التعلّم وبناء القيم في قصة موسى عليه السلام
Learning and building values in the story of Moses, peacebeuponhim
د. الحاجي الوزاني/جامعة محمد بن عبد الله فاس، المغرب
El hajji El ouazzani / Mohammed Bno Abdillah University, Fez, Morocco
مقال نشر في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 85 الصفحة 9.
ملخص :
تناقش الدراسة موضوع القيم من الجانب التربوي، أي كيف يجب أن تبنى القيم لدى المتعلمين، فاتخذتْ قصة موسى عليه السلام نموذجا، فحاولتْ من خلال تتبع القصة في القرآن الكريم والسنة النبوية؛ أن تبين طرائق بنائها ووسائل ترسيخها، سواء في حالة كان موسى عليه السلام معلِّما أو متعلِّما، فالقصة في النهاية ما هي إلا وسيلة لتعليمنا نحن، وليست حكاية أسطورية للتسلية والترويح عن النفس، وقد توصلت الدراسة إلى خمس طرائق اعتمدتْها القصة من أجل تعلم القيم، وهي: الخطأ لبناء قيمة العدل، والعمل لبناء قيمة الإخلاص، والحوار لبناء قيمة الصلاح، والمناظرة لبناء قيمة اليقين، ثم المصاحبة لبناء قيمة التواضع.
الكلمات المفتاحية: القصة- التعلّم- القيم.
Abstract:
The study discusses the issue of values from an educational side, that is to say, how should values be built among learners. So, I took the story of Moses, peace be upon him, as a model. By tracing the story in the Noble Qur’an and the Sunnah of the Prophet, I tried to show the methods of its construction and the means of consolidatingit; whether Moses, peace be upon him, was a teacher or a learner. In the end, the story is only away to teach us, and not a mythical tale for entertainment and recreation; as the study found five methods adopted by the story to learn values, which are: mistakes to build the value of justice, work to build the value of sincerity, dialogue to build the value of righteousness, debate to build the value of certainty, and then accompanying to build the value of humility.
Keywords: Story – learning – values.
مقدمة:
تنقسم الأوامر والنواهي الإلهية للناس إلى قسمين؛ أوامر ونواه مباشرة، وأخرى غير مباشرة، فالأولى هي التي تتضمنها (آيات الأحكام) كما اصطُلِح عليها عند الفقهاء والأصوليين، أما الثانية؛ فنعني بها القصص القرآني الذي هو بيان وبرهان من الله لعباده يأمرهم من خلالها بالتفكر (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف 176]، ثم الاعتبار بعد التفكر (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [يوسف 111]، فالتفكر هو التأمل العقلي والقلبي في أحداث القصة مع طرح الأسئلة، أما الاعتبار؛ فهو استنتاج القيم والسنن من خلال الإجابة عن تلك الأسئلة.
وبناء على ما سبق؛ فإن الدّراسة تسعى إلى مناقشة السؤالين الآتيين :
- ما هي القيم التي يمكن استخلاصها من خلال التفكر والاعتبار في قصة موسى عليه السلام؟
- وكيف تم بناؤها على صعيد التعلّم وترسيخها لتصبح ذات أثر في الواقع؟
وستحاول الدراسة الإجابة عنهما من خلال تتبع قصة موسى عليه السلام كما وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، معتمدا في ذلك الانتقاء الوظيفي، سواء في اختيار النصوص والأحداث؛ أو في التعامل معها تفسيرا وترجيحا، مع التركيز على الجانب التربوي ولوازمه، كما أن هذا الأخير نفسه لن يختصّ بالحصر والاستقصاء؛ بل على سبيل التمثيل والتنبيه.
أولا: مفاهيم أساسية:
هنا كثلاثة مصطلحات أساسية نحتاج إلى بيان مفهومها ضمن سياق هذه الدراسة، تسهيلا لحسن التواصل بين الكاتب والقارئ، لا لأنها مصطلحات جديدة أو مغمورة؛ بل لأنها مصطلحات يتم تداولها بشكل كبير، وهو ما ينتج عنه عادة تباين في مفهومها تبعا لتباين الخلفيات والقناعات، ومن هنا، فإن الدراسة رأت أن المنهج العلمي يقتضي منها أن تحدد المفهوم الذي تتبناه، ولن تخوض في تحرير محل الخلاف وأسبابه؛ لأن الخوض في ذلك الآن يعتبر مخالفا لمقاصد الدراسة وخروجا عن الموضوع، فغاية ما نود تحقيقه هو تقديم تعريفات وظيفية تدفع عن الدراسة اللبس، وتسهل عملية الفهم، وذلك على الشكل الآتي :
– التعلّم: التعلّم مصطلح تربوي له تعريفات كثيرة، ومنها: “تغير شبه دائم في سلوك الكائن الحي، نتيجة للخبرة والممارسة والتدريب“[1]، وهذا التعريف هو الذي تتبناه الدراسة، فالتعلّم في نهايته تغير في السلوك بمعناه العام، سواء كان مصدر هذا التغير نتيجة مثير خارجي، أو بسبب إدراك كلي للعلاقات بين الأجزاء، أو أنه حصل بناء على تفاعل بين الذات الواعية والمحيط العام، فالتعلّم أقصد به هنا بالتحديد؛ تغير إيجابي يحصل في سلوك المتعلم نتيجة تغير حصل في تصوراته.
