستكانة وكأنه يتوسل صدقة”([31])، ووصف طابور الجمهور الواقفين في تعاسة وبلادة “هناك طابور طويل على أن أنضم إليه لنشكل جميعاً عقداً متهالكاً يترنح تعباً ومللاً يمنة ويسرة”([32]) .
وكانت هذه الصورة الكلية التي أجملتها القصة في فضاء زمكاني واحد، لم تتعد الساردة بــهو المصرف الذي يعدّ بؤرة ثابتة في السرد، ولم تعدل عن الزمن الحاضر إلا مرة واحدة لاستذكار ماضي الموظفين الواقفين خلف الرخامة الرمادية، وتأمل تغييرات الزمن على وجوههم، فــــ”في الماضي كانوا يرتدون القمصان الأنيقة ويتحركون بنشاط وحيوية”([33])، وقد عبرت بهذه الصورة بكل عناصرها وشخوصها عن نوع من التواصل غير اللفظي الذي لمست به هموم الآخر ومعاناته الشرطي وجمهور الفقراء الواقفين في طوابير متهالكة- الرجال ذوي البدل الكالحة القديمة والنساء ذوات الملابس المتسخة بالغبار والموظفين الذين طرأت عليهم عوامل الزمن وهم رهن الروتين الوظيفي القاتل، بل تواصلت مع كل الأشياء من حولها، فليست اللغة المنطوقة وحدها رمز الحياة الاجتماعية والمشاركة، ووسيلة التواصل الإنساني، بل إن الوعي الباطن يتصل بعمق وحميمية مع الخارج، وهنا نلمس آثار اللغة غير المنطوقة في القصة كلغة الجسد من خلال وصف الشرطي: “وجه شاحب ويدان مسترخيتان باستكانة ونظرة شاردة”[34]، ورغبتها في التمعن في أشكال وجوههم عن قرب وبطريقة أفضل، وهو تواصل من طرف واحد، ولغة العيون التي كادت تتحول إلى لغة منطوقة وتواصل بين طرفين مع الموظف الذي تتعامل معه مباشرة، لولا اللون الرمادي القاتم الذي غطى بعتمته كل أمل وانفتاح للحظة السوداوية من الممكن أن تختتم بـها القصة “ووجدتني وجهاً لوجه أمام ذاك الموظف القديم بقميصه الرمادي وشعره الأبيض المكدس خلف أذنيه ونظارته الطبية السميكة. الموظف فهم ما كان يجول في خاطري اليوم . غيمة رمادية كانت تطوف في مجال عينيه تشتهي أن تنسكب لتروي حالته . غيمة تنادي أطرافها لتصب ماء كئيباً يتوحد مع مساحات الرماد”([35])، “فالصمت في الواقع ظاهرة تتساوى في الأصل على الأقل مع ظاهرة الكلام”([36])، وبـهذا فقد أدى هنا دور الكلام المعبر، ومن الممكن وصفه بالصمت العميق، وهو أيضاً نوع من التواصل غير اللفظي، وقد تأجج هذا التواصل في مساحات الصمت وعتمة الرماد، واللجوء إلى الصمت تعني عدم جدوى الكلام، بل عجزه عن التعبير وفضح حقائق الأشياء، وهذا المشهد الصامت صورة بصرية اعتمد الفعل التواصلي فيها على علاقة بصرية/نفسية بين الرائي والمرئي، وقد انزاحت فيها إلى لغة شعرية استعارية تكشف عن البنية العميقة للتواصل التي تتماهى فيها وتتحد الكينونة الإنسانية .
