
مقال نشر بالعدد الثاني من مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية ص 155 من إعداد الأستاذة زواري رضا – جامعة تبسة- الجزائر.
للإطلاع على مقالات كل العدد يرجى الضغط على غلاف المجلة:
تقديم : وقفة مع مسيرة التّجربة الرّوائية الجزائريّة :
حققت الرواية العربية الجزائرية بدءا من السبعينات حتى الألفية الثالثة تراكمات أفرزت شكلا روائيا، مكن النقد من البحث عن آليات جديدة لملاحقة هذا التطور الذي ارتبط بتطور الوعي الإبداعي، وفي الحقول المعرفية، و الفكرية، وفي البنيات المجتمعية المرتبطة بها، و بالتالي فالانفتاح على الكتابة الروائية ،هو انفتاح في الآن نفسه على طبيعة الأسئلة ونوعيتها في الكتابة و النقد وأسئلة الثقافة في بعدها الفكري و المعرفي، مما يعني أن إستراتيجية البحث و التفكير تستدعي بالضرورة إعادة النظر وإعادة المساءلة .. لما قد تميزت به في التجربة [1]
و الأمثلة عديدة عن التجارب الروائية الجزائرية كروايات “اللاز “، “الزلزال “، “العشق و الموت في الزمن الحراشي ” للطاهر وطار، “ريح الجنوب “، ” بان الصبح” لابن هدوقة،”ما تبقى من سيرة لخضر حمروش ” لواسيني الاعرج، “نار ونور “لعبد الملك مرتاض، “حب وشرف ” للشريف شناتلية، “طيور في الظهيرة ” لمرزاق بقطاش، “على الدرب ” لصادق حاجي محمد، “ما لاتذروه الرياح ” محمد العالي عرعار…وغيرهم فتجربتهم الروائية تمت على أساس التحولات التي حصلت في المجتمع الاستقلالي، انطلاقا من دورهم النخبوي التقدمي، و المرتبط بواقع الحركية التاريخية و القوى التقدمية[2]
فالرواية العربية الجزائرية منذ السبعينات حتى منتصف الثمانينات عاشت حدودها التاريخية، فتمسكت إيديولوجيا بالعارض ،و نسيت –أو تناست – الجوهري، ليتشكل على صعيد الإبداع “أدلجة لها أثارها المحددة على توجيهه …في تكون جوهر الحملة الإبداعية وفرض مقاييسها المستمدة من قيم اللحظة التاريخية التي ليست بالضرورة ما يريد النص توليده، قيم تحفز الروائيون على الالتزام في مكافحة الظلم والاضطهاد الاجتماعي و السياسي، وهو ما أعطى أولوية فائقة للأديولوجي على حساب الإبداعي …أصبحت الإيديولوجية المعنية رغم طابعها الفضفاض، الضابط الأولي لنظام أو وضع الكتابة الروائية “[3]
وبالتالي فالرواية السبعينية تكون قد أغفلت عناصر أساسية وجوهرية في بنية المنظومة الثقافية الجزائرية، فالحلم، و الأسطورة، وحلم اليقظة واللاوعي، و التشكل اللامعقول و الأطوار البدائية للإنسان الجزائري و الايدولوجيا كانت شبه معدومة في تلك الروايات التي تتحدث عن الثورة المسلحة و الآخر – المستعمر – الثورة الزراعية، الصراع الطبقي بين الإقطاع و الإقطاعيين، وطبقة الشعب الفقيرة، إلى الجهاز البيروقراطي في الحزب بعد الاستقلال ومناضليه ومؤسسات الدولة، إلى انتهازية خونة الثورة في هرم السلطة وتاريخها النضالي و السياسي.[4]
ونشير إلى أن فلسفة الكتابة الإبداعية هي شكل علاقة المبدع بالمجتمع، وثورته عليه لإعادة صياغته وإعادة تشكيل رؤيته للعالم، وبالتالي فهي”تجعل من الوعي ومن الممارسة الإنسانية –الإنسان الفرد – التي تولده وتفنيه لاستمرار واقعا حقيقيا، يمد جذوره في الفاعلية الماضية والواقع – الراهن – ويعكسهما، ولكنه باستمرار يتخطى – بل يجب أن يتخطى – المعطى –الجاهز – وباستمرار يضيف على الواقع “[5].
