تجليات الحداثة في الخطاب النقدي المعاصر قراءة في كتاب: ” قضايا نقدية معاصرة في الرواية و القصة القصيرة” لـ:عمر عتيق
Manifestations of Modernism in contemporary critical discourse: a reading in contemporary critical issues in the Novel and the short story of Omar Ateeq
ط.د. جاطة مسعودة، تحت إشراف الدكتور: عبد القادر رحيم، جامعة محمد خيضر – الجزائر-
Jatta Massouda, , University of Mohamed Khider – Algeria –
مقال منشور كتاب أعمال ملتقى المنجز النقدي الفلسطيني وخصوصيته عند عمر عتيق في اصفحة 13.
الملخص :تعد الرواية اليوم الى جانب القصة القصيرة من أكثر العوالم الابداعية اثارة للجدل والنقاش، كونهما تشكلان عالما متكاملا، وشاملا، ومولدا لكم هائل من الدلالات والايحاءات. على اصعدة التكوين والتشكيل والتعبير والتدليل كافة، الامر الذي دفع كثيرا من أقطاب العقل البشري وفي حقول معرفية متباينة – يأتي في مقدمتها حقل النقد الأدبي- لأن تتسابق لمقاربتهما وقراءة كل دال فيهما.
ومن بين النقاد العرب الذين اشتغلوا بدراسة الخطاب الروائي نجد الناقد والمفكر الفلسطيني الدكتور ” عمر عتيق” الذي جعل منه ( أي الخطاب الروائي) بؤرة التساؤل ومركز الاهتمام في اثارة العديد من القضايا المتعلقة به، ونخص بالذكر قضية ” الحداثة” محاولا إبراز تجلياتها في الخطاب الروائي. وقد كان سلاحه لتحقيق هذا المسعى الاعتماد على جملة من الأدوات المفاهيمية بوصفها مرجعية شكلت له نقطة الانطلاق في مقارباته النقدية، بالإضافة الى مجموعة من الآليات الإجرائية كونها المحطة التي توصله لغايته المنشودة، والتي سنحاول استظهارها بالشرح والتفصيل في هذه الدراسة، وذلك من خلال مقاربتنا لكتابه الموسوم : ” قضايا نقدية معاصرة في الرواية والقصة القصيرة”.
الكلمات المفتاحية : النقد-عمر- عتيق-الرواية – الحداثة.Summary :
The novel and the short story are considered as the most controversial creative genres, for they complete each other. Moreover, they can be source of sign and allusion at the levels of construction, formation, expression and signification. This provoked scholars from different fields of study, primarily in literary criticism, compete to approach and read each signifier in the novel and the short story.
Amongst the Arab Critics who studied the narrative discourse, the Palestinian critic “Dr.Omar Ateeq” who spotted the light on different issues related to this kind of discourse. One of these issues is ‘Modernism’ which he attempted to highlight its manifestations in the narrative discourse. To achieve this objective, Dr.Ateeq used a group of conceptual tools as a feedback for his critical approach. In Addition to procedural tools to reach his ultimate objective. In the present study, we seek to explain and detail by approaching his book entitled “contemporary critical issues in the novel and the short story”.
Keywords : criticism, Omar Ateeq, Novel, Modernism
المقدمة :من الثابت لا المتحول أن ثمة صفات عدة تسم النص السردي، وتجعله يتصدر المشهد الثقافي المعاصر كعنصر ثقافي هام وفعال , ومن بين هذه الصفات نذكر ” الحرية ” , و “الاستقلالية النسبية “, وهذه الأخيرة ( أي الإستقلالية النسبية ) هي من تجعله يمتلك القدرة على تبليغ وإيصال مقاصد وغايات الخطابات الأدبية الأخرى , وذلك بعد أن يعمل على إعادة بناءها , وتشكيلها , وهيكلتها من جديد وفق قالب سردي خاص , ولهذا نلحظ أن ثمة حرص شديد لأشكال الخطاب المتنوعة في الثقافة المعاصرة على الحفاظ على ” السردية ” – ولو بقدر يسير – كونها تؤمن أن عملية التواصل لا تتم إلا عن طريق السرد. ففي مفهوم الثقافة المعاصرة نجد: «إن عملية التواصل بأشكالها المتعددة هي عملية سرد لتجربة او حادثة او معرفة»([1]).
وتأتي الرواية إلى جانب القصة القصيرة كأكثر الأنواع السردية شهرة ورواجا في المشهد الثقافي المعاصر، إذ حظيت بجملة من الألقاب نذكر منها “فن العصر” و ” ديوان العرب ” , وأكثر من هذا نجد بعض الكتاب أمثال “ويلسون” قد عدها ” الاختراع الثاني بعد العجلة”([2]).
فالرواية اليوم أصبحت تشكل المنافس الأكبر قوة، والأكثر شراسة لكثير من الآداب والفنون التي لطالما تربعت على عرش الإبداع، ولردح من الزمن مثل “فن الشعر”، ولعل رواجها أو بالأحرى الانتشار الواسع لها في المشهد الثقافي الغربي عامة، والعربي على وجه خاص لخير دليل، وأبلغ شاهد على ذلك.
- في علاقة الرواية بالنقد :
إن ظفر الرواية بهذا المكسب، وحصولها على هذا التتويج لم يكن من فراغ، بل ثمة–بالتأكيد- عوامل متباينة كانت وراء ذلك، ولعل أبرز هذه العوامل وأهمها: “الحركة النقدية” بوصفها طرفا هاما في عملية التفاعل التي تحدث بينها وبين الخطابات السردية بما فيها الروائية والقصصية، فالنقد في أحيان كثيرة له تأثير واضح وجلي على الكاتب، بوصفه يلعب دورا بارز في لفت انتباه المبدعين الى ما هو جذري ومتأصل في إبداعاتهم ، وهو الذي يحدث التفاعل الإيجابي أو السلبي، ولتوضيح الأمر أكثر نستحضر مقولتين هامتين لكاتبين مشهورين هما: نيقولا غوغول(*)وغابريال غارسيا ماركيز.