– القيم: للقيم أيضا تعريفات كثيرة، ونختار منها التعريف الذي يقول إنها”معتقدات راسخة تملي على الإنسان سلوكا معينا في ظروف اجتماعية معينة“[2]، فالقيم إذن، هي ما يؤمن به الإنسان ويعتقد أنه الصواب، ثم يتصرف بناء على ذلك، أي أن السلوك الإنساني يكون منسجما مع المبادئ التي يؤمن بها، سواء كانت إيجابية أم سلبية، فالذي يؤمن بمبدأ المنفعة كقيمة عليا؛ غير الذي يؤمن بمبدأ الإنسانية كقيمة كونية، والسلوك حتما سيكون مختلفا بين الاثنين، فالقيم في حقيقتها مجردة وموجِّهة، مجردة لأنها لا تُرى؛ بل يُرى السلوك الذي يعبر عنها، وموجِّهة لأنها هي التي توجه السلوك الخارجي فعلا وتركا[3]، وللقيم تعريفات أخرى وتفصيلات كثيرة، مثل تقسيمها حسب المجالات، أو تصنيفها حسب الأولوية والأهمية، وهو أمر ليس هذا مجال تفصيله.
– القصص القرآني: المراد بالقصص القرآني هو: “أخباره عن أحوال الأمم الماضية، والنبوات السابقة، والحوادث الواقعة“[4]، فكل ما أخبر عنه القرآن الكريم مما يدخل ضمن الغيب بالنسبة لزمن التنزيل فهو قصص قرآني، وهو عبارة عن أحداث حقيقية وقعت في الزمن الماضي، تتضمن الزمان والمكان والأشخاص والسياق، أما ما سِيق على صيغة ضرب المثل فلا يعتبر من القصص القرآني وإن كان القصد منهما واحدا، وهو الاعتبار على وجه العموم، والقصص القرآني خطاب موجه لنا نحن أصحاب الرسالة الخاتمة من أجل مقاصد محددة، والمقصود هنا بقصة موسى عليه السلام هو مضمون قصته كما وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، ويهمنا منها الآن؛ الجانب التربوي المتعلق بالتعلّم وبناء القيم، سواء في حالة كان موسى عليه السلام معلما أو متعلما، فالمقصود في النهاية هو أن الله تعالى يعلمنا نحن، وما القصة إلا وسيلة لتحقيق ذلك.
ونخلص مما سبق إلى أن المعرفة التي يكتسبها الإنسان باعتباره كائنا يتميز بالتعلّم العاقل؛ هي التي تؤدي إلى تغير في تصوراته، أي في نظام القيم لديه، وعندما يتغير نظام القيم؛ يتغير حتما السلوك الخارجي الذي يمكن مشاهدته وقياسه.
ثانيا: التعلّم وبناء القيم
- التعلّم بالخطأ وبناء قيمة: العدل
تقول القاعدة التربوية المشهورة (مِن الخطأ يتعلم الإنسان)، وهي قاعدة تحيل إلى أمرين أساسيين في الإنسان؛ الأول أنه من طبيعته الخطأ، والثاني؛ أنه قادر على تصحيح الخطأ إذا ما أحسن توظيف خاصية العقل التي منحها الله تعالى له، (كلُّ بني آدم خَطَّاءٌ، وخيرُ الخَطَّائِينَ التوابون)[5]، فالخطأ من منظور تربوي يعتبر وسيلة تعليمية أساسية يجب استثمارها بشكل جيد لحصول التعلّم، فموسى عليه السلام أخطأ في بداية مساره وتعلم من خطئه قيمة (العدل)، فما هو الخطأ الذي ارتكبه عليه السلام؟
في سورة القصص يبين الله تعالى أن موسى عليه السلام لما بلغ ونضج عقليا ونفسيا آتاه الله العلم والحكم، قال تعالى:(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا، وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)[القصص: 14]، لكن ورغم ذلك؛ فإنه سيقع في خطأ يؤكد وجوب استمرارية التعلّم، قال تعالى: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ، هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ، فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ)[القصص: 15]، إن موسى عليه السلام ارتكب خطأين؛ الأول أنه لم يتبين وجه الحق فيميز بين الظالم والمظلوم، فالرجلان يقتتلان، أي أن الاقتتال متبادل بينهما، ولم يكن الرجل القبطي هو فقط من يعذب الرجل الإسرائيلي ويريد قتله، فكَون أحدهما من قومه المضطهدين، والآخر من أعدائه المناصرين لفرعون؛ لا يعني بالضرورة أن الأول مظلوم والثاني ظالم، لكن موسى عليه السلام انهزم أمام عاطفته وانتصر لقوميته على حساب العدالة والمصلحة العامة[6]، فطبق قاعدة (انصر أخاك ظالما أو مظلوما)[7] بالمعنى الجاهلي للقاعدة، ولذلك وقع في خطأ ثان أكبر وأعظم، وهو قتل نفس بغير حق !