3/4 . سيمياء المدرك السمعي :
مادة الأصوات: الألفاظ، وهي –فيزيائياً-أمواج تحتوي على تضاغط وتخلخل([37])، ولهذا المدرك صلة وطيدة بالجانب النفسي الإيـجابي كالراحة والبهجة، والسلبي كالضغوطات والتوتر، وعلى الرغم من أهمية حاسة السمع إلا أن التركيز كان على المبصرات، فالصوت البشري يكاد ينعدم في هذا المكان الذي تطغى فيه القيم المادية ولهذا ارتفع: “صوت الآلات التي تحصي هذه الأوراق النقدية، وصوت همهمة الزبائن وهم يخاطبون الموظفين الكرام . الصوت البشري في هذا المكان يأتي خافتاً ضعيفاً كضعف أصحابه”([38])، وتظهر المفارقة جلية بين الصوت الطاغي المرتفع للآلات الحديدية، والصوت الإنساني المنخفض الذليل، وبالمقابل يتجانس المدرك السمعي صوتاً ودلالة فالأوراق المالية صوتها مرتفع وهي ذات سطوة، أما الإنسان فقد ضعف صوته وذبلت إرادته.
3/5 . سيمياء المدرك الشمي :
تدل حاسة الشم دائما دلالة اللغة، كما يرى محمد كشاش، فتنوب الرائحة عن البوح والتعبير ، لأنـها “رسالة تحكي تناهي الرائـحة فيها العبارة، تثير الأشجان في بعض الأحيان، وتنعش أحياناً الجنان(…) وهي تشهد يقيناً بصحة إطلاق مصطلح (اللغة) عليها، أو بمصطلح أدق (لغة الكيمياء)”([39])، فتحمل الروائح الطبيعية والصناعية دلالة ما، وتؤدي غرضاً وغايةً، بل تقوم مقام التلفظ بالكلمة، وقد وظفت الساردة هذه الحاسة بل أسندت إليها القدرة على التأثير البالغ في النفس، والقدرة على الفعل والرفض والعصيان إنـها رائحة الفقر والبطالة والقيم المادية القاسية المنبعثة من الأوراق المالية المكدسة في هذا المبنى: “للمرة الأولى ألحظ أن للفقر رائحة تعصر القلب .رائحة لا يستطيع أن يتحاشاها ذاك الشرطي القابع في الخارج لغرض الحراسة .. رائحة غاضبة تتصادم بشكل خفي مع كنوز الخزائن الحديدية الموصدة داخل المصرف”([40])، وقد ارتفعت الساردة في توظيف الروائح إلى الانزياح والتراسل الحواسي، وهذه من الآليات التي تتحكم بها الذات لإدراك العالم وتفسيره وإعادة صياغته برؤيتها الخاصة، وهو التوظيف المجازي للحواس، أي استدعاؤها “لـمحسوسات لا تنتمي منطقياً ولا وظيفياً إلى طبيعتها العضوية، فالأنف(…)بوساطة الشم يستقطب رائحة الحزن أو الحقد أو الحب”([41]) أو الفقر، ويطلق عليه أيضاً (تراسل الحواس)، فقد صنعت الساردة للظاهرة الحواسية ملامح انزياحية جديدة تسهم في تفعيل القيم الدلالية والوجدانية وتنتج المعانى الجديدة، دافعة للمسار السردي للأمام، فالآن أصبح للفقر رائحة تنضح بالغضب، وتشكل مفارقة مؤلمة مع رائحة النقود في الخزائن الضخمة الموصدة .
وهذه التحولات المفارقية في الألوان والأصوات والروائح تحمل عواطف جد عميقة كالإحساس بعدم الأمان والخوف واللايقين والتشكيك في المحيط الخارجي والآخرين، فحواس الساردة تقع على المخلوقات والأشياء من حولها، وتفترض أنـها لم تكن ترى ذلك من قبلُ، ومن حولها لا يرون ما تراه، ولهذا تكررت اللازمة السردية التي افتتحت بها كل الصور المرئية والسمعية والشمية وهي عبارة (للمرة الأولى ألحظ أنّ هناك)، تقول: “للمرة الأولى ألحظ أنّ هناك شرطياً(…) أن لاصوت مميز(…) أن هناك طابور طويل(…) أن للفقر رائحة تعصر القلب(…)أن الرمادي طغى على كل الألوان”([42]).
