
الفنتازيا وآلياتها الكاشفة في رواية: “الأشباح لأندريه بلاتونوف”
د/ سليم سعدلي ـ جامعة البشير الإبراهيمي برج بوعريريج ـ الجزائر.
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 35 الصفحة 113.
” بلاتونوف صفحة أدهشت العالم من جديد حتى بعد أعلام القرن التاسع عشر، وجلعته ينتفض ويتحير أمام لغز الأدب الروسي” . (سرغي زاليغين).
“بلاتونوف من الكتاب القلائل الذين ينبغي أن نتعلم على أيديهم”. (إرنست همنغواي)
“كنت أقلده دوما والأصح حاولت أن أقلده”. (يوري نجيبين)
مخلص:استولت الفنتازيا على جانب كبير من سرد بلاتونوف وفكره، فكانت أحد الوسائل الخطابية التي اعتمد عليها في رواية الأشباح، وحديثه في خضم إبداعه متشعب يتضمن الوهم والخرافة والسخرية، والنقد، ويتخذ أشكالا شتى فمن واقع إلى خيال فنتازي، وبالرغم من حبه للحياة فحديثه مفعم بالألم الذي يحدق بشعب الجان[1] فلولاه لم يكن البعد الفنتازي، وبدونه لا تتحق متعة الرواية. يستغل بلاتونوف هذا الجو ليورد لنا أنهارا من الألفاظ الغريبة الوهمية استطاع تسخير ذلك كله ليبدع عبر أنسجة خطابية فنتازية في إخراج صورة بعض المجتمعات الروسية التي قدمت المصالح المادية على حساب الروح الحساسة التي ارتبطت بالفقراء على مسار خط الرواية.
Résumé;
le fantasme a pris une grande place chez platonouve dans sa narration et pensée ,le fantasme a été l’un des outil de discours dont a utiliser dans son ramon sous titré les fantômes , en sa création a utilisé la fable, le symbole ,la railleries et la critique .sa création viennes sous plusieurs formes qui se paré entre le réel et la fiction fantasme rapportes des sens sémiotique. malgré son grand amour pour la vie sa création est pleine de malheur qui entour le peuple des esprits, ce malheur qui a crée le fantasme et grâce a lui on trouve le plaisir dans son ramon. dans cette atmosphère platonouve utilise plusieurs mots étrange imaginaire ou il a pu consacré tous sa pour créer des discours fantaisiste pour faire sortir l’image de quelque peuple russe qui préfèrent les choses matérielles que l’âme sensible cette âme qui se trouve toujours auprès des pauvres dans toutes les parties de ramon.
Mot clé ; La fantaisie sarcastique – Douleur et déconstruction des significations – Aliénation du soi et formation du sens – Faire parler les objets inanimés – La métamorphose – Usage de la mythologie comme un moyen de dévoilement de la vérité .
المفاتيح:الفنتازيا الساخرة، الكشف والتوسل بالأسطوري، الألم، الذات المستلبة، التحول، استنطاق الجماد،..الخ.
إضاءة:
فمنذ أن أدرك الإنسان حقيقة الواقع الجامع لشتى المتناقضات من حق وباطل وخير وشر تكونت لديه روح الفنتازيا [2] أثناء عرضه لأخباره اليومية ثم صارت ظاهرة طبيعة لا يكاد يخلو منها أدب أمة من الأمم.
وأدبنا العربي قديمه وحديثه حافل بألوان من الأدب الفنتازي والقصص الغريب، تعوزه دراسة جادة تكشف عن المصطلح(فنتازيا) الذي تبناه الغرب، والتنقيب عن بواعثه ومراميه وأشكاله وأساليبه، وخير مثال على ذلك ما ذهب إليه الجاحظ، عندما رفع العلم بالأخبار الغريبة إلى هذه المنزلة بإنشاء سلسلة تسلم كل حلقة فيها إلى الحلقة الموالية، فأولى “الحلقات، سماع الأخبار وآخرتها العمل الراجح، يقول: إنّ كثرة السماع للأخبار العجيبة والمعاني الغريبة مشحذة للأذهان ومادّة للقلوب وسبب للتفكير وعلّة للتنقير عن الأمور، وأكثر الناس سماعا أكثرهم خواطر وأكثرهم خواطر أكثرهم تفكراً، وأكثرهم تفكرا أكثرهم علماً، وأكثرهم علما أرجحهم عملاً”[3]، وهذا القول بالغ الشأن من جهتين، إحداهما أن الأخبار فيه تتصرف في حيز المشافهة دون التدوين والأخرى أن الأخبار لا تنحصر في مجال الدين وآية ذلك وصف الجاحظ إياها بالعجيبة، وقد أردف ذلك “بالمعاني الغريبة” وكأنه ينظر في الأخبار من زواية الأديب الذي يقوم الكلام بمدى عدوله عن المألوف المبذول وتطرقه إلى المسالك الفذة الطريفة في القول[4].
إنّ صعود نجم الأخبار الغريبة(الفنتازية) كان منذ القرن الثاني للهجرة وخصوصا في القرنين الثالث والرابع ظاهرة جلية في ما كتب في العربية، يستشفها الناظر في عناوين المؤلفات من قبيل “أخبار اليمن” لعُبيد بن شَرِيّة الجُرهمي(ت67ه) و”الأخبار الطوال” لأبي حنيفة (ت150ه) و”جمهرة نسب قريش وأخبارها” للزبير بن بكار (ت256ه) و”أخبار مكة” للأزرقي (ت250ه) و”عيون الأخبار” لابن قتيبة (ت276ه) و”أخبار النحويين البصريين” لأبي سعيد السيرافي (ت 368ه) وغيرها[5]. حتى إننا أصبحنا إزاء توسع في دلالة الكلمة وهيمنة منها على ما جاورها واتصل بها من كلمات، من ذلك ما نجده في كتاب الأنساب للسمعاني (ت562ه) عند حديثه عن الأخباري، إذ يقول:” الأخباري بفتح الألف وسكون الخاء المعجمة وفتح الباء وفي آخرها الراء هذه النسبة إلى الأخبار، ويقال لمن يروي الحكايات والقصص الغريب الأخباري[6]“[7]، وههنا دليل صريح على أن الأخبار غدت كلمة تضم ضروباً كثيرة من السّرد، ومن ذلك أيضا، أن ياقوتاً (ت626ه) يقول في مقدمة كتابه: “إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب”: قد جمعتُ من أخبار هذه الطائفة، بين حكم وأمثال، وأخبار وأشعار، ونثر وآثار، وهزل وجد، وخرافة، واستنطاق جماد، وموعظة ونسك. [من البسيط]:
من كُلِّ مَعنى يَكادُ الميتُ يفْهَمُهُ حُسْناَ ويَعْبُدُهُ القِرطَاسُ والقَلَمُ“[8].
ولعلّنا لا نقف على حقيقة هذا القول إلاّ بشيء من التمعن، ذلك أن الخبر ورد مرتين وتلبس في كل منهما بمعنى، فالمعنى الأول نجده في وضع الخبر بإزاء أضرب من القول راسخة في الأدب العربي، هي الحكمة والمثل والشعر والنثر، فالخبر من هذه مجاف لهذه الصنوف جميعاً، مضارع لها من حيثُ هو جنس مثلها قائم برأسه، أما المعنى الثاني، فهو الذي يطالعنا في بدء قول ياقوت “أخبار هذه الطائفة”، وهو معنى عام يدخل ضمن الأخبار سائر الأنواع المشار إليها، ويضيف إلى ذلك شتى المعاني المعبر عنها من جد وهزل وخلاعة وزهد إلى غير ذلك، وهذا الاستعمال العام للخبر، ينم عن سطوة هذه الكلمة واكتساحها مجال الأدب بحيث غدا الخبر آكلاً للأجناس السّائدة آنذاك من حكمة ومثل وشعر وقول بليغ وامتد نفوذه إلى سائر العلوم الديني منها وغير الديني[9].
ويرى “محمد القاضي” أيضاً، أنّها (كلمة خبر) ” تستعمل للدلالة على الخِطاب؛ أي الكلام الذي يتوسل به الراوي لينقل إلى السّامع أو القارئ أعمالا وأحوالاً، وأقوالاً، على أن المحقق لا يعييه أن يرى أن معنى الخطاب غالب على “الحديث” والحكاية”، وأن معنى الخبر غالب على “القصة”، وأن الأمر بينهما سجال في كلمة “الخبر”، ولعل هذه السمة المخصوصة هي التي جعلت لهذه الكلمة صدى أكبر من صاحبتها، إذ هي تفوقها مرونة في ملء الحيز الذي تُنزل فيه، ناهيك مثلاً أن “ابن النديم” قد ذكر من كتب الزبير بن بكار ثلاثة وثلاثين كتاباً وردت كلمة “الأخبار” في سبعة وعشرين منها؛ أي ما يربو على أربعة أخماسها”[10].
