سوسيولوجيا التنظيمات: من ماكس فيبر إلى ميشيل كروزيي
د.مروان لمدبر/جامعة القاضي عياض،مراكش،المغرب
مقال نشر في مجلة جيل العلوم الإنسانية والاجتماعية العدد 34 ص71 .
ملخص:
ارتبط الاهتمام السوسيولوجي بدراسة التنظيمات بالمجتمعات الغربية، خاصة بأوربا وأمريكا الشمالية، حيث عرف الفكر السوسيولوجي المرتبط بالحقل التنظيمي ازدهارا كبيرا انطلاقا من البدايات الأولى له خلال مرحلة الثلاثينيات من القرن العشرين. هذا الازدهار ترجمته مجموعة من الدراسات، والأبحاث، ذات الارتباط سواء بعلم الاجتماع أو بعلم النفس الاجتماعي وأيضا علم النفس، وفي هذا النطاق تبلورت سوسيولوجيا الشغل والتنظيمات والمقاولات كتخصصات علمية دقيقة حاولت التركيز على الإنسان الفاعل والعامل كمركز محوري في التنظيم/ المقاولة بمختلف أنواعها وأشكالها. وتعتبر أعمال ماكس فيبر من أهم هذه الإسهامات وأبرزها على اعتبار أنه أول من قارب الحقل التنظيمي وفق تصور سوسيولوجي مخالف للتصورات التي كانت سائدة خاصة الاقتصادية منها، وقد استطاع فيبر تجاوزها وتقديم فهم أعمق؛ بل أغلب الأعمال التي جاءت بعده تبقى كمحاولات لنقد نمودجه وتطويره وهو ما قام به عالم الاجتماع ميشيل كروزيي على سبيل الثال لا الحصر، وهو ما يسعى هذا المقال إبرازه من خلال إسهاماتهما في سوسيولوجيا التنظيمات.
الكلمات المفتاحية: سوسيولوجيا التنظيمات، البيروقراطية، التحليل الاستراتيجي.
مقدمة:
شكلت سوسيولوجيا التنظيمات إحدى أهم فروع علم الاجتماع التي ظهرت بشكل بارز بعد الحرب العالمية التانية، خصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية. وحسب G.Herreros فسوسيولوجيا التنظيمات ولدت في الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر القرن التاسع عشر في أعقاب سوسيولوجيا الصناعة الموسومة بتيار “الإصلاح الاجتماعي”[1]. وقد عرف هذا التخصص الجديد ازدهارا في امريكا عكس أوروبا التي عرفت تخلفا نسبيا، ويمكن إرجاع ازدهار سوسيولوجيا التنظيمات في الولايات المتحدة الأمريكية إلى سببين:
- السبب الأول: ويمكن القول أنه سياسي تاريخي، بمعنى غياب التوتر الاجتماعي الذي عرفته أوروبا في الولايات المتحدة الأمريكية ( الأحزاب، النقابات، والحركات العمالية…)، وهذا لا يعني غيابها المطلق، وإنما كان عمل هذه التنظيمات فاترا نسبيا مقارنة بأوروبا.
- السبب التاني: ظهور دراسات مرتبطة بعلم النفس الاجتماعي الذي يركز على الفرد، وقد ركزت هذه الدراسات على الحاجيات المرتبطة بالعمل (الإنارة، ظروف العمل…) أي بالعوامل التي تساعد العامل في عمله، إضافة إلى وجود عقلية براغماتية نفعية في الولايات المتحدة الأمريكية والثقافة الأنجلوساكسونية بشكل عام.
ويمكن إرجاع التخلف الذي عرفته أوروبا في ميدان سوسيولوجيا التنظيمات إلى سببين رئيسيين:
- السبب الأول: هو معرفي أكاديمي، أي أن معظم الدراسات السوسيولوجية في أوربا كانت أكاديمية تركز على البحث النظري والمفاهيمي (دوركايم، فيبر، ماركس) أي محاولة إرساء سوسيولوجيا إبستمولوجية معرفية تهم دراسة المجتمع الأوربي، وحتى الدراسات الامبريقية أنجزت لتقعيد المفاهيم السوسيولوجية.
- السبب الثاني: ويمكن القول على أنه سبب تاريخي سياسي. فقد عرفت أوربا تجربة سياسية تمثلت في الأحزاب والنقابات والمؤسسات، مما جعل الاهتمام بالحركات الاجتماعية وفي خضمها الحركات العمالية. وفي دراسة المقاولات تم التركيز على براديغم الحركات الاجتماعية حيث يطالب من خلالها العمال تحسين ظروف عملهم، ومن ثم أصبحنا أمام سوسيولوجيا العمال وليس سوسيولوجيا المقاولات أو التنظيمات.
وقد شكلت الدراسات التي تم إنجازها من قبل فريق البحث بجامعة هارفارد تحت قيادة عالم النفس الاجتماعي الأسترالي E. Mayo وأ عمال الانجليزي Oliver Shildon* نقطة الانطلاق لنشأة علم اجتماع الشغل أو علم الاجتماع الصناعي عند الانكلوساكسونيين. هذه الدراسات كانت قد ركزت على الأبعاد السيكولوجية وخصوصا المستويات المرتبطة بالحاجات الفردية والنفسية للعامل من خلال تصور اجتماعي لمدى تأثير الحاجات النفسية وقيمتها في بناء وتشكل ممارسات وسلوكات العمال في فضاء عملهم. وقد كان لفريق بحث إلتون مايو دور هام في تقديم تصور نقدي لظاهرة البيروقراطية التي وضع أساسها فيبر وذلك بهدف لفت الانتباه لما قد تفرزه البيروقراطية الشكلية من أشكال تنظيم كامنة وموازية، وذلك انطلاقا من التركيز على مستوى حاجات الفرد في فضاء العمل[2].
لقد كان لتراكم مجموعة من الأطروحات التي أثثت المستوى النظري والامبريقي لعلم اجتماع الشغل أو الصناعة، (أعمال تايلور، أوليفر شيلدون، وإلتون مايو، ماكس فيبر،…) القدر الكبير في التأسيس لبراديغم جديد لمقاربة مسألة التنظيمات حيث شهد منتصف القرن العشرين ظهور تخصص قائم بذاته هو علم اجتماع التنظيمات الذي تجاوز الأبعاد التقليدية لعلم اجتماع الشغل.
وبخصوص سوسيولوجيا التنظيمات، فقد حاولت تناول مجموعة من الإشكالات الأساسية من خلال مجموعة من العناصر المركزية لتقديم فهم سوسيولوجي لمختلف التنظيمات سواء الاقتصادية أو التنظيمات الحكومية والمستشفيات والجامعات… هذه الإشكالات تبقى جديدة مقارنة بما ثم إثارته من خلال سوسيولوجيا الشغل، ومن أهم هذه المستويات نجد الاندماج والتكيف ودراسة العلاقات الرسمية وغير الرسمية لمختلف التنظيمات وكذلك دراسة علاقات السلطة واستراتيجيات الفاعلين المتشكلة على خلفية هذه العلاقات…وبشكل عام، فسوسيولوجيا التنظيمات يمكن اعتبارها كدراسة سلوكات الأفرد والجماعات التي يمكن ملاحظتها على مستوى اشتغال التنظيمات. إن سوسيولوجيا التنظيمات تهدف إلى تفسير السلوكات والعلاقات المتوافقة أو غير المتوقعة مقارنة بالقواعد التوجيهية[3]. ويعتبر كل من ماكس فيبر وميشيل كروزيي من أهم علماء الاجتماع الذين أسهموا في إغناء هذا الحقل السوسيولوجي من خلال تصورهما تجاه التنظيمات.