فقد نقل عن الروائي غوغول، أنه حينما فرغ من كتابة روايته الموسومة: “نفوس ميتة” وبعد إصدارها راح يتوسل معارفه من النقاد يرجوهم بأن يظهروا له عيوب روايته حيث قال: «لا يمكنني الانطلاق بجرأة إلى أن أعرف ما يقوله النقاد، فالنقد يعطيني أجنحة، وإنني أرى عملي أكبر بعد النقد، وردود الأفعال، والآراء المتناقضة»([3]) وبالفعل لقد أتاه الرد سريعا ومفاده: «أن أسلوبه رديء جدا»([4]) فما كان منه إلا أن سعى جاهدا لتعديل ما كتب مستفيدا من ملاحظات النقاد. في حين نجد أن الروائي غابريال غارسيا ماركيز قد رأى العكس أيأن النقد بالنسبة له ولأعماله له تأثير سلبي على خلاف ما رآه “غوغول” من أن للنقد دور إيجابي في تقويم كتاباته وجعلها أكثر قبولا لدى المتلقي، ويتضح رأي غارسيا من خلال إجابته عن علاقته الخاصة بالنقد الأدبي لمجلة قضايا الأدب السوفييتية(**): «إن وساطة النقد –التي لم يطلبها أحد – قد أدت إلى نتائج غير متوقعة بتاتا، إنهم فسروني لدرجة لم أعد أتعرف على نفسي، وجعلوني أفكر، ما الذي أردت فعلا قوله (….) إني أحترم هؤلاء جدا، وأستمع إلى آرائهم، واحد من هؤلاء مثلا يدعى نولكونين، وكان يعيش في كولومبيا، لقد أثارت اهتمامي مواضيع بحثه الدقيقة، وهي تدور حول الشخصيات النسائية في نتاج ماركيز … بعدئذ وعندما كنت أعمل في كتابة روايتي مئة عام من العزلة، فإني لم أستطع أن أفهم هل كنت أكتب أنا الشيء الذي أحسه وأفكر به، أم أني كنت أحاكي رأيه وأقتدي به. وهل أنني لا سمح الله كنت أناقضه بلا إرادتي أم لا، لقد كان يعرقلني بشكل مزعج»([5]).
يتضح من قول غارسيا أن ثمة تفاعل جدلي بين النقد والأدب كيف؟ فكل من الناقد والكاتب –هنا- ينظر إلى موضوع المرأة ونظرتهما المختلفة أو المتشابهة قد أثرت الموضوع وأغنته، بل وأسهمت في بلورته، وماركيز في مخالفته لرأي الناقد، يؤكد أهمية النقد، بل ويجعل منه مستوى آخر للفعل.
إذن تبقى علاقة الأدب عامة والرواية على وجه خاص بالنقد علاقة شائكة يصعب فهم طبيعتها , غير أن ثمة من الكتاب أمثال “نجيب محفوظ” من قرر رسم خطوط واضحة وأطر ثابتة لهذه العلاقة ويمكن أن نتبين ذلك من خلال الإجابة التي قدمها في حصة تلفزيونية حين طرح عليه السؤال الآتي: ما هي الأسس التي ينبغي أن يقوم عليها النقد؟ وبالتالي ماهي مؤهلات الناقد؟ فكان جوابه شافيا كافيا إذ قال: «الواقع أن مؤهلات الناقد معروفة ويعني يجب أن يكون أولا من دارسي الأدب، وعلومه المساعدة مثل علم النفس والاجتماع ، والثقافة العامة، ومطلعا على الآداب العالمية وإنما أيضا يحتاج إلى خلق خاص يؤهله وينبع منه فالواقع أن الناقد يجمع بين صفات الفيلسوف والقاضي ولكي يقوم بعمله بنزاهة تامة تفيد الأدب وتفيد الحركة الفكرية وواجب الناقد واجب ضخم جدا، يعني نحن مثلا إذا كنا ننتظر من نقادنا أن يقوموا بواجبهم , معناه أن كل كتاب يصدر أو كل مسرحية تعرض وأي كل عمل فني يجب أن يقدم فيه كل ناقد رأيه ، يعني إذا كان لدينا عشرون ناقد يجب –في كل عمل فني–إن نسمع ما يقارب عشرون رأيا نقديا لكي نعرف جميع وجهات النظر المختلفة، وذلك حتى يتمكن الأديب أو الفنان من معرفة وجهات النظر المختلفة في عمله ويستفيد منها. أما الواقع عندما نقارن بين ما ننتظره، وبين ما هو موجود ولأن الفرق كبير جدا وأن النقد لا يقوم بواجبه كما يجب ويمكن أن يكون لديه أعذار مثلا، إن النقاد لهم أعمالهم الخاصة ولهم واجباتهم، إنما لاشك من أن هذا هو واجب النقد حيال الفن إذا أراد أن يدفعه في طريق الرقي والنهضة، من الآفات التي تهدد –حقيقة– النقد عندنا في الساحة العربية كثيرة أيضا منها: المجاملات الخاصة، ، والعدوات الشخصية أيضا إضافة إلى الاستهتار –أحيانا–أو الرغبة في الانتفاع . كل هذه الأمور يصعب وصفها، إنما الأكيد أنها مدمرة سواء للفن أو الحياة الفكرية ومن حسن الحظ أنه عندنا مجموعة من النقاد يقومون بواجبهم بنزاهة تامة، وهم على قلة عددهم وسيظلون الأمل للحركة الأدبية، والحركة الفنية على حد سواء»([6]).