غير أن موسى عليه السلام سينتبه مباشره بعد فعله أنه ارتكب خطأ في حكمه، ولم يكن عادلا في الفصل بين المتقاتلين، فبادر إلى التوبة إلى الله عز وجل فقال: (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ، قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، فَغَفَرَ لَهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[القصص: 15-16]، ثم يؤكد تعلمه لقيمة (العدل) قائلا: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ)[القصص: 17]، لكن الاعتراف باللسان شيء، وتطهير القلب بشكل نهائي من ذلك الشعور بالظلم والطغيان من فرعون ومَلَئه تجاه قومه شيء آخر، إذ ما زال ذلك الشعور بالظلم الذي عايشه سنين في قصر فرعون يحول بينه وبين تطبيق قيمة العدل، فبالأمس أخطأ في التحقيق وظلم في التنفيذ، واليوم يكاد يكرر نفس الخطأ، رغم أنه انتبه هذه المرة لغواية الرجل الذي أوقعه في الخطأ، قال تعالى: (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ، فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ، قَالَ لَهُ مُوسَى: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ، فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ؟ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ)[القصص: 18-19]، إن موسى عليه السلام تعلم من خطئه قيمة العدل، لكن تطبيقها في الحياة يحتاج إلى تخلصه من ذلك العائق النفسي الناتج عما شاهده في طفولته من تعذيب بني إسرائيل في مصر، فهو رسول من رب العالمين في المستقبل، ومهمة الرسل هي التبليغ والإصلاح وليس الانتقام والفساد، ولكي يتمكن من تطبيق قيمة العدل، ويتخلص من العائق النفسي؛ لا بد من خروجه من مصر ليعيش بعيدا عن معاناة قومه، حتى إذا تحقق ذلك؛ عاد مرة أخرى ليجعل الحوار وسيلة للتغيير، والصلاح مقصدا وغاية، بدلا من القوة المادية نصرة للعصبية القومية.
- التعلّم بالعمل وبناء قيمة: الإخلاص
إن التعلّم النظري لا يكفي وحده لترجمته إلى عمل؛ خاصة عندما يتعلق الأمر بقيمة مثل (العدل)، وهي قيمة تحتاج إلى تدريب النفس عليها عمليا من خلال تقوية قيمة (الإخلاص)، إذ لا يمكن تطبيق العدل في غياب الإخلاص، فمن أخلص أعدل ومن نافق أظلم، والإخلاص يُتعلم بالنظر ويَتقوى بالعمل، فموسى عليه السلام الذي تعلم العدل لما أخطأ؛ عجز عن تطبيقه عمليا، فاستعان بالله عز وجل عن طريق الدعاء أن يعينه ويهديه سواء السبيل، (قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ)[القصص: 21-22].
وبالفعل استجاب الله تعالى دعاءه ونجاه من عدوان فرعون ومَلَئه، ووجهه بالخروج من مصر إلى مدين، حيث يوجد نبي الله شعيب عليه السلام الذي يحارب الفساد الاقتصادي، وما يهمنا هنا الآن؛ هو أن موسى عليه السلام تغيرت حالته النفسية مجرد وصوله إلى مدين، فتغيرت مواقفه وسلوكه، قال تعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ، وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ، قَالَ: مَا خَطْبُكُمَا؟ قَالَتَا: لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)[القصص: 23]، إن موسى عليه السلام الذي وجد رجلين يقتتلان في مصر، وقتل أحدهما الذي ظنه ظالما دون أن يسمع منه ويتأكد، موظفا قوته البدنية في عمل غير صالح مدفوعا بالغضب؛ نجده هنا يعمل العكس، يسأل قبل أن يتصرف، ويوظف قوته في عمل صالح ابتغاء وجه الله، (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)[القصص: 24]. سقى لهما إخلاصا لله تعالى ولم يطلب أجر عمله، رغم أنه كان في حاجة إلى ذلك، لكن من أخلص لله جازاه الله من عنده ورزقه من حيث لا يحتسب، والجزاء لم يتأخر كثيرا، (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ، قَالَتْ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا، فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ، قَالَ: لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[القصص: 25].
