
البعد الهوياتي والتراثي في الشعر المغربي الحديث إبان فترة الحماية “علال الفاسي، إدريس الجاي، محمد الحلوي” أنموذجا.
The Identity and Heritage Dimension in Modern Moroccan Poetry during the Protection Period”Allal El-Fassi, Idris El-Gay, Mohamed El-Helwe”; model.
الباحث غلام لحسن، طالب دكتوراه بجامعة بن طفيل،القنيطرة.المغرب
. Researcher Ghoulam Lahcen, PhD student at Ben Tofail University, Kenitra
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية العدد 81 الصفحة 79.
Summary:
This study aims to approach the modern poem in Morocco in terms of its traditional features, while highlighting its manifestations among a group of Moroccan poets who lived during the colonial period, and from which it formed a basic touchstone for bringing the poetic experience out of the stage of latency to the stage of existence. The call to pay attention to the Arabic language as a pillar of any renaissance – no country will be straight without giving priority to its mother tongue. This feeling was the result of intellectual awareness and the vigilance of the intellectual elite in Morocco, which also called for the activation of reforms that concern scientific fields that formed the features of civilization and thought in Morocco – in addition to fighting all The causes of underdevelopment and ignorance, in exchange for that, the girl is given her legitimate rights, including the right to education. The religious dimension also contributed to fueling the spirit of jihad, as the voices of poets rose to resist the colonialists and restore the freedom of the homeland, which will not be achieved without making psychological and moral sacrifices, as previous generations proved their attachment to identity and the homeland, so history was a witness to their heroism and renaissance. From here, the identity and cultural dimension of Moroccan society formed the interest of Moroccan poets, preserving memory and the Arab-Islamic heritage, and embodying its vision of poetry and existence.
Keys: a sense of identity – achievements national – interest in the Arabic language.
ملخص:
تهدف هذه الدراسة إلى مقاربة القصيدة الحديثة بالمغرب من حيث ملامحها التراثية مع إبراز تجلياتها لدى ثلة من الشعراء المغاربة الذين عاشوا فترة الاستعمار، ومنه شكلت محكا أساسيا لإخراج التجربة الشعرية من مرحلة الكمون إلى مرحلة الوجود، فالقصيدة المغربية تتضمن في طياتها مجموعة من التمثلاث التراثية منها: الدعوة إلى الاهتمام باللغة العربية باعتبارها ركيزة إي نهضة -فلن يستقيم أمر أي دولة دونما إعطاء الأولوية للغتها الأم فكان هذا الشعور ناتج عن وعي فكري ويقظة النخبة المثقفة بالمغرب التي دعت أيضا إلى تفعيل إصلاحات تهم ميادين علمية شكلت معالم الحضارة والفكر بالمغرب- إلى جانب محاربة كل أسباب التخلف والجهل، في مقابل ذلك تعطى للفتاة حقوقها المشروعة ومنها حق التعليم. كما أسهم البعد الديني في إذكاء روح الجهاد، إذ تعالت أصوات الشعراء لمقاومة المستعمر واستعادة حرية الوطن التي لن تتحقق دون تقديم تضحيات نفسية ومعنوية، كما أثبتت الأجيال السابقة ارتباطها بالهوية والوطن فكان التاريخ شاهدا على بطولاتها ونهضتها. من هنا شكل البعد الهوياتي والثقافي للمجتمع المغربي اهتمام الشعراء المغاربة، حفظا للذاكرة وللتراث العربي الإسلامي وتجسيدا لرؤيتها للشعر وللوجود.
الكلمات المفاتيح: شعور الهوية- المنجزات الوطنية- الاهتمام باللغة العربية
–1 السياق المؤطر لهذا الشعور :
إن الشعور بهوية قد تختفي شكل هاجسا حقيقيا قض مضجع كل غيور على وطنه، فتحركت الأقلام وعقدت الندوات رغبة في إخراج المغرب من واقعه المتخلف ومحاربة المستعمر، مع التحذير من الانسياق وراء خططه وتوجهاته، فكانت الأندية مكانا خصبا لتحريك الوعي الوطني ومناقشة العديد من القضايا التي تهم المجتمع وتساهم في بناء نهضة جديدة، “فهذه الأندية ونظرا لتعددها و انتشارها في عدد كبير من المدن المغربية يمكن اعتبارها دافعا لحركة النهضة في شتى المجالات، وخاصة الأدبية منها كما كانت في عهد الحماية من خلال المناقشات والحوارات التي تدور بين روادها مجالا لتحريك الوعي الوطني، وبث الإحساس بالذات و بالشخصية، ومعقلا للشخصيات والزعامات”([1])، فقد قام العلماء بدور كبير في تنوير المجتمع المغربي ومن بين هؤلاء: محمد الحجوي، أبي شعيب الدكالي، علال الفاسي، وأحمد الصبيحي.. ، هذا الأخير الذي وجه رسالة إلى أهل المغرب بعنوان: أصول أسباب الرقي الحقيقي ومن بين ما تضمنته قوله: “فشدوا إخواني يد الضنين على دينكم القويم فهو لخيري الدنيا والآخرة والصراط المستقيم، ولتعلموا أن عيبنا الكبير معشر المسلمين هو أخذنا بالقشور منه دون اللباب وعدم نفوذنا للمرامي السامية عند أولي الألباب وإهمالنا للعمل بكتابه وغرر حكمه وآدابه”([2])، إن أحمد الصبيحي في رسالته هذه يحاول ما أمكن وضع أصبعه على الداء ومحاولة علاجه بتوجيه المغاربة إلى أسباب الرقي والتحضر، فتجني المغاربة على دينهم راجع إلى تمسكهم بظاهر الدين دون إدراك حقيقي لمراميه السامية و أهدافه النبيلة.
لقد وجد المبدعون المغاربة إعادة إحياء الماضي الخيط الرفيع لاستعادة أمجاد مضت، في ظل موجات فكرية قادها الغرب لتغيير ملامح الدولة المغربية، وما الظهير البربري المشئوم الذي حاولت فرنسا تفعيله سنة 1930م إلا أكبر دليل على ذلك، غير أن المغاربة لم يستسلموا لهذه المحاولات الفاشلة بل قاوموا هذا التيار في شتى أشكاله؛ مخافة اختلاط المقدس بالمدنس وتغريب المغاربة عن ثقافتهم ودينهم وبث الطائفية بينهم، يفسر الدكتور عبد الحق بنطوجة ذلك بمجموعة من الأسباب: فقد تكون نفسية أو سياسية أو اجتماعية إذ يقول : “وطبيعي أمام هذا الوضع المتسم بالتردي والإحباط أن يلجأ الشاعر المغربي إلى معين التاريخ لينهل منه بحثا عن المثل الأعلى، أو رغبة في التعويض العاطفي، وربما فرارا من زمن العجز الذي يحيا في رحابه، أو هربا إلى أحضان الماضي الذي يبدو مجيدا أو مثاليا بالقياس إلى الحاضر”[3]، إذا كانت هذه الآراء التي استقيناها تبين هذا الهاجس الذي أصبح شغل الشاغل لدى الشعراء المغاربة فإنه في المقابل أبان عن وعي فكري وشعور بأهمية الارتباط بالهوية، من هنا نتساءل عن تجليات ذلك في القصيدة .