وقد عالج هذه المسألة المستشرق الألماني “ستيفن ليدر” في مقال له درس فيه “التأليف والرواية في الأدب المجهول المؤلف”، واهتم فيه خاصة بالأخبار المنسوبة إلى الهيثم بن عدي، وعنده أنّ للخبر منزلة من المختارات لا تخلو من طرافة، يقول : يمثل الخبر الفنتازي عنصرا متحركاً، إنّه ليس جزءاً مكونا لتأليف كامل شامل، ولا يعني غيابه بالضرورة نقصاً في الحكاية، ولا يغير هذا الغياب شيئا من خصائص الحكاية”، ومأتى الطرافة في هذا القول أن الخبر وإن كان وحدة من الوحدات التي تعتري الحكاية، فإنّه ليس عنصرا أساسيا فيها، بمعنى لا وحدة المؤلف لا يعتريها الخلل، وتجده هناك في نهايته، وربما وجدته في موضعين مختلفين-أو أكثر- من الكتاب الواحد[11].
إنّ هذه القدرة على التحرك يمكن أن تعتبر مقوما أساسيا من مقومات الخبر الفنتازي؛ إذ أنها تجعله أحيانا متلونا بألوان رواته ومؤلفي الكتب التي يدرج فيها، وهذا ما يعنيه ليدر بالقول: إنّ الأخبار ذات الخاصية السّردية المتميزة، على وجه الخصوص، كثيراً ما تظهر في أشكال مختلفة، حتى إنّه من العسير علينا أن نردها إلى قالب واحد مشترك، واختصاراً لهذه الرؤية الأولية، فإنّ الخبر يعتبر “مقوماً متحركاً” يمكن أن يظهر في مستويات مختلفة من مسار إنتاج معقد، ويوسم بميسمه الخاص وإن نحن أخذنا بهذا الكلام، وجب علينا أن نقرّ بأنّ الفنتازيا التي تصورها الأخبار إنّما يُتعرف عليها من خلال تفكيك مضمونها[12]، فهو العنصر الثابت الذي نعثر عليه في رواية الأشباح[13] لأندري بلاتونوف[14].
ولما كان أمر جذور الخبر الفنتازي في كتب الأدب القديمة على ما ذكرنا من تراوح بين الاتساع والضيق[15] وبين الغموض والوضوح، فقد ارتأينا أن ننظر في الرواية الفنتازية التي بين أيدينا معتمدين على الدراسات المعاصرة التي تناولت هذه القضايا محاولة استجلاء خفايا معانيها فنتحاور معها ونحاول استخلاص خصائصها، سنعمل على إثارة جملة من قضايا كقضية: شعب خرافي مكون من أناس يتامى حُرموا إرادة الحياة وأنهكتهم العبودية، الخبر الفنتازي الغريب الذي يحكي حديث النبات، والجثث العجيبة التي تتحرك، فهل بإمكاننا أن نحدد مقصدية(غاية) هذا الخبر الفنتازي السّاخر الذي يجسد مسيرة شعوب آسيا الوسطى المتخلفة آنذاك نحو الاشتراكية، متخذة عند بلاتونوف صيغة بحث عن السعادة يقوم بها شعب خرافي مكون من أناس يتامى حُرموا إرادة الحياة وأنهكتهم العبودية والظلام؟
وما علاقة الفنتازيا بالكشف؟ وهل أثرت الفنتازية الخرافية الساخرة على مضامين الرواية؟ وما دور مؤلفي كتب الفنتازيا، وقصص الرعب والخيال الجامح في مثل هذه النصوص؟ هل المؤلف مجرد كاتب أو ناسخ أم أنه يضطلع بدور أكبر من ذلك؟ ما السبب الجوهري الذي يدعو إلى تجاهل رواية الأشباح وتغييبها من العملية النقدية؟ ألأنّه يكتب في السرد الفنتازي الساخر؟ ألأنها أخبار خرافية؟ أم أنّ الغموض الذي يعتري السرد هو العائق؟ فإذا كان الأمر يتعلّق بالغموض فباعتقادنا لم يكن كاتباً غامضاً كما ترسمه القراءة النافرة، وحتى لو كان كذلك فالغموض بطبيعة الحال ليس ضعفاً أو تطرّفاً، الكاتب ملزم كغيره أن يتحدّى وأن يكتشف ويبتكر الأنماط السّردية الفنتازية، مما هو جديد ومختلف ومغاير، كونه مبدعاً قبل أن يكون كاتباً، فعليه قبل كلّ شيء أن يخترق جهد الإمكان صيرورة السّرود المعاصرة، المقدّس والمحرّم، والخيالي، الرعب ، الفنتازي، والمسكوت عنه، والمعقّد الخ..، تأسيساً لنموذج سردي مغاير، ولئن كان السّرد الفنتازي غامضاً، فلأنَّ هذا الغموض هو السبيل الوحيد إلى التمرّد على هذه النمطية، لكون هذا النوع من التأليف قد التفَّ على اللغة لينقّب في أعماقها، بُغية فتح طرق جديدة في القول والتعبير، وهو بهذا وحده سيعيد اللغة إلى مستواها الكامل، وإذا كان السرد الفنتازي الغامض يُسبّب القطيعة مع السّرد الواقعي، فإنَّ ذلك ليس إلاّ مجرّد تكهنات فلا يمكن تسمية الشيء بوضوح، لأنَّ في التسمية قضاء على معظم ما فيه من متعة. إنّ هذه القضايا الواردة هي التي عليها سيكون مدار هذا المبحث.
ترتبط رؤية”أندري بلاتونوف المعتمدة في بنائها على الفنتازيا بالطبيعة للسخرية من مجتمعه، هذا النقد الضمني الذي يتخلل الرواية عبر مقاطع سردية تدعو القارئ إلى الدهشة هي ابنة الحكاية المتكئة على اصطياد خيبة التوقع وخلق عنصر الإدهاش في أصلها الموضعي ومن ثم تحولها إلى سمة الواقعية السحرية[16].
والفنتازيا التي اكتسحت الروايات الأوربية بشكل عام، ظاهرة أدبية تثير الشك في ذهن المتلقي حول انتماء هذه الكتابة السردية لهذا العالم الذي نحياه أم عالم مغاير تماماً؟ والصلة وثيقة بين العالم اليومي المألوف والتداولية التي تعطي على الأغلب حلولا تخالف المعقول، أما الفنتازيا فتنهج نهجاً معارضاً ذا وظيفة إلغائية ومن هنا عدت الفنتازيا شكلاً من أشكال الكشف السّاخر، لأنها تخرق الطبيعة والمنطق وتقف بالضد منها من خلال تأسيس منطقها الخاص بها[17]. والفنتازيا ظاهرة نقدية للواقع، لأنها “تصدر عن موقف فكري يتميز بكونه موقفاً مناقضا للواقع”[18] يسعى إلى تغييره باستخدام وسائل أدبية لها مقصديتها في المجال الفكري.
إنّ التأثير الأول للفنتازيا ابتعادها عن المألوف الذي تزخر به الروايات الواقعية، أما تأثير الفنتازيا الأهم فمصدره العلاقة الترابطية بالواقع المتسمة بلمسة خرافية واللااستقرار أو حتى اللاعقلانية[19].
وميزة الفنتازيا إضافة بعد أسطوري على النسيج السّردي، فقد ينطوي على إدخال عالم روحاني أو علوي، أو عوالم كالكائنات الحية مثل النبات التي تتلكم… كما هي في عالم الجن. ففي هذه العوالم وشبيهاتها الخارقة للطبيعة، أو فوق مستوى البشر تتداخل مع أساس الوجود اليومي والسمة الأساس للفنتازيا ذلك الترابط المفاجئ والعجيب بين الأحداث التي تبدو وكأن الصدفة تعمل فيها بقصد[20].
والملحوظ في أكثر من المقاطع السردية التي سنذكر بعضا منها أن الطبيعة قد استغلت وعدت عنصراً مكونا من عناصر البنية الروائية، ولا سيما إهمال أكثر الرواة لقانون الطبيعة وتهميشه وكثيرا ما يلجأ “أندري بلاتونوف” إلى فنتازيا الطبيعة، لإبراز حدة التضاد بين السماء والأرض، متخذاً من ثيمتي النبتة والحلم منطلقا موضوعيا للمتن الحكائي[21].