إن موسى عليه السلام تعلم من عمله قيمة (الإخلاص)، والتعلّم هنا لا يعني أنه كان يجهل هذه القيمة فأصبح يعرفها؛ بل يعني أنه أدرك أهميتها في الإصلاح وأثرها في النفوس، حيث لاحظ أنه لما استعمل قوته البدينة – التي منحها الله تعالى له- نصرة لقوميته وليس نصرة للحق؛ تأذى من ذلك نفسيا، وهو الشعور بالذنب والخوف من العقاب (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ)[القصص: 18]، إضافة إلى صورته التي اهتزت بين الناس، فأصبح يُنظر إليه على أنه مجرم يسفك الدماء وليس مصلحا يحارب الفساد، أما عندما وظف قوته في عمل خالص لوجه الله تعالى؛ فقد حصل العكس، اطمأن قلبه ونال جزاءه، فأُعجِب الناس بصنيعه فوصفوه بما يليق بمكانته (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)[القصص: 26].
- التعلّم بالحوار و بناء قيمة: الصلاح
وردت قصة موسى عليه السلام مع فرعون في سور كثيرة من القرآن الكريم، غير أن مهمتنا هنا ليست استقصاء ما ورد فيها من نصوص ووقائع؛ بل سنقتصر فقط على ما يمكِّننا من بيان كيف حاول موسى عليه السلام أن يعلم فرعون قيمة (الصلاح).
فرعون هو حاكم مصر في زمانه، تحدث عنه القرآن الكريم باعتباره رمزا من رموز الفساد ولم يذكره باسمه، فتحول من شخصية تاريخية إلى فكرة قابلة للحياة والتجدد كلما توفرت شروطها، ومن صفات فرعون التي أشار إليها القرآن الكريم؛ الاستخفاف بالناس (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ)[الزخرف: 54]، لقد تهيأت الظروف لفرعون ليرتقي سلم الطغيان بسبب قومه الذين أعانوه على ذلك، وما زال يرتقي هذا السلم (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً، يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ، يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ، وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ، إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)[القصص: 4]حتى وصل إلى نهايته، فأعلن نفسه إلها في الأرض، (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)[النازعات: 24].
إن إعلان الألوهية في الأرض يعني واقعيا؛ أن فرعون صار هو المرجعية النهائية لتحديد الصلاح من الفساد، فما رآه صلاحا فهو كذلك يجب إتباعه، وما رآه فسادا فهو كذلك يجب تجنبه، حتى وإن خالف المنطق والفطرة وما تعارف الناس عليه، (قالَ فِرْعَوْنُ: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمُ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ)[غافر: 29]،وهنا سيبعث الله تعالى رسولا من الفئة التي استضعفها وأذاقها ألوانا من العذاب، إنه موسى عليه السلام، وقومه بنو إسرائيل أحفاد يعقوب ويوسف عليهما السلام في مصر، فكيف حاول موسى عليه السلام أن يعلِّم فرعون قيمة (الصلاح)؟
أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن يذهب إلى مصر من أجل تحرير بني إسرائيل من عذاب فرعون، (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ؛ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ، وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ)[البقرة: 49]، وبعد تردد موسى عليه السلام لخوفه على نفسه من فرعون الذي هرب من شره؛ امتثل التكليف الإلهي رفقة أخيه هارون، قال تعالى: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى، قَالَا: رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى، قَالَ: لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى، فَأْتِيَاهُ فَقُولَا: إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ)[طه: 43-47]، وهنا سيبدأ الحوار بين موسى وفرعون، قال تعالى على لسان موسى: (وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، قَالَ: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى؟ قَالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، قَالَ: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى؟ قَالَ: عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ، لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى)[طه: 47-52].نلاحظ هنا أن أول سؤال طرحه فرعون على موسى وهارون بعد دعوتهما له هو: من ربكما؟ أي من تعتقدون أنه إله يحكم في الأرض؛ أنا أم غيري؟ فكانت إجابة موسى ذكية ومفحِمة؛ حيث لم يقتصر في الجواب على تعيين الإله الذي يؤمن به؛ بل أشار إلى صفتين من صفاته، وهما: الخلق والعطاء، وهما صفتان لا يتصف بهما فرعون، ومن ثمّ؛ بطلان دعوته الألوهية، غير أن فرعون لم يستسلم وحاول “أن يحاج موسى بما حصل للقرون الماضية، الذين كانوا على ملة فرعون، أي قرون أهل مصر، أي ما حالهم، أفتزعم أنهم اتفقوا على ضلالة؟”[8]وهي محاولة من فرعون لتعجيز موسى وإخراجه عن موضوع الحوار، وهو ما أدركه موسى فأكد له مرة أخرى بأن ذلك من اختصاص علام الغيوب.