2- تجليات الهوية والتراث في القصيدة المغربية
1-1: الاهتمام باللغة العربية
شكلت قصائد الشعراء المغاربة مرتعا خصبا لإبراز أهمية اللغة العربية ودورها في تقدم الشعوب والحفاظ على هوية المجتمع العربي. نقف مع مجموعة من القصائد الشعرية التي تضم بين ثناياها واقعا مقلقا، ومستقبلا غامضا، حرك قريحة الشاعر الإبداعية لكسر هذا الجمود وإعطاء نفس جديد للغة العربية.
يقول الشاعر:
إذا شئتم إحياء مجد مؤثل وتشييده فوق السماوات من عل
فها لغة هي الحياة لميت وها لغة هي الدواء لأتول
بها نلتم من قبل أعظم عزة وسدتم على أهل الجنوب وشمأل”([4])
إن عنونة القصيدة بهذه العتبة (اللغة العربية) لها دلالة خاصة تنطلق من فكر يعي مكانة اللغة العربية في نهضة الأمة العربية، لذلك جعلها تتقلد منارة هذه القصيدة، تضيء عتبات مظلمة حلت بالوطن العربي، فالشاعر يعي جيدا قيمتها في خلاص المجتمع المغربي من دائه، ولن يتم له ذلك فقط بدحر المستعمر وإنما بالتصالح مع اللغة العربية حتى تستعيد بريقها، كما دعا إلى الاهتمام بالثقافة العربية الإسلامية، وما تتضمنه من علوم وقضايا تخدم الإنسانية في مجالات عدة: كالطب والفلسفة والأدب والعمران. ولتقريب المسافة بينه وبين المجتمع استعمل الشاعر تيمة الأمومة في إشارة إلى الأخوة التي تجمع بين الشاعر والمجتمع، فلا أحد له الحق في أن يزايد على الآخر أو يتكبر عليه لأن الأمومة تجمعهم، فإذا ما انطلق الفرد من هذا التفكير فإنه سيضع الخلاف جانبا وسيعمل مع أخيه جنبا إلى جنب لتحقيق هدف مشترك هو مجد الأمة وازدهارها.
ففي الوقت الذي يرزخ فيه المغرب تحت الاحتلال فإن مظاهر الانفتاح مواتية جدا بسب احتكاك المواطن المغربي مع المواطن الأجنبي في المدن الكبرى التي استوطنها، بالإضافة إلى تدريس اللغة الأجنبية في بعض المدارس والتحدث بها في الإدارات التي كانت تسيرها فرنسا. أمام هذا الوضع انتبه الشعراء إلى أهمية حماية اللغة العربية من أي تغريب باعتبارها اللغة الآم؛ فهي رمز الهوية والتاريخ.
أخبروا القوم ، أعلموهم بأنا قد حيينا، وأننا سنكون
قد بعثتم رجاءنا فأديموا سيركم، واعملوا ولا تستكينوا
واحفظوا ما ورثتم من لسان فهو روح الحياة والأكسجين
لغة العرب أتقنوها فمنها كل ما تبتغونه يستبين([5])
أما الشاعر الحلوي فإنه يبدي اهتماما باللغة العربية بطريقة غير مباشرة وهو ينعي أحد أقطابها- طه حسين- الذي أخرج مجموعة من المؤلفات بلغة عربية رصينة تعبر عن رؤيته لمجموعة من القضايا التي تدخل في نطاق ما هو ثقافي فكري وأدبي، الشيء الذي يدل على ارتباط الشعراء المغاربة بالأدب المشرقي ومتابعتهم لما يحدث هناك من تطور فكري عن طريق الكتب والمجلات التي تصل إليهم أو أثناء زيارتهم لهذه الدول، يقول الشاعر مصورا حال اللغة العربية بعد وفاة طه حسين:
وقالوا قضى طه فأطرقت واجما وأحسست في قلبي لمصرعه جمرا
على الضاد أن تبكي وتسرف في البكا على من قضى في دعم نهضتها العمرا
لقد كان طه في العروبة قمة يعز تحديها ومبدعها الحرا
وعقدا فريدا زان بالدار جيدها وجوهرة عصماء وشحت الصدرا
أقام رهين المحبسين يجول في مجاهيل ماضيها ليكتشف الدرا([6])
يصور الشاعر الحلوي كيف انتقل العزاء من عزاء على الكاتب والمفكر الكبير طه حسين إلى نعي اللغة العربية ومواساتها في هذا المصاب الذي ألم بالأمة العربية، هنا يحضر البعد الوظيفي لشخصيات بصمت صيتها في المشرق والمغرب، خاصة حينما يتعلق الآمر بجهابذة اللغة العربية ومن أسهموا في إشعاعها كطه حسين الذي قدم الكثير في خدمة اللغة العربية و تجديد الفكر العربي.
2-1: الإشادة بالمنجزات والمواقف الوطنية
بعد أن تحدثنا في محاور سابقة عن قيمة الارتباط بالوطن وأهمية الحفاظ على اللغة العربية كقيمة من قيم الذات والهوية، كانت العودة إلى التراث وإعادة إحيائه السبيل الأمثل لتعزيز هذا الانتماء، والدعوة إلى عدم الانجرار وراء ثقافة غربية استعمارية خاصة في الفترات الأولى من بداية الاحتلال الأجنبي للمغرب، في حين برزت أصوات أخرى تدعو إلى الاستفادة من هذه الثقافة دون إغفال الجانب الهوياتي للمجتمع، فقد أدرك الشعراء أهمية ذلك بانخراطهم الجدي والفاعل في مواجهة هذا الاحتلال الثقافي في مقابل تعزيز قيم الذات المغربية في ثقافتها وفكرها وهويتها، ولم يكن الشاعر ليمر في استرسال قصائده دون نثر المنجزات والمواقف الوطنية هنا وهناك، و البحث عن الجانب المشرق في ماضي الأمة المغربية وحاضرها، حتى تنجلي تلك الغمامة السوداء التي ظلت قابعة فوق رؤوس العرب. نقف مع نماذج متعددة حافلة بتلك الأعمال مع كل من الشاعر إدريس الجاي وعلال الفاسي ومحمد الحلوي….