وقد حدد إدريس الناقوري وظائف الفنتازيا بالنقاط الآتية:[22]
1-الخوف أو الدهشة المتولدة في ذات المتلقي.
2-تخدم الفنتازيا السّرد وتحدث التوتر وتنظم الحبكة وتطورها.
3-تقوم الفنتازيا بوظيفة خيالية، لأنها تسهم في تصوير عالم غريب ليس له في الحقيقة وجود واقعي خارج اللغة.
4- الوظيفة الواقعية، أي أن نصوص المتن تسخر الفنتازيا لأغراض فنية ترتبط بالمضمون الفكري من جهة وتؤكد علاقة القصص الوثيقة بواقعها من جهة أخرى، وهذا ما يجعل منها نصوصاً واقعية على الرغم من توسلها أدوات فنية تبدو غير واقعية.
5-الفنتازيا أداة فنية غير واقعية لتصوير واقع مرعب وغريب.
وللفنتازيا مظاهر عدة يمكن إجمالها في النقاط الآتية:[23]
1-كثرة تداول مفردات وعبارات تفيد كلها معنى الغرابة تصريحا أو إيماء.
2-لغة نصوص المتن تنتمي إلى عالم الغرابة.
3- طبيعة المبنى الحكائي تحددها مفردات الغرابة وتعبيراتها.
هذا يعنى أن الفنتازيا تدور في مجالين رئيسين هما:
أ-المحور الدلالي الذي يبنى على تشكيل عالم غرائبي متكون من أحداث ومواقف تثير الدهشة.
ب- المحور التركيبي الذي يسعى إلى توظيف لغة النصر وشكله السردي بما يخدم مسعى تصوير ذلك العالم الغريب المتضاد مع العالم الحقيقي.
وللفنتازيا: وسائط تتحقق عبرها وهي:[24]
1-المسخ: إضفاء صفات حيوانية على الإنسان.
2-الحلم استبدال الواقع الداخلي بالواقع الخارجي ونزوع العواطف كأن تغير على نحو مفاجئ طبيعتها بالإضافة إلى مواضعها.
3-الأنسنة: إحياء الجماد واستنطاقه.
4-التشويه: عدم ملائمة العمل لمحله.
5-التحول: التغير وعدم الاستقرار ولا سيما في خرق الطبيعة.
6-التشيؤ: تحويل العلاقات الإنسانية الكلية إلى صفة كلية للأشياء الجامدة.
وسنحاول من خلال قراءتنا للنتاج الروائي الفنتازي الوقوف على مظاهر السّخرية الكاشفة المتشكلة عبر نسيج فنتازي، ولا سيما تلك المتحققة عن طريق طغيان مفهومي التحول واستنطاق الجماد والأموات، كل هذا يصور العلاقة التي تربط بين واقعية النص وفنتازيته في الآن نفسه هذه العلاقة ليست علاقة سوية، فهي قائمة على مقصدية قوامها الكشف والسفر بالقارئ إلى حدود اللامتناهي.
تضافرت الفنتازيا إلى أنواع خطابية أخرى، فهي بمنزلة الأمثلة السّردية التي يسوقها المتكلم على سبيل الاحتجاج لدعواه وتأكيدها، باعتبار أن الفنتازيا ظاهرة أسلوبية تميز بها الأدب الأوربي وشملته من جميع أنحائه؛ بحيث لا يمكن دراسته بعيدا عن تلك الظاهرة. وتأتي أهمية الدراسة من حيث إنها محاولة للكشف عن طبيعة السرد الفنتازي ومقاصده وأساليبه والتعرف على عناصر تشكله، وطبيعة الصراع الذي نشب بينه وبين بيئته ومجتمعه وعصره، ذلك الصراع الذي دعاه إلى أن يشهر سلاح الغرابة الأسطورية، كما سنوضحها فيما سيأتي:
- استنطاق الموجودات بلغة فوق واقعية:
إنَّ المتأمل في البداية التي كان “نزار شاغاتايف”(البطل) يخاتل بها القارئ، يجد علامات بداية الفنتازيا التي تجعل القارئ في حيرة ودهشة، فالقرّاء عامة ينتبهون لهذا “الوهم الفنتازي الخيالي، والغريب” الذي يولّد في نفوسهم غرابة توقظ فضولهم فيطمعون في معرفة المزيد عن الغريب وعن تفاصيل تتعلق بالبطل والأحداث الخارقة، كتحويل الأشياء واستنطاق الجماد (النبات) وطيّ المسافات، تعتبر في اعتقاد العامة من الناس غير عادية، تجعل المتلقي يتساءل متى وكيف وأين حدث ذلك؟[25] في هذا المثال الذي سنورده “تحول[26]” يدعم كلامنا السّالف”… نزل شاغاتايف من العربة، ولمح على مقربة منها شجيرة توجه نحوها ولمس غصنا وخاطبه قائلا: “مرحبا يانبتتي” اهتزت النبتة قليلا من لمسة الإنسان، ثم عادت إلى ما كانت عليه من سبات ولا مبالاة “[27]. إنَّ البطل كعادته يسعى دوما إلى الاستخفاف بتلاشي الإنسانية، فيعمد إلى نسب الكلام إلى النبتة(اهتزت النبتة قليلا من لمسة الإنسان) لتزداد السّخرية من واقع سوفياتي في الغرابة، ويواصل كلامه حتى يقول للقارئ بأنَّ شاغاتايف يملك حظه من الطبيعة التي استجابت مع ضميره الحي، كقول السارد: “مضى شاغاتايف مسافة أبعد، فتحرك شيء في السهب وصاح، فالسهب لا يبدو صامتا إلا للأذان التي نسيته”[28].
في هذا الكلام حيرة يتأملها القارئ، ويودُّ لو عايش الأحداث، “لا شك أن قبول الحدث الفنتازي كصياح السهب الغريب يقتضي وضعه في إطار خلقي وثقافي يقرّ بأسباب السّخرية التي لا يكف عنها السارد عنها[29]. ولا سيما أنَّ هذا الخرق والامتزاج الأسطوري الّذي نقف عنده أدبياً، هو بمثابة ازياح عن النظام في التأليف السردي الذي عرفه كتاب الرواية الروسية أمثال: بوشكين- دوستويفسكي، نيقولاي غوغل، ليو تولستوي، ميخائيل شولخوف…الخ والانزياح في التصوير الذي يعتبره “جون كوهن” أسلوباً غالباً ما يكون انزياحاً فردياً؛ أي طريقة في الكتابة تخص مؤلفاً بعينه، وهو سليل التجاوز الخطابي، فالاحتكام إلى النسق المتداعي يفضي بالخرق من واحد إلى آخر وتعمد الرواية الفنتازية إلى التَّزاوج بين المألوف والغريب[30]. النبتة تتحول إلى شخصية تعمد إلى الترحيب بشاغاتايف، وسرد الرواية في المقاطع السالفة يسير على غير هدى في استحضاره للفنتازي المتوهج بالأسطوري.
إذ يسبح البطل بين عوالم مختلفة للتهكم من واقعه الروسي[31]، فالكائنات الحية بمجرد مشاهدتها لشاغاتايف(البطل) تظهر في موقف يستدعي الحيرة، كما يوضحها هذا المقطع: “كانت الأعشاب ترتعش حوله مهتزة من تحت، وقد فرت منها مختلف الكائنات غير المرئية كل بالوسيلة التي لديه: بعضها يزحف على بطنه وبعضها يركض على قوائمه وبعضها يطير بتحليق واطئ. ولعلها كانت حتى الآن جاثمة ورابضة بهدوء، ولم ينم منها إلا القليل”[32]
يمتد طرف القارئ الواعد إلى المنهجية التي يحتكم إليها السارد الذي يتوسل بالكائنات المرئية والغير المرئية النافرة من كل شخص يدخل إلى ممكلتها، غير أنّ الممسك بخيوط الحكي الفنتازي الأمور يدرك حتما أنّ الأمور كلها تؤول إلى الكشف عن معاناة الطبيعة من الآدمي الروسي، وكذلك شفقتها على أناس يتامى حُرموا إرادة الحياة وأنهكتهم العبودية والظلام.
في مقاطع أخرى من الرواية التي نوردها: “عندما دخل نزار القصب تصايحت البركة وتطايرت وانكمش كل ما فيها من أحياء”، ” فكل كائن صغير أو جماد أو نبات، كما اتضح له، ظل أكثر من الإنسان أنفة وكبرياء وتحررا من روابط الود القديمة…” [33]يسلّط الكاتب الضوء على عوالم فنتازية، ويستنطق بلغة شعرية، فوق واقعية، النبات، السهول، القصب والجماد سعياً منه لتحقيق رؤية روائية (روسية) مختلفة، تتخذ الطابع الفنتازي نموذجاً لها.