إسهامات ماكس فيبر:
لقد كان لماكس فيبر (1864-1920) Max Weberمن خلال أعماله الأثر البالغ في إغناء النقاشات بخصوص الإهتمام السوسيولوجي بالنتظيمات، ويبقى عملة الموسوم ب: “الاقتصاد والمجتمع” Wirtschaft and Gesellschaft أهم الأعمال التي تركها فيبر بخصوص النموذج المثالي للتنظيم البيروقراطي. ويعتبر الاتجاه الفيبيري Weberian Theory هو الاتجاه الذي يشير إلى أعمال ماكس فيبر في مجال التنظيم الاجتماعي والاقتصادي. فمعظم الدراسات الحديثة، تبقى في عمقها أما تعديلات لأفكار وتصورات فيبر. وقد تناول فيبر تحليل العناصر البيروقراطية في التنظيمات، تلك التي تعمل من أجل تحقيق استمرار التنظيم وبقاءه[4].
لقد انطلقت أعمال ماكس فيبر من خلال تساؤل إشكالي مهم هو: ما الذي يصنع فرادة المجتمع الحديث؟ وقد أكد فيبر أن العقلانية هي السمه الأساسية لهذه المجتمعات. ومن هذه النقطة جاءت تحليلات فيبر للتنظيمات كفضاء لممارسة السلطة ونشرها لتحقيق المشروعية بين الجميع. ويرى فيبر أن عملية العقلانية هذه تؤثر في الحياة الاقتصادية والقانون والإدارة و أنها تشكل الاساس في ظهور الرأسمالية والبيروقراطية والدولة القائمة على أحكام القانون. وجوهر عملية العقلانية هو النزوع المتزايد للفاعلين الاجتماعيين نحو استخدام المعرفة في إطار علاقات غير شخصية بهدف تحقيق سيطرة أعظم على العالم المحيط بهم[5].
وقد اقترح فيبر في كتابه الاقتصاد والمجتمع عدة أنماط من العلاقات الاجتماعية داخل التنظيم، وخاصة أشكال الهيمنة السياسية. إن أشكال الهيمنة في عددها ثلاثة: الهيمنة العقلانية والهيمنة التقليدية والهيمنة الكاريزمية. وهذه النمذجة تتأسس على خاصية التحفيز التي تقود للطاعة[6]. وهذه الأنماط هي:
- الهيمنة التقليدية: تتأسس مشروعية هذا النمط على الصفة المقدسة للتقاليد داخل تنظيم معين والهيمنة التقليدية مرتبطة بالمكانة الاجتماعية للقائمين على السلطة. وحسب فيبر فهذا النمط من السلطة له ثأثير على المجتمع، يتمثل أساسا في إضعاف مواقف وأنشطة الأفراد سواء الاقتصادية الواعية أو العقلانية، بمعنى أن القائد أو الحاكم الذي يعتمد هذه الامتيازات للتصرف في المجتمع يجعل الأفراد غير قادرين على القيام بمبادرات اقتصادية ومالية وتجارية…مخافة الاصطدام بسلطة القائد أو الحاكم.
ب- الهيمنة الكاريزمية: يقصد بالكاريزما مجموعة من الصفات والخصائص غير الاعتيادية التي يتميز بها شخص سواء كانت هذه الصفات حقيقية أو غير حقيقية. ويرتبط هذا النمط أساسا بقوة شخصية معينة ذات هالة قوية. وتقوم سلطة هذا النمط على قوة القائد عبر قدرته على الإقناع وجمع وتجميع الجميع من حوله، وهي مواصفات تفوق مواصفات باقي الأشخاص العاديين. والتاريخ الغربي والشرقي مليء بنماذج كاريزمية واضحة. إن مصطلح “القائد الكارزمي” ظهر بشكل كبير في العصر الحديث، وحسب فيبر فهذا النوع من القادة الكارزميين يظهرون في المجتمعات العقلانية عند مرورها بأزمات، بحيث أن المؤسسات السياسية تصبح غير قادرة على القيام بأدوارها ووظائفها، ومن هنا تظهر زعامات إما سياسية أو دينية…تدعوا إلى التغيير وضرورة تطوير النظام السياسي بشكل عام. ويضيف فيبر أن هذا النوع من السلطة غير عقلاني وإنما انفعالي يعتمد على الثقة.
ج- الهيمنة العقلانية / القانونية: يرتبط هذا النموذج داخل أي تنظيم بسلطة القانون الواضح والصريح وغير الشخصي. إن السلطة العقلانية حسب فيبر تستمد شرعيتها من القانون والقواعد والنصوص القانونية…إن السيطرة العقلانية هنا هي من مميزات التنظيمات والمجتمعات الحديثة. والممارس للسلطة في هذه الحالة يستند لهذه القواعد والقوانين غير الشخصية، من هنا تكون سلطته محدودة.
ويعتقد فيبر أن من أهم الأسباب التي ساعدت أوروبا في الانتقال من مرحلة النظام الاقطاعي إلى مرحلة الدولة-الامة في صورتها الديمقراطية بعد مرورها من الملكيات المطلقة هو تجريد السلطة من طابعها الشخصي وإضفاء الطابع المؤسساتي العقلاني.
إن فيبر من خلال تقديمه للنماذج السابقة حاول أن يمنحنا أنماطا مثالية والمقصود بذلك، مجموعة من البناءات النظرية الهادفة إلى القيام بمقارنات مع الواقع وكذلك تحليل الفوارق.
وقد قدم فيبر تصوره بخصوص التنظيمات الحديثة من خلال ما يعرف ب”التنظيم البيروقراطي”، وحسب فيبر فالبيروقراطية* هي شكل من أشكال التنظيمات الاجتماعية الحديثة، بحيث أصبحت هذه الظاهرة تعرف نموا مفرطا سواء في حجمها أو في مجالات اختصاصاتها في المجتمعات الصناعية، سواء في القطاع العام أي إدارة الدولة أو القطاع الخاص.