لقد تحكمت في الكتابة الروائية مسارات ملتوية معقدة لكونها لا تمتلك رؤية موقفية،وإذا اعتبرنا الكتابة تعبيرا عن موقف والموقف أيديولوجيا، فالثمانينات من القرن الماضي ،كانت نتاج مرحلة سياسية معقدة ،حيث تم فيها التراجع عن الطروحات الماركسية ،والنظرة الدوغمائية للعمل الحزبي ،وأشكال الخطابات الإديولوجية الموجهة،إضافة إلى الانفتاح الاقتصادي ،وبروز الطبقة البرجوازية ،وإقصاء الفكري والثقافي في غياب أشكال الصراع الاجتماعي ،ففضاء الرواية العربية الجزائرية في الثمانينات من القرن الماضي أسس لفضاء ينطلق من العلاقات ليحيلها إلى معرفة ،ومن الواقع ليحيلها إلى سجل مفتوح للفعل الإنساني ،ومن الحلم ليؤكد على أن الحلم هو الوجه الآخر للممارسة التاريخية.[6]
فإن عوامل موضوعية عديدة جعلت من الثمانينات منعرجا حاسما في عمر الرواية العربية الجزائرية ،فكتاب الثمانينات كان أغلبهم في ظل الرواد:وطار ،ابن هدوقة ،رشيد بوجدرة ،فهذا الجيل كان ابنا للمشهد الاجتماعي الوافد مع الثورة “ابنا للطبقات المهدورة الحقوق منذ آماد بعيدة ،لذلك كان الحس الطبقي لديه في الفكر والسلوك غالب على ما عداه من أحاسيس ثقافية أو متخيلة ،والحس الطبقي لا يرادف الولاء السياسي للطبقة التي نشأ فيها ،ولكنه يعني انعكاس ذبذبات التراث الاجتماعي لهذه الطبقة على الفكر والسلوك البالغة التعقيد :من النقيض إلى النقيض أحيانا بالانتماء يمينا أو يسارا أو بالازدواجية في معظم الأحيان “.[7]
ونشير كذلك إلى أن أحداث أكتوبر 1988 كانت حلقة من حلقات التغيرات العالمية وتحديا للخروج من شبكة الجاهز ،وبالتالي فالأزمة ليست حصيلة نبؤة بأزمة النظام السياسي والاجتماعي والثقافي القائم بعد الاستقلال ،وحتى ما قبل مجتمع الانفجار ،وإنما هي وليدة شعور ووعي عن عجز كافة الأبنية على تأسيس وتأصيل مرجعيتها- المنطلقات الايديولوجية – كاختراق بين المجتمع الجزائري …فالتحولات المجتمعية ما بعد أكتوبر كشفت القناع عن الأزمة – أزمة الكتابة – وكشف أيضا ثورة الوعي الحاد الذي استوعب هموم الإنسان الجزائري وتطلعاته وطموحاته،برؤية انصافية ،هذا الحضور المتخم بشتى التناقضات ومختلف التفاعلات هو الذي نطالع قسماته بين التسعينات وما بعد الألفية الثالثة[8]
مع مطلع التسعينات حتى الألفية الثالثة تحول الخطاب الروائي الجزائري للتعبير عن هموم الفئات والشرائح والطبقة الاجتماعية الصاعدة،وتطلعاتها ،ويتجلى هذا في موضوعات السياسة ،التاريخ ،التراث ،الدين،الجنس،الأنا-الآخر- التي تحولت من محاورة الأبعاد الوطنية إلى إثارة القضايا الاجتماعية السياسية والثقافية ،كما تتجسد في الصراع القيمي بين البرجوازية المحلية ومؤسساتها الرمزية الموالية والفئات المستضعفة والشغيلة وما أفرزته من مظاهر تأزم في علائق الشعب بالسلطة ،وبإمكاننا أن نلمس جميع هذه القضايا عند رشيد بوجدرة في رواياته :”يوميات امرأة آرق”، تيميمون “، “التفكك”،”معركة الزقاق ” ،وواسيني الأعرج في رواياته :”سيدة المقام “، “نوار اللوز “، “ضمير الغائب “،” كتاب الأمير “،”شرفات من بحر الشمال “،ولحبيب السايح في رواياته : ،”ذاك الحنين “… ،ابراهيم سعدي في رواياته :”بوح الرجل القادم من الظلام “،والطاهر وطار في رواياته : ” الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي “، “الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء ” جيلالي خلاص في رواياته :”رائحة الكلب “،”حمائم الشفق” ،”عواصف جزيرة الطيور “،”بحر بلا نوارس”…وغيرها ‘[9]ونصل إلى أن الرواية العربية الجزائرية الجديدة بما هي فضيحة وتعرية لمظاهر التخلف الفكري والمعرفي والإنساني ،تقدم بوصفها أفقا للكتابة الجديدة كما أنها ليست ” شيئا جامدا ولا مقدسا ولا مطلقا خارج الزمان والمكان ،وإنما هي إحدى ثمرات فكر الإنسان “[10]…………………………………………………………
“قرة العين ” لجيلالي خلاص :دراسة في بنية المضمون
1) مضمون الرواية :
لما كانت الرواية ،وعلى غرار بقية الأجناس الأدبية، شكلا من أشكال الوعي الإنساني ،ووعاء تصب فيه أفكار ورغبات وأحاسيس الإنسان ،في صراعه مع واقعه ومحيطه ،كان لابد أن تهتم الدراسات النقدية والتحليلية، بجانب المضمون ،في تحديد مفهومها سواء كان ذلك من خلال توضيح طبيعة هذا المضمون ،ونوعيته المتسمة بالشمولية ،أو من حيث هو تعبير عن مواقف ذات أبعاد مختلفة ،نفسية واجتماعية.[11]
تكاد تكون الرواية في الجزائر قد ارتهنت إلى الشهادة على ما عصف بالبلاد خلال العقدين الماضيين ،غير أن صدى ما للعقود السابقة المتعلقة بالثورة التحريرية وبدولة الاستقلال ،ظل يترجع،وبدرجة أدنى ظل يترجع صدى أقدم،كما في رواية “كتاب الأمير”لواسيني الأعرج ،ورواية جيلالي خلاص “عواصف جزيرة الطيور “، وبقدر ما بدا هذا الرجع يخاطب الراهن ،بقدر دأب على تنزيل الثورة التحريرية من عليائها،وكذلك الدولة البومدينية والثورة الزراعية والتجربة الاشتراكية وما تلاها من دولة الاستقلال ،حتى اندلعت الجحيم من الجيل التالي لهؤلاء الرواد،يدفع جيلالي خلاص أخيرا بروايته ” قرة العين “،ليستعيد الأمس الجزائري التحريري والاستقلالي، فكأنما يغرد خارج السرب ،وبخاصة أن هذه الاستعادة تبلغ بنقد الأمس البومديني أقصاه ليغدو شطبا عليه كما سنرى .[12]
ومن أجل ذلك عادت “قرة العين ” إلى الفضاء الأثير لكاتبها :الريف متمثلا بقرية “تكوسة ” وأرض ” بوزاهر ” التي تحمل الرواية لقبها ” قرة العين” وقد لفحت الرومنطقية ريف الرواية ،وإلى حد يذكر بـ”منفلوطية الطبيعة”.[13]
حيث تتوافر المشاهد بالجنادب والصراصير وقطعان البقر والحلازين وأشجار الكاليتوس و…وابتداء من عودة “علي لكحل ” من الجبل بعد انتصار الثورة إلى قريته، على ” الصراط المتثعبن بين الأعشاب ذات الاخضرار الفاجر “.[14]
غير أن الرومنطقية المنفلوطية لا تحجب بهاء مشاهد أخرى ،ربما يكفي للتمثيل عليها بما رأى ” علي لكحل ” في عهد الثورة، – على حد تعبير نبيل سليمان – حين أرسل إلى باريس في مهمة “خنازير البحر بظهورها الفضية وخطاطيمها الحادة وعيونها الصبيانية الجاحظة تثبت متحدية بعضها وسط زبد الأمواج الأبيض”.[15]
وهب “علي لكحل” الثورة سبع سنوات ،رأى فيها نفسه بعدها ” سبخة قطن مندوف معلقة خيطا خيطا في ثقل الكون ” .[16] ،وقد رفض ما كان والده قد طلب له: الوظيفة جزاء النضال .[17] ،إذ رأى ذلك متابعة لما رآه دوما أمامه :القوانين والاستجداءات والتهديدات والالتماسات ؛أي :” الخضوع دائما…الركوع أبدا…الطاعة دوما…”[18] ،