يقول الشاعر الجاي :
سائلوا البرتغال والإسبانا سائلوا الترك والفرنج أكانا
فوق هذا العرش المجيد مليك لم يذد عن حماه، وهو حمانا
وسلوهم من كان منا شجاعا يوم كان الغدار منهم جبانا
وسلوهم عن حلمنا إذ غلبنا وسلوا الوغد منهم ما أرانا
يوم أن قامت القيامة منا فنهضنا نحرر الجيرانا ([7])
تتحول أبيات هذه القصيدة إلى أسئلة استنكارية لتأكيد أمر معين حاضر في الذهن الجمعي المغربي، ومن ذلك هزيمة البرتغال والإسبان في معركة الزلاقة وفتوحات طارق بن زياد في الأندلس، كما لم يسمح للإمبراطورية العثمانية بالامتداد داخل التراب المغربي بل ظلت قابعة خارج حدوده لسنين عديدة. إن استحضار الأفق المشع من تاريخ المغاربة يأتي لتطييب القلوب وتهدئة الخواطر وشحن الهمم، فالشاعر لا يبحث عن الجواب لأنه كائن يفرض نفسه بقوة، بل هي رسالة إلى المتلقي الذي يهتم بالأدب عامة والشعر خاصة، كما تعتبر هذه القصيدة بمثابة وثيقة تاريخية تشير إلى حقبة زمنية خالدة وإن كان الشاعر لم يفصل كثيرا في أحداثها، إلا أنها تتضمن الكثير من الدلالات مع ما أحدثته هذه الإنجازات من ذعر في صفوف العدو، كما أنها غيرت ملامح الخريطة السياسية والعقائدية في أوروبا لسنين طويلة، (سائلوا…سلوهم..أكانا…وسلوا..) يتكرر السؤال تباعا في القصيدة لإعطاء مصداقية للخبر بشكل أقوى فلا مجال حينئذ للشك أو الكذب.
إن استحضار الذكريات الخالدة على مدار التاريخ يجعل الفكر متقدا والأمل منشودا، مرتبطا بماضينا الثقافي وإرثنا الحضاري، فالأمس البعيد يخاله الشاعر قريبا، فلن ترحل أمجاده بل هي حية محفورة في الذاكرة الوطنية والتاريخية، مستعملا في ذلك مجموعة من الأساليب: ومن ذلك أسلوب التعجب (ما أروع …) والنفي (لم يرحل، لم يسدل ، كلا، أبدا ، معاذ الله،…) والاستفهام ( أو ما ترى..)، يحاول الشاعر هنا تأكيد فكرة بديلة للفكرة الأولى التي تروج في أروقة المستعمر، فالهوية الجماعية تتأكد في التحام الشعب بالعرش مع ما يختلج ذلك من أناشيد و تهليل وتكبير، في إشارة إلى الطابع الثقافي الإسلامي الذي يِسم هوية المجتمع المغربي وتاريخه المجيد.
هكذا تبقى الهوية الجماعية المغربية ثابتة لها مرتكزاتها وجذورها، مما يجعل من اللسنيات المختلفة داخل المجتمع لحمة واحدة، تعيش في سلام وتتآخى في جغرافية واحدة ممتدة لها تاريخ مجيد وحضارة ضاربة في التاريخ،”إن طرح قضية الهوية الجماعية يؤشر دوما إلى وجود إشكالية ملموسة نابعة في أغلب الحالات من الإحساس بوجود أزمة وبفقدان التحكم في الذات وبالخشية من الاستلاب الذي يفرغ الذات من مقوماتها”([8])، وهي أزمة قائمة بذاتها في المغرب إبان فترة الحماية، وهو في أمس الحاجة لاستعادة تلك الأمجاد في ظل سيطرة استعمارية بصمت غطرستها على شعوب المنطقة العربية، ولم تقف عند حدود السيطرة العسكرية بل جعلت نصب عينيها تغريب الأمة عن لغتها ودينها، ويبقى الخوف من التغريب قائم بذاته حتى بعد استقلال الدول العربية، لذلك يظل مخيال هذا التغريب يطارد الشعراء خصوصا مع تواجد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وما تبع ذلك من صراع عربي إسرائي.
3–1: استنهاض الهمم
سخر الشعراء المغاربة أقلامهم خدمة لقضيتهم الوطنية ومن تجليات ذلك رفع همم الشعوب وإعادة الثقة في النفوس، فمتى حضرت هذه الثقة وارتفعت بين الناس إلا وأصبح الطريق معبدا لاستعادة ما ضاع من حقوق وواجبات، لذلك نجد الشاعر المغربي يستحضر هذا البعد من حين لآخر مبرزا شجاعة المغاربة وبطولاتهم التي لا تنقطع على مدار التاريخ وإن أصابها الفتور أو شابها عوز في وقت من الأوقات، ما يعزز من فكر التضامن الجمعي ضد كل أشكال الاضطهاد والحرمان، والمساهمة في تجديد الوعي الفكري ونهضة المجتمع المغرب ، هنا نقف مع ثلة من الشعراء المغاربة الذين عملوا على تقوية الجانب النفسي والروحي للمغاربة، موظفين في ذلك مجموعة من الموضوعات والأساليب التي تحيي هذا الشعور وتعيد بناء الذات المغربية من جديد.
يقول الشاعر علال الفاسي:
ألا فاعلموا أننا مثلكم أناس نحس بكل الألم
وإنا لموطننا مخلصون نحب تحرره مثلكم
ونحسب أنفسنا سادة ذوي نسب في العلا والكرم([9])
في هذه الأبيات يخاطب علال الفاسي الضمير الجمعي الأوروبي الذي حارب الميز العنصري في أوروبا دفاعا عن القيم الإنسانية النبيلة، رغبة في إقلاع فكري تسوده العدالة الاجتماعية والحريات الفكرية والسلام بين كافة الناس، لكن حقيقة الأمر فإن الذهنية الاستعمارية تتجاوز هذه الخطابات في تعاملها مع الآخر؛ لأنها مبنية على التسلط والقوة والسيطرة وأنانية استعباد الآخرين، فلم تهتم لتلك القيم التي ناضلت من أجلها الشعوب الغربية وإنما سلك ساستها سياسة استعمارية تتماشى مع مطامع الغاب، ولتحقيق ذلك عملت على تعزيز قوتها العسكرية لغزو الدول الأخرى- بذريعة حماية مصالحها والقيام بإصلاحات هيكلية تحقق التقدم والرفاهية لشعوب المنطقة المستعمرة، فبعد أن شعرت بحاجاتها لأسواق جديدة تدر عليها موارد طبيعية وأموالا طائلة. أمام هذا الوضع الجديد تصدت أقلام الشعراء المخلصين لهذه الأطماع، وعملت على تنمية الجانب الفكري والروحي للإنسان وإزالة ما علق به من عادات وتصورات لا تتماشى مع تطور المجتمع ونهضته، ومن ذلك صلة الوصل بين الماضي والمستقبل لتجاوز ألم الحاضر وقسا وته. لقد كانت الذات العربية في حاجة ماسة لإظهار مكانتها بين الأمم في الوقت الذي شهدت فيه هذه الذات اهتزازا نفسيا ومعنويا نتيجة الاستعمار الأجنبي.