لقد منحت الكاتبة السرد عمق الحالة الشعرية ، وانتشلته من التقليدية على الرغم من ذاتية السرد والانطلاق من الفضاء الداخلي للشخصية، فالجمل السردية لم تكن مجرد وسيط لنقل الحدث، بل أسهمت في تكثيف اللحظة الحاضرة وتعميقها من خلال لوحات واقعية اشتغلت فيها المدركات الحسية دلالياً على مساحتها لتعبر عن الرؤية السردية، وفي الوقت نفسه استفزت القارئ بصمتها وغموضها على فك شفراتـها واستقراء علاماتـها .
وربما يرجع هذا النوع من السرد الحواسي إلى نسائية القصة، فالمرأة تتميز بحدة الملاحظة والقدرة على الاستبطان، وهو ما يسمى بحدس المرأة فهي سريعة التقاط وفك شفرة الإشارات والحركات الشفوية وتعبيرات الوجه، وهي قادرة على رصد ما بين كلمات الشخص وتناقضات لغـــــة جسده([43])، والحساسيــــة تـجاه انفعالات الآخرين .
إنَّ كل ما ورد في القصة من وصف يخضع لذاتية تجر القارئ قسراً إلى العالم الداخلي للساردة، فلاوجود لأحداث أو أصوات مستقلة عنها، فلا صوت إلا صوتـها، وقد أطلقت العنان لقص مشاهداتـها الحسية باعتبارها أداة غير مباشرة للدلالة، ويرى بعض النقاد أن هذا النوع من السرد يتيح للسارد استبطان أغوار النفس، والإحساس ببواطن الأشياء، ووصف أسرار الفكر والمشاعر وضروب الإدراك التي يعيشها الإنسان وتترجم رؤيته ومواقفه([44]) .
وقد استطاعت الساردة بـهذه اللغة تدشين كون سردي يتأسس على التواصل الحواسي النابع من رصد ثنائيات قيمية تظهر فيها المفارقات القاسية المشكلة من العناصر الحسية في الأشياء والحركات والألوان والأصوات والروائح .
أما سيمياء الدلالة فلا تخفى مدلولات كل هذه الدوال التي تشير إلى عدة جوانب منها :
_ الجانب الاقتصادي، وأعني به الطابع الاستهلاكي للحضارة الحديثة، حيث يعتمد الفرد على ما يقتاته من وريقات مالية مقابل عمله، وقد لا تسدّ رمقه ولا تفي بمواجهة متطلبات الحياة الحديثة .
_ والجانب الاجتماعي فالقصة صورة لطائفة من البشر يرتادون مكاناً واحداً للغرض نفسه على نحو دائم، ويشير طمس ملامح وجوههم وطمس أصواتهم وغياب أي شكل من أشكال الحوار إلى انعدام التواصل الإنساني والفقر الروحي والتضعضع الاجتماعي، حتى تلك الشخصية التي حققت تواصلاً مع الساردة ماتت الكلمات على شفتيها وحلت الغيمة الرمادية في عينيها مثقلة بالهموم والدموع ، على الرغم من أنّ الساردة استطاعت أن تعبر عن هموم الآخر/الجماعة من خلال التوغل في اللون الرمادي الكئيب المنبعث من أمكنتهم وملابسهم وعيونــهم .
خاتمة البحث :
إذا كانت الحواس وسيلة لإدارك المظاهر الواقعية من حولنا، فقد انسبغ هذا الإدراك على الخطاب القصصي، واستطاعت الساردة التفاعل مع المدركات الحواسية وخلق محيط للصراع والتوتر مع موضوع قيمها وتدفق أفكارها وانفعالاتـها، وقراءة الواقع حواسيًّا، بحسب تقاطبات ومفارقات مؤلمة، فاستنطقت سيمياء اللون بالدرجة الأولى، لبروزه بشكل أساسي في البرمجة البصرية لما تراه، وأثر ذلك على المسار الدلالي للقصة، فقد سيطر اللون الرمادي، وما عداه كان مجرد بقع صغيرة تشكل صحبته مفارقة وقتية سرعان ما تنزاح لتسود كآبة الرمادي أو الرماد، والحركة التي غلب عليها البطء والضعف والترنح، والأشكال المختلفة للشخوص والجدران والأشياء كانت تسبح في برود وصمت، أمّا المدركات السمعية والشمية فقد وظفتها الساردة للتعبير عن هذه المفارقات فرائحة الفقر الغاضبة تصطدم مع روائح النقود المهادنة، وأصوات الآلات المتعالية تتناقض مع الصوت البشري الخانع الضعيف، كما حققت الساردة رغم إيغالها في الذاتية التعبير عن هموم الجماعة، وأثبت أنه لا تعارض بين الأنا الواحدة وصوت الجماعة، فما الذات إلا وسيط لنقل هموم المجتمع، وتعبيرها عن ذاتــها يتسرب خلال معطيات أيديولوجية تشترك فيها الأنا الواحدة مع مجموع الأنوات الممكنة في المجتمع الواحد .