وفي سورة الشعراء أيضا نقرأ نفس الحوار لكن بصيغة أخرى، وإضافة عناصر جديدة، قال تعالى:(فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ، فَقُولَا: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ؟ قَالَ: فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ، فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ فِرْعَوْنُ: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: أَلَا تَسْتَمِعُونَ؟ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)[الشعراء: 16-25]. إنه نفس الحوار السابق تقريبا، إلا أن فرعون هنا بدأ بطرح سؤال استنكاري على موسى عليه السلام يُذكِّره بنعمه عليه، تلك النعم التي كفر بها حين قتل قبطيا بدون حق نصرة لشيعته، فهذا الفعل في نظر فرعون يعتبر فسادا في الأرض، لكن أن يقتل هو أبناء بني إسرائيل، ويعذب آباءهم أشد العذاب، ويستضعف الباقين فيجعل الكل عبيدا له؛ ليس فسادا في الأرض، بل عين الحكمة والصلاح، وقد اعترف موسى عليه السلام في جوابه أن قتله لرجل قبطي كان خطأ منه، ومعنى ذلك؛ أن موسى يحاول إقناع فرعون الذي احتج عليه بعمل سابق؛ أن قتل الأبرياء فساد وليس صلاحا، سواء في الماضي أو الحاضر والمستقبل، لكن فرعون أراد أن يذكِّره بأن الإله لا يُسأل عما يفعل، ولا ينسب إليه إلا الخير والصلاح، لذلك نراه ينكر عليه أن يكون للسموات والأرض إله غيره، فاتهمه في صحته العقلية وتوعده بالسجن،(قال: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، قَالَ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ)[الشعراء: 27-29]، ولما لم تفلح الحجج المنطقية في الإقناع لحصول التعلّم؛ لجأ موسى إلى استعمال حجج حسية تنتمي إلى عالم المعجزات التي تؤكد صدق الرسل، (قَالَ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟ قَالَ: فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ)[الشعراء: 30-33]، ورغم مشاهدته عصا تتحول إلى ثعبان، ويده تخرج من جيبه بيضاء من غير سوء؛ استمسك برأيه فرماه بالسحر (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ: إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ)[الشعراء: 34].
انتهى الحوار ولم يتحقق التعلّم، إذ رغم ما بذله موسى وأخوه هارون من أجل إقناع فرعون أنه يفسد في الأرض ولا يصلح؛ أصر فرعون على مفهومه الخاص لقيمة الصلاح، ولو تأملنا جيدا في حقيقة الحوار الذي دار بينهما لأدركنا أنه حوار حول مفهوم (الصلاح) باعتباره قيمة كونية، ففرعون الذي نصب نفسه إلها في الأرض؛ يرى أنه هو معيار الصلاح، وكل رأي يخالف رأيه فهو فساد يجب محاربته، ولذلك قال: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ؛ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ وَأَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ)[غافر: 26]، وقد حاول موسى عليه السلام -في الحوار الذي عرضناه باقتضاب-؛ أن ينسف الأصل الذي يتكئ عليه فرعون، ويستمد منه مفهوم الصلاح، وهو كونه إلها وليس بشرا، لكنه لم يفلح في ذلك، وهو ما يعني أن التعلّم، وإن توسل أحسن الطرق؛ لا يتحقق دائما، فهناك عوائق أخرى تمنع حصوله، مثل الكبر والغرور والمصالح الشخصية، وهي الموانع التي حالت دون تعلم فرعون مفهوم قيمة الصلاح.
- التعلّم بالمناظرة وبناء قيمة: اليقين
لما حاصر موسى عليه السلام فرعون بحجج منطقية وأخرى حسية؛ لجأ فرعون إلى أسلوب آخر، وهو الانتقال بالحوار من حوار ثنائي فكري؛ إلى صراع سياسي بين موسى وجميع من يستوطن أرض مصر، فاتهمه تارة في صحته العقلية (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)[الشعراء: 27] وتارة أخرى بالرغبة في الاستيلاء على أرض مصر واضطهاد أهلها مستعينا بخبرته في السحر (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ، فَمَاذَا تَأْمُرُونَ)[الشعراء: 34-35]، وهنا لا بد من تغيير طريقة التعلّم وأدواتها، فالحوار الذي يهدف إلى الإقناع عن طريق الحجج والبراهين لم يعد مناسبا؛ لأن المسألة لا تتعلق بالجهل؛ بل أضحت صراعا سياسيا في نظر فرعون وملئه، ومن هنا سيصر الجميع على (المناظرة)، إما منتصر أو منهزم، وإذا فشل الحوار في تحقيق التعلّم بعد تحوله إلى صراع؛ فهل ستنجح المناظرة في حالة الانتصار؟
نُذكِّر بأن موسى عليه السلام حاور فرعون حول مفهوم (الصلاح)، وهو حوار فكري يزعم فيه فرعون أنه معيار الصلاح والفساد باعتباره إلها في الأرض، وبالتالي، فما يراه موسى وأخوه هارون فسادا عريضا ليس كذلك، وبناء عليه؛ وجدنا أن موسى عليه السلام يحاول أن يقوض المرجعية التي يستمد منها مفهوم الصلاح، لأنها إن تهاوت، وأصبح فرعون بشرا كسائر الناس؛ حينها سيتحقق التعلّم ، ويرى أن ما يفعله فسادا وليس صلاحا، لكن الغرور والكبر والمصالح الشخصية عوائق نفسية حالت دون تحقيق ذلك، ففرعون لم ولن يتعلم سواء بالحوار أو المناظرة، ومن هنا سنتركه كما تركه موسى عليه السلام، ونتوجه إلى من اعتقد فيهم أنهم سينصرونه في وقت الشدة، وهم السحرة الذين دُعُوا لمناظرة موسى عليه السلام.