يقول الشاعر علال الفاسي:
فإن كان كيد الزمان أتى علينا فذلك ما لا يصم
سنرجع ماضينا ونشيد بمجهودنا شرفا يلتزم
فلا تقروا قلبنا في القلوب فإن العواطف لا تهضم
ولا تكبروا قوة في السلاح فإن العقيدة أقوى خدم
ولا تحقروا مومنا في الكفاح فرب العقيدة لا ينهزم ([10])
ولتعزيز هذا الموقف يذكر الشاعر شباب المغرب بما تحقق من إنجازات يجب السير على خطاها واستكمال ما لم يكتمل، فالطريق الآن معبد لذلك. هكذا يضع علال الفاسي القضية العربية ضمن أولوياته، كما يتمسك برهان الشباب على تحقيق النصر وإخراج المحتل، فالعدو لا يعترف إلا بالأقوى ولا يجابه بالضعف أو الهوان وإنما بالإخلاص في الدفاع عن القضية الوطنية، خاصة إذا كان الإنسان متسلحا بعقيدته الإسلامية مؤمنا بالانتصار مهما كانت الصعوبات، وقد استعان الشاعر في بناء هذه القصيدة وإيصال رؤيته عبر مجموعة من الأساليب الإنشائية كالأمر(فاعلموا)، النهي (لا تقروا، لا تكبروا، لا تحقروا) والنفي(لا يصم، لا ينهزم). وهي أساليب تعطي للأنا المغربية بعدا ذاتيا متميزا تنفي عنه صفات الضعف والهوان، وإن ظهرت فهي آنية مؤقتة مصيرها الزوال والفتور، ومن هذه الصفات الخمول والتقاعس عن الجهاد.
من هذا المنطلق أيضا يسير إدريس الجاي وهو يدعو شباب المغرب الأقصى إلى البذل والعطاء إذ يقول :
إيه شباب المغرب الأقصى، كما واجهتم الأهوال والأخطارا
هيا لنرفع ما تقوض ولنقم ما هده أعداؤنا فانهارا
إن الشجاعة في الحروب جميلة ما لم تصر يوم البناء فرارا
كونوا عصا (الحسن) المجيد وفجروا من كل صخر هاهنا أنهارا
البحر والصحراء مرتع غيرنا فمتى نجوب ونسبر الاغوارا؟
ومتى تحلق في السماء نجومنا تهدي إلى أفلاكها الأقمارا
ومتى نغوص إلى عوالم ذرة لما تزل أنساقها أسرارا؟([11])
فتطلع الجاي وقراءته المستقبلية جديرة بالوقوف والتأمل خاصة عندما يتحدث عن مغرب الغد والتقدم، فتضحيات المغاربة لا تتوقف بزوال الاحتلال بل هناك معركة أخرى وهي معركة البناء وطلب العلم، فإذا كانت الثورة العلمية قائمة بذاتها في الغرب فإن للشاعر الحق أن يرى بلده المغرب يمتلك نفس التكنولوجية وتكون له اليد في سبر الأغوار واكتشاف عالم الذرة، ولن تتحقق له هذه الغايات إلا باستمراره في البناء والتجديد، بدءا برفع الأنقاض عن القرى والبيوت وبناء ما تم هدمه، والقضاء على الأمية والجهل، فيصير بذلك مغربا حرا قويا يكسر أطماعهم ويبعثر أحلامهم القائمة على الاحتلال والاستيلاء.
يمتلك الشاعر الحلوي أماني كثيرة وحسا حالما بأن الغد سيكون أفضل في ذكرى عيد الشباب، مثل هذه المناسبة لها دلالة وطنية ونفسية عزيزة على قلوب المغاربة، تحمل دلالات القوة والنماء كلما أتى هذا العيد إلا و حمل معه أماني كثيرة وطموحات للارتقاء بالمغرب نحو الأفضل، والنهوض بالوطن عبر تشييد مشاريع عدة تسهل حياة الناس وتذكر الأعداء بوحدة الشعب وارتباطه بملك، غدا سيكون أفضل، بهذه النفسية المتفائلة التواقة إلى الحرية يسير أغلب الشعراء مؤمنين بأن كل الأمور ستتغير، مدركين ذلك من ثقافتهم الإسلامية التي تبين أن أمد الظلم لن يستمر طويلا، ما يجعل المواطن العربي لا يستسلم لمعاناته بل يزداد حماسا لمواصلة مسيرته النضالية وهي مسيرة حياة شاء لها القدر أن تسير بتلك الطريقة التي لها بدايتها ونهايتها.
يقول الشاعر:
قل للمعكر أرضنا وسماءنا بدماءنا يا وغد يا مستعمر
إن الزمان يدور دورته وكم في غابر التاريخ ما يتكرر
فلقد رآى أجدادك العاتون من أجدادنا ما أنت منا تبصر
شعبا غضوبا للكرامة إن يثر تتراجع الأقدار لا يتقهقر
يحمي الحمى ويذود عن حرماته ويفت في عضد الغشوم ويثأر
أوفى بعهد الله حق جهاده وابن الجزائر ذمة لا يخفر
ورث الشهامة عن (مازغ) ويعرب وكلاهما الجد العزيز الأفخر([12])
إن الرابطة الأخوية التي جمعت الشعب الجزائري بالشعب المغربي كفيلة بأن تجعل الشاعر إدريس الجاي يتحدث بلسان الجزائر التي عمر فيها الاحتلال طويلا لما يقرب من قرن من الزمن، فكلا البلدين لديهما صلة مشتركة في الدين واللغة والقرابة والثقافة، ما يبدد تلك الحدود الوهمية التي صنعتها فرنسا من أجل تحييد كل طرف على حدة ، يصعب معه استعادة مجد الأمة وإعادة تاريخها المشرق من جديد
لا يرعك العدو في عدد النم ل يسوق الجيوش والأعلاما
يرسل الموت من جبال حديد مرعدات تزلزل الأهراما
ونسور في الجو ترسل أشكا لا من الموت تستقل الغماما([13])
يوجه الشاعر محمد الحلوي رسالة لأهل الجزائر بعدم الاستكانة للوهن أو الضعف مهما كانت صفة العدو الذي عات فسادا في الأرض وظلما، ففي الوقت الذي اعتقدت فيه فرنسا أن الجزائر أرضا فرنسية وأنها لن تطالب يوما ما بالاستقلال مع طول أمد الاحتلال، قامت الجزائر عن بكرة أبيها من جديد معلنة ثورتها على الاستعمار، مكسرة وهم فرنسا بان الجزائر أرضا فرنسية، مقدمة الكثير من التضحيات والشهداء، فلا أحد ينبض فيه عرق عربي يقبل تغريب الجزائر وتحويلها إلى مستعمرة تابعة لفرنسا.
هكذا سخر الشعراء أقلامهم دفاعا عن القضايا الوطنية والعربية و ضد استعباد الشعوب واستغلالها، فإلى جانب حرصهم على الدفاع عن قضيتهم الوطنية فإن قضايا الأمة العربية لم تغب عن بالهم، ولم تقف مطالبهم عند تقوية الهمم واستنهاضها بل شمل ذلك دعوة الشباب إلى الجهاد دفاعا عن الأهل والوطن، وهو ما سنراه في المحور اللاحق محاولين استكناه دوافعه ومعرفة تجلياته.