وتمثل الإدارة البيروقراطية النمط الخالص للهيمنة الشرعية، وتندرج السلطة المبنية على الكفاءة وليس على الأصل الاجتماعي، ضمن إطار من وضع تدابير موضوعية غير شخصية، وينقسم تنفيذ المهام إلى وظائف متخصصة ذات حدود محددة بشكل منهجي. وتدار المهن بقرائن موضوعية من الكفاءة والأقدمية… وليس عن طريق قرائن فردية…
ويحدد فيبر أن هذا النمط من التنظيم ليس خاصا بالإدارة العامة، بل يخص أيضا التنظيمات الرأسمالية الكبرى. وتتصف البيروقراطية بنمط إداري وبنمط من التنظيم مؤسس على عقلنة الأهداف مثلما بدأ تطبيقها مع F.W.Taylor و H.Fayol، هذه العقلانية تمس أيضا أشكال الفكر، عبر انطلاقة العلوم والتقنيات. إن التحول العلماني والتحول التقني للفكر يضعان نهاية لعالم الأساطير والمعتقدات الدينية. وهذا هو معنى الصياغة الجميلة لتعبير “نزع السحر عن العالم” [7]Disenchantment.
وقد وضع فيبر مجموعة من الخصائص، وهي تعتبر في رأيه كمعايير لنجاح أو فشل التنظيم، وهذه القواعد تستمد من المجتمع الكلي، أي أن المجتمعات الرأسمالية وصلت درجة من العقلانية بحيث أصبح لا مجال للعواطف والقيم التقليدية.
فالنموذج المثالي أو النمط الخالص للسيطرة الشرعية عند فيبر هو التسيير الإداري البيروقراطي. وتكون صلاحيات من يملك السلطة في هذا التسيير عبارة عن “كفاءات” شرعية سواء كانت هذه الصلاحيات نابعة من الملكية أو بموجب انتخابات أو عن طريق تعيين سابق. وتتشكل الادارة المسيرة في صيغتها الخالصة من موظفين فرديين تتوفر فيهم المواصفات التالية:
- أنهم أحرار، ولا يخضعون سوى للواجبات الموضوعية.
- يتوزعون حسب تراتبية للوظيفة الموضوعة بشكل محكم.
- يتمتعون بكفايات مرتبطة بالوظيفة ومعترف بها.
- إنهم موضوع تعاقد، ولهذا يخضعون مبدئيا لانتقاء مفتوح.
- يتم هذا الانتقاء بناء على التأهيل المهني، وهو في الحالات الأكثر عقلانية، تأهيل مهني يتم التحقق منه من خلال الامتحان، وعن طريق الشهادة.
- تمنح لهم أجور قارة حسب المركز في التسلسل الاداري وحسب المسؤولية التي يتحملونها كما يتمتعون بالحق في التعاقد(…).
- يتصرفون إزاء وظيفتهم كمهنتهم الوحيدة أو الرئيسية.
- وأخيرا، لهم مسار مهني، ويتسلقون الدرجات تبعا للأقديمة[8].
ويربط فيبر ظهور النموذج البيروقراطي الذي يتميز بالعقلانية والموضوعية إلى مجموعة من الظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، ومن بين هذه العوامل نجد:
- التطور الذي عرفه الاقتصاد النقدي، مما أتاح دفع الاجور النقدية للمنتسبين للتنظيم.
- ظهور نظام ضريبي وفر للأجهزة البيروقراطية الحكومية الاستفادة من مداخيل قارة.
وهنا يشير فيبر على أن مستوى التنظيم البيروقراطي في المجتمعات الحضرية أعلى وأكثر تطورا من نظيراتها غير الحضرية بسبب حضوره في الأولى واختفاءه في الثانية، إضافة إلى ما سبق، فتراكم المشاكل ونمو حجم العمل داخل المجتمعات الحديثة كان له دور في تشجيع ظهور التنظيم البيروقراطي. إن التنظيم البيروقراطي عند فيبر في حالة تمسكه ونهجه للقواعد والممارسات والأفعال السابقة (اعتماد الكفاءات والتعاقد والتخصص وتقسيم العمل والترقية…) يكون عبارة عن اليات عقلانية تسهم في عملية تحديت المجتمعات.
لقد واجهت نظرية ماكس فيبر مجموعة من الانتقادات، ولكن رغم ذلك فتصوره مازال يتم اعتماده في تسيير وتدبير مجموعة من التنظيمات سواء الحكومية أو غير الحكومية، الصناعية أو غير الصناعية…
وما يمكن قوله بخصوص الانتقادات الموجهة لفيبر، أن أغلبها كان مصدره أصحاب الاتجاه الوظيفي في علم الاجتماع، وهذه الانتقادات ترتبط بالجانب الوظيفي للتنظيم. فإذا كان فيبر اهتم بموضوع اسهام العناصر التنظيمية المختلفة في تحقيق الفعالية، فإنه بالمقابل لم ينجح في إبراز وكشف المعيقات الوظيفية التي تنطوي عليها هذه العناصر. وحسب ميرتون Merton فالنموذج المثالي يفتقد تلك الملائمة (الموازنة) اللازمة بين الوظيفة والخلل الوظيفي.
وبالموازاة مع ذلك، ذهب Gouldner إلى ما أكده ميرتون، حيث أجرى جولدنر دراسة امبريقية على أحد المصانع وتوصل أن تمة تناقضا خفيا في النموذج المثالي، ويتمثل ذلك في مستويين: التسلسل الرئاسي والمعرفة التقنية أي بين الادارة القائمة على الخبرة الفنية والأخرى القائمة على النظام والانضباط، حيث أكد انه في حالة توفر الخاصيتين، فإنه من الصعب أن يؤدي التنظيم أنشطته في تكامل وانسجام، بمعنى أن فرص ظهور الصراع ستكون كبيرة
وهناك انتقاد شائع يشترك فيه دارسو التنظيمات ذوي الاتجاهات المختلفة مؤداه، أن نموذج فيبر قد بالغ في تأكيد الجوانب الرسمية والمظاهر النظامية للتنظيم، متجاهلا بذلك تلك العلاقات الاجتماعية غير الرسمية التي تنمو في التنظيم والتي تلعب دورا هاما في تحديد طابعه وأدائه لوظائفه. ولقد كان فيليب سلزنيك Selznick من أوائل من اهتموا بدراسة هذه النقطة في مقالين نظريين هامين *كما وجه كل من تشارلز بيدج Page نقذه لنموذج فيبر بخصوص ديناميات التنظيم، و كذلك اتزيوني Etzioni ومارتنديل Martindale واندريسكي Andreski كلهم ركزوا نقدهم لأنماط السلطة…[9]. ومن أهم الانتقادات الموجهة لنموذج فيبر، نجد انتقادات كروزيي والتي كانت نقطة انطلاقه لبناء نظريته الموسومة بالتحليل الاستراتيجي.