مع فرعون كانت طريقة التعلّم هي الحوار، أما مع سحرته فاختار المناظرة، لا من أجل أن يعلمهم مفهوم الصلاح، ولكن من أجل تحريرهم من مرجعية فرعون الزائفة، وهو تحرير لن يتحقق إلا بتعلم قيمة (اليقين بالله) فإن آمنوا بإله واحد متعال بدلا من فرعون؛ سيدركون الفساد فسادا، والصلاح صلاحا، وقد سجل لنا القرآن الكريم تلك المناظرة التي وقعت بين موسى وسحرة فرعون في سور متعددة، ونختار منها ما جاء في سورة الشعراء، قال تعالى: (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ، فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ: أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)[الشعراء: 38-42]، إنه استعداد قوي ليوم عظيم ينتصر فيه السحر على سحر مثله في نظر فرعون وملئه وشيعته، فَعَلا شأن السحرة بين الناس حتى بلغت بهم الشجاعة درجة ابتزاز فرعون ومساومته، وبعد أن تمكنوا مما يريدون في حالة الانتصار؛ بدأت المناظرة، قال تعالى: (قَالَ لَهُمْ مُوسَى: أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ، فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ، فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ)[الشعراء: 43-45]، لقد خسر السحرة المعركة وفاز موسى عليه السلام، فغلبت المعجزة الربانية الخرافة والشعوذة، لكن ما يهمنا هنا هو رد فعل السحرة بعد الهزيمة، قال تعالى: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ، قَالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ)[الشعراء: 46-48]، لقد تعلم السحرة عن طريق المناظرة أن فرعون على ضلال مبين، وأنه يستحيل أن يكون إلها؛ بل الإله الحق هو الذي نصر موسى فأيده بمعجزة حقيقية كشفت زيف خدعهم، فحلت لديهم قيمة(اليقين بالله) محل ألوهية فرعون الزائفة، ولما تغير نظام القيم تغير السلوك معه، وهو السجود لله رب العلمين، ورغم تهديدات فرعون ووعيده (قَالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ، فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)[لشعراء: 49]وهم على علم ببطشه وجبروته؛ إلا أنها لم تفلح أمام (اليقين بالله)، فقالوا:(قَالُوا: لَا ضَيْرَ، إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ، إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ)[الشعراء: 50-51].
لقد تعلم السحرة (اليقين بالله) عن طريق المناظرة ولم يتعلم فرعون، والسبب يعود إلى انتفاء موانع التعلّم لديهم وحضورها لدى فرعون، فإن كان موسى عليه السلام انتصر بالمعجزة كوسيلة لبناء قيمة اليقين؛ فإننا اليوم يجب أن نوظف العلم لترسيخ نفس القيمة كوسيلة متاحة لنا.
- 5. التعلّم بالمصاحبة وبناء قيمة: التواضع
وردت أحاديث نبوية صحيحة في صحيح البخاري ومسلم تبين سياق قصة موسى مع العبد الصالح عليهما السلام، ففي صحيح البخاري أن “موسى قام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب اللَّه عليه، إذ لم يرد العلم إليه، فقال له: بلى، لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك...”[9]، فمن خلال هذا الحديث النبوي الشريف يتبين أن القصة تناقش أساسا قيمة (التواضع)، لكن السؤال؛ كيف علَّم الله موسى هذه القيمة التي يبدو أنها ضعفت لديه؟
كان بالإمكان أن يخاطب الله موسى عليه السلام فيأمره بالتواضع، لكن الله تعالى أراد أن يعلِّمه بطريقة أخرى، وهي طريقة التعلّم الذاتي من خلال اكتشاف ضعف معارفه التي كانت سببا في ضعف قيمة التواضع عنده، فأرشده إلى عبد من عباد الله الصالحين الذي آتاه الله علما لم يُعلِّمه موسى عليه السلام، ففي سورة الكهف نقرأ تفاصيل هذه القصة، يقول تعالى: (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا، قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا، وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا)[الكهف: 66-70]، فموسى عليه السلام يعبر بشكل صريح عن رغبته في التعلّم، والعبد الصالح الخضر عليه السلام يهيئه نفسيا، ويضع له شرطا في مصاحبته قصد التعلّم، فازدادت رغبة موسى فأكد قبوله الشرط، وبعد التعاقد بينهما انطلقت الرحلة التعليمية، قال تعالى: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا، قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا، قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَاِكيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا، قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ، قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا، قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ)[الكهف: 71-78]، إن موسى عليه السلام الذي اعتقد أنه أعلم الناس في الأرض؛ أصبح عاجزا عن فهم ما يحدث أمامه، ويرى أن معلمه سقط في الإثم والعدوان؛ يعتدي على سفينة المساكين، ويقتل نفسا بغير حق، ثم يبني جدارا بدون مقابل في قرية رفض أهلها إطعامهما، غير أنه في ذات الوقت بدأ الشك يتسلل إلى مسلماته، هل فعلا ما يشاهده اعتداء أم أنه أمر آخر يجهله، لكن الشك سيزول باليقين بعد تأويل تلك المشاهد، قال تعالى: (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا، أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا، وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا، فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا، وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا، وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ، وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا)[الكهف: 78-82].