تأسيسا على ما سبق يمكن القول أن النقد قد يكسب النص السردي (رواية كان أو قصة) سلطة جاعلا منه نصا ملتهبا جذابا وآسرا، وقد يحدث العكس.
النقد إذن هو التوأم اللصيق بالخطاب الروائي والقصصي وإن الإقرار بوجود مثل هذه العلاقة بين النقد والرواية خاصة ليدفعنا للجزم والتأكيد أولا على أن كل منهما مشغول بحالة من اليقظة الفكرية الواعية، وثانيا إلى أن الابتكارات الروائية خاصة تخلق بالضرورة ابتكارات نقدية، كما هو الشأن بالنسبة للرواية الجديدة.
فالابتكارات النقدية إذن هي من ولدت أو بالأحرى أوجدت ما أطلق عليه بالمناهج النقدية المعاصرة، تلك المناهج التي اتفقت وأجمعت على إقصاء السياق الخارجي المحيط بالأثر الأدبي عند مقاربته واستجلاء معانيه، فقد انتصرت لقطب الداخل خاصة في مقاربتها للنصوص السردية بما فيها الرواية والقصة القصيرة، محاولة التركيز على العلاقات الداخلية الموجودة بين الوحدات المنتمية في عمومها إلى بنية الخطاب، لا السياق الخارجي المحيط به([7]).
ومن بين المناهج النقدية المعاصرة والتي رافقت الناقد “عمر عتيق” في رحلته النقدية – وهو يجري مقاربته لأزيد من عشرين خطابا سرديا تراوح بين الرواية والقصة القصيرة – نجد نظرية التلقي وكذا المنهج السيميائي متكئا من خلال مقاربته طبعا على جملة من الأدوات المفاهيمية والآليات الإجرائية المنتمية لهذين التيارين النقديين المعاصرين , وإن توظيف مثل هذه الآليات الإجرائية قد سهلت عليه وعلينا –على حد سواء– استجلاء معاني النص السردي –محل المقاربة- والكشف عن معانيه ودلالاته القابعة خلف الإشارات والعلامات اللغوية مثل (العنوان والشخصيات) والغير لغوية مثل (الغلاف) القابعة خلف كلمات وعبارات المتن السردي. وقد ارتأينا تناول هذه الآليات الإجرائية التي اعتمدها “عمر عتيق” طبعا ودراستها تحت عنوان : العتبات النصية في مقاربات عمر عتيق النقدية .
أما عن الابتكارات الروائية فقد أنتجت لنا ما يعرف بـ “الرواية الجديدة”، والتي فضل الناقد عمر عتيق أن تكون الفضاء الحداثي الذي تسبح في فلكه الخطابات الروائية والقصصية التي إختارها كنماذج لإجراء مقارباته النقدية، ونذكر من بين هذه النماذج المختارة ما يلي :
رواية : “الاعصار والمئذنة” لعماد الدين خليل.
رواية: “مدينة الريح” لفاطمة ذياب.
قصة: “كابوس منتصف الليل” لحسين حجازي.
قصة: “فتاة المعطف الجلدي” لامتنان الصمادي.
وتبقى الإشكاليات المطروحة ههنا هي :
- ماهي تجليات الحداثة التي يمكن رصدها في الخطاب النقدي المعاصر؟
- ما مدى حضور هذه التجليات الحداثية في خطاب “عمر عتيق” النقدي الموسوم: “قضايا نقدية معاصرة في الرواية والقصة القصيرة”؟ أي ما حظ هذا الخطاب النقدي من الأخذ بسمات الحداثة؟
2 –تجليات الحداثة في الخطاب النقدي المعاصر :
تمهيد :
لقد عد النقد الأدبي –في مفهومه العام– عبارة عن:«مجموعة من الاساليب المتبعة مع اختلافها ، باختلاف النقاد لفحص الآثار الأدبية للمؤلفين القدامى، والمحدثين، بقصد كشف الغامض، وتفسير النص الأدبي، والأدلاء بحكم عليه في ضوء مبادئ، أو مناهج بحث يختص بها ناقد من النقاد»([8]).
يتضح من تعريف النقد السابق، أن الخطاب النقدي في أصله هو خطاب متأسس حول خطاب من نوع أدبي، وفي إطار السلسلة الإبداعية، فالخطاب الأدبي شأنه شأن الميادين الأخرى، السياسية، و الاجتماعية والإقتصادية يحتاج لكي يتطور، ويواكب المتغيرات التي تطرأ بين الحين ، والآخر إلى نظريات، ومناهج تحدد مساره على وفق رؤى إيديولوجية متغيرة بتغير البيئة، والزمان، وما نحو ذلك، وكل واحدة من هذه النظريات، والمناهج لها قواعدها، وشروطها الخاصة بحسب قدر الانغلاق ، و الانفتاح على معطيات النص، ومن هذه المناهج النقدية المعاصرة : المنهج السيميائي، ونظرية التلقي.