إسهامات ميشيل كروزيي
شكلت أعمال عالم الاجتماع Michel-Crozier(1912)، خصوصا ما يعرف بنظرية التحليل الاستراتيجي إحدى أهم المحاولات في تطوير التحليل المتعلق بالظاهرة البيروقراطية. وقد قدم كروزيي قبل ذلك انتقادات لمجموعة من النظريات خاصة منها الكلاسيكية (تايلور وفورد وفايول…) وكذلك لمدرسة العلاقات الانسانية (مدرسة هارفارد:أوليفر شيلدون وإلتون مايو…). وقد رفض كروزيي كل أشكال الحتمية المطلقة التي ميزت الفكر التنظيمي. وقد كان لماكس فيبر والوظيفية (ميرتون وبارسونز) وعلوم التنظيم الامريكية تأثيرا بالغا على ميشيل كروزيي الذي يحاول تجاوز عيوبها ونقائصها النظرية، فينتقد بالمناسبة ماكس فيبر في اعتقاده في التفوق المطلق للنموذج التسلسلي القانوني والبيروقراطي، أما فيما يخص الفعالية، إذ يبين تحليل الوقائع أنه كلما ساد هذا النموذج كلما كان التنظيم أقل فعالية[10]. ويمكن تقديم أهم مصادر التحليل الاستراتيجي[11] في العناصر أسفله:
– مدرسة العلاقات الإنسانية.
– ماكس فيبر.
– سوسيولوجيا التنظيم الأمريكية (أ.و.غولنير، بول سيلزنيك…).
– البنيوية الوظيفية (ر.ك.ميرتون، تالكوت بارسونز…).
انطلق كروزيي في نظريته التحليل الاستراتيجي من محاولة تطوير التحليل المتعلق بالظاهرة البيروقراطية. وقد قدم كروزيي من قبل ذلك انتقادات لمجموعة من النظريات، خاصة منها الكلاسيكية (المدرسة الكلاسيكية مع تايلور وفايول وفيبر…)، وكذلك لمدرسة العلاقات الانسانية (مدرسة هارفارد مع مايو…). وحسب كروزيي فإن الإنسان في التنظيم لا يمكن اعتباره كيد عاملة كما تصورت ذلك نظرية التنظيم العلمي للعمل لفردريك تايلور ولا كيد وقلب حسب مدرسة العلاقات الإنسانية، إن هذه الاتجاهات وغيرها تتناسى/تغفل فكرة أن الإنسان يملك عقلا يفكر به، وله حرية وبمعنى أكثر وضوحا،إنه عبارة عن فاعل مستقل قادر على الحساب والتحكم والتسيير، كما أنه قادر على التأقلم والابتكار في ظل الظروف السائدة وحركية باقي الشركاء[12]. كما وجه كروزيي انتقاده لأنصار الاتجاه السلوكي في فهم التنظيم. وقد أكد ذلك من خلال اعتباره أن التفسيرات التي قدمها السلوكيون تبقى محدودة على اعتبار أنهم ركزوا على العلاقة الفردية للفاعل في التنظيم، فهم اعتبروا أن الأفراد في التنظيم يتوفرون على نماذج مثالية للصحة النفسية والعقلية، بمعنى أن تفسير الألعاب التنظيمية يتم انطلاقا من المستوى النفسي والعقلي فقط، وهنا يكون أصحاب هذا الاتجاه إما أمام إهمال لكل التعقيد الذي يميز السلوكات الإنسانية في التنظيم أو المقاولة، والذي قد تنفي حتى أكثر النظريات التي تدعي معرفة بالدافعية، هذا إلى جانب التركيز على الفرد وتناسي وجود الجماعة[13]. إن التحليل الإستراتيجي يبقى بمثابة انقلاب كلي في التصور مقارنة بالتنظيم العلمي للعمل(OST) واتجاه العلاقات الانسانية[14].
لقد رفض كروزيي كل أشكال الحتمية المطلقة التي ميزت الفكر التنظيمي. وقدم كروزيي أفكاره في عملين أساسيين هما:
- الظاهرة البيروقراطية 1963.
- الفاعل والنسق 1977.
إن كروزيي من خلال مقاربته أو تصوره الجديد لعلاقة الفرد بالتنظيم حاول التوفيق بين الاتجاهين البارزين في تفسير السلوك الاجتماعي:
- الاتجاه الأول: والذي يفسر السلوكات الاجتماعية انطلاقا من الحتمية الفردية، بمعنى تأثير التاريخ الشخصي كالوسط الاجتماعي العائلي والطبقي في سلوكات وأفعال الفرد؛ وهو ما يمكن اختصاره في مفهوم Bourdieu الهابتوس Habitus.
- الاتجاه الثاني: وهو ما يعرف باتجاه النزعة السوسيولوجية ويمثله إ. دوركايم؛ هذا التوجه يحدد الفرد في يد الوعي الجمعي، وينفي على الفرد القدرة على الاختيار وتبني القرارات والإبداع…
إن كروزيي هنا حاول التوفيق بين هذين التصورين مقدما في خضم ذلك انتقادات للتصور البيروقراطي، بمعنى أن العلاقة بين التنظيم والفرد هي وليدة لعبة Jeu بين طرفين في التنظيم من خلال الضوابط الرسمية التي يكوم هدفها تنظيم سلوكات الأفراد مما يخلق عوائق أمام الفاعل، وهذا الأخير بهدف تجاوزها يكون أمام ضرورة تبني استراتيجيات معينة تختلف من فاعل إلى اخر انطلاقا من الكفاءة المعرفية من جهة والظروف التنظيمية التي يعيشها الفاعل من جهة أخرى.
لقد حاول كروزيي من خلال نظريته التحليل الاستراتيجي تقديم تصور جديد يحاول دراسة علاقات السلطة داخل التنظيم. ويمكن تناول نظرية التحليل الاستراتيجي من خلال مستويين:
- أهم المسلمات الأساسية لنظرية كروزيي.
- الجهاز المفاهيمي للتحليل الاستراتيجي.
حسب Ph. Bernoux في عمله الموسوم ب:La sociologie des entreprises فنظرية التحليل الاستراتيجي تقوم على أربع مسلمات أساسية :
- المسلمة الأولى: التنظيم هو بناء والفاعلون فيه هم من يؤسسون الاجابات على الاكراهات التي يواجهونها…
- المسلمة الثانية: حسب كروزيي إن الافراد داخل التنظيم لا يقبلوا أن يعاملوا كأدوات ووسائل بهدف تحقيق أهداف التنظيم، وهذا مفاده أن لكل منهم غاياته وأهدافه الخاصة. إن هذا الطرح لا يعني حتما أن الاهداف الخاصة متناقضة ومتعارضة مع أهداف التنظيم. وحسب بيرنو فإن هذه المسلمة يمكن الاستنتاج منها أن أي تنظيم مهما وصلت مراقبته وإخضاعه لأفعال وسلوكات المنتمين إليه، فإن هذه العقلانية تبقى محدودة وغير مطلقة.
- المسلمة الثالثة: إن الفاعل داخل التنظيم يتمتع بنوع من الحرية، وهذه الأخيرة تمنح له درجة من الاستقلالية عن التنظيم مما يمكنه من الحصول على قدرة الاختيار في أن يسهم ويشارك أو العكس من ذلك، حتى وإن كان مفروض عليه المشاركة. إن الاستقلالية هنا تعطيه إمكانية تحديد مستوى المشاركة؛ فالتنظيم يسعى إلى الحد من درجة هذه الاستقلالية والفاعل يحاول انطلاقا من ما يتوفر عليه من قدرات أن يعزز هذه الاستقلالية أو على الاقل أن يحافظ عليها.