لقد تأكد موسى عليه السلام أن معلمه الذي صاحبه أعلم منه، وما فعله ليس اعتداء؛ بل عين الحكمة والمصلحة، فخرق سفينة المساكين؛ كان من أجل أن لا يأخذها ملك غاصب، وقتل غلام دون حق؛ كانت فيه مصلحة لأبوين صالحين، أما بناء جدار بدون مقابل؛ فالقصد منه حماية حق شرعي لطفلين يتيمين كان أبوهما صالحا، فجميع المشاهد التي ظنها موسى اعتداء بناء على ظاهرها؛ كانت رحمة في باطنها، وهنا تعلم أن الإنسان مهما بلغ من العلم لن يعلم كل شيء، فمن علم شيئا غابت عنه أشياء، (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)[يوسف:76]، فحلت قيمة (التواضع) محل (الغفلة والغرور).
خلاصة ونتائج:
لا شك أن هناك قيما كثيرة في قصة موسى عليه السلام، وما تناولته الدّراسة – من خلال بيان كيفية بنائها- لم يكن على سبيل الحصر؛ بل يمكن أن نتحدث عن قيم أخرى، سواء تلك التي يمكن ملاحظتها بشكل مستقل، مثل: الإيمان بالقضاء والقدر في مصاحبة العبد الصالح، والإيمان بالله تعالى في حوار فرعون، والتوبة إلى الله تعالى في قتل القبطي؛ أو ما يحصل عن طريق التداخل بين القيم؛ لأن القيم الإيجابية لا تتجزأ، فالقيمة الواحدة لا يمكن أن تتحقق إلا بقيم أخرى متداخلة معها وتتشكل منها، فقيمة (الصلاح) مثلا، وهي أن يكون الإنسان صالحا في نفسه ومجتمعه ومع ربه؛ لا تتحقق إلا بتوفر جميع القيم الإيجابية، ومن هنا يمكن الحديث عن القيم بأنها شبكة من المفاهيم تشبه لبنات البناء، وكل خلل في لبنة واحدة يؤدي بالضرورة إلى ظهور عيب في البناء بأكمله، غير أن هذا لا يمنع من تجزئ القيم عندما يتعلق الأمر بالتعلّم، فتعلم القيم لا يحصل مرة واحدة؛ بل يحتاج إلى تدرج في اكتسابها وممارسة عملية لترسيخها، فموسى عليه السلام عندما كان في حاجة إلى تعلم قيمة (العدل)؛ علمه الله تعالى هذه القيمة، كما أن فرعون لما أساء فهم قيمة (الصلاح)؛ بعث الله إليه موسى عليه السلام ليعلمه مفهومها الصحيح.
إن القيم يجب أن تبنى بطرق صحيحة لكي تترجم إلى سلوك، وكل تعلم لا يظهر أثره على السلوك فهو تعلم فاشل، والتعلّم الصحيح هو الذي ينوع استراتيجيات التدريس، ويجمع بين النظري والتطبيقي، ويستعمل أدوات مختلفة ومناسبة للقيمة التي يراد اكتسابها، فموسى عليه السلام تعلم التواضع عن طريق مصاحبة رجل أعلم منه، فعلمه من خلال مشاهدة مشاهد محسوسة عجز عن فهمها وتفسيرها، وتعلم العدل حينما أخطأ وظلم، وعاش حالة نفسية مضطربة نتيجة ظلمه، كما تعلم الإخلاص من خلال قيامه بعمل خالص لوجه الله تعالى لا يرجو من ذلك جزاء ولا شكورا إلا من ربه تعالى، وترسخت لديه هذه القيمة أكثر لما أحس بطمأنينة نفسية وثناء جميل على عمله، وعندما تعلم موسى عليه السلام وأصبح مؤهلا للقيام بتبليغ رسالة ربه، كلفه الله تعالى لتعليم فرعون وملئه وأعوانه من السحرة، وقد استجاب دعوة ربه بعد أن استعان بأخيه، فحاور فرعون الذي زعم أنه إله ومصلح، فحاججه ببراهين عقلية تبين استحالة ألوهيته وتكشف معالم فساده، لكن الكبر وحب المصالح الزائلة صفتان حالتا دون تحقيق التعلّم، فأصر فرعون على مفهومه الخاص للصلاح، فجدد موسى طريقته ووظف أدوات أخرى غير الحجج العقلية، فانتقل من الحوار إلى المناظرة، ومن الحجج العقلية إلى المعجزات الحسية، ليس من أجل إقناع فرعون وملئه؛ بل من أجل ترسيخ قيمة اليقين بالله تعالى عند من يستعين بهم ويجعلهم أدوات لبسط فساده، وهي القيمة الوحيدة التي يمكن أن تتحدى جبروت فرعون وتهز عرشه، وقد تمكن موسى عليه السلام من تحقيق ذلك، حيث آمن السحرة وخروا ساجدين لرب العالمين.