إن المتتبع لكتاب عمر عتيق –محل الدراسة– يلحظ بأن “السيميائية” إلى جانب “نظرية التلقي” قد كانتا من أكثر المناهج النقدية المعاصرة التي اتبعها الناقد “عمر عتيق” في تحليل نصوصه السردية، ومقاربتها للكشف عن معانيها، وتتبع دلالاتها القابعة خلف إشارات المتن السردي اللغوية مثل: (العنوان والاستهلال والمكان والشخصيات)، والغير لغوية مثل: (الغلاف). وفيما يلي رصد لأهم المحطات في مسار هذين المنهجين النقديين المعاصرين ونبدأ بـ
2-1- المنهج السيميائي
إنه وقبل تقديم بعض المفاهيم العامة لهذا المنهج تجدر بنا الإشارة إلى أمر هام، ومفاده تعدد المصطلحات الدالة عليه من باحث إلى آخر، إلى حد يصعب معه التمييز بين الدلالات التي تحملها هذه المصطلحات وتحيل عليها، ومن الباحثين الذين أشاروا إلى هذه القضية بالدرس والتحليل نجد الباحث الدكتور: “عبد الله بوخلخال”، وذلك حين قدم – في احد الملتقيات السيميائية المتخصصة- ورقة وجيزة قيمة، أحصى خلالها ما يقارب عشرين ترجمة للسيمياء وإذ نادى بضرورة التنسيق والتوحيد معتبرا ذلك التعدد سمة سلبية دالة على انغلاق الجهات المختصة على ذاتها، وكدليل على هذا نورد قوله: «….إن ضعف التنسيق هو العلامة المميزة بين هذه الجهات والمؤسسات العلمية، والثقافية المختلفة، أضف إلى ذلك اختلاف مشارب الأفراد الذين يساهمون في وضع المصطلحات، وميل معظمهم إلى الفردية، ومخالفة جهود الآخرين»[9].
يبدو أن التعدد لم يقف عند حدود المصطلح الدال على هذا المنهج، بل تعداه ليشمل المفاهيم المنوطة له، فكما أن ثمة فيض من المصطلحات الدالة على هذا المنهج، ثمة أيضا كم وزخم هائل من المفاهيم المرتبطة، والمتعلقة به، ونأخذ منها ما يلي:
- «السيميولوجيا –حسب إيكو في مفارقتها لطريفة– العلم الذي يدرس كل ما يمكن استخدامه من أجل الكذب، على أساس اعتمادها على فكرة العلامة المكونة من الدال البديل، لأي شيء آخر، فإنها بذلك مهيأة – في تقديري- لأن تختبر درجات الصدق الفني في الأعمال الأدبية، وتقيس مستويات كفاءتها الدلالية، وطرائقها في الترميز، والتكثيف، وهو ما تعنيه بالشعرية»[10].
- «السيميولوجيا هي دراسة العلامات من خلال الادلة اللفظية، وغير اللفظية التي تحقق تواصلا مطلوبا، لكنه غائب في كنف العلامات»[11].
- «هي تنبأ به دي سوسير ليدرس حياة العلامات»[12].
- «السيميائية هي علم حديث، وثمرة من ثمار القرن العشرين، وهي لا تدرس العلامات في كنف الحياة الاجتماعية فحسب، بل أن السيميائية تزعم لنفسها القدرة على دراسة الإنسان دراسة متكاملة، من خلال العلامات المبتدعة من قبل الإنسان، وذلك بهدف إدراك واقعه، فهي علم الإشارة الدالة مهما كان نوعها، وأصلها، وهذا يعني أن نظام الكون بما يحويه من علامات، ورموز، هو نظام ذو دلالة، أي أن السيميائية هي علم يدرس الإشارات، وعلائقها في هذا الكون، وكذلك توزعها ووظائفها الداخلية والخارجية»[13].
هذا ما يمكن قوله عن ماهية السيميائية، أما عن الجذور المؤسسة لهذا المنهج، فنؤكد على أنه من غير الممكن لأي منهج نقدي، أو نظرية نقدية –مهما كانت– أن تولد من فراغ، ولكن ثمة مجموعة من الترسبات، والتراكمات المعرفية، والفلسفية التي ساهمت ذاك المنهج أو تلك النظرية، وهذا ما ينطبق على المنهج السيميائي، ونظرية التلقي بوصفهما أرسيا مبحثا جديدا في النقد الأدبي، وشكلا توجها منهجيا في فهم النصوص ومقاربتها.
فعن المنهج السيميائي يمكن القول أن التأسيس الحقيقي، والفعلي له قد ظهر، وبشكل واضح، وجلي مع العالم اللغوي السويسري الجنسية “فرديناند دي سوسير” الذي بشر بعلم جديد، لا تشكل الالسنية إلا جزء منه إذ نجده (اي دي سوسير) يرى أن: «للغة هي نسق من العلامات، يعبر عن أفكار، ومنه فهي مشابهة للكتابة، وأبجدية الصم والبكم ، والطقوس الرمزية ، وأشكال المجاملة ، والإشارات العسكرية … الخ انها –وفقط– الأهم بين كل هذه الأنساق… يمكننا –إذن– أن نتصور علما يدرس حياة العلامات في كنف الحياة الاجتماعية، قد يشكل قسما من علم النفس الاجتماعي، وإذن من علم النفس العام، سنسميه السيميولوجيا (Semiologie) من الكلمة الإغريقية (Semition) بمعنى علامة التي يمكن أن تنبئنا بما تتكون منه العلامات، والقوانين التي تحكمها. وبما أن هذا العلم لما يوجد بعد، فإننا لا نعرف ما سيؤول إليه، لكنه حقيق بالوجود، ومحدد المكانة سلفا. إن الألسنية ليست إلا قسما من هذا العلم العام الذي ستغدو القوانين التي يكتشفها قابلة للتطبيق على الألسنية، وهكذا ستجد هذه الأخيرة نفسها مرتبطة بمجال دقيق التحديد ضمن مجموع الوقائع البشرية»[14].
غير أن ثمة من يضيف بعض المرجعيات الفلسفية –إلى جانب طرح دي سوسير اللغوي– وهو الدكتور: بشير توريريت الذي يرى أن: «السيميائية بتحليلاتها النظرية، وباتجاهاتها المتباينة قد استمدت بعض مبادئها من أطروحة الفلسفتين الوضعية، والتجريبية، الفلسفة الوضعية: في جنوحها إلى الشكل، وفي اتصافها بالنزعة العلمية، فالفلاسفة الوضعيون هم الذين اعتبروا اللغة كلها رمزا، وهذا الدأب اقتفاه النقاد السيميائيون في تصورهم للعلامة… ومثلما أثرت الفلسفة الوضعية في نشأة السيميائية، أثرت أيضا الفلسفة التجريبية في أطروحات السيميائيين»[15].