- المسلمة الرابعة: يعتبر كروزيي أن الاستراتيجية التي يختارها الفاعلين، سواء في علاقتهم ببعضهم البعض أو في علاقتهم بالتنظيم تتميز بالعقلانية إلا أن هذه العقلانية محدودة وذلك راجع بطبيعة الحال إلى وجود استراتيجيات أخرى مضادة، إضافة إلى عوائق السياق المتعددة. وهنا لا يمكن لأي فاعل مهما كانت له القدرة أن يجد الوقت والوسائل التي تمكنه من التوصل إلى حل عقلاني أو أمثل بهدف تحقيق أهدافه. وهنا يكون هذا الفاعل أمام حل مرضي نسبيا أو أمام الحل الأقل ضرار بالنسبة إليه في ظل الحواجز والإمكانيات التي يحتكم إليها[15].
وإلى جانب هذه المسلمات، اعتمد كروزيي على جهاز مفاهيمي بمثابة الإطار النظرى والمنهجي الأساسي لبسط وتدعيم نظريته في فهم وتحليل الحقل التنظيمي سوسيولوجيا، ومن هنا فإن فهم نظريته هذه يتطلب ضرورة تحديد وعرض أهم المفاهيم الأساسية:
- الفاعل Acteur: التنظيم أو المقاولة تتفاعل داخله مجموعة من العناصر، الفاعلين الاجتماعيين. والفاعل قد يكون فردا أو جماعة. وهذا الفاعل يتبنى استراتيجية معينة بهدف توفير أكبر الحظوظ المكنة للربح والمنافع الذاتية. الاستراتيجية لا تكون بالضرورة واضحة وواعية ضمن الفرد ويتم شرحها من بعد ما يمر الفاعل للممارسة.
إن هذه الاستراتيجة ترتبط بعقلانية محدودة ومتعددة باختلاف الوضعيات التي يتموضع فيها الفاعل الاجتماعي، فداخل المقاولة يتحدد الفاعل الاجتماعي من خلال تفاعله مع الآخر، وقد يتكتلوا في فاعل اجتماعي واحد بهدف تحقيق هدف معين وحسب وضعية معينة، لكن بعد تحقيق هدف هذا الفاعل، يتفكك من جديد ليعطي فاعلين اجتماعيين كل مستقل وكل له رهاناته الفردية، والاستراتيجية تتحقق عبر الوضعية والإكراهات ثم العقلانية[16]. إن استراتيجية الفاعل حسب كروزيي تبقى كل تصرف ذو معنى حتى لو لم يكن مرغوبا فيه، أو كان مصدره من الفاعل عن غير وعي.
- السلطةPouvoir : تعد السلطة من المفاهيم الأساسية عند كروزيي، وهي لا تأتي من الموقع الهرمي الذي يحتله الفاعل، بل انطلاقا من التصورات والتمثلات التي يصبها الأفراد على هذا الفرد، وليس ما يخوله القانون من الحق في إعطاء الأوامر في الإدارات. إنها نسق يحدد العلاقات بين العمال والإدارة وهي القدرة على التأثير، إن السلطة هنا ليست صفة بل إنها علاقة تبادل يتم التفاوض بخصوصها. إن السلطة كمفهوم عند كروزيي تبقى عنصرا أساسيا في التحليل السوسيولوجي الكروزيي، وهذا ما نجده بارزا عند الرجوع إلى أعماله، خاصة منها مؤلفه الموسوم بالظاهرة البيروقراطية وأيضا مؤلفه الفاعل والنسق. وحسب كروزيي فالسلطة تشمل أو تستلزم دائما إمكانية أن بعض الأفراد أو المجموعات لهم قدرة التحكم في أفراد أو مجموعات أخرى؛ وهذا التحكم يقصد به الدخول معهم في علاقة، وهذه الأخيرة تتطور في خضمها سلطة البعض على البعض الأخر. إن السلطة عند كرزيي ليست صفة/ ميزة يتسم بها الفاعلون، ولكنها علاقة تبادل تتأسس انطلاقا من التفاوض بين شخصين على الإقل[17].
ويحدد كروزيي أربع مصادر للسلطة[18] وهي كالتالي:
- امتلاك الفاعل للكفاءة ولقدرات تخصصية من الصعب تعويضها.
- التحكم في مناطق الظل المرتبطة بعلاقات التنظيم بسياقه الخارجي.
- التحكم في قنوات التواصل وتدفق المعلومات بين مختلف وحدات وأعضاء التنظيم.
- التحكم في القواعد التنظيمية.
- مناطق الظل Zone d’incertitude: هي المصدر الذي يستمد منه الفاعل سلطته على الآخرين. فالجانب الرسمي داخل التنظيم لا يستطيع أن يقنن ويهيكل كل الجزئيات والتفاصيل بهدف الحد من درجة حرية الفاعل وتقويض استقلاليته، وهذا يجعل التنظيم يترك فراغا أو منفذا يعمل العامل على استغلاله في بناء استراتيجية معينة، إما هجومية أو دفاعية. إن هذا الاستغلال لمناطق الظل من قبل فاعل معين يمنحه الأسبقية عن باقي الأطراف المتفاعلة معه في تلك العلاقة التبعية التي تجمعهم ببعضهم البعض داخل المجال التنظيمي، وتصبح بالنسبة إليه مصدرا للسلطة، وتزيد أهمية منطقة الظل وتنقص حسب درجة تبعية الأفراد الاخرين إليه وحسب درجة سلطته عليهم وكذلك من عدم قدرة هؤلاء على الاستغناء عليه أو على الكفاءة والقدرة التي يمتلكها. وهذه الكفاءة والقدرة لها مصادر أساسية وهي:
- الكفاءة والقدرة المهنية المتميزة في القضاء على مناطق الظل الداخلية للنسق.
- القدرة والكفاءة العالية أو النوعية في علاقتها مع السياق الخارجي للتنظيم.
- امتلاك المعلومات وتدبيرها لكن بشرط أن تكون هذه المعلومة تشكل رهانا حقيقيا بالنسبة للإطراف الأخرى؛
- التمسك الحرفي بتطبيق وتنزيل القانون الذي يمكن الفاعل من امتلاك قدرة دفاعية أو هجومية انطلاقا من الوضعية التنظيمية التي يتموقع فيها.