هكذا وهب الوالد العجوز الجليل –الحاج أحمد- الذي صار كتمثال مجيد من العهود الغابرة أرض “بوزاهر”أو “قرة العين “لابنه الذي سيحييها من موات ،والحق أن الرواية هي رواية هذا الإحياء الذي يستدعي ما يستدعي من الماضي البعيد (الطفولة )، أو القريب (الثورة ).[19]
ومن تفاصيل إحياء الأرض تنهض شخصيا الرواية،يتصدرها الوالد مثل “علي لكحل” نفسه، وتدور فضائها الأخت بختة التي يعرف شقيقها وقع خطواتها الشبيهة بخبب الحجلة في براري قرية تكوسة ،كما يمتلئ هذا الفضاء بأصدقاء ” علي لكحل ” في مدينة الضاية ،وبالبدو والفلاحين الذين يملؤون أرض بوزاهر ،ومنهم بخاصة ” خيرة ” التي سيتزوجها “علي لكحل بينما تستعيد الأرض شبابها على إيقاع التغيرات و التطورات و الانقلابات في الوطن، أكسبت سنوات الثورة عليا من الخبرة ما أكسبته وهو يتطوح من الجبال إلى أوروبا، ومع ذلك يبدو في مواطن شتى مفكرا كبيرا، ويحدس بأن البلاد ستشهد أحداثا رهيبة “سيعرف البلد يا أبي أحداثا رهيبة …اجل يا أبي هذه المرة سيثور الشعب في كل بقعة وقرية ومدينة في الجزائر لأن نظام الحكم في الذي قرر في الجزائر بعد وقف إطلاق النار نظام خاطئ وجائر “[20]
وعلى حد تعبير نبيل سليمان تجلجل خطابية علي لكحل، ومن دعوته في منتهى الرواية : ” لنكن الورثة الحقيقيين لأجدادنا الأفذاذ، لنسمع نداءهم، لنتحرر من كل العراقيل، من كل هذه الأنسجة العنكبوتية التي شوهت ماضينا وتشد مستقبلنا إلى التبعية شدا خطيرا”.[21]، ومثل هذا التقويل للشخصية الروائية يتكرر مع آخرين، كان تصف بختة ساقي حليمة وهي تغريه بالزواج منها : “ساقاها مدملجتان ” .[22]
كما حدثت وقائع بها تناقض كوفاة “سعيدة ” معشوقة علي لكحل على اثر سماع طلقتين ناريتين ” وفي صباح اليوم الثالث جاءته بأسوأ مما كان ينتظره قالت له العجوز الطيبة : حملوا سعيدة وهي في خطورة قصوى إلى مستشفى الضاية … أبوها وإخوتها في حيرة حيال هذه المأساة التي حلت بهم … لقد أصابت سعيدة ذبحة حادة … بعد الطلقتين ” [23]، على أن للرواية ما تقابل به مثل هذه العلل، وذلك بما تنسج من العلاقات الإنسانية الرهيفة كعلاقة علي لكحل بوالده أو علاقته بأخته بختة و بسعيدة وخيرة وبالخيل وأصدقائه، ومنهم “الطيب ” الذي ينتشله علي لكحل من القاع، ويصلب عوده ويجعل منه عضده، لكن الطيب سينقلب على علي لكحل شر منقلب بعد تزلزل الثورة الزراعية زلزالها، وقد بلغت الرواية – على حد تعبير نبيل سليمان – هذا المفصل الحاسم في الفقرة التي ختمت فصلها الثاني عشر، تحت عنوان ” الأخبار المشؤومة ” وفيها ما أخذ يتردد على تأميم أراضي الملاك الكبار أو عدم ترك قطعة ارض للخواص، وبموازاة ذلك أخذ الطيب يوسوس للفلاحين ” لقد صار الطيب يوسوس ليلا نهار في آذان فلاحي ” بوزاهر الفقراء … كان علي لكحل يثق في الطيب ثقة عمياء .” [24]، وراح القلق على ارض بوزاهر” قرة العين ” يجتاح علي لكحل، في نهاية الفصل التالي تأتي فقرة ” التحرش ” [25]، وفيها أمر رئيس الجمهورية : الأرض لمن يخدمها، وهو ما دفع بالفلاحين إلى الثورة على علي لكحل فصرفهم بإحسان وتولى وأسرته العمل في الأرض لكن صديقه الطيب الذي صار رئيس اللجنة الزراعية اصدر القرار بتأميم ” قرة العين ” وأمهل صاحبها شهر [26]،فإذا بعلي لكحل في نهاية المهلة يقتل “الطيب ” ،ثم يصرخ كأخيل المنتصر ،فترخي الرواية – على حد تعبير نبيل سليمان – الستارة التراجيدية على الطبيعة،حيث “اهتزت الأشجار ويبست، وتشققت جدران الضيعة ،غارت مياه آبار بوزاهر ،ماتت البلابل والشحارير،داخت الحجال والبط والدجاج بينما انحدرت من الجبل المجاور لبوزاهر جلاميد صخر قضت مضجع امرئ القيس نفسه، وهو يكر ويفر بحصانه العربي المطهم الأصيل “.[27]