إنه وبالرغم من كل الأسس العلمية والجذور الفلسفية المتعددة –والتي شكلت مرجعية لميلاد السيميائية– إلا أنها بقيت عاجزة عن بناء كيان تصوري، ونسيج نظري مستقل يجعل منها علما قائما بذاته.
إن أول ما يصادفنا في انتقالنا من المحطة النظرية إلى المحطة الإجرائية في مسيرة المنهج السيميائي، هو أنه ليس ثمة خطاب نقدي محدد يؤسس –وبصورة نهائية– لجماليات النص الأدبي من المنظور السيميائي وغير أن هذا لا ينفي أن ثمة من الباحثين أمثال الدكتور: بشير توريريت الذي قام بجمع شتات بعض التصورات، والرؤى والافكار السيميائية المتباينة من بعض الخطابات النقدية، والقيام بصياغتها صياغة نقدية، وقد وصف الباحث ما قام به في قوله: «… لقد قمنا بتوصيف هذه الرؤى المختلفة والمتباينة توصيفا سيميائيا، فألفينا مدار المقاربة السيميائية مدارا لا محدودا تتجمع فيه آليات عدة تنحدر من نواحي عديدة، وهي في ذلك أشبه ما تكون بالبحيرة التي تصب فيها مجموعة منا الأنهار … ومهما يكن من أمر فإن المدار الذي تشغله المقاربة السيميائية هو مدار خصب، تتحول فيه الكلمة إلى إشارة، والإشارة حين تعلن تمردها عن معناها القاموسي تصبح معبأة بدلالات شتى، وهذه الدلالات لا تنكشف إلا بعد النظر في مجمل العلاقات الداخلية التي تربطها بكلمات أخرى»[16]، ومن الآليات الاجرائية التي تحقق الغرض السابق –حسب وجهة نظر الدكتور بشير توريريت– نذكر:
1/سيميائية العنوان : إذ يرى الباحث أن العنوان في حقل المقاربة السيميائية يشكل بؤرة دلالية. أو مجرة من المدلولات التي تتموقع تحت مظلة حقل دلالي رئيسي، في حين نجد أن الألفاظ التي يتشكل منها المنجز النصي هي مجرد إشارات ورموز وإيقونات تحيل إلى مدلولات فرعية، أو بالأحرى حقول دلالية فرعية تنمي بالضرورة إلى المدلول الرئيسي لعنوان النص، وقد أورد الدكتور “عمر عتيق” مثالا توضيحيا عن ذلك حين بين في منجزه السردي –محل الدراسة- طبيعة العلاقة القائمة بين مدلول عنوان رواية “الإعصار والمئذنة” وبين متن الرواية، فالعنوان إذن هو أهم عنصر في المقاربة السيميائية لقول الكاتب “خالد حسين”: «العنوان وبعد مرحلة مخاض طويلة، أضحى حارسا للنص أو العتبة التي يجري على حافتها التفاوض إيذانا بالدخول إلى ردهات النص ودهاليزه»[17].
2/سيميائية البنى الافرادية والتركيبة: وقد قصد الباحث بالبنى الافرادية : وصف الأفعال كالفعل الماضي والمضارع والأمر إضافة إلى الأسماء المفردة، أما البنى التركيبية فقصد بها: جميع أنواع الجمل الموجودة في المتن الأدبي المراد مقاربته كالجملة الفعلية أو الجملة الإسمية أو الأنواع الأخرى من الجمل بحسب التصنيف الذي يتبناه القارئ السيميائي.
3/التناص: وحول هذه النقطة يبين الباحث موقفه قائلا: «إن المبدع لا يبدع من العدم، بل أن الذاكرة الشعرية أو الروائية أو المسرحية تظل حاضرة وبقوة في لحظة ميلاد الإبداع والمبدع الذي لا يتأثر لا يمكنه ان يكون كاتبا بل مستكتبا»[18] ، وللتناص مستويات عدة منها الامتصاص والاجترار. وقد أضاف الباحث آليات إجرائية أخرى مثل: سيميائية التشاكل والتباين وسيميائية الاختيار والتأليف، وسيميائية الثنائيات الضدية، وسيميائية الشخصيات والمكان.
في نهاية هذه الرحلة الشيقة في عالم المنهج السيميائي يمكننا القول أنه وبالرغم من الجهود المبذولة للتأسيس لهذا المنهج ورسم أطر واضحة له إلا أنه لم ينج من الانتقاد، بوصفه قرر التعامل مع النص الأدبي بمعزل عن الخارج، وهذا المبدأ كان كافيا لتوجيه أصابع الاتهام له، ومن بين التهم أو بالأحرى المآخذ التي رصدت عنه نذكر:
- اغفاله للسياق التاريخي والاجتماعي، والنفسي للنص الإداعي في علاقته بالمحيط الخارجي الذي أوجد النص الإبداعي، أو الذي أملى على الأقل وجوده.
- العمل على تقزيم صورة المؤلف، وهو جهاز انتاجي لأنه ينتج النص، وكثيرا من المسائل والدلالات التي لا تتضح ولا تتكشف إلا بالعودة لظروف المؤلف.
- تغييب الذات، أو الإرادة الإنسانية، فالنص الإبداعي تنتجه ذات مبدعة، وتقاربه ذات ناقدة، وعملية القراءة (أي النقد والمقاربة) تستدعي لقاء بين الذاتين، وهو اللقاء الذي يثمر مجموعة من الدلالات، وهي دلالات غير نهائية.