4-1: الدعوة إلى الجهاد
شكلت المقاومة سيفا حادا ضد آلة القمع الاستعمارية التي أتت على الأخضر واليابس، فكان لها صدا كبيرا في تأخر احتلال المغرب لسنوات عدة، منذ معركة إيسلي إلى أن انطفأت شعلتها بعد سنوات من الجهاد والتضحيات، ولم تكن هذه الشعلة لتنطفئ لو لم تضع إسبانيا يدها في يد فرنسا، موظفة كل القدرات البشرية والعسكرية للقضاء على المقاومة المسلحة التي اشتعلت في جهات عدة من المغرب، خاصة في شمال المغرب بقيادة المجاهد عبد الكريم الخطابي، هذه الانتكاسة في حقيقة الأمر هي بداية ظهور مقاومة جديدة أكثر تنظيما على المستوى السياسي مع ظهور الحركة الوطنية، ” فما أن وضع المقاومون المغاربة للاحتلال الفرنسي والإسباني في الشمال والجنوب السلاح حتى كانت المقاومة السياسية قد برزت على يد النخبة الوطنية في المدن”([14])، التي جعلت مقاومتها شعلة متقدة ووهجا غير منقطع يضيء عتمات الحياة، ويعبد طريق الجهاد وبذل الغالي والنفيس من أجل هذا الوطن، لا يتخاذل حينها أولو الهمم العالية والنفوس المتطلعة إلى الحرية، ومن هؤلاء شعراء المرحلة المدروسة الذين أسهموا في بعث شغف الجهاد وحب الشهادة دفاعا عن الأرض والأهل و الوطن.
أيها الشعب قم بنا نتحدى من أباحو الحمى بإفك وزور
أيها الشعب من جبالك فانق ض عليهم مثل انقضاض النسور
ومن السهل والصحارى انطلق لي ثا غضوبا وأي ليث هصور([15])
الدعوة هنا ليست موجهة لفئة دون أخرى بل هي رسالة لكل أبناء الوطن لفك أسر الظلم ومقاومة المستعمر والقيام قومة رجل واحد من شمال المغرب إلى جنوبه مشكلين من جبالها وصحاريها ثغرا للمقاومة، في هذه القصيدة يستدعي الشاعر مجموعة من الرموز التي تتلاءم مع طبيعة الموضوع ، فرمز النسر والليث والأسد دليل على القنص والفتك والسرعة، وهي صفات تميز بها أبطال المقاومة الذين سلكوا مسالك وعرة لمقاومة المحتل، وصولا إلى ثورة الملك والشعب التي أقسم في ذكراها الشاعر بدحر المستعمر.
فعزائي إذا نفوني زئير منك يأتي صداه عبر البحور
طوبى بني وطني لخير شبابنا أبطالنا ، شهداءنا الأبرارا
ماتوا ليحيا بالكرامة شعبنا في ظل عرش قاوم الإعصارا
رسخت دعائمه كشم جبالنا وسما، فخر مطاول إكبارا([16])
فعزاء الشاعر الجاي ينزاح عن معناه الطبيعي إلى دلالة أخرى أكثر إيحاء بالنظر إلى طبيعة المقام الذي يتطلب الشجاعة والثبات، هنا يتحول عزاء النفي إلى زئير يرعب الأعداء، بهذه الكلمات الراقية تتزكى النفوس الطاهرة وتأخذ مكانتها اللائقة في سجل شهداء الوطن، فطوبى لهم وقد سمت روحهم إلى السماء طيبة الروح زكية النفس ، يتكرر هذا الاحتفاء بشهداء معركة التحرير مع قصيدة أخرى تحمل عنوان ملحمة الانبعاث، فالأرض ترتوي بدماء الشهداء الذين سالت دماؤهم الطاهرة فوق تربة عطرة لا تقبل تغيير ملامح من سكنوا فوقها وخلدوا تاريخها الحافل بالمجد والعطاء. بل إنها أرض معطاء تنبعث منها أسرار الحياة ، في ملحمة بشرية لا يستطيع المستعمر التصدي لها لأن المقاومة قد بعثت من جديد.
شهداء الفدا طوبى لأرض ضمختها دماؤكم بالعبير
ولأرواحكم ترفرف كالرا يات في أوج مجدها المستنير
حافزات إلى البطولة ركبا يستحث الخطى وراء المصير
في سبيل وعر وكل سبيل للعلا خف بالبلاء الخطي
بيد أنا لابد نهزم جيش ال غاصب المستبد بعد يسير
ويكون النصر المبين لواء زانه العاهل المنصور([17])
ولم تتوقف المقاومة باستشهاد الشهداء، بل إن الشعب العربي مستعد لهذه التضحيات يرد الكيد بالنار والإعصار، فينال بذلك العدو جزاءه وإن كان الطريق شاقا مليئا بالدماء فإن النصر قريب، وأمد الظلم قصير ولو طال أمد الاحتلال.