إشراقة كهذه تفضي بنا إلى الاعتقاد بأنّ التحديث السّردي الذي تحتاج إليه الروايات الروسية الواقعية، ليس تزويقاً لفظيّاً أو شكلاً فضفاضاً بقدر ما يصنع أسلوباً مغايراً ذا قيمة فنتازية، تحتضن في طياتها الجماليات السردية المتوهجة بالأسطوري، والخرافي، فليس للواقعية الحظ الأوفر في رواية الأشباح، وكلّ ما نقرؤه ليس إلاّ تجليّاً لخطاب مدهش متعدّد الأوجه، اعتبره “النقاد” خطاباً يملك “القدرة على التحرك” لخلق الخبر الفنتازي، كما يوضحه هذا المقطع: وعندما بلغ نزار شاغاتايف نهر كونياداريا الجاف رأى جملاً مقعيا كالإنسان وقد استند بقائمتيه الأماميتين إلى كومة رمل، الجمل حزين كان يراقب حركة الأعشاب الميتة التي تطاردها الريح وينتظر هل تقترب منه أم تمضي في سبيلها بعيدا عنه“[34].
تبدأ مغازلة السارد للقارئ بالإعلان على أنّ الجمل العجيب الذي يجلس كالإنسان المعذب ويـتأمل مثله، (رأى جملاً مقعيا كالإنسان، الجمل حزين)، يسمح هذا التوظيف الحيواني والعشبي(كان يراقب حركة الأعشاب الميتة) من تحقق ذلك التلاحم في الأسس الخطابية التي تصنع التماسك الفنتازي للواقع السوفياتي الأليم، فالاختلال والاختلاط بين ما هو حيواني وبين ما هو إنساني، هو غير مفهوم ومتلبس من الجسد بما هو لغز فيه، يجعل تصوره المقلوب والمشوه من أهم موضوعات الفنتازيا”[35]، فهو مجال القص وحركته، وبحيث يصبح الراوي مالكاً لأحقية الحكي عندما يُحول جسد الأعشاب الميت إلى حركة عجيبة تمضي نحو الجمل.
إنّ المنقب لزوايا السّرد الفنتازي، يجد آليات يشتغل عليها الخبر الغريب الوارد طالما أهمله أصحاب “الرواية الواقعية” بسبب التعامل الشفاف وتغييب الفنتازي الفاعل في التلقي المعاصر، وهو بهذا ينحو إلى أن يجد في “الجسد الفنتازي الغروتيسكي[36] ” كشفا وبحثا عن منفذ للخروج من إطارية السكون، والبحث عن إطارية متحولة، فضلاً على أنّ للسرّد عنده وظيفة وآلية، فلا يمكن بحسب هذا المنطلق أن تتكامل الذائقة السّردية للروايات الفنتازية إلاّ عن طريق التوظيف المستمر للوهم، والحلم، والغريب، كل هذا يسعى لتجاوز السياقات الشكلية نحو التأكيد المطلق لحضور الأشياء بماهياتها ولا يتسنى ذلك إلاّ بفعل المجاوزة، مجاوزة ما هو قار وثابت في السّرود الواقعية[37] ربما يشي دون ريب بأن كاتبنا أندري بلاتونوف، لا ينظر إلى اللغة بوصفها حقائق كتابية صوتية متلبسة بسياقات متعارف عليها، بل بوصفها أداة استنطاق للجسد[38] النباتي والحيواني المشوه بسبب فساد الأخلاق في المجتمع الروسي.
ثمة آلية خطابية يسلكها بلاتونوف لا يجعلنا نشك في سرده الفنتازي الذي يدعو إلى الافلات من ظاهرية الخبر السّردي المألوف، والاتجاه نحو خلخلة ما ثبت على أنّها حقائق مسلمة، فالسؤال في اللغة الفنتازية السّاخرة التي تكسو ملامح الرواية، يحمل دائما في طياته الرغبة في المجاوزة ويعبر عن ماهية الذات الروسية المستلبة ويكشف عن طاقاتها وكوامنها يتجاوز تلك الدلالات إلى الحد الذي يبدو فيه وكأنّه المعادل الموضوعي لآليات خطابية فشلت في المحافظة على استقرار الذات، فتكرار السؤال و الإلحاح، والاحتفاء به خير دليل على ما ذكرناه، يتساءل الوهراني في نصه السابق:
سمع نزار شاغاتايف من خلال عظامهما وجيب القلب البعيد المكتوم فرفعهما على الأقدام وأمرهما بأن يوصلا الحياة. وسألهما: لماذا عزمتما على الموت؟، الروح تخدرت من هذه الحياة-أجابه سفيان جفت عظامنا والتوت، انكمشت عروقنا وأرادت أن تتمدد لتربطها الأمطار وتجففها الرياح وتنهشها الديدان، وإلا فنحن نعيقها عن ذلك “، ” كان ميتا، فمه مفتوح، تتكلم فيه الريح والرمال، وعندما وجد نزار الجثة ظل يلتمسها طويلا يتأكد من واقع الحياة، ثم غطى هذا الآدمي بالرمال كيلا يراه أحد”[39].
السؤال يستبطن من الأسئلة المحيرة ما يكفي، فقيام العظام ومشيها على الأقدام وتحرك الجثة الميتة، صاحبة الفم المفتوح التي تتكلم فيه الريح والرمال، أشبه بعملية البحث عن مجهول داخل المعاني القارة وراء الكلمات، لذلك يكتسب السؤال الفنتازي ديمومته عند كاتبنا بلاتونوف، فالأسئلة مثل: كيف تتكلم العظام والريح والرمال؟ تعقد مسار الجواب، إنّها تنهي شرعيته وإذا كان جوهر الروايات السابقة هو الإجابة عن الأسلئة، فإن غاية الأخبار الفنتازية عند بلاتونوف هو قلق السؤال والمغامرة في مجهول الفنتازيا الساخرة، العابثة، والبحث عن إمكانات جديدة للغة السّردية(الروسية) واختيار آلياتها التعبيرية. وقد تتشظى دلالات السؤال عند بلاتونوف في هذا “المقطع الفنتازي الغريب” إلى الحنين لنقاء الإنسانية التي اغتصبتها الأحزاب السياسية المستبدة، وصفائها وبالتالي الحنين لغربة زمانية يسود فيها العدل والمساواة، فالخطاب الموجه إلى المواطن الروسي؛ “حيث لم يجد من يتفهم أفكاره الفلسفية لدى الحديث عن مكانة الانسان في المجتمع الذي بناه البلاشفة بعد ثورة اكتوبر1917. فبالرغم من مقولة ماركس الشهيرة “الانسان أثمن رأسمال”، فقد عاش الانسان الذي عاش معه بلاتونوف مهاناً ومسحوقاً وبلا أبسط الحقوق بسبب الحكم الفردي وتداعياته وغياب التعددية الفكرية ووجود اعداء خارجيين اقوياء يتربصون بالدولة الاشتراكية الفتية، مما جعل السلطة تبرر كل انتهاك لقيمة وكرامة الانسان بوجود الخطر الخارجي”[40] .
إنّ السؤال المكرر في جل مقاطعه هو تحرك الأشياء التي ألف العقل سكونها في هذا المقطع تتحرك النبتة مرة أخرى:” نبتة انتزع منها عدة أغصان يابسة وأخذ يمضغها، ثم اقتلع النبتة كاملة وأطلق سراحها في الريح، فتدحرجت، سرعان ما اختفت وراء الكثبان متوجهة إلى مكان بعيد من الأرض”[41]. يشكل فعل تحرك النبتة شعرية تتضمن كلمات وإشارات عميقة تحمل في طياتها تاريخا منسياً يعتري الفرد الروسي، خطاب سردي يمتص من نظام معجمي فنتازي، متوهج حتى الثمالة بالإحالات الأسطورية التي كانت تنقل لنا حديث الأشجار والنباتات، هكذا نجد الكاتب قد صمع لنفسه عالماً منفلتا من جيولوجيا الروايات الروسية المعروفة، مما يجعلها فنتازيا ساخرة من الطبقة المستبدة تجاه الكائن المنسي خلف قضبان الألم، محاولة إضاءة شمعة يتيمة في واقع العتمة، سعت الفنتازيا عبر آلياتها هنا إلى تشويه صورة الواقع الروسي الموسوم بنوع من التفكك والتصدع، جعل الطبيعة يائسة وهاربة من هول ما تراه.