نتوقف عند النقطة الاخيرة، لنقول أن إهمال المنهج السيميائي لدور القارئ (أي المتلقي) في قراءة النص ومقاربته، قد عجل بميلاد منهج نقدي أو بالأحرى نظرية نقدية جديدة، تولي اهتماما بهذا الطرف (أي المتلقي) جاعلة إياه عنصرا فعالا في مقاربة النص الأدبي واستظهار جمالياته الفنية، وهذه النظرية هي: (نظرية التلقي).وهي ثاني توجه نقدي سار حذوه، وامتطى صهوة جواده الدكتور: عمر عتيق، وهو يقارب أزيد من عشرين خطابا سرديا تراوح بين الرواية والقصة القصيرة.
2-2-نظرية التلقي:
سنحاول في هذه النقطة استظهار أهم المحطات في مسيرة هذه النظرية وبدءا بالمفهوم والتصور المتعلق بهذه النظرية، تليه إشكالية المصطلح –والتي لا تكاد نظرية أو منهج نقدي يخلو منها كما أوضحنا سالفا مع المنهج السيميائي، وتعدد تسمياته– وأخيرا الجذور الفلسفية، والمعرفية المؤسسة لهذه النظرية ما بعد الحداثية.
فعن المفهوم يمكن القول أنه ثمة فيض منها مبثوث بين ثنايا المتون النقدية –والتي تختص بالبحث والدراسة في المناهج النقدية والمعاصرة– غير أن ضيق الوقت لم يسمح أو بالأحرى لم يتح لنا فرصة الاطلاع أكثر، غير أن ما حصلنا عليه كان كافيا لتقديم ملمح عام عن هذه النظرية النقدية. ومن جملة المفاهيم التي عثرنا عليها نذكر:
- «نظرية التلقي هي فتح منهجي نقدي جديد، ظهر في ألمانيا في مرحلة الستينات من هذا القرن، ويمثله أعلام كبار من النقاد، الذين كان لهم الفضل في التنظير لجمالية التقبل، والكشف عن الطريقة التي يتم بها تلقي الآثار الأدبية، حيث نجدهم انتقلوا بالنقد الأدبي من حقل المناهج النسقية إلى حقل المناهج القرائية، التي تجعل من القارئ الحكم والرئيس في تأويل معاني النص، وانفتاح دلالاته»[19].
- «نظرية التلقي هي واحدة من أهم نظريات ما بعد الحداثة، ظهرت حوالي 1960 بألمانيا بالتحديد من جامعة كونستانس على يد العالمين: هانز ياوس، وفولف جانج ايزر، وهي النظرية النقدية التي انتصرت للقارئ أو بالأحرى المتلقي وإذ أعادت الاعتبار له بعدما أغفلته المناهج السياقية والنسقية على حد سواء»[20].
إن المتأمل لمفهومي نظرية التلقي السابقة، يلحظ أنهما تضمنا التصور ذاته عن النظرية، من حيث هي إحدى نظريات ما بعد الحداثة وتوجه نقدي جديد، كان ظهوره الأول في ألمانيا، وأهم ما دعت إليه هذه النظرية هو إعلاء سلطة المتلقي الذي كانت المناهج السياقية والنسقية قد أغفلته في مدار مقارباتها، فالمناهج السياقية (أي المناهج النقدية الحديثة) والتي تضم المنهج التاريخي والاجتماعي والنفسي، نجدها قد اهتمت بدراسة النص الأدبي من خلال لسياق خارجي، سواء تاريخي أو اجتماعي او نفسي، أو حتى حياة الكاتب. بينما نجد المناهج النسقية (أي المناهج النقدية المعاصرة) كالسيميائية والبنيوية والأسلوبية، والتفكيكية قد اهتمت بدراسة النص الأدبي من الداخل أي من خلال النسق اللغوي الداخلي.
إذن ثمة تقصير بل إجحاف في حق المتلقي في القيام بدوره كعنصر فعال في قراءة النص الأدبي ومقاربته، وقد استعاد هذا الحق مع نظرية التلقي التي نظرت إلى النص الأدبي على أنه رسالة من مرسل إلى مستقبل، مؤكدة بذلك على الدور الإيجابي والفعال الذي يلعبه المستقبل وأكثر من هذا جعلت منه مبدعا آخر للنص الأدبي وبمعنى أن نظرية التلقي رأت في عملية التلقي عملية ثانية للإبداع، وهذا ما يفرض بل ويلزم بوجود قارئ متميز، قارئ ذو ثقافة عامة عميقة، وخبرة طويلة تؤهله لسبر أغوار النص الأدبي، وتسهل له الوقوف على أهم أسراره وجمالياته الفنية.
هذا عن مفهوم نظرية التلقي، أما فيما يتعلق بقضية إشكالية المصطلح، وتعدده، فيمكن القول أنها قضية دائمة الحضور تقريبا في أغلب المناهج والرؤى النقدية، بمعنى لا تكاد نظرية نقدية تخلو من تعدد المصطلح، ونظرية التلقي مثلا يحضر في حقلها، ويسبح في فلكها مصطلحين اثنين هما: (الاستقبال والتلقي) وغير أنهما في حقيقتهما لا يقودان إلى الدلالة ذاتها، هذا من جهة، ومن جهة ثانية نجدهما يختلفان أيضا من حيث المنطلقات، والمرجعيات الثقافية التي أوجدت أو بالأحرى أنتجت كل منهما، نفصل أكثر ونقول أن نظرية الاستقبال ولدت في النقد الأمريكي الحديث ضمن ما يعرف بالنقد الانجلوسكسوني، وينسب إلى مجموعة من النقاد وهم: (جوناثان كيلر، ونورمان هولاند، وديفيد بليش، ومايكل ريفاتير)، أما نظرية التلقي فقد ولدت في المانيا، مستمدة رؤاها وتصوراتها من الفلسفة الظاهراتية، والفلسفة التأويلية ومن أهم أعلامها وروادها نذكر: (ايزر، وياوس، وفيش)، وبالرغم من وجود اختلافات بينهما (أي نظرية الاستقبال ونظرية التلقي) إلا أنهما يجتمعان في نقطة هامة وهي: إعطاء الاهتمام للقارئ في عملية فهم النص، وتأويله ومن ثم إنتاج الدلالة.