يقول الشاعر:
طاشت سهام الأعادي في معاقلنا واخطأ الغدر منا شامخ الهدف
في كل شبر حصون العرب قائمة بين الزوابع والإعصار والعصف
بالنار نستقبل العدوان ندرأه وهل يصد جحيم القوم بالسعف([18] )
نعم يصد العدو بالنار لا بالسعف، فالعروبة قد قامت قيامتها ولن يهدر دم مادامت المقاومة قائمة على الحق، هذا الذي يبعث الجاي على التفاؤل والأمل، فتشبث الشعراء باللحمة العربية هو طريق النجاة، مؤمنين بأن يد الله مع الجماعة فمتى تفرقت الأمم ضاع صيتها وانكمش بريقها، ومتى اتحدت كان لها باع بين الأمم ومانع من كل غدرأو عدوان، إنها ثقافة نضالية تقوم على الإيمان غير المنقطع بالعون الإلهي والجزاء الرباني لمن استشهد في معركة الدفاع عن الأهل والوطن ،هي راية حمراء كما سماها علال الفاسي الذي يدعو المغاربة إلى الالتحاق بصفوف الجهاد يقول الشاعر:
لنا راية حمراء تطلب حقها وطالب حق كان أول غالب
تشير إلى أن التمدن والعلا يكون بإهراق دماء المحارب
فسيروا إلى صف الجهاد لتبلغوا لخدمة دين مبلغ للمأرب
وسيروا تنالوا النصر بالسيف عاجلا وإلا فناموا بين ذات الترائب([19])
استعمل الشاعر هنا فعل الإهراق الذي يدل على الكثرة والاستمرارية من باب المجاز ليؤكد استعداد المغاربة للموت في سبيل قضيتهم، ولن يدوم ذلك طويلا فالنصر قاب قوسين من سيوف المجاهدين، ولم تكن هذه الدعوة موجهة فقط للمغاربة، بل إن الشاعر مستعد للتضحية بنفسه كي يبقى الوطن شامخا حرا مستقلا ، هذا الذي يمنحه لذة العيش وطيب الحياة،
فلي مبدأ سوف أخدمه وأبلغه رغم أنف العداة
وليس علي إذا غضبوا وكانوا الوشاة، وأرداب الوشاة
سيكفيني الله شرهم وهل مثلهم يبرد العزمات؟
وإني على مبدئي سائر فإما حياة، وإما ممات([20])
في ظل هذا العمل الدؤوب الذي يقوم به علال الفاسي لبناء جيل قادر على تحمل مسؤولياته الفكرية والعملية، لابد أن يلاقي مجموعة من العقبات في طريقه، ونعته بأبشع الصفات من قبيل الانتماء للشيوعية والخروج عن الملة والدين ومحاولة الاستيلاء على السلطة ، وهي تهم خطيرة الغرض منها إبعاد علال الفاسي عن الواجهة السياسية وتشويه تلك الثقة التي جمعت بين علال الفاسي وملك المغرب محمد الخامس من ناحية، وبينه وبين المجتمع المغربي من ناحية ثانية، في الوقت الذي كرس نفسه دفاعا عن الوطن وإصلاحه، مما غاض الكثير من رجال الدين الذين رأو في ذلك خروجا عن الملة و الدين ومن هؤلاء أيضا الوشاة الذين جندهم المستعمر في صفوفه ، يتاجرون بأعمالهم القذرة خدمة للمستعمر
لتعلمن غدا من أمرنا أمم تبنى من الظلم أنقاضا على جرف
أنا نشيد أمجادا مخلدة على دعائم تستعصي على التلف
وللعروبة فوق الأرض جامعة قامت على الحق والعقبى لمنتصف
ولن يطل دم للعرب ما لبثوا يستشهدون ضحايا العز والشرف([21])
إن حضور تيمة الدم في قصائد الجاي سببه وجود قضية وطنية وعربية تتعرض للإستيلاب والظلم – فما حصل في المغرب من معاناة شهدته كذلك كل الدول العربية- ، وهي تشير أيضا إلى اشتداد المقاومة في كل مناحي الوطن، ففي كل يوم يسمع فيه وقوع شهداء من المقاومة وقتلى من المستعمر. فحمية المقاومة أربكت صفوف العدو وبات كل غيور على وطنه ينتظر الالتحاق بالمقاومة طلبا للنصر أو الشهادة، ومن هؤلاء نجد الشاعر علال الفاسي الذي قدم تضحيات عديدة للوطن ومستعد أيضا لتقديم نفسه فداء لوطنه، كتبت عن خصاله الأقلام مباهية بشخصه الذي اغترف من معين التاريخ الإسلامي ثقافة ومن رجالاتها قوة وصبرا.
أنا ما عشت عليه واقف قوة الروح وشغل البدن
ومضح كل ما أملكه في رضاه لست في ذاك أني
وإذا مت عليه فأنا مطمئن لرضاه المثمن
فاغسلوا بالماء منه بدني واجعلوا نسج بنيه كفني
وأدفنوني في ثراه وضعوا فوق قبري منه زهر السوسن
واكتبوا فوق ضريحي بدمي: ها هنا قبر شهيد الوطن([22])
الصورة في هذه الأبيات تأخذ دلالات روحانية فالشاعر يتهيأ للعالم الأخروي، متى ترتقي الروح إلى بارئها ، وصية يتركها الوصي إلى أهله مكتوبة بحبر الشهادة منزهة عن أي ثراء أو مدح ،انتصارا لقضيته التي آمن بها ودافع عنها طول حياته، “لقد كان تاريخ الإسلام على الخصوص، ماثلا بين يديه، واقفا نصب عينيه، وهو يكتب ويناضل، فمنه يستمد غداءه الفكري، وإليه يرجع ويلوذ، ويستوي المواقف، ويستعير الرمز ،ويتزود بالطاقة الروحية، في معركة جهادية لم يقهره فيها إلا الموت”([23])
5-1:التشبث بالإصلاح:
يشيد الشاعر الحلوي بمعالم النماء التي سار ينهجها ملك المغرب بخطوات متواصلة، والتأكيد على أهمية توطيد الصلة بين الشعب والعرش، وتعزيز أواصر المحبة بينهما بما يضمن للوطن قوته واستمراريته وقدرته على مجابهة كل الصعوبات التي قد تواجهه، والتأليف أيضا بين أطياف المجتمع المختلفة من أمازيغ وعرب، على أساس وحدة اللغة والدين، وعدم ترك المجال لكل من يريد زعزعة استقراره أو بث النعرة بين أطيافه على أساس اللغة أو الانتماء، وهو ما نجده مشتركا لدى شعراء المرحلة المدروسة الذين وقفوا سدا منيعا أمام كل ما يزعزع وحدة المجتمع المغربي أو يعمل على إضعافه، فقد ألح النقاد المغاربة على أن الأدب بالإضافة إلى تصويره للجمال وتعبيره عن الذات لابد أن يسجل نضال الشعب ويعبر عن طموحه، فمهمة الشاعر تتجلى في التعبير عن هذا النضال ومن هؤلاء سعيد حجي حيث يقول” يجب أن تدوي صيحة عالية تعلن في غير وجل أن حياتنا ينقصها كثير من عناصر القوة ….تلك الصيحة هي مهمة الأديب المغربي فلا يطمع الأدباء أن يعيشوا لخيالهم وإنتاجهم كما يعيش الأدباء في أمم أخرى أخذت حظها من الرقي “([24])
بالإضافة إلى الموضوعات السابقة نجد الشاعر المغربي يعطي للمرأة أولوية خاصة باعتبارها نصف المجتمع فإذا صلح شئنها وعلا علمها أخذت بيدها جيلا كاملا إلى الحرية والنماء.
يقول الشاعر الحلوي:
مسكينة هذه البنت التي حكمت إرادة الجهل أن تفنى لمحيانا
لا تغمطوا بنت حواء مواهبها فإنها كالفتى روحا ووجدانا
لو خليت ترد العلم الذي حرمت لأغدقت غيثها في النشء هتانا
ولا استنار بها شعب يناوئها وضاق عنها فضاء العلم ميدانا
أيقتل المرء بنتا في جهالتها ضحية ثم يدعى بعد إنسانا([25])
هذا التضامن والتعاطف الشاعري مع المرأة دليل على رقي ثقافة الشاعر الذي أدرك معاناة المرأة العربية والمغربية أثناء زيارته لأوروبا، فشهد ما تعيشه الفتاة من حقوق وحريات وما يقدمن من خدمات في شتى المجالات، في مقابل ذلك تهضم حقوقها داخل المجتمعات التقليدية- العربية- للرجل السيادة عليها داخل البيت وخارجه .