لكن النهاية التراجيدية لا تكتمل إلا بانتحار علي لكحل ” فتح فمه وأولج ماسورة “المات 24 ” فيه، دفعها حتى لمست مدخل حنجرته،ضغط الزناد “طخ..طخ”،تمدد جسده مرتعدا..”[28]
لقد سبق لحكمة الماضي أن قادت الإعمار ،حين طبق علي لكحل ” التويزة” في أرض بوزاهر ” أنت تعرف التويزة أليس كذلك ؟ – معلوم أجاب رابح فورا، هذا هو الحل ،قال علي لكحل وبسمة عريضة تضيء وجهة …لنوحد جهودنا ونعمل بخطة مدروسة “[29]، والتي تعني أن تتعاون الجماعة على ما يحتاجه كل منها من حفر البئر وغرس الشجر وجمع الغلال و…لكن المآل كان الدمار فـ”التويزة “عمرت والثورة الزراعية هدمت ،أما رواية جيلالي خلاص “قرة العين فقد تجاوزت نقد السلف الروائي الصالح ( عبد الحميد بن هدوقة ،الطاهر وطار ،ورشيد بوجدرة ) للأمس الجزائري، كما تجاوزت رواية خلاص نقد جيل الكاتب نفسه لذلك الأمس الذي شابه البقرة إذا وقعت فتكاثرت سكاكينها.[30]
2) البطل الروائي (الإشكالي) في ” قرة العين” :
من خلال تصفح رواية ” قرة العين ” اتضح أن جيلالي خلاص التجأ إلى وظيفة الانتحار ليضع حدا نهائيا لبطل روايته “علي لكحل” الذي احتل حيزا شاسعا من الرواية فعلي لكحل على اثر إصدار قرار تأميم أرض “بوزاهر” قرة العين التجأ إلى قتل” الطيب ” ثم انتحر هو،فهذه الرواية شبيهة برواية “حنا مينة ” الذي التجأ هو الآخر إلى وظيفة الانتحار ليضع حدا نهائيا لبطل رواية “نهاية رجل شجاع ” فـ”مفيد الوحش” يصاب على اثر خروجه من السجن بمرض عضال فيلتجئ إلى فتح دكان يبيع فيه البضائع المهربة ،لكنه يجد نفسه في مواجهة المعلم “البطحيش ” الذي يوظف رقيب الجمارك ليتخلص منه فعندئذ لا يجد مفيد الوحش حلا وحيدا وهو أن يقتل الرجل الرقيب وينتحر.فمثل هذه الخاتمة تستجيب ” لمفهوم البطل الروائي كما حددها سابقا “جورج لوكاتش” في كتابه الشهير ” نظرية الرواية ” فهو يرى مآل البطل الإشكالي في رحلة البحث عن القيم الأصيلة في مجتمع متدهور ،هو الجنون أو الانتحار” .[31]
تقدم الرواية البطل الإشكالي الذي يعكس ويلخص معاناة وقلق مرحلة الثورة وما بعدها كما تجسد نقد الأمس الجزائري ،والتجربة الاشتراكية والثورة الزراعية، فعلي لكحل يجسد غربته داخل الوطن لا يشعر بوجوده فوق الأرض حينما عاد من الجبل بعد الثورة “… من اللاشعور بعث فيه دم جديد و خامرته فكرة وجوده فوق الأرض … حيا، والحياة لم تعن يوما بالنسبة لعلي لكحل إلا امتحانات شاقة متوالية … كان يرى نفسه ميتا عجيبا بعث إلى الوجود، ضربا من المزارق اللامادية …” [32]
كما بدا بطل الرواية “علي لكحل” في مقاطع كثيرة من الرواية عرّافا ويتنبأ بحدوث أشياء مستقبلية، وذلك من خلال أحلامه وتنبؤاته، فقد تنبأ بعودته إلى قريته “… أنت تعرف يا سيدي، أنني كنت متيقنة من عودتك كما حلمتها في أحلامك التنبئية، ألا تذكر رسالتك؟ تلك التي بعثتها بعد سفرك بأيام قليلة والتي قصصت فيها حلمك؟ …”[33]