لقد سبقت الإشارة إلى الجذور الفلسفية لنظرية التلقي، والمتمثلة في فلسفتين اثنتين كان لهما الفضل الكبير في تشييد معمارية هذه النظرية، وهما:
1 – الفلسفة الظاهراتية: ويتزعمها “ايدموندهوسرل” الذي يرى أن: «المعنى الموضوعي ينشأ بعد أن تكون الظاهرة معنى محضا في الشعور أي بعد الارتداد من عالم المحسوسات الخارجية إلى عالم الشعور الداخلي الخاص، ويعني هذا أن إدراك معنى الظاهرة قائم على الفهم، ونابع من الطاقة الذاتية الخالصة الحاوية له، وهذا ما يصطلح عليه (بالتعالي)، فالمعنى هو خلاصة الفهم الفردي الخالص»[21]
2 – الفلسفة التأويلية: ويمثلها العالم “هانس جورج غادامير” صاحب مصطلح “الأفق التاريخي” إذ يرى أنه: «لا يمكن وجود تحقق خارج زمانية الكائن لا تسمح باندماج الأفق الحاضر بالأفق الماضي، فتعطي الحاضر بعدا يتجاوز المباشرة الآنية، ويصلها بالماضي قيمة حضورية راهنة تجعلها قابلة للفهم، وفق هذا التصور تتم عملية فهم التاريخ، ومعه فهم النصوص الأدبية التي لا تختلف بأي حال من الأحوال عن التاريخ إلا في عنصر التخييل مادامت تستثمر التاريخ لتشكل معماريتها السردية»[22].
في ختام هذه الجولة التي قادتنا للإبحار في فضاء توجهين نقديين بارزين هما المنهج السيميائي، ونظرية التلقي، وذلك بعرض مفهومهما، وإشكالية وتعدد المصطلح فيهما، وأهم الجذور الفلسفية، والمعرفية التي شكلت منطلقا لهما. يمكن القول أنهما من أكثر الرؤى النقدية مقدرة على استنطاق النصوص الأدبية الحديثة، وربما يمكن إرجاع ذلك إلى تزامن ظهور المنهج السيميائي، ونظرية التلقي مع ظهور النص الأدبي الحديث خاصة السردي منه، وقد عرضنا ذلك –وبشكل مسهب– ونحن بصدد الحديث عن تجليات الحداثة في الخطاب الروائي، حيث قلنا بأن الرواية العربية الحديثة ظهرت في فترة الستينات من هذا القرن.
3- قراءة في كتاب: ” قضايا نقدية معاصرة في الرواية والقصة القصيرة” لعمر عتيق
3-1-في مضامين الكتاب:
لقد بدأت الحداثة بوصفها نقدا للدين، والفلسفة، والاخلاق، والقانون، والتاريخ، والاقتصاد، والسياسة وكان النقد أبرز مواصفاتها وسماتها وكل ما يمثله العصر الحديث كان من صنع النقد وبمعنى كونه منهجا في التقصي والخلق والفعل، والمفاهيم الاساس في العصر الحديث كالتقدم والتطور والثورة والحرية والديمقراطية والعلم والتكنولوجيا تعود بأصولها الى النقد.
من هذا المنطلق ويمكننا اعتماد خطاب “قضايا نقدية معاصرة” في الرواية والقصة القصيرة” لعمر عتيق كوسيلة مثلى تساعدنا في استظهار بعض تجليات الحداثة في الخطاب النقدي المعاصر، وذلك لما اشتمل عليه من مقاربات نقدية رائدة ومجدية، كان صاحبها الدكتور “عمر عتيق” قد استند من خلالها على جملة من الأدوات المفاهيمية والآليات الاجرائية المتعلقة بإحدى مناهج النقد المعاصر إلا وهو”المنهج السيميائي” إلى جانب “نظرية التلقي”.
وعن “قضايا نقدية معاصرة في الرواية والقصة القصيرة” يمكن القول انه عبارة عن منجز نقدي من تأليف الكاتب الفلسطيني: “عمر عتيق”، وقد اصدرته دار دجلة بالأردن عام 2016، وهو يقع في حوالي 238 صفحة، وقد ضمنه صاحبه جملة من المقاربات النقدية لأزيد من عشرين نصا سرديا تراوح بين جنسين سرديين هما: الرواية والقصة القصيرة، وأن هذا الجمع بين هذين الجنسين السرديين بالذات لم يكن بمحض الصدفة والاعتباطية، بل لاعتبارين هما:
أولا: أن القصة الصغيرة والرواية نوعان سردييان، اي انهما معا ينتميان الى جنس واحد وهو السرد.
ثانيا: لأن ثمة من النقاد والباحثين من يرى أن: «القصة هي في آن واحد: ام الرواية واختها، فهي أمها لأن الرواية لا يمكنها أن تتشكل إلا من رحم القصة القصيرة جنسيا، وهي أتها عندما تستقل كل منهما بذاتها نوعيا، فالرواية حسب هذا التصور تتغذى من أمها، ولكنها تزاحمها المكانة حين تصبح أختها، وتلك هي المفارقة النوعية التي تقضي بتقارب الأنواع وتداخلها واستقلالها عن بعضها إلى الدرجة التي يصير كل نوع قابلا لان يحجب الاخر، أو يجعله يختفي حتى وهو يتغذى منه، أو يستفيد مما يمده به من نسغ للبقاء والاستمرار»([23]).