يقول الشاعر:
وهل رأيتم بنات الغرب في لهف ينهضن للعلم أفواجا ووجدانا؟
من كل مؤنسة روحا مواسية جرحا تعيش بجنب المرء ريحانا
فعلموها فإن العلم معجزة كما جددت أمما شاخت أوطانا([26])
فإذا كان العالم الغربي قد شهد قفزة نوعية في مجال الفكر والحقوق فإن العالم العربي لا زال يعيش في عزلة تامة بعيدا عما يجري في الغرب من رفاهية وازدهار، تسيطر عليه تقاليد لا تتصل بالعقيدة الإسلامية في شيء وإنما بسوء فهمه لتعاليم هذا الدين الذي رفع من شأن المرأة ودعاها لطلب العلم فهو السبيل إلى حياة راقية وعادلة ، وهو ما نجده في قصائد الحلوي أيضا ، مبينا براءة الدين مما لحق المرأة من حيف وإهمال.
يقول الشاعر:
لا تحسبوا أنكم ترضون خالقكم بجهلها أو تنالوا منه رضوانا
الله أكبر آن يهوى ضلالتها والشرع أسمى تعاليما وتبيانا
أما لكم في نساء الوحي من عظة وفي نساء أبي بكر وعثمانا؟
الراويات أحاديث مقدسة والتاليات كتاب الله ألحانا
والواعظات من الذكرى بأحسنها أتقى النساء أحاسيسا وأذهانا([27])
يربط الشاعر بين الماضي الإسلامي المجيد – حيث كانت تعيش المرأة حياة مليئة بالعطاء- وما آلت إليه أوضاعها بالمجتمعات العربية إبان الاستعمار، فحلي بنا النظر إلى مكانتها بين الصحابة وما أسدته من خدمات جليلة للمسلمين، فقد ساهمت بفكرها في تنوير القلوب وتثقيف العقول بالموعظة والتفسير والتبيين وكل ما يرتبط بالحياة والدين، ولها دورها الكبير في رقي المجتمع ونهضته ما إن وجدت الأرضية المناسبة لتقوم بدورها على أكمل وجه.
ففي الوقت الذي كان فيه المغرب في حاجة ماسة إلى من يأخذ بيده، كانت دعوات تعليم المرأة تجابه بالرفض من طرف التيار المحافظ الذي رآى فيه عيبا و خروجا عن تقاليد المغرب وتعاليم الإسلام، وهو ما استدعى من الشعراء والمفكرون المغاربة التصدي لهذا الرأي المجحف في حقها الذي لا يمت بصلة إلى الدين أو المنطق ولا يخدم مصلحة الوطن، داعين إلى إعادة تجديد الفكر ومنح المرأة حقوقها العادلة والمشروعة : ” لقد قلنا غير ما مرة إن حاجتنا لثورة فكرية تفوق كل الحاجات، لأن هذه الثورة هي التي تفتح لنا آفاق المعرفة وتبين لنا طريق الإصلاح الصحيح ، ولقد حان الوقت الذي يجب أن نعمل فيه على إفهام الشعب الأسباب التي أدت به إلى الهوة التي وقع فيها، وأن نبين له التآمر الذي قام به ذووا الامتيازات الاجتماعية ليولوا بينه وبين ما أعطاه الله من حق في الحياة الحرة الكريمة، وهذا ما عبر عنه جلالة المغفور له محمد الخامس حين قال في إحدى كلماته لقد آن أوان الديمقراطية للجميع”([28])، ومن الحقوق المهضومة حق الفتاة في التعليم ومشاركتها الرجل في بناء الوطن.يقول الشاعر:
لا تحسبوا أن الفتاة كمتعة خلقت لنا كيما نلذ وننعما
لكنها شطر الحياة فإن تدم في الجهل كانت شطرها المتجهما
هبوا لتعليم الفتاة سبيله حتى تشارك زوجها المتعلما
وتعين في صرح النهوض بناته وتقاوم الداء المبيد المعدما
وتكون مثل السابقات من الائى شدن البناء الشامخ المتسنما([29])
يريد الشاعر عبر هذا التوثيق أن يعري اللثام عن مأساة المرأة داخل الوطن العربي ويكشف عن هذا الواقع المظلم الذي عاشته مهضومة الحقوق مكسرة الجناح داخل البيت وخارجه ، فإذا كان الإسلام قد حارب هذا الحيف الذي عانت منه المرأة في الجاهلية وأعلا من شأنها موصيا الرجل بالاهتمام بها ،فإننا نرى أن المجتمعات العربية لازالت تحتفظ بتلك النظرة الدونية للمرأة، فالرجل يرى دورها مختصرا في إشباع شهوته والقيام بأعمال البيت وتربية الأبناء، فعلى العكس من ذلك يجب النظر إلى العصور الزاهية التي عملت فيه المرأة جنبا إلى جنب مع الرجل في مجالات عدة كالجهاد والتطبيب والحسبة وتربية الأطفال وتعليمهم ..
كم سجل التاريخ مجدا ساميا ومواقف كانت أجل وأعظما
في الجيش، في العرفان في خلق اللقا في الدين، في الأخلاق، في حفظ الحمى
في كل ناحية ضربن بأسهم وظهرن في كل النواحي أنجما([30])
يبدي الشاعر تأثرا لما آل إليه وضع الفتاة المغربية التي قيدت بالجهل لكي تكون سهلة المراس، لا تستطيع المطالبة بحقها أو الدفاع عن نفسها، أو لها الحرية في اختيار ما يناسبها مما سيؤثر على استقرار الأسرة النفسي وينعكس ذلك على المجتمع أيضا، لم يقف الشاعر مكتوف اليدين أمام هذه الظاهرة المنتشرة في المجتمعات العربية بل دافع عنها في المنتديات الدولية والإقليمية وعلى الصعيد الوطني، مبرزا الأسباب الحقيقية التي كرست هذا الوضع وساهمت في تفشيه انطلاقا من المهمة التي أخذها على عاتقه كمفكر ومناضل ومصلح اجتماعي، ” فالمصلح الاجتماعي مضطر لتحليل الواقع الذي يدرسه وينفذ إلى بنيته قبل أن يتحدث عن علاج أزماته، هذا ما فعله علال الفاسي بالذات عندما عالج كثيرا من الظواهر الاجتماعية في المغرب التقليدي إذ كان يشعر بالتخطيط لمشروع النهضة لا بد أن يرتكز على المعرفة الميدانية لمكونات المجتمع المغربي وللظواهر الشائعة فيه، وللتحولات التي يعرفها أثناء انتقاله من مجتمع تقليدي إلى مجتمع عصري([31]).