قد ينقطع الخيط الرابط بين أرواح الفقراء وبين أصوات شخصيات فنتازية تتدحرج لتخرج عن نطاق الأرض المدنسة، فتكون شهادة كشف للواقع المزيف، شهادة يأس تجاه الفرد المستبد، وهذا الكشف يجعل اللغة تهرع نحو شعرية فاضحة تركب صهوتها لمحاربة لغة التملق تجاه النظام الروسي والمحنطة بلغة تقريرية مباشرة، فالبديل الخطابي يقتضي فنتازيا معبرة عن غربة الذات المقصية في مجتمع طبقي، فيشعر القارئ أن لغة الرواية لغة مذنبة تسعى للتخلص من آثامها بالاستحمام في شعرية فنتازية، غرائبية خرافية[42]، تجسد لنا المتناقضات التي تشوب المجتمع الروسي وتبني عالما غرائبيا الناس فيه تتلذ في أحلامها كقوله:” الليل يسري في الرمال، ونزار شاغاتايف راقد على جنبه الأيمن يسبح في الرؤى والأحلام التي أزاحت العطش والجوع والخور وكل الآلام، كان يرقص مع كسينا، بعد أن ترعرعت وكبرت، في الحديقة المنارة… في أمسية صيفية تفوح شذى التربة والطفولة، قبيل الفجر الذي يوشح قمم الحور كصوت بعيد لم يبلغ المسامع بعد. وتشعر كسينيا بإرهاق لذيذ وعيناها مغمضتان، كما لو كانت نائمة، وهو يحتضنها بحذر. صرخ وقفز في الظلمة، من الأرض وأعادته صرخ وقفز في الظلمة، من الأرض وأعادته إليها ضربتان شديدتان أخريان على الرأس والصدر“[43]. أية لغة سردية هاته؟ وما يخفي هذا التنميق اللغوي؟ و هل تساعد فنتازيا الحلم المتوسلة بالغريب على إقصاء الواقعية الشفافة وتقريب المنتوج الروائي الروسي من ماهية الجنس الأدبي الفنتازي الذي ينتمي إليه أدب الرعب والخيال على حد تعبير النقاد.
تبدأ سفونية السرد في هذا المقطع العزف على آناتها معلنة لطافة شاغاتايف، في قوله: (الليل يسري في الرمال، ونزار شاغاتايف راقد على جنبه الأيمن يسبح في الرؤى والأحلام التي أزاحت العطش والجوع والخور وكل الآلام، كان يرقص مع كسينا) لينخرط باحثا عن مسار آخر تجسده الأحلام لتحقيق الفنتازية التي يمكن من خلالها التخفيف عن حدة الأوجاع عمد إلى بلاتونوف لصنع مفارقة الحلم التي تعارض الواقع الروسي، تحت هذا الانتقال السردي اللغوي يقبع واقع الكاتب، يحاول الرقص على أوتار السياسة التي ينهجها “النظام الروسي”، فالتوسل بهذه الألفاظ الحلمية التي كان بطلها شخصية منكسرة تعبيرٌ عن اليأس الذي يعتريه في تغيير الواقع الروسي، فأعلن الحرب بلسانه اللاذع على أوهام هؤلاء.
ومن مظاهر الفنتازيا في هذا الخبر السّردي، قيام معظم أحداثه على التشخيص الغريب من خلال حضور صورة “الموتى” التي ظلت تلازم السّارد وهو يبحث لهم عن السعادة، كقوله وهو يحي هذه الأجساد: ” متى يستيقظون يانزار؟ قريبا، قريبا… ربما استيقظوا الآن.” حينئذ نظفت آيديم الحجرة الدافئة التي نام فيها شعب كامل ارتحل إلى مكان مجهول، وضحكت: حتى الملا، شيركيزف الضرير ذهب، فهل يعقل أن عينيه أبصرتا شيئا حالما أكل الكثير”[44].
إنّ التوسل بالأموات يعكس نوعاً من الإضطراب الداخلي للخبر السّردي الوارد، يفترض فيه الاستقرار والحنين إلى الميت يوم البعث، ولعلّ أصدق تعبير عن هذا الإضطراب، كما هو واضح من هذا المقطع، (متى يستيقظون يانزار؟ قريبا، قريبا… ربما استيقظوا الآن) كانت أخبار الفرد الروسي الحي التي لا يريد السّارد أن يسترسل فيها، غير مجدية، فهي معروفة بالأقوال دون الأفعال على حد تأويلنا، إنّها أخبار معروفة عند العامة، تعبر عن نفاقه، هذه الأخبار فقدت وظيفتها فشلت في استمالة كتابها، فعجز الكاتب عن الاندماج في أجوائها فتفرقت به السبل، وراح يرسم لنا عالمه الروسي بين عدة متناقضات، كما تبينه كتابته الفنتازية السّاخرة.
لا يمكن لكاتبنا أن يحل هذا الإشكال، إلا بهذه الانتقادات التهكمية التي يحوكها عبر متاهات خطابية ضمنية، تتولد على إثرها العجائب والغرائب، كانت الكتابة في رواية الأشباح مغامرةً باعتبارها، آنذاك آفة تهدد الحكم الروسي الجائر، كان اللجوء إلى الفنتازي الكاشف إشارة إلى التصور الذي سينجرّ عن سرد المعاناة التي حملتها الطبيعة على عاتقها تعاطفا مع الطبقة الضعيفة. وفي هذا –لعمري- علامة دالة على استخفاف مُبَطّن يستهدف به وجهاء الطبقة الروسية.
ب-اللامبالاة والاستخفاف في الخبر الفنتازي:
تتخذ شعرية “الوصف السّردي لحالة شاغاتايف سبيلاً لمعرفة خصوصية الخبر السردي وملامحه الخطابية؛ “لأنّ الشعرية، بحثٌ في القوانين الداخلية للخطابات الأدبية غايته استخلاص القوانين، أو المقولات التي تؤسسها“[45].
يستند هذا النوع من السّرد الفنتازي على نظرة الكاتب إلى العالم الخارجي، إما أن تكون صريحة جداً حدّ بلوغها درجة السّخرية الجارحة، أو لا مبالية جداً لدرجة تثير الضحك، ولكن هذه المرة القارئ أن الملاباة تتمتع بها الكائنات الحية التي أعياها الأدمي الروسي، كما يوضحه هذا المثال: “نزل شاغاتايف من العربة، ولمح على مقربة منها شجيرة توجه نحوها ولمس غصنا وخاطبه قائلا: “مرحبا يانبتتي” اهتزت النبتة قليلا من لمسة الإنسان، ثم عادت إلى ما كانت عليه من سبات ولا مبالاة”[46]، المتأمل في صراحة “النبتة” يجدها تضمر خلفها كمّاً هائلاً من النقد العاري، لا يخفت وإنما يتضاعف ويزداد، وفي هذا النوع من الأخبار السّاخرة، لا بدّ من وجود ضحية قد تكون “أنا” الكاتب أو “أنت” أو هما معاً[47]، ويبرز مثل هذا الاشتغال على الخبر التهكمي من خلال تشخيص اللغة بكائنات خارقة، تتفاعل في إطار ما تقبله لغة النثر وتجعلها من ناحية أخرى قريبة عن الضروب المنضوية تحت مظلتها كالفنتازيا والتهكم والاستهزاء والإلماع[48]. ولا ريب هنا، بأن الفرق بين الخبر السّردي المشبع بالاستخفاف وبين جميع هذه الضروب المذكورة، هو في طريقة التعبير وفي استخدام بعض “الدلالات اللغوية” التي تساهم في تأجيج السّخرية والزيادة من حدتها بالشكل الذي ينتقل إلى المعنى المتجسد في قوالب اللغة الساخرة[49].