قائمــة المصادر والمراجــع
*القرآن الكريم ، قراءة قالون عن نافع المدني .
- أصول علم النفس العام : أحمد عزت راجح، دار القلم -بيروت- لبنان، (لا.تا) .
- التواصل الإنساني ودور لغة الجسد (لا يكفيني صوتك لمعرفتك) ، مصطفى العادل ، ضمن الدراسات اللغوية: قضايا ومناهج ، 2017م ، (لا.م) .
- تيارات في السيميـاء ، عادل فاخوري ، دار الطليعــة للطباعة والنشر ، بيروت ، ط1 ، 1990م .
- جامع العلوم في اصطلاحات الفنون الملقب (بدستور العلماء): عبد النبي بن عبد الرسول الأحمد نكري، اعتنى بتهذيبه وتصحيحه: محمود الحيدر آبادي. مؤسسة الأعلمي للمطبوعات – بيروت 1395هـ-1975م. مج1 .
- الحواس الخمس في قصص لطيفة الدليمي دراسة تحليلية لأدوار الحواس في بناء العالم القصصي، علي عزالدين الحطيب، مجلة كلية التربية ، بغداد-العراق، ع9 .
- دروس في الألسنية العامة، فردينان دي سوسير، تعريب: صالح القرمادي ومحمد الشاوش ومحمد عجينة، الدار العربية للكتاب ، تونس ، 1985م .
- سيميائية الصورة (مغامرة سيميائية في أشهر الإرساليات البصرية في العالم)، قدور عبدالله ثاني، دار الغرب، وهران الجزائر، ط1 ، 2005م .
- سيمياء العنوان ، بسام قطوس ، مطبوعات وزارة الثقافة، عمان، ط1 ، 2001م .
- طرائق تحليل القصة، ، الصادق قسومة ، (مفاتيح سلسلة يديرها حسين الواد) دار الجنوب ، تونس ، القسم الثاني ، 2015م ، .
- الفنون البصريــــــة وعبقرية الإدراك، شاكر عبدالحميد، دار العين للنشر، القاهرة، ط1 ، 2007م.
- لسان العرب، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري ، دار صادر، بيروت لبنان، ط1، (لا.تا) .
- لعنة الرواية الـمجموعة القصصية، نادرة العويتي ، دار مداد للطباعـــــة والنشر ، طرابلس ليبيا ، ط1 ، 2009م
- اللغة والحواس رؤية في التواصل والتعبير بالعلامات غير اللسانية ، محمد كشاش، المكتبة العصرية صيدا بيروت ، ط1 ، 1422هـ – 2001م .
- اللون ودلالاته في الشعر (الشعر الأردني نموذجاً) ، ظاهر محمد هزاع الزواهرة، دار الحامد، عمان، ط1، 2008م .
- محاضرات الملتقى الخامس (السيمياء والنص الأدبي) جامعة محمد خيضر بسكرة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية ، قسم الأدب العربي ، 15-17 نوفمبر 2008م ، مداخلة بعنوان: سيمياء الحواس في فوضى الحواس، بايزيد فاطمة الزهراء .
- مدخل إلى علم النفس العام: أحمد فائق ومحمود عبد القادر، الــمــطبعة الفنية الحديثة ، القاهرة، (لا.تا) .