والشاعر الجاي أيضا له لمسته الخاصة بالإصلاح ، إذ يشيد بما قدمه الملك من إصلاحات وهو يمني النفس كي لا تعود تلك الأيام الخوالي التي تحمل ماضيا مشئوما
مضى أمسنا المشؤوم، فاليوم عيدنا وأروع منه-عشت يا ملكي- غد
ومن يعتصم بالله وابن محمد فلا بد عقباه القريبة تحمد
أمولاي بالإصلاح عهدك حافل وما كنت غير الخير للشعب تنشد
وكللت بالدستور ألف فضيلة فما أنا محصيها ولست أعدد([32])
يبدي الشاعر في هذه الأبيات حماسا مستفيضا من أجل تغيير الواقع وإخراج المغرب من واقعه البئيس إلى واقع مشرف لا عذر فيه لأحد، فالكل مطالب بالمساهمة في رقيه، فإذا كان الاستعمار عائقا حال دون تقدم المغرب فإن حرية المغرب مقرونة بما يقدمه المغاربة لبلدهم الذي عانى ويلات الاستعمار، فالحكومة مطالبة أيضا بإجراءات فعلية على أرض الواقع تستفيد منها كل القطاعات في إطار تنمية شاملة مستدامة. سيما بعد حصول المغرب على استقلاله ، حيث يحتاج لنهضة شاملة تشمل كافة القطاعات بما في ذلك التدبير والتسيير وتولية المناصب وتوزيع المهام، وذاك ليس بالأمر السهل لأن هذه القطاعات تحتاج إلى تكوين وكفاءة ومسؤولية حتى يتجاوز المغرب ما أحدثه المستعمر من شرخ، فلا يمكن للوطن أن ينهض من جديد دون أن يراعي حرية المرأة ويولي للتعليم استراتيجية واضحة تخلصه من التبعية التقليدية ،وقد أخذ الشعراء على عاتقهم إصلاح هذا المجتمع وتخليصه من الاستعمار الفكري والسياسي بتوعيته بحقوقه المشروعة كاملة ، فكانت البداية بإخراجه من الجمِود والجهل ومطالبة سلطات الاستعمار بتفعيل الإصلاحات التي تشدق بها إلى أن أتيحت للحركة الوطنية الفرصة السانحة للمطالبة بالاستقلال الذي تحقق فعليا سنة 1956م ، ومن هنا كانت الظروف متاحة من أجل الدعوة إلى إصلاحات شاملة وتهيئة الأرضية المناسبة لذلك في ظل دستور يعطي للحرية أولوية خاصة. فحضور الآخر في الشعر لا يعني بالضرورة انفصالنا عن هويتنا أو فقداننا لبوصلة الارتباط بالعمق التاريخي لثقافتنا، وإن تعددت الروافد التي تؤثر في ثقافة المجتمع وفكره، فلا يعني ذلك بالضرورة تعددا في الهوية وإنما عاملا من عوامل تجددها وثرائها.
لائحة المصادر والمراجع
- أحمد بن محمد الصبيحي، أصول أسباب الرقي الحقيقي ،تقديم : عباس الجراري، دار أبي رقراق للطباعة والنشر،2012.
- شعيب أوعزوز، الاتجاه القومي في الشعر المغربي الحديث والمعاصر1917-1984، مطبعة الأمنية ، الرباط، ط1، 2015 .
- نعيمة هدى المدغري ، نقذ الشعر المغربي الحديث، مطبعة دار المناهل، 2013، الرباط.
- مصطفى الشليح، في بلاغة القصيدة المغربية، ط1، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 1999
سلسلة ندوات:
- الأدب المغربي الحديث والمعاصر التاريخ والخطاب، أبحاث وشهادات مهداة إلى الأستاذ والدكتور محمد أحميدة، ط:1، الأمنية، الرباط،2014م
- في رحاب فكر علال الفاسي، مجموعة من الباحثين، مطبعة الرسالة ،2000م .
الدواوين الشعرية:
7) إدريس الجاي، السوانح، المطبعة الملكية، الرباط.
8 ) محمد الحلوي، الأعمال الشعرية، ج:1، مطبعة دار المناهل، 2006م،الرباط.
9) علال الفاسي، الأعمال الشعرية،ج:1،2،مطبعة النجاح الجديدة، ط3،2017م، الدار البيضاء.
[1])- الأدب المغربي الحديث والمعاصر التاريخ والخطاب ، أبحاث وشهادات مهداة إلى الأستاذ والدكتور محمد أحميدة ، ربيعة بنويس،ص57 .
[2])- أصول أسباب الرقي الحقيقي، أحمد بن محمد الصبيحي ،تقديم : عباس الجراري، دار أبي رقراق للطباعة والنشر،2012،ص:42
[3] )- الأدب المغربي الحديث والمعاصر، التاريخ والخطاب،م س، القصيدة المغربية بين توليفة الشعر وحرفية التاريخ، عبد الحق بنطوجة،ص:221
– ق: اللغة العربية، ديوان علال الفاسي،ج:1، ص:67.[4]
– ق: إلى الشباب الممثل،علال الفاسي، ج:1، ص60.[5]
– ق: فاجعة الضاد،الأعمال الشعرية، محمد الحلوي ج:2،ص:339.[6]
– قصيدة :لواء الأمجاد، السوانح: الجاي، ص:42.[7]
[8])- مدارات المنفتح والمنغلق في التشكلات الدلالية والتاريخية لمفهوم الهوية ،أراق سعيد ،ع:4، المجلد:36، يونيو2008، عالم الفكر، ص:236.
– ق : اندفاعات عا طفية، علال الفاسي، ج:2، ص:71.[9]
– ق: اندفاعات عاطفية، علال الفاسي، ص:71.[10]
-ق: قدم للبلاد مجددا أعيادها، الجاي، السوانح، ص:46.[11]
– ق: كل الشهور نوفمبر، الجاي، ص:66.[12]
– ق: صرخة الجزائر، الحلوي،ج3، ص:90.[13]
[14] – في رحاب فكر علال الفاسي، مقال بعنوان: مشروع النهضة المغربية انطلاقا من النقد الذاتي للزعيم علال الفاسي، محمد الكتاني، مطبعة الرسالة ،2000، ص: 6
– ق:عيد الانبعاث، الجاي،السوانح، ص:56.[15]
– ق: دم للبلاد مجددا أعيادها ، الجاي ، ص:47.[16]
– ق: عيد الإنبعاث ، الجاي، ص57.[17]
– ق:تحية الوفود العربية، الجاي، ص:80.[18]
– ق: سيروا إلى صف الجهاد، علال الفاسي ،ج 1: ص:53[19]
– ق:واحسرتاه، علال الفاسي،ج1، ص:66.[20]
– ق: تحية الوفود العربية، الجاي، ص:81[21]
– ق: نموت ويحيا الوطن، علال الفاسي، ص :107.[22]
– مقدمة ديوان علال الفاسي ،عبد العلي الودغيري،ج1، ص:28.[23]
– نقد الشعر المغربي الحديث، نعيمة هدى المدغري، مطبعة دار المناهل، 2013، الرباط، ص:12.[24]
– ق: صوت المرأة، محمد الحلوي،ج:3، ص:112.[25]
– ق: صوت المرأة، الحلوي ، ص:113.[26]
– ق: صوت المرأة، الحلوي، ص: 113[27]
– في رحاب فكر علال الفاسي، مقال لمحمد الكتاني، ص:24.[28]
-ق: الفتاة المغربية، علل الفاسي، ص:126.[29]
– ق: الفتاة المغربية، علال الفاسي، ص:126.[30]
– مشروع النهضة المغربية انطلاقا من النقد الذاتي، محمد الكتاني ، في رحاب فكر علال الفاسي، ص:22. [31]