التعلّم نفسه قيمة تربوية نفيسة، وهي قيمة غير مرتبطة بسن محدد، فمادام الإنسان حي يسمع ويرى، يعقل ويميز ويقرر؛ وجب عليه أن يتعلم، ومتى اعتقد أنه في غنى عن التعلّم، سواء باسم العلم أو بحكم السن؛ ضل وأضل، فالتعلّم المستمر هو الضامن لبقاء الإنسان على الصراط المستقيم، والاستغناء عنه هو بداية الانحراف والضلال، فموسى عليه السلام أخطأ عندما اعتقد أنه ليس في حاجة إلى التعلّم، رغم أن الله تعالى آتاه الله العلم والحكم، وهيأ له ظروفا مناسبة ليكتسب تجربة وخبرة جمعت بين العلم النظري والتطبيق العملي؛ فعاتبه الله تعالى وأرشده إلى مزيد من التعلّم، فالمعلم متى توقف عن التعلّم يجب أن يتوقف عن التعليم.
قائمة المراجع :
- القرآن الكريم برواية ورش عن نافع.
- أبو عبد الله ابن ماجة، سنن ابن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، : دار إحياء الكتب العربية.
- أبو عبد الله البخاري، الجامع المسند الصحيح المعروف بصحيح البخاري، تحقيق محمد زهير بن ناصر، دار طوق النجاة، ط1، 1422ه.
- علي محمد العبيدي وآخرون، نظريات التعلّم وتطبيقاتها التربوية، ط1، 2012.
- محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، 1984ه.
- المركز المغربي للدراسات والأبحاث التربوية الإسلامية، مجلة البصيرة التربوية، العدد الأول أكتوبر 2006.
- مسلم بن الحجاج النيسابوري، المسند الصحيح المختصر المعروف بصحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت.
- مناع القطان، مباحث في علوم القرآن، مكتبة المعارف، ط2، 2000.
[1]– علي محمد العبيدي وآخرون، نظريات التعلّم وتطبيقاتها التربوية، ط1، 2012، ص:13.
[2]– عبد السلام الأحمر، آليات إدماج القيم في منهاج التعليم، بحث ضمن مجلة البصيرة التربوية، المركز المغربي للدراسات والأبحاث التربوية الإسلامية، العدد الأول، أكتوبر 2006، ص: 107.
[3]– أقصد بالسلوك هنا المعنى العام لا المعنى السلوكي في المدرسة السلوكية، وبعبارة أخرى؛ ليس السلوك فقط هو الفعل؛ بل الترك أيضا فعل، فكما أن الفعل موجَّه بالقيم؛ فكذلك الترك أيضا، والترك يعتبر فعلا في شريعتنا يترتب عليه الجزاء والعقاب، وقد اصطلح الفقهاء والأصوليون على ذلك ب (فعل المكلف)، وفعل المكلف عندهم يدخل فيه الترك (النهي) والفعل (الأمر).
[4]– مناع القطان، مباحث في علوم القرآن، مكتبة المعارف، ط2، 2000، ص: 316.
[5]– ابن ماجة، سنن ابن ماجة، باب: ذكر التوبة، تحت رقم: 4251.
[6]– صدر هذا من موسى عليه السلام قبل أن ينزل عليه الوحي، ويكلفه الله بالتبليغ، وهو رأي جمهور العلماء، ووصفه عليه السلام هنا بالمخطئ والظالم، ليس تقليلا من مكانته عليه السلام؛ بل هو وصف نطقت به النصوص الشرعية التي سنعرضها في سياق التعلّم، والإيمان بجميع الأنبياء والرسل ووجوب احترامهم وحبهم؛ من عقيدة المسلم وأركان الإيمان، لهذا وجب تنبيه القارئ إلى هذه المسألة وألا يظن بنا ظن سوء.
[7]– أصل هذه القاعدة حديث نبوي شريف ورد في كتب الحديث الصحيحة بصيغ مختلفة، وصيغته في صحيح البخاري عن أنس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوما؛ فكيف ننصره ظالما؟ قال: تأخذ فوق يديه). صحيح البخاري، باب: أعن أخاك ظالما أو مظلوما، تحت رقم: 2444. ومعنى (تأخذ فوق يديه) أي تمنعه من الظلم ولا تتركه يتمادى في ظلمه وطغيانه.
[8]– محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، 1984ه، ج: 16، ص: 234.
[9]– البخاري، صحيح البخاري، باب: حديث الخضر مع موسى عليهما السلام، تحت رقم: 3401.