وحدس وتنبأ بأن البلاد ستشهد أحداثا رهيبة “سيعرف هذا البلد يا أبي أحداثا رهيبة…”[34] ، وأكثر من ذلك كله بدا أنه يعرف نهاية صديقه “الطيب” هذه الشخصية التي رافقته في مشروعه لأجل إصلاح أرض بوزاهر “قرة العين”، لكن الطيب الذي ساند علي لكحل انقلب ضده في الأخير فكانت نهايته مأساوية بأن قتله علي لكحل، ألا يعد لك خرقا لأفق توقع القارئ؟
3) صورة السارد وأشكال السرد في الرواية :
من خلال تحليل هذه الرواية تم التوصل إلى أننا إزاء ثلاثة ضمائر تستعمل لسرد الوقائع:
ضمير الغائب (هو) ،ضمير المتكلم (أنا)،ضمير المخاطب (أنت)،لكن استعمال ضمير الغائب “هو ” احتل حيزا شاسعا من الرواية ويبدو أنه يحيل على السارد هذا الكائن الذي يقف وسيطا بين القارئ والشخصية والعالم الروائي “هذا الضمير أن يكون سيد الضمائر السردية الثلاثة ،وأكثرها تداولا بين السراد وأيسرها استقبالا لدى المتلقين، وأدناها إلى الفهم لدى القراء…”[35] ، والأمثلة كثيرة في استعمال هذا الضمير “…سار بضعة أمتار تحت المطر، كان يشعر بقطرات تخترق عمامته فتبلل شعره الأسود الكثيبف وتتسرب برودتها المقيتة عبر سترته وقميصه وسرواله فتثير قشعرير خفيفة في كامل جسده…”[36] ، فالسار يتوارى وراء هذا الضمير (هو) لتمرير فكرته وايديولوجيته ،ناقم على الوضع السياسي والتناقضات الموجودة داخل الوطن ،يحلم ويصبو لتحقيق مشروعه ويسعى للتغيير وذلك لأن استعمال ضمير الغائب “وسيلة صالحة لأن يتوارى وراءها السارد فيمرر ما يشاء من أفكار ،وايديولوجيات وتعليمات ،وتوجيهات ،وآراء ،دون أن يبدو تدخله تدخله صارخا ولا مباشرا…إن السارد يغتدي أجنبيا عن العمل السردي ،وكأنه مجرد راو له بفضل هذا الهو العجيب…”[37]
ويبدو الكاتب الروائي جيلالي خلاص في “قرة العين” يعرف عن شخصياته- علي لكحل ،الحاج أحمد،بختة، الطيب…- وأحداث عمله السردي كل شيء ،فهو هنا يزدجي الأحداث وشخصياتها نحو الأمام ،فكان وضعه السردي قائما على اتخاذ موقع خلف
الأحداث التي يسردها لأن “استعمال ضمير الغائب يتيح للكاتب الروائي أن يعرف عن شخصياته وأحداث عمله السردي كل شيء، وذلك على اساس أنه كان قد تلقى هذا السرد قبل إفراغه على القرطاس، فهو، هنا يزدجي الأحداث وشخصياتها نحو الأمام … الأحداث التي يزدجيها تلقاء الأمام بما هو أشد إلماما، وأكثر اطلاعا، فهو بها، إذن، خبير وبتفاصيلها عليم …”[38]
وكذلك يتضح استعمال ضمير المتكلم الذي يحيل عامة على الشخصية الرئيسية “علي لكحل” عندما يتحول إلى سارد يروي بعض المقاطع السردية، أو يدخل في حوار مع أبيه الحاج أحمد أو أصدقائه الفلاحين أو أخته بختة … قال علي لكحل لأبيه: “لا أدري إذا كان حلمي يشبه حلمك يا أبي ولكن ستحكم بنفسك، رأيت نفسي ببيت جدي القديم ذي البياض الحليبي.. سلكت الطريق المؤدية إلى الينبوع … رأيت رجلا في هيئة مسكين متسول ..” [39]
ولضمير المتكلم القدرة المدهشة على إذابة الفروق الزمنية والسردية بين السارد والشخصية والزمن جميعا إذ كثيرا ما يستحيل السارد نفسه في هذه الحال إلى شخصية كثيرا ما تكون مركزية، ولعل ذلك راجع لجماليات الضمير “يجعل الحكاية المسرودة أو الأحدوثة المروية، مندمجة في روح المؤلف فيذوب ذلك الحاجز الزمني الذي كنا ألفيناه يفصل ما بين السرد، وزمن السارد.. ويجعل ضمير المتكلم المتلقي يلتصق بالعمل السردي ويتعلق به أكثر … كأن ضمير المتكلم يحيل على الذات …”[40]