تستخدم الدلالات، مثل دلالة الأسماء: النباتات البائسة، الحزينة، الشجيرات المتجمدة النبتة، التشوه الوقتي، المتمثلة بطرق شتى في السّرد، في التصوير الخيالي، بُغية بث المثير في الأخبار اليومية التي يعيشها الكاتب وسط هذا الجو الخانق الذي عكر صفو الطبيعة والزمن، بالنسبة لكلمة معينة مثل “الأشجار الحزينة” يمكن نطقها، أو سماعها، أو كتابتها، أو قراءتها بواسطة العديد من القراء في مناسبات عديدة، الذي يحدث عندما ينطق إنسان بكلمة ما سوف أسميه “نطقا لفظيا” وعندما يسمع إنسان كلمة ما سأسميه “صوتا لفظيا”، والشيء المادي الذي هو كلمة مكتوبة أو مطبوعة سأسميه “شكلا لفظيا”، من الواضح بالطبع أن النطق اللفظي، الأصوات والأشكال إنما تتميز عن غيرها من صور النطق بخصائص سيكولوجية تصور لنا هيئة الشخصية، لأنّ دلالة الكلمة المنطوقة “الأشجار البائسىة” ليست مفردة بذاتها، فهي قسم من حركات مماثلة؛ اللسان الأرجل، فكما أن القفز ورفع الأرجل عبارة عن قسم من الحركات الجسمية فالكلمة المنطوقة “الأشجار في حالة النوم” هي تصوير للحركات الجسمية. الكثير من الكلمات لا يكون لها معنى إلاّ عندما توجد في “إطار لفظي” مثل “أسماء الحيوان”، هذه هي ما أسميها كلمات الأشياء وهي تُكون لغة الأشياء[50].
لقد وجدنا في سطور الرواية، التي تصور لنا يوميات بلاتونوف مع الطبيعة المتذمرة ما يدل على ذلك، كقوله: “حينئذ نظفت آيديم الحجرة الدافئة التي نام فيها شعب كامل ارتحل إلى مكان مجهول، وضحكت: حتى الملا، شيركيزف الضرير ذهب، فهل يعقل أن عينيه أبصرتا شيئا حالما أكل الكثير؟” “لكن شاغاتايف لم يتحمل طويلا أحزان الوحدة والفراق فأخذ يتعايش مع الملابسات، مع آيديم والأغنام، مع المنازل الخالية، مع الحيوانات الصغيرة المتواجدة في كل مكان في الطبيعة، بل حتى مع الشجيرات المتجلدة”،” يستحيل أن تكون كل الحيوانات والنباتات بائسة وحزينة، إنها تتظاهر بذلك، فهي في حالة من النوم أو التشوه الوقتي المؤلم“[51]. ينبثق هذا الخبر الفنتازي الطافح بالاستخفاف الذاتي الذي يتشتغل على آلية المسخ التي شوهت طبيعة الوقت، وأدخلت الأشجار في “حالة سيكولوجية“: النوم الحزن، الألم، ملزماً إياه السّرد بالدخول في “مقام البوح الفنتازي” الذي يرفع من حدّة “الانفعال الطبيعي للكائنات” التي لا تخلو في تحركاتها من السخرية، هذا التوظيف المتألق حالة تنتاب عينة خاصة من الأدباء، إن لم نقل جميعهم، فتجعلهم ينظرون إلى العالم من زاوية نظر تبدو عليها الفنتازيا السّاخرة متعاظمة الأفنان معبرة عن كثيرٍ من مظاهر اللامبالاة.
الفنتازيا في هذا الموقف تهجو نقائص العالم الروسي وتركز الضوء على أبرز مفارقاته التي تتوسل بالألم والتمويه الذي يعمد إلى اللامبالاة، لأنّ تقرير الحقيقة في بعض السرود ليس غرضاً من الخطاب دوماً، فمن الممكن أن يكون الخطاب التخييلي بغرض التمرد . لقد أُعطينا الفنتازيا لتمكننا من إخفاء أفكارنا، وبالتالي فعندما نفكر في بعض الأسماء كوسيلة لتقرير حقائق نكون قد افترضنا بالتالي وجود رغبات معينة للمتحدث. فمن المثير أن بعض الكلمات بمقدورها تقرير حقائق ومن المثير أيضا أنّها تستطيع تقرير الزيف، إنّها تفعل ذلك لكي تحدث بعض الأفعال من جانب السامع[52]، لكون هذا الموقف يحط من قيمة الذات ويجعلها تتلون بكائن نباتي متحرك، في اللحظة ذاتها التي يضحك فيها الكائن الروسي على ضعف الفقير وخساسته وابتذاله، وفي مأثورنا العربي، شر البلية ما يضحك، التي قد نواجهها(البلية) بأسلحة متعددة، ومنها الفنتازيا السّاخرة التي هي أعرق أسلحة البشر وألطفها وحينَ تأتي الفنتازيا من أمثال بلاتونوف يسمو الإعجاب إلى درجة عالية، إذ ليس هنا ما هو أشد من لامبالاة الكائنات الحية الذي يؤدي إلى مزاج سوداوي أو غضب عارم على البشر كما هو جلي في هذا المقطع: [ثم عادت إلى ما كانت عليه من سبات ولا مبالاة].
إنّ هذه الآليات المستثمرة طهرت بلاتونوف من قيود الحياة وجعلته أبعد ما يكون عن هوس الدنيا وفتنتها كما جعلته أبعد عن أشراكها، هذه السّجون قادته مع الميل القابع فيه إلى الفلسفة(التأمل-التصوير الأسطوري-تدوين الوقائع الفنتازية، الوهمية)، قادته إلى الحقيقة الإنسانية المتمثلة التي تفتقر إليها الطبيعة التي لا تكاد تخلو من السّخرية.
يمكن القول، إنّ حيويّة الفنتازيا عند كاتبنا الذي أحسّ بالثقل الإنساني قبل غيره من أبناء جنسه جعلته يتميز بخصائص حسيّة وشعورية قادرة على تلمس وتشخيص المألوف وغير المألوف في الحياة التي يعيشها، وبسبب رفض الكاتب – صاحب الضمير الحي والمبدأ الأخلاقي الاجتماعي- لما هو غير مألوف في الحياة اليومية في بلاد التمزق والتشرد تفجرت كتاباته الوهمية، السّاخرة ليعبر عن خلجات نفسه بلغة غير مألوفة، التي يصور فيها تناقضات الضياع وغياب الكفاءات وإشغال المناصب بشخوص يحق لنا أن نطلق عليها سهام السّخرية السّوداء.
وأخيراً فإن قراءتنا لهذه الخطابات العالمية المنسية، تجعلنا نجلُّ تجربته هذه التي كثيراً ما تلغي من سياقاتها منطق العقل، ووحدة الموضوع، مختزلة السرد الروائي في نظام استعاري؛ أي لغة داخل لغة، انطلاقاً من رؤية فوق واقعية، يدخل فيها السّريالي والفنتازي والغرائبي والمخيالي.
[1] . تنويه: “الجان” تلك كنية مشتركة أطلقها عليهم في حينه البايات الأثرياء، لأن كلمة الجان تعني الروح، وليس لدى الفقراء الخاوين كالأشباح سوى الروح، أي القدرة على الإحساس وتحمل العذاب، وبالتالي تجسد كلمة “الجان” سخرية الأغنياء بالفقراء، فالبايات كانوا يظنون أن الروح هي اليأس وحده، لكنهم أنفسهم هلكوا بسببها، لأن لديهم قليلا منها، قليلا من القدرة على الإحساس وتحمّل العذاب والتفكير والكفاح، فالروح هي ثروة الفقراء…”. ينظر: أندريه بلاتونوف، رواية الأشباح، تر: خيري الضامن، ط 1، مكتبة بغداد، دار سؤال للنشر، بيروت-لبنان، 2016، ص 186.
[2] . تنويه: يعمل السرد الفنتازي إلى”عملية تشكيل تخيلات، لا تملك وجودا فعلياً، ويستحيل تحقيقها، أما الفانتازيا الأدبية فهي عمل أدبي يعتمد على إيراد الأخبار الفنتازية الغريبة، كحديث الطير، والجمادـ يتحرر من منطق الواقع والحقيقة في سرده، مبالغاً في افتنان خيال القراء، ويرى “ت.ي ابتر الذي اختص بأدب الفانتازيا وألف كتاباً يحمل العنوان نفسه، أنّ هذا الأدب في مقاصده الأساسية وانطلاقته الأولى، يشترك مع الأدب الواقعي في أكثر من سمة ففضلاً على الموضوع أو القيمة التي يحملها فإنه يشترك في الافتراض الذي يجمع بين الأدب الواقعي والخيالي ويرى أنه “يمكن اعتبار الأجواء الفانتازية وسيلة عملية وناجحة للكشف عن اهتمامات الشخصيات وعواطفها التي يمكن أن تستتر أو تتبدل في بيئات يتحكم بها العرف أو المواصفات الاجتماعية، من هذا المنطلق يمكن النظر إليها على أنها تحمل الغرض ذاته الذي تحمله حبكة الكاتب الواقعي وبالمقابل يمكن قراءة الحكاية الفانتازية في أغلب الأحوال بوصفها قصة رمزية لتكون القصة الحرفية مجرد حرف هيروغليفي يدون معلومة سلفاً، وهذا شيء من الإيضاح للفانتازيا أما الكشف فيشير معطاه اللغوي، إلى رفع الحجاب، والاصطلاحي إلى الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجوداً أو شهوداً والكشف مقابل الاختراع لأنّ الكشف “يطلق على حصول العلم بالأمور الحقيقية الموجودة بالفعل” والاختراع “هو الكشف عن أمور جديدة غير موجودة بالفعل كاختراع الآلات والأدوية. ينظر: معجم المصطلحات الأدبية المعاصر، سعيد علوش، ط1، دار الكتاب اللبناني-بيروت، سوسبرس الدار البيضاء، 1985، ص 170. ينظر كذلك: ت.ي. ابتر، أدب الفانتازيا، مدخل إلى الواقع، تر: صابر سعدون السعدون، دار المأمون، بغداد، 1989، ص 12. نقلا عن: فائز هاتو الشرع، التعبير الفنتازي ومضامينه الكاشفة مجموعة أباطيل القصصية أنموذجا، موقع: www.iasj.net/iasj?func=fulltext&aId=4276.