- النسق الفعلي للأفعال Système d’action concret
كل تنظيم يتكون من مجموعة معينة من الفاعلين، وهؤلاء الفاعلين يعملون على هيكلة وتنظيم علاقاتهم إما عن طريق الترابط المتبادل، وإما عن طريق التفاعل المتبادل، وهذا يحدث في الوضعية المستقرة للتنظيم. وهنا يكون النسق الملموس للأفعال هو تلك الكيفية التي يهيكل بها الكيان البشري في التنظيم باعتبارهم فاعلين اجتماعيين علاقاتهم الداخلية، بمعنى أخر: الطريقة التي ينظم بها الفاعلون نسق علاقاتهم التفاعلية بهدف مجابهة ومعالجة مختلف الإشكالات التدبيرية والتسييرية والانتاجية…، وهؤلاء الفاعلين حين قيامهم بذلك، لا يكون وفق صورة حيادية وجردة ولكن وفق أهدافهم التي تكون ضمنيا أو علنيا متوافقة مع غايات التنظيم. وهذا النسق الفعلي للأفعال يشمل بدوره نسقين فرعيين هها:
- النسق الفرعي لضبط العلاقات Le système de régulation des relations : مجموع القواعد والضوابط التي يتم إنتاجها من قبل الافراد داخل التنظيم، وهدفها حل ومعالجة المشاكل اليومية للتنظيم من جهة أولى، وتوجيه ومعيرة سلوكاتهم وأفعالهم في علاقاتهم ببعضهم البعض من جهة ثانية، وفي علاقتهم بعملهم أو موضوعاتهم اليومية من جهة ثالثة. فمثلا إذا وقع عطل في آلة من الآلات ماذا يفعل العامل المكلف من أجل مواجهة هذه الإشكالية الإنتاجية، هل يتصل بمسئوله المباشر؟ أو بالعون المعني؟ أو بمسؤول العامل المعني؟… إلخ إذن هناك نسق من القواعد والقوانين مهما كانت جزئية وغير مشكلة بصورة رسمية، فهي تعمل على ضبط العلاقة بين الفاعلين المتواجدين داخل المنظمة وهذا ما يطلق عليه بالنسق الفرعي لضبط العلاقات.
ب-نسق التحالفات Système des alliances : وهو النسق الذي يحكم التحالفات بين الفاعلين داخل التنظيم، بحيث في هذا الشكل من العلاقات فإن الفاعل المعين من أجل قضية معينة فإنه يعرف جيدا من هو الحليف أو الحلفاء الذين سيساندونه، فإن التحالفات داخل المؤسسة ميزتها الأساسية أنها ظرفية ومرتبطة بقضية محددة وعلى أساسها يتم تحديد كيف أن المجموعة تعالج قضاياها المطروحة عليها، انطلاقا من أهدافها الخاصة وأهداف المجموعة المنتمية إليها. فالنسق الفرعي للتحالفات ضروري في المؤسسة، لكون أنها معرضة دائما لعدد كبير من حالات الارتياب Incertitudes والحلول المقترحة لهذه الارتيابات ليست بديهية أو مبرمجة مسبقا مما يجعل الفاعلين يتجابهون و يتنازعون بسببها لفرض الحلول التي يراها كل فاعل (سواء كان فردا أو مجموعة) بأنها هي المناسبة، وذلك كما قلنا مع الأخذ بعين الاعتبار استراتيجياتهم الخاصة سواء للمحافظة على وضعياتهم في التنظيم كما هي أو لتعظيمها. أما الذي يفرق بين النسق الفرعي الأول عن النسق الفرعي الثاني هو أن نسق التحالفات يتميز بالظرفية ويكون عادة مرتبط بحالات خاصة وطارئة، أما نسق ضبط العلاقات يتميز بالديمومة ويقوم بتنظيم وهيكلة العلاقات المستقرة والمنتظمة. أما عن المحتوى الذي يعطيه كل من كروزيي M. Crozier وفريدبارغ Friedberg لمفهوم النسق الفعلي للأفعال بأنه يرتكز فقط على القواعد والضوابط التي تحكم قواعد اللعبة الاستراتيجية في التنظيم وتتميز بالاستقرار النسبي أي أن النسق الفعلي للأفعال هو مطابق أو يشتمل فقط على النسق الفرعي لضبط العلاقات Le système de régulation des relations أو كما ترى دبيرفيل بياتريس Dauberville Béatrice وآخرون “أن النسق الفعلي للأفعال عند كروزيي وفريدبارغ يعني وجود حد أدنى من الانتظام والترابط المتبادل Interdépendance على خلفية الفوضى الظاهرة في العلاقات الاستراتيجية بن الفاعلين -سواء كانوا أفرادا أو مجموعات- المتواجدين في حقل تنظيمي معين[19].
- العقلانية[20] Rationalité
القدرة على ترشيد الموارد المادية والفكرية لبلوغ أهداف معينة. وليس هناك عقلانية وحيدة؛ لأن هناك وسائل واستراتيجيات متعددة لتوظيف الموارد بغية الوصول إلي الغايات وتحقيق النتائج. وحسب March و Simon فالإنسان تبنى نمط تفكير أحادي الجانب للوصول إلى الحد الأقصى للفائد والمكاسب وحل أمثل لجميع المشاكل بطريقة خطية يتبعها الفرد دون أن يترك المجال للتفكير. وهذا النموذج في التفكير و العقلنة خاطئ في نظر Crozier و Friedberg، إذ أن حرية وأهداف وعقلانية وحاجيات ومشاعر الفاعلين تبنى اجتماعيا وليست معطيات مجردة، كما أن الفاعلين لا يمتلكون سوى حرية محدودة وعقلانيتهم أيضا محدودة.
إذن، فالإشكال لا يتعلق بالتفكير أو بالتفسير، لكن يتعلق بإستراتيجية البحث التي تسمح بمعرفة الظروف المادية والبنيوية والإنسانية للظرفية التي تحت وتعرف هذه الحرية وهذه العقلانية، ومنه معنى السلوكات الملاحظة في الواقع. أي فهم الظرفية التي تحدد تصرف وسلوك وإستراتيجية وعقلانية الفاعلين الاجتماعيين والتي لا تلاحظ كوقائع عينية في الواقع المعاش.
- التنظيم Organisation :
التنظيم لا يمكن تعريفه كأنه جماعة من الأفراد، إنه الفضاء الذي تنسج فيه علاقات السلطة، وعلاقات التفاعل بين التأثير والتأثر، التسويق والتبادل التجاري والحساب (ترشيد الموارد).
إن التنظيمات/ المقاولات ليست آليات الضغط والإكراه كما تظهر لمنتقديها، فعلاقات الصراع والتنافر ليست موجودة وفق مخطط قبلي، والمقاولة ليست محبولة على الصراع لكنها تشكل ذلك الفضاء الذي يتم فيه التعبير عن التناقضات والرهانات المختلفة، لكن في ذلك الوقت هناك تنسيق بين الأفراد. إن التنظيم لا يمكن تعريفه تعريفا ماديا كتحديد عيني، بل هو شيء يبنى اجتماعيا وبه رهانات مختلفة، ومظاهر للتنسيق[21]…إن كروزيي وفريدبارغ يعتبران أن التنظيم ظاهرة سوسيولوجية، وهو بناء اجتماعي يوجد ويتغير فقط لكون أنه يستطيع الاستناد إلى ألعاب تمكنه من الاندماج مع استراتيجيات الفاعلين به، كما أنه يضمن للمشاركين استقلاليتهم كفاعلين أحرار ومتعاونيين[22].