أما عن استعمال ضمير المخاطب في الرواية اتضح أنه يحيل إلى شخصية ثانية بعد الشخصية المركزية، فعلي لكحل يرافقه والده الحاج أحمد ..” قال الحاج أحمد: أي بني، بفضلك أحسست بعودة الشباب إلى عروقي في هذه الصبيحة الرائقة … أي بني حين يكون الإنسان شابا يحكمه اعتقاد خاطئ كونه يظن أن الحياة طويلة ..”[41]
“أي بني، إني أنصحك أن تتزوج في أقرب الآجال، هكذا يمكنك تربية أبنائك بنفسك…”[42]
ويطلق عليه “منظرو الرواية الفرنسيون “ضمير الشخص الثاني” … على غرار ما جاء في مصطلحات نحاتهم … وكأن الضمير يأتي استعماله وسيطا بين ضمير الغائب والمتكلم، فإذا هو لا يحيل إلى خارج قطعا، ولا هو يحيل إلى داخل حتما ؛ ولكنه يقع بين بين …”[43]
4) لغة الرواية:
تؤكد اللغة في “قرة العين” أقرب إلى لغة الشعر منها إلى لغة الرواية إذ ترتقي إلى درجة عالية من الشاعرية حتى لكأننا إزاء ذات شاعر تستقطب العالم عبر الصور والمجاز، وتتميز اللغة بقدرة بلاغية واضحة عبر تكثيف أساليب المجاز مما يكسب النص الروائي شعرية عمقة، والمقاطع في الرواية كثيرة “شرعت الشمس الحمراء تتبوأ السهل الرملي، راحت القفزات الضوئية تعلق بأطراف تلك البكرة ذلك الشعاع الخجول وتصبغها مثل قوس قزح بآلاف ألوانها البلورية وقد أضفى عليها الندى المنثور، منذ الصبيحة، مظهره الألماسي الأميري، فبدت في تبرجها ككوكب يؤوب من إحدى رقصاته الجنونية المضاءة بآلاف الأنوار المختلفة وإن كان اللون الفضي سيدها بلا منازع …”[44]
كما أنّ الرواية في لغتها تميل إلى بعض الصور الشعرية الموحية “… لم تعد أرض بوزاهر السكرى بالماء العذب الزلال تبدي وجها متغضنا وأنفا أحمر ملفوحا بهجير الشموس الذي غلبه الري المتدفق … إن أرض بوزاهر لتضحك اليوم ملء شدقيها وجهها اليوم مرحب، أخضر، جميل انه يتحدى الشمس الحقود …”[45]
خاتمــــــة :
من خلال ” قرة العين ” استطاع جيلالي خلاص أن يقدم رؤيته حيث استعاد الأمس الجزائري التحريري والاستقلالي ،قدم نقدا للأمس البومديني والثورة الزراعية والتجربة الاشتراكية مجسدا التناقضات الحاصلة في الوطن- الجزائر – التي أفضت إلى الانتحار، مصورا ذلك في تأزم علائق الشعب بالسلطة ،لذلك تعتبر روايته ذات بطل إشكالي “علي لكحل ” وحلمه- البطل- وسعيه من أجل تحقيق برنامجه ومشروعه لإصلاح أرض بوزاهر “قرة العين “، اتضح فشله الذي انتهى بانتحاره ،كما تقدم رؤية إنسانية وتطلع الكاتب لاثبات الذات والوقوف ضد القمع السلطوي السياسي ،ارتقت لغته إلى درجة عالية من الشاعرية وقدرة بلاغية واضحة من خلال تكثيف أساليب المجاز، أبرز جيلالي خلاص في روايته موقفه الايديولوجي والفكري وتأزم الوضع في تلك الحقبة لأن ” العمل الروائي موازاة إبداعية فنية تخييلية للواقع والتاريخ ،موازاة فاعلة، بمعنى أنها لا تقتصر على النقل الواقعي التسجيلي وإنما تنزع إضافة إلى ذلك ،إلى البحث في حلول مآزق العالم، وهذا دأب الرواية العظيمة التي تتنوع معالجتها وحلولها، وتجعل طموحها الأكبر البحث في تلك الحلول ،وتنبع عظمة الرواية من قدرتها على عرض مجموعة من المآزق الكبرى ومعالجتها توازيها بمستواها الاشكالي والفني وهذا يعني أن منزع الرواية الفكرية والإيديولوجي هو المنزع الأساس في العملية الإبداعية”[46].