[3] . الجاحظ: كتاب حجج النبوة، الرسائل تح: عبد السلام هارون، مكتبة الخناجي بمصر، 1979، ج3، ص 239.
[4] . ينظر: محمد القاضي، الخبر في الأدب العربي، دراسة في السرديّة العربيّة، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت مشتركة مع كلية الآداب منوبة- تونس، 1998، ص 87.
[5] . ينظر في ذلك: ابن بكار الزبير، الأخبار الموفقيات، تح: سامي مكي العاني، مطبعة العاني، بغداد، 1972 ص 77. الحصري(إبراهيم)، جمع الجواهر في الملح والنوادر، تح: محمد علي البجاوي، دار إحياء الكتب العربية، مصر 1953، ص 88-106. أبو علي، القالي، الأمالي، تح: محمد عبد الجواد الأصمعي، دار الأفاق الجديدة د.ت، ص 132-133. المسعودي، أخبار الزمان، تح: عبد الله الصاوي، دار الأندلس، بيروت، 1980، ص 200-202.
[6] . تنويه: لا نريد أن نسترسل في مسألة رفض الأخبار الفنتازية والخرافية والتضييق عليها من طرف رجال الدين، فقد تحدث عنها المسعودي قائلاً: “إنَّ هذه أخبار موضوعة من خرافات مصنوعة نظمها من تقرب للملوك بروايتها فالمسعودي يظهر رفضه لهذا النص لكونه نصاً مفارقاً لما كرسته الشفاهية من واقعية، فهي خرافات، والخرافة تعني في المنظومة الفكرية والنقدية العربية ما يناقض “الحس الديني”، ويكفي ذلك لتبرير رفضها. إن مقاربة المسعودي، وهو هنا يختزل الموقف النقدي العربي لهذا النص، اكتفت بالنهل من المخزون الشفاهي الذي لا يكلف نفسه عناء البحث والقراءة والنظر في النصوص، بل يؤسس كلامه بتسرع وارتجالية على أحكام مسبقة كثيراً ما تكون نتيجة لسيطرة الثقافة الدينية، ثقافة الحسم النهائي في الأشياء، لا ثقافة القراءة والشك والسؤال. ينظر: أبو الحسن بن علي المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، موفم للنشر، 1989، ج2، ص292
[7] . أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني، الأنساب، تح: الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، ط1، بيروت-لبنان، 1980، ج1، ص 151.
[8] . معجم الأدباء، تح: مرجليوث، دار إحياء التراث العربي، بيروت-لبنان، د.ت، ج1، ص 54-55.
[9] . ينظر: محمد القاضي، الخبر في الأدب العربي، ص 87-89.
[10] . م، ن، ص 90.
[11] . م، ن، ص 116.
[12] . م، ن، ص 117.
[13] . فكرة عن الرواية: رواية الأشباح أندريه بلاتونوف كتبها بعد رحلته إلى تركمانيا وكان عنوانها الأصلى الجان وتدورالرواية حول نزار شاغاتايف موفد إلى الصحراء لإنقاذ قومه من الهلاك. رواية الأشباح هي استجابة حية من الكاتب على أحداث الواقع السوفيتي فى العشرينات والثلاثينات، وهي تجسيد مسيرة شعوب آسيا الوسطى المتخلفة آنذاك نحو الاشتراكية واتخذت عند بلاتونوف صيغة بحث عن السعادة يقوم به شعب خرافي مكون من أناس يتامى حُرموا إرادة الحياة وأنهكتهم العبودية والظلام. وشبه أندريه بلاتونوف فى رواية الأشباح الوضع الذي يعيشه هذا الشعب بالوقوف على حافة الهاوية حيث تكفي بلَوى أخري جديدة فى عداد المصائب الكثيرة لتودي به وكل ما يملكه هذا الشعب المغلوب على أمره هو القلب وحده عندما ينبض فى الصدر. تبدأ رواية الأشباح كرواية سيكولوجية وبالتدريج تتصاعد فيها عناصر الأسطورة، فكان من نتيجة هذا الأمتزاج بين الأسس الاجتماعية، أن ظهر إلى الوجود واحد من أفضل أعمال بلاتونوف عن مسيرة شعب إلى الحياة والنور. ينظر: رواية الأشباح لأندري بلاتونوف، موقع: http://www.maktbah.com
[14] . ولد اندريه بلاتونوفيتش كليمنتوف ولقبه المستعار ” بلاتونوف ” في 28 آب عام 1899 في بلدة يامسكايا سلوبودا بمحافظة فورونيج في عائلة عامل سكك حديدية، ومارس نفسه العمل منذ سن 16 عاما في احدى محطات القطار. ولهذا كان يفتخر دوما بأصله البروليتاري وتجسد ذلك في أشعاره المنشورة آنذاك.وعاشت الاسرة في بيت مستأجر حيث كان الاطفال ينامون على الارض سوية تحت لحاف واحد بعد تناول وجبة عشاء تتألف من الخبز الاسود يرش عليه الملح لأكسابه مذاقا خاصا والشاي المصنوع من الجزر المجفف. وهكذا عرف اندريه معنى الفقر منذ نعومة أظفاره وكتب عنه في قصصه المبكرة التي كانت في الواقع تصويرا صادقا لأيام الطفولة. وعندما قامت الثورة في اكتوبر عام 1917 رحب أندريه بها بحماس وانخرط في العمل الثوري. وفي عام 1918 إلتحق بمعهد السكك الحديدية بمدينة فورونيج بغية الحصول على شهادة مهندس ميكانيكي. وفي عام 1920 قدم طلبا للانضمام الى الحزب البلشفي. يوصف الكاتب أندريه بلاتونوف بـ”كافكا الروسي “لسبب واحد هو ان قصصه ورواياته مترعة بالاحداث الخيالية الشبيهة بالكوابيس والاحلام المرعبة. وتعد الروايات الثلاث من أهم ما قدم فى تاريخ الأدب الروسى، وهم “الحفرة” و”بحر الصبا” و”الأشباح”. ينظر: عبد الله حبه – موسكو بلاتونوف ” كافكا الروسي”، مقال نشر بتاريخ الثلاثاء, 22 آذار/مارس 2016 18:25 موقع: http://www.iraqicp.com
[15] . لقد ورد هذا النوع المسمى بالقصص الأخباري عند بعض الدارسين الذين اجتهدوا في تقسيم هذه الأضرب والنص الذي بين أظهرنا يبين ذلك: ” ومدار هذا التصنيف للقصص العربي الموضوع على أقسام خمسة يدخل في كل منها فروع. فالقسم الأول: القصص الأخباري وأنواعه: الحكايات الفكاهية، الاجتماعية، الخرافية أو الأسطورية الغنائية الهجائية التعليمية….الخ. والقسم الثاني: القصص البطولي وتدخل فيه قصة عنترة وقصة بكر وتغلب وقصة البراق وقصة كسرى أنوشران. والقسم الثالث: القصص الديني ويدخل فيه كتاب “قصص الأنبياء” للكسائي وكتاب “عرائس المجالس” للثعلبي (ت427). والقسم الرابع: القصص الفلسفي وتدخل فيه “رسالة الغفران” للمعري و”حي بن يقظان” لابن طفيل و ” الصادح والباغم” لابن الهبارية (ت509). ويبرر موقفه من الاختيار الأول، قائلاً: “عنينا بالقصص الأخباري تلك الحكايات القصيرة والأسمار الكثيرة والنوادر الظريفة والأخبار المشتتة هنا وهناك، لكونها روايات مختلفة الألوان متشعبة الأهداف، متعددة الأغراض، جمالها في ظرفها وخفة روح روايتها، وأدبُها في رشاقة أسلوبها ونصاعة لغتها. ينظر: موسى سليمان، الأدب القصصي عند العرب، منشورات دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1956، ص33- 34.