- معجم الكاتبات والأديبات الليبيات تراجم ونصوص، عبدالله سالم مليطان، دار مداد للطباعة والنشر والتوزيع والإنتاج الفني، طرابلس، ط1، 2005م .
- معجم مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، تحقيق وضبط: عبدالسلام محمد هارون، دار الفكر، طبع بإذن: محمد الداية رئيس المجمع العلمي العربي الإسلامي، 1399هــ – 1979م ، ج 2 .
- نزهة الأعين النواظـــر في علم الوجوه والنظائــــر جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ، دراسة وتحقيـــق: محمد عبد الكريم كاظم الراضي ، ط1. مؤسسة الرسالة – بيروت 1404هـ-1984م .
[1]) ينظر: لعنة الرواية، مجموعة القصصية، نادرة العويتي ، دار مداد للطباعة والنشر ، طرابلس ليبيا ، ط1 ، 2009م ، ص 29 – 31 .
*كاتبة ليبية ولدت بدمشق1949م، حيث هاجرت أسرتها إبان الاستعمار الإيطالي لليبيا، كتبت في الصحافة الليبية كمشرفة على الصفحات الأدبية ونشرت بصحف كالفصول الأربعة والناشر العربي، والوطن العربي، والفجر الجديد، والأسبوع الثقافي، والشمس، صدر لها رواية: المرأة التي استنطقت الطبيعة في 1983م، ومجموعات قصصية: حاجز الحزن في1988م، واعترافات أخرى في 1994م، ولعنة الرواية المجموعة التي وردت فيها القصة القصيرة موضوع الدراسة في …… للمزيد ينظر: معجم الكاتبات والأديبات الليبيات تراجم ونصوص، عبدالله سالم مليطان، دار مداد للطباعة والنشر والتوزيع والإنتاج الفني، طرابلس، ط1، 2005م ، ص 69 وما بعدها .
[2]) سورة الذاريات ، الآيتان: 33 – 34 .
[3]) لسان العرب ، ابن منظور ، دار صادر، بيروت لبنان، ط1، د.ت ، مادة سوم ، مج 12 ، ص 312 .
[4]) ينظر : دروس في الألسنية العامة، فردينان دي سوسير، تعريب: صالح القرمادي ومحمد الشاوش ومحمد عجينة، الدار العربية للكتاب ، تونس ، 1985م ، ص 112 . وينظر كذلك: دوسوسير من جديد مدخل إلى اللسانيات، مختار زواوي، ابن النديم للنشر، دار الروافد الثقافية ناشرون، الجزائر، ط1، 2017م، ص 107 .
[5]) تيارات في السيمياء ، عادل فاخوري ، دار الطليعة للطباعة والنشر ، بيروت ، ط1 ، 1990م ، ص8 .
[6]) لسان العرب ، ابن منظور ، مج 6 ، ص 49 ، مادة (حسّ).
[7]) ينظر : معجم مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا ت 395هـ، تحقيق وضبط: عبدالسلام محمد هارون، دار الفكر ، طبع بإذن: محمد الداية، رئيس المجمع العلمي العربي الإسلامي ، 1399ه – 1979م مادة: حس ، ج2، ص9 .
[8]) سورة مريم ، الآية 98 .
[9]) لسان العرب ، ابن منظور، مج6 ، ص49 .
[10]) جامع العلوم في اصطلاحات الفنون الملقب (بدستور العلماء): عبد النبي بن عبد الرسول الأحمد نكري، اعتنى بتهذيبه وتصحيحه: محمود الحيدر آبادي ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات – بيروت 1395هـ-1975م ، ج1 ، ص49.
[11]) ينظر: معجم مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، ج2 ، ص 9، وينظر: لسان العرب، ابن منظور، مادة: حسس مج 6 ، ص 49 .
[12]) اللغة والحواس رؤية في التواصل والتعبير بالعلامات غير اللسانية، محمد كشاش ، ص 29 .
[13]) ينظر: نفسه ، ص 30 – 31 .