ويمكننا أن “نقول بجرأة ما :إن الرواية العربية في مسيرتها الطويلة بلغت مرحلة جيدة من الاستقرار والاستقلال عن التبعية المطلقة للفن الروائي في الغرب ،التبعية التي رافقتها منذ نشأتها حتى مرحلة متأخرة نسبيا من تاريخها الذي قارب قرنا ونصف قرن …ويقوم الاستقلال بمنح الفن الروائي العربي خصوصية عربية ذات آفاق نفسية روحية حضارية وفكرية أيديولوجية وفنية وقومية مميزة ،لما ندعوه “الرواية العربية”[47]
عبد الوهاب بوشليحة .دراسة : خصوصية الرواية العربية الجزائرية، محدداتها/تجلياتها، جامعة الأمير عبد القادر،كلية الآداب والعلوم الإنسانية،قسم اللغة العربية، ص:1..[1]
المرجع نفسه، ص: 8.[2]
أحمد المدني . الكتابة السردية في الأدب المغربي الحديث، المعارف الجديدة، الرباط، 2000، ص: 29.[3]
[4] . عبد الوهاب بوشليحة، مرجع سبق ذكره، ص :9
[5] . غالي شكري. الادب و الماركسية، المؤسسة العربية للدراسات، ط 1، القاهرة، 1979، ص: 16
[6] . عبد الوهاب بوشليحة، مرجع سبق ذكره، ص: 12-13
[7] . غالي شكري . سوسيولوجيا النقد العربي، دار الطليعة، ط1، القاهرة، 1981، ص: 121
[8] . عبد الوهاب بوشليحة، مرجع سبق ذكره، ص: 14
[9] . المرجع نفسه، ص: 17 – 18
[10] . غالي شكري . التراث و الثورة، دار الثقافة الجديدة، ط3، القاهرة، 1996، ص : 46 -47
[11] . ابراهيم عباس . الرواية المغاربية : الجدلية التاريخية و الواقع المعيش –دراسة في بنية المضمون -، منشورات ANEP المؤسسة الوطنية للاتصال، الجزائر، 2002، ص: 5.
[12] . نبيل سليمان : جيلالي خلاص في ” قرة العين ” .. تناقضات الجزائر عندما تفضي إلى الانتحار، دار الحياة، دمشق، 27/09/2008 . www .google .com
[13] . المرجع نفسه
[14] . جيلالي خلاص. “قرة العين “، دار القصبة للنشر، الجزائر، جانفي 2007، ص:8
[15] . رواية “قرة العين”، ص: 14
[16] . رواية “قرة العين”، ص: 20
[17] .م.ن. ص: 25
[18] .م.ن. ص: 26
[19] . نبيل سليمان، جيلالي خلاص، في “قرة العين”، مرجع سبق ذكره
. رواية “قرة العين”، ص: 47[20]
[21] .م.ن. ص: 139
[22] .م.ن. ص: 100
[23] .م.ن. ص: 105
[24] . م.ن.ص: 146
[25] .م.ن. ص: 152
[26] .م.ن. ص: 153
[27] .م.ن. ص: 156
[28] .م.ن. ص: 157
[29] .م.ن. ص: 134-135
[30] . نبيل سليمان، جيلالي خلاص، في “قرة العين”، مرجع سبق ذكره
[31] . محمد الباردي. إنشائية الخطاب في الرواية العربية الحديثة، المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية، ط1، 2004، ص: 187.
[32] . رواية “قرة العين”، ص: 20
[33] . رواية “قرة العين”، ص: 22.
[34] .م.ن. ص: 47
[35] . عبد الملك مرتاض. في نظرية الرواية: بحث في تقنيات السرد، عالم المعرفة، الكويت، 1990، ص: 153
[36] . رواية “قرة العين”، ص: 07
[37] . عبد الملك مرتاض. في نظرية الرواية، مرجع سبق ذكره، ص: 153
[38] . المرجع نفسه، ص: 154
[39] . رواية “قرة العين”، ص: 46
[40] . عبد الملك مرتاض. في نظرية الرواية، مرجع سبق ذكره، ص: 159
[41] . رواية “قرة العين”، ص: 120
[42] .م.ن. ص: 121
[43] .م.ن. ص: 163
[44] .م.ن. ص: 74
[45] .م.ن. ص:141
[46] . سليمان حسين. مضمرات النص والخطاب: دراسة في عالم جبرا ابراهيم جبرا الروائي، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1999، ص: 05.
[47] . سليمان حسين. الطريق إلى النص: مقالات في الرواية العربية، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1997، ص: 05