[16] . ينظر: محمد ونان جاسم، المفارقة في القصص “دراسة في التأويل السردي”، ط1، رند للطباعة والنشر، دمشق 2010، ص 77.
[17] . ينظر: م، ن، ص ن.
[18] . م، ن، ص ن.
[19] . ينظر: م ، ن، ن.
[20] . ينظر: م، ن، ص 79.
[21] . ينظر: م، ن، ص ن.
[22] . ينظر: م، ن، ص ن.
[23] . ينظر: م، ن، ص 80.
[24] . ينظر: م ن، ص 81.
[25] . ينظر: يوسف زيدان، متاهات الوهم، ط1، دار الشروق، القاهرة، 2013، ص 13.
[26] . تنويه: للغرابة وسائط تتحقق عبرها وهي: “التحول و التشيؤ”. التحول: هو التغير وعدم الاستقرار ولا سيما في خرق الطبيعة والتشيؤ هو تحويل العلاقات الإنسانية الكلية إلى صفة كلية للأشياء الجامدة. ينظر: ينظر: محمد ونان جاسم، المفارقة في القصص “دراسة في التأويل السرّدي”، ط1، رند للطباعة والنشر، دمشق، 2010، ص 81.
[27] . أندري بلاتونوف، رواية الأشباح، ص 31.
[28] . م، ن، ص .
[29] . ينظر: محمد مشبال، البلاغة والسرد، جدل التصوير والحجاج في أخبار الجاحظ، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية جامعة عبد الملك السعدي، تطوان المغرب، 2010، ص 92.
[30] . ينظر: جون كوين، النظرية الشعرية، تر: أحمد درويش، مكتبة غريب، القاهرة 2000، ص 35-36.
[31] . تنويه: سخريته من الواقع الروسي المرير واضحة المعالم، تعكس الواقع الذي عاشه الكاتب في فترة الحرب الاهلية الدامية وخلال فترة تصفية البرجوازية كطبقة اجتماعية أُحرِق خلالها الاخضر واليابس، وكذلك في فترة المجاعة التي اجتاحت بعض مناطق الاتحاد السوفيتي في مطلع الثلاثينيات وما رافقها من فظائع تقشعر لها الابدان كأقدام أب تتري على ذبح ابنه الاكبر من أجل اطعام اطفاله الآخرين بلحمه. إن هذا الكاتب الذي عانى من المضايقات في عهد يوسف ستالين، رفعه النقاد في اعوام السبعينيات والثمانينيات الى الذروة واصبح اليوم من الادباء الروس الكلاسيكيين. ينظر: عبد الله حبه – موسكو بلاتونوف ” كافكا الروسي، ص 1.
[32] . أندري بلاتونوف، رواية الأشباح، ص 32.
[33] . م، ن، ص 32-38.
[34] . م، ن، ص 151-152
[35] . حسين علام، العجائبي في الأدب العربي، من منظور شعرية السّرد، ط1، منشورات الاختلاف الجزائر، 2010 ص 208.
[36] . تنويه: هناك اتفاق على المعنى القاموسي للكلمة، ففي قاموس المورد، grotesque الغَرْتَسْك: فن زخرفي يتميز بأشكال بشرية وحيوانية غريبة أو خيالية متناسجة عادة مع رسوم أوراق نباتية، وشيء غريب على نحو بشع أو مضحك خيالي غريب متنافر على نحو بشع متسم بالإحالة أو البشاعة، مغاير لكل ما هو طبيعي أو متوقع أو نموذجي وجاء بمعنى grotto مغارة، غار، كهف طبيعي أو صنعي. إذا ما أخذنا مفهوم الغروتيسك من معناه الدال على الكهف والمغارة، فهو ذو دلالة على الشكل والهيئة. ونجد أن اليونان اتبعوا التراجيديا الثلاثية بمسرحية ساتيرية، وهي موضوع شبه رومانسي يعتمد على الجروتيسكية ويتناول الآلهة والأبطال ويكــــاد يشبه المسرحية التهريجية، من هذه الإشارة نستدل على أن الغروتيسك استخدم دلالة على التهكم والسّخرية، وقد جاءت هذه المسرحية بهذا الإطار بعد الثلاثية التراجيدية لإزالة الخوف وهي تسخر من الآلهة والأبطال. وبالرجوع إلى الفترة الزمنية الممتدة في الحضارات المختلفة، نجد أن هناك أشكالا وتماثيل تبين عن حالة اندهاش واستغراب وحالة عجائبية، فمن ذلك تمثال عين غزال ذي الرأسين في الأردن والذي يعود إلى حقبة تاريخية أكثر من “6000 ق.م”، وكذلك نجد صورة مشابهة قد تنم عن حالة من التشكل بين العقل والقوة، وتلك هي الإشارة إلى تمثال أبي الهول والذي يشير إلى بعض من حكم مصر في القرن”26ق.م”، وعليه، فإننا نستدل على أن غاية التشكل الغروتيسكي يرجع لتصورات ورؤى الشعوب، سواء أكان يتعلق ببعد طقسي وشعائر أو بأبعاد تقاليد اجتماعية. ينظر: ولوين ميرشنت، كليفورد ليتش، الكوميديا والتراجيديا ترجمة علي أحمد محمود، عالم المعرفة الكويت، 1997، ص119. ينظر كذلك: صلاح الدين جباري، بلاغة الغروتيسك، ط1، النايا للدراسات والنشر، دمشق، سوريا، 2010، ص9.
[37] . ينظر: نبيلة إبراهيم، فن القص في النظرية والتطبيق د.ط، سلسلة الدراسات النقدية، مكتبة غريب، دار قباء للطباعة، د. ت ، ص73.
[38] . تنويه: يؤكد “مالك شبيل” على أهمية توظيف الجسد الغريب، قائلاً:” بيد أن الجسد، يبدو الفضاء الممتاز، الذي تتلخص فيه مثل هذه الشروط المناسبة لظهور تلك الآثار، مما يؤدي إلى التضخيم عبر التخييل، ومن ثمة الدخول في عملية تقديس العجيب وإلى التداخل غير المريح للشك الواخز بحسب تعبيره، ويضيف” إن كل هذه المعطيات تساهم في إحداث القلق الدائم والهاجس الذي نسميه الشعور بالإضطهاد الذي يبين عنه الإدراك الشعبي للخل الجسدي كالخيبة وسوء الحظ. ينظر: حسين علام، العجائبي في الأدب العربي، مبحث الجسد العجائبي، ص 209.
[39] . أندري بلاتونوف، رواية الأشباح، ص 96-99.
[40] . عبد الله حبه بلاتونوف ” كافكا الروسي، ومحنة الانتلجنسيا الثورية الروسية، ص 1.
[41] . أندري بلاتونوف، م، س، ص 100.
[42] . ينظر: حسين علام، العجائبي في الأدب العربي، من منظور شعرية السّرد، مبحث التحولات والمسوخ، ص 211-212.
[43] . ـأندري بلاتونوف، رواية الأشباح، ص 125
[44] . م، ن، ص 153-156.
[45] . الميلود عثماني، شعرية تودوروف، منشورات عيون، الدار البيضاء، المغرب، د.ت، ص 64.
[46] . أندري بلاتونوف، م، س، ص 31.
[47] . ينظر: محمد الأمين سعيدي، شعرية المفارقة في القصيدة الجزائرية المعاصرة، ط1، دار فيسيرا، 2013، 152.
[48] . ينظر: محمد سالم محمد الأمين، مستويات اللغة في السّرد العربي المعاصر، دراسة نظرية تطبيقية في سيمانطيقا السّرد ط1، دار الانتشار العربي، بيروت، 2008، ص 150. نقلاً: عن محمد الأمين سعيدي، شعرية المفارقة، ص 150.
[49] . ينظر: محمد الأمين سعيدي، م، ن، ص ن.
[50] . ينظر: برتراند راسل، ما وراء المعنى والحقيقة، تر: محمد قدري عمارة، مراجعة: إلهامي جلال عمارة، مبحث: ما هي الكلمة، ط1، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005، ص 24-25-26
[51] . أندري بلاتونوف، رواية الأشباح، ص 156-157-158.
[52] . برتراند راسل، م، س، ص 28.