إن التنظيم حسب كروزيي لا يستطيع أن يشتغل كآلة ولن يستطيع ذلك أبدا، فمردوديته لها علاقة بكفاءة الكل الانساني المكون له فيما يتعلق بتنسيق الأنشطة بطريقة عقلانية وهذا مرتبط بتطور التكنولوجيا ولكن مرتبط أساسا بالشكل الذي يكون فيه الأفراد قادرين على ممارسة اللعب، أي بمعنى لعبة التعاون فيما بينهم[23].
إن الجهاز المفاهيمي للتحليل الاستراتيجي يتميز بتعدده وتنوعه، وهو ما يستدعي المهتم به ان يضطلع على أعمال مختلفة عند كروزيي وفريدبارغ، هذه الاضطلاع الكامل والشامل هو الكفيل بإعطاء تصور أولي للعمق السوسيولوجي في هذه النظرية والوقوف على التجديد الذي قدمته في محاولة فهم غرائب الواقع الاجتماعي للحقل التنظيمي وفق تصور سوسيولوجي.
بعض التصورات النقدية
إن إسهامات م. كروزيي في حقل سوسيولوجيا التنظيمات تبقى ذات عمق سوسيولوجي هام. لقد اسهم التحليل الاستراتيجي النسقي بلا شك في تجديد سوسيولوجيا التنظيم انطلاقا من مفهوم علاقات السلطة، غير أنه بصفة عامة، يتغاضى عن مصادر التفاوت في علاقات السلطة ومعنى ذلك أنه لا يتطرق إلى المحددات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والسيكولوجية والديمغرافية وغيرها، لهذا التفاوت في علاقات السلطة. وبتعبير اخر يتجه تحليل التنظيم الاجتماعي للنزاعات ولعلاقات السلطة إلى الالتفاف حول نفسه دون مرجعية للعوامل الخارجية. يقول كروزيي وفريدبارغ إن “القوة والثراء والسمعة والسلطة، وباختصار كل موارد يكتسبها أولائك أو هؤلاء لا تتدخل إلا حين تمنح حرية فعل أكبر”. ولكن من أين تأتي هذه الموارد التي يكتسبها هؤلاء وهؤلاء؟ هل تظهر في علاقة السلطة أم سابقة لها؟ يعترف الكاتبان بأنهما يدركان “التفاوت الهيكلي الذي يميز إمكانيات الفعل المتعددة لمختلف “اللاعبين” داخل التنظيم” لا كنهما لا يوليان له الاعتبار في نموذجيهما؛ وذلك ما يلاحظه بيار رول (P.Rolle) حين يقول أن: “الورشة ما هي إلا بلورة نشاطات ضمن نسق يتجاوزها إلى حد بعيد جدا، والذي يرسم الشروط الأساسية للتفاعلات التي نلاحظها فيه، نسق لا يمكن للمنظم تجاهله حتى وإن لم يستطع تحويله”. وعلى هذا الأساس تقوم الفكرة القائلة بإمكانية وجود تسلسل هرمي لعلاقات سلطة تحددها عوامل خارجية عنها، وذلك ما لا يأخده تحليل كروزيي بالحسبان[24](..). ومن الانتقادات الموجهة لكروزيي أنه ركز على اللعب في التنظيم ومناطق الظل كمصادر للسلطة مع إغفال موارد خارجية مثل رأس المال والقوى البوليسية والانتماء الطبقي والطائفي أو كذلك التأثير الشخصي من طابع مادي وسيكولوجي، وهذا ما دهب إليه Sansaulieu.
وعموما، يلقى التحليل الإستراتيجي بذلك بعض الصعوبات في إحداث نقلة من السوسيولوجيا الجزئية إلى تحليل المجتمع بصفة عامة، ذلك أن المجموعات الاتصالية التي أسسها، من الفرد إلى الاجتماعي غير موجودة بهذه الصفة. وبتعبير اخر لا يمكن اختزال الاجتماعي في التنظيمي وحده الذي يخفي الارتياب مصدر السلطة، إذ من المؤكد وجود قوى من طبيعة أخرى تــعبر الاجتماعي، وعلى هذا الأساس نتساءل عن ما إذا لم تمثل الرغبة في وصف كل الحالات الاجتماعية بشبكة تحليل واحدة خطرا؟
في الختام، يرى سانسوليو أن التحليل الاستراتيجي يحول الفاعل إلى نوع من الإنسان الاستراتيجي يشكل الحساب والمساومة وبالتالي العقلانية أهم صفاته. يمتاز الفاعلون بقابلية الإستبدال، كما يظهر الفاعل الجماعي من جهة أخرى بمثابة مركب متجانس من الأفراد المتماثلين، وحسب الكاتب ذاته تكمن “صعوبة هذا التحليل النسقي في الحقيقة في أخد التمثلات الفكرية وثقافات وقيم ومعايير واديولوجيات بالاعتبار(…) أن لا تفسر دوما وكلية حتمية الأفراد من خلال الثقافة الموروثة والعنف الرمزي الذي تمارسه الثقافات المهيمنة وتعقيد الألعاب العلائقية في تنظيم، فثمة ملاحظة قوة استقلالية الأثر التنظيمي الذي يؤكد عليه الكاتب باستمرار. ولكن هل لهذا السبب تكون لعبة السلطة (jeux de pouvoir) مستقلة عن عالم التمثلات والقيم والمآرب؟ ألا يمثل الفكر أيضا قوة ووساطة لا غنى عنها بين الواقع المدرك والفعل؟ إن الحديث عن الثقافة بصفتها قدرة متدخلة في الألعاب الاستراتيجية هو بالتأكيد طريقة لنقد الحثمية الثقافوية (culturalisme) لتعزيز فكرة الحرية في العلاقة، لكننا نندهش لكون الكاتب بقي كتوما حول المشكل الرئيسي للتمثلات والأفكار والثقافات باعتبارها بعدا انسانيا عميقا في كل العلاقات، حتى الاستراتيجية مهنا”[25].
إن تتبع إسهامات سوسيولوجيا التنظيات سواء عند فيبر أو عند كروزيي يبقى أمرا من الصعب الإحاطة به في مقال معين، وهذا يفتح المجال للمزيد من البحث النظري وضرورة التقعيد المفاهيمي من جهة، وضرورة مسائلة واقعنا التنظيمي والمقاولاتي من خلال مدى صدقية هذه البناءات النظرية ونجاعتها في تفكيك البنيات الاجتماعية والثقافية والسياسية لمؤسساتنا بالرغم من أن أغلب هذه النظريات ظهرت في ابستيمي مرتبط بالمجتمعات الصناعية. إن سوسيولوجيا التنظيمات عامة، وإسهامات فيبر وكروزيي من بعده، تبقى تخصصا ونقاشا مبررا، خاصة في ظل الوضع الذي يتميز به الحقل التنظيمي في مجتمعاتنا.
قائمة المراجع:
المراجع العربية :
- السيد الحسيني: النظرية الاجتماعية ودراسة التنظيم، دار المعارف، الطبعة الرابعة، 1983.