[14]) ينظـــر : نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، ت 597هـ، دراسة وتحقيق : محمد عبد الكريم كاظم الراضي ، ط1 ، مؤسسة الرسالة – بيروت 1404هـ-1984م ، ص 240 .
[15]) ينظر : أصول علم النفس العام: أحمد عزت راجح، دار القلم -بيروت- لبنان، (د.ت) ص187.
[16]) ينظر : مدخل إلى علم النفس العام: أحمد فائق، ومــحمود عبد القادر، المطبعة الفنية الحديثة – القاهرة، (لا.تا) ، ص87- 88 .
[17]) طرائق تحليل القصة ، الصادق قسومة ، (مفاتيح سلسلة يديرها حسين الواد) دار الجنوب ، تونس ، 2015م ، القسم الثاني ، ص 55 .
*) المرصد: هو مركز الإبصار أو الموضوع الذي يتم منه النظر، ويطلق على النقطة التي يكون فيها الراوي لرؤية موضوعه . ينظر: نفسه ، ص 56 .
[18]) طرائق تحليل القصة، الصادق قسومة ، القسم الثاني ، ص 55 .
[19]) سيمياء العنوان ، بسام قطوس ، مطبوعات وزارة الثقافة، عمان، ط1 ، 2001م ، ص 39 .
[20]) ينظر: نفسه ، ص 33
[21]) الفنون البصرية وعبقرية الإدراك ، شاكر عبدالحميد ،، دار العين القاهرة، ط1، 2007م ، ص 130 .
[22]) ينظر: اللون ودلالته في الشعر (الشعر الأردني نموذجاً) ، ظاهر محمد هزاع الزواهرة، دار الحامد، عمان، ط1، 2008م ، ص 13 – 17 .
[23]) ينظر: سيميائية الصورة (مغامرة سيميائية في أشهر الإرساليات البصرية في العالم)، قدور عبدالله ثاني، دار الغرب، وهران الجزائر، ط1 ، 2005م ، ص 22
[24]) لعنة الرواية ، نادرة العويتي ، قصة رمادي ، ص 31 .
[25]) نفسه ، ص 29 – 30 .
[26]) لعنة الرواية ، نادرة العويتي ، قصة رمادي ، ص 29 .
[27]) نفســــــــه .
[28]) نفســـه ، ص 30 .
[29]) ينظر: الفنون البصرية وعبقرية الإدراك ، شاكر عبدالحميد ، ص 125 .
[30]) لعنة الرواية ، نادرة العويتي ، قصة رمادي ، ص 29 .
[31]) نفسه ، ص 30 .
[32]) نفسه .
[33]) نفسه .
[34]) نفسه ، ص 29 .
[35]) نفسه .
[36]) محاضرات الملتقى الخامس (السيمياء والنص الأدبي) جامعة محمد خيضر بسكرة ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية ، قسم الأدب العربي ، 15-17 نوفمبر 2008م ، سيمياء الحواس في فوضى الحواس، بايزيد فاطمة الزهراء ، ص 459 .
[37]) اللغة والحواس ، محمد كشاش ، ص 41 .
[38]) لعنة الرواية ، نادرة العويتي ، قصة رمادي ، ص 30 .
[39]) اللغة والحواس ، محمد كشاش ، ص 139 .
[40]) لعنة الرواية ، نادرة العويتي ، قصة رمادي ، ص 30 .
[41]) الحواس الخمس في قصص لطيفة الدليمي دراسة تحليلية لأدوار الحواس في بناء العالم القصصي، علي عزالدين الحطيب، مـــجلة كلية التربية ، بغداد-العراق، ع9 ، ص 157 .
[42]) ينظر: لعنة الرواية ، نادرة العويتي ، قصة رمادي ، ص 29 – 31 .
[43]) ينظر : التواصل الإنساني ودور لغة الجسد ، (لا يكفيني صوتك لــمعرفتك) مصطفى العادل ، ضمن الدراسات اللغوية: قضايا ومناهج، 2017م ، (لا.م) ص 34 – 35 .
[44]) ينظر : طرائق تحليل القصة ، الصادق قسومة ، ج2 ، ص 160 – 161 .