- بن عيسى محمد المهدي: ثقافة المؤسسة :دراسة ميدانية للمؤسسة الاقتصادية العمومية في الجزائر، أطروحة دكتوراه في علم الاجتماع، جامعة الجزائر، 2004-2005.
- جان بيار دوران و روبير فايل: علم الاجتماع المعاصر، ترجمة ميلود طواهري، ابن النديم للنشر والتوزيع ودار الروافد الثقافية-ناشرون، الجزائر، الطبعة الأولى، 2012.
- جون سكوت وجوردون مارشال: موسوعة علم الاجتماع، ترجمة أحمد زايد واخرون، المركز القومي للترجمة، الطبعة الثانية، 2011.
- فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه: علم الاجتماع: من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية، أعلام وتواريخ وتيارات، ترجمة إياس حسن، دار الفرقد، الطبعة الأولى، 2010.
- لحبيب معمري: التنظيم في النظرية السوسيولوجية، منشورات ما بعد الحداثة، الطبعة الاولى، 2009.
- محمد على محمد وآخرون: دراسات في علم الاجتماع والانتروبولوجيا، دار المعارف، الطبعة الأولى، مصر، 1975.
المراجع الأجنبية:
- Claude Louche : Psychologie sociale des organisations، éditions Armand Colin، 2 édition، Paris،
- Jean-pierre Durand ، Robert Weil : Sociologie contemporaine، Edition VIGOT-3 édition revue et augmenté، Paris، 2006
- Gilles Herreros : Au-delà de la sociologie des organisations، Sciences sociales et intervention، éditons érès،
- Crozier، E.Friedberg : L’acteur et le système، éditions du seuil، 1977.
- crozier، E.Freidberg : L’acteur et le système، éditions du seuil، Paris، 1981.
- Crozier : Le phénomène bureaucratique، éditions du seuil، 1963Michel De Coster، François Pichalt : Traité de sociologie du travail، De Boeck Université، 2édition، Paris، 1988.
- Michel Foudriat : Sociologie des organisations، édition PEASON Education، 2 éditions،
- Philippe Bernoux : La sociologie des entreprises، éditions du seuil،
- Raymond Aron : Les étapes de la pensée sociologique، Editions Gallimard،
[1]– Gilles Herreros : Au-delà de la sociologie des organisations، Sciences sociales et intervention، Editons érès، 2008، p: 35.
.*-يعتبر أوليفر شيلدون Oliver Shildon من رواد مدرسة العلاقات الإنسانية ومن الاوائل الذين قدموا نقدا لفكر المدرسة الكلاسيكية ولإعمال تايلور خاصة وذلك من خلال عمله الموسوم ب: فلسفة الإدارة 1923.
[2]-Michel De Coster، François Pichalt : Traité de sociologie du travail، De Boeck Université، 2édition، Paris، 1988، P : 14.
[3]-Michel Foudriat : Sociologie des organisations، édition PEASON Education، 2 éditions، 2007،p : 3.
– محمد على محمد وأخرون: دراسات في علم الاجتماع والأنتروبولوجيا، دار المعارف، الطبعة الأولى، مصر، 1975، ص:322.[4]
[5] – جون سكوت وجوردون مارشال: موسوعة علم الاجتماع، ترجمة أحمد زايد وآخرون، المركز القومي للترجمة، الطبعة الثانية، 2011، ص: 407.
[6]– Raymond Aron : Les étapes de la pensée sociologique، Editions Gallimard، 1967، p : 556.
* -البروقراطية: استعمل هذا المفهوم من قبل مجموعة من الباحثين والمفكرين والبيروقراطية كلمة مكونة من شقينBureau وتعني المكتب و Cratieوتعني الحكم- السلطة، أي سلطة المكاتب. وقد اختلفت المعاني المقدمة لمفهوم البيروقراطية حيث أن كارل ماركس استعمل هذا المفهوم بمعنى سلبي، إذ يربطها بالهيمنة الطبقية التي تمثل في الدور الذي تلعبه الدولة كجهاز طبقي يخدم مصالح طبقة معينة…إضافة إلى ماركس اهتم Alexis De Tocqueville بمفهوم البيروقراطية في تحليله لنظام الديمقراطية في الولايات المتحدة الامريكية من خلال المعيقات الوظيفية والمخاطر الني تواجه وتهدد الادارة التي تتميز بقدر كبير من الديمقراطية…
[7] – فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه: علم الاجتماع: من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية، أعلام وتواريخ وتيارات، ترجمة إياس حسن، دار الفرقد، الطبعة الأولى، 2010، ص: 49.
-لحبيب معمري: التنظيم في النظرية السوسيولوجية، منشورات ما بعد الحداثة، الطبعة الأولى، 2009، ص:19-20.[8]
* – هذين المقالين هما:
أولا: An Approach to the Theory of Bureaucracy
ثانيا: Fondations of the Theory of Organizations
-السيد الحسيني: النظرية الاجتماعية ودراسة التنظيم، دار المعارف، الطبعة الرابعة، 1983،ص:57-61.[9]
[10] – جان بيار دوران و روبير فايل: علم الاجتماع المعاصر، ترجمة ميلود طواهري، ابن النديم للنشر والتوزيع ودار الروافد الثقافية-ناشرون، الجزائر، الطبعة الأولى، 2012، ص: 320.
[11]– Jean-Pierre Durand، Robert Weil : Sociologie contemporaine، Edition VIGOT-3 édition revue et augmenté، Paris، 2006.
[12]– M.Crozier، E.Friedberg : L’acteur et le système، éditions du seuil، 1977، p: 45.
[13] -Ibid، p: 48.
[14]– Claude Louche : Psychologie sociale des organisations، éditions Armand Colin، 2 édition، Paris، 2007، p : 28.
[15]– Philippe Bernoux : La sociologie des entreprises، éditions de seuil، 1999، p : 141.
[16]– M.Crozier، E.Friedberg : L’acteur et le système، Paris، Editions du seuil، 1977.
[17]– Philippe Bernoux، op.cit، pp : 144-150
[18] M.Crozier، E.Friedberg، op.cit، pp :71-72.
[19] -بن عيسى محمد المهدي: ثقافة المؤسسة :دراسة ميدانية للمؤسسة الاقتصادية العمومية في الجزائر، أطروحة دكتوراه في علم الاجتماع، جامعة الجزائر، 2004-2005،ص: 263-264.
[20] – – M.crozier، E.Freidberg : L’acteur et le système، éditions du seuil، Paris، 1977.
[21] – M.crozier، E.Freidberg : L’acteur et le système، éditions du seuil، Paris، 1977،pp :35-38.
[22] – M.crozier، E.Freidberg : L’acteur et le système، éditions du seuil، Paris، 1981،p :388.
[23] – M.Crozier : Le phénomène bureaucratique، éditions di seuil، 1963،p :9.
[24]– جان بيار دوران و روبير فايل، نفس المرجع السابق، ص: 333-334.
– جان بيار دوران و روبير فايل، نفس المرجع السابق، ص:335-336. [25]