ومما لاحظناه على مقاربات عمر عتيق النقدية للمتون السردية المختارة من قبله طبعا هو حرصه الشديد على اعتماد آليات إجرائية معينة دون غيرها، هذه الآليات الإجرائية التي فضلنا أن نطلق عليها تسمية العتبات النصية، هذه لأخيرة التي وصفت بالتعدد والتنوع بحسب وعي الكاتب لأهميتها وضرورتها وقوة حضورها وتأثيرها في سياق المتن النصي من جهة، وبحسب حاجة المدون الروائي لها من جهة ثانية، وقد جعل الناقد عمر عتيق كل من (العنوان / الغلاف/ المضمون) على رأس قائمة هذه العتبات النصية معتبرا إياها تشكل مثلث الإبداع وإن أي خلل في التواصل بين أقطاب هذا المثلث سيؤدي حتما إلى حدوث فجوة بين المتلقي والنص، وإلى تقصير المبدع في تشكيل النص السردي([24])، وقد أضاف الناقد عمر عتيق عتبات نصية أخرى شملت الفضاء الإنساني وقصد به الشخصيات، والفضاء المكاني، الفضاء الزماني، والتناص بوصفه تلك العلاقة التي تجمع بين السرد المعلن، والسرد المضمر والتناص ههنا يتم وفق مسارين :
الأول: تناص معلن يطفو على سطح الحدث، ويرسم علنا الأبعاد الفكرية والوجدانية للشخصية القصصية، ويحيل المتلقي إلى فضاءات خارجية بيسر وسهولة وفق المخزون المعرفي للمتلقي([25]).
الثاني: تناص مضمر تخفيه أصوات الحدث السردي، ويشير للبنية النفسية الداخلية للشخصية القصصية، ويحتاج الى متلق قادر على تجاوز السرد المعلن إلى سرد خفي يحيل أيضا إلى فضاءات خارجية لم يعلن عنها النص([26]).
أما عن الهدف من تأليف هذا المنجز، فقد أعرب عنه صاحبه بقوله: «يهدف الكتاب إلى فتح آفاق جديدة في تلقي النص السردي، ومسائلة المبدع عن الأساليب البنائية للرواية والقصة القصيرة، وذلك بتطبيق أبرز آليات قراءة النص السردي المستمدة من نظرية التلقي، والمناهج النقدية المعاصرة»([27]).
كما تطرق الناقد عمر عتيق في منجزه النقدي إلى إبراز نقطة الاختلاف أو بالأحرى الفرق الشاسع بين القراءة العفوية، والقراءة المنهجية للأثر الأدبي معتبرا أن: «القراءة المنهجية تفضي إلى الكشف عن جماليات السرد، والتي لا تتجلى في القراءة العفوية التي لا تستند إلى معايير ورؤى نقدية، كما أن القراءة المنهجية تكفل مساءلة المؤلف، أو الكاتب عن التقنيات الفنية والأسلوبية والبنائية من قبل المتلقي الذي يصبح منتجا ومشتركا في النص السردي»([28]).
ومن النقاط الهامة التي أكد عليها الناقد: عمر عتيق في منجزه هذا هو أن الموضوعات التي تضمنها كتابه لا تقتصر إفادتها وجدواها على المتلقي فحسب، بل إن المبدع (روائي/أو الكاتب) معني هو الاخر بضرورة معرفة المواصفات الموضوعية التي تقتضيها القراءة المنهجية.
إنه وقبل طي هذه الورقة، وجب علينا الإشارة إلى أن عمر عتيق في منجزه هذا–والذي هو محل الدراسة–لم يتناول قضية العتبات النصية الواجب معرفتها نظريا وممارستها إجرائيا ضمن إطار المقاربة النقدية فحسب، بل نجد أن ثمة قضايا نقدية أخرى لا تقل أهمية عن قضية العتبات النصية ونذكر منها:
أولا: قضية توظيف اللغة العامية: أو ما اطلق عليه سمة “التراكيب الشعبية”، وقد عد مثل هذا التوظيف بمثابة الانزياح اللغوي، لأن التراكيب الشعبية في الخطاب السردي –وفق وجهة نظره– ما هي الا نوع من الايقونات اللغوية الفاعلة وفق الرؤية السيميائية، كما أنها تشكل –حسبه– منبها بصريا وذهنيا لدلالة ما. ولا ننسى أن نشير في هذه القضية إلى راي شمس المعرفة –كما يلقب–ا لأديب الراحل “طه حسين” حول توظيف الكتاب للغة العامية، و إدراجها في ثنايا متونهم الأدبية ، إذ نلفيه يقول –بعدما وجه له سؤال حول موقفه من المعركة بين الفصحى والعامية ، والتي وصلت إلى حد التهم السياسية–: «ما زلت من أنصار الفصحى، ومن خصوم العامية، وليس معنى هذه الخصومة أني لا أحب أن تدخل جملة، أو جمل قليلة في كتاب من الكتب باللغة العامية، وإنما الذي أكرهه ، هو أن تكون الكتابة كلها باللغة العامية، وتنبذ اللغة الفصحى نبذا تاما، وربما يجوز استعمال بعض الألفاظ ، أو المصطلحات العامية، أو الجمل إذا عجزت الألفاظ ، والجمل بالفصحى عن تأدية المعنى، أو الغرض المراد من قبل المتكلم، وإن توظيف العامية مظهر قديم تكلم ” الجاحظ ” عنه في القرن الثالث للهجرة ، فقال بأن هذا لا بأس به إذا احتيج إليه، ولكن بشرط أن لا تكتب مباشرة، ودائما باللغة العامية»([29]) .
ثانيا: قضية تداخل الأجناس الأدبية في الرواية : فالرواية في قدرتها على استيعاب مختلف الأجناس الأدبية صارت شبيهة إلى حد ما بالإسفنجة التي تمتص كل ما تسقط عليه، وبالإعصار كونها تجرف كل ما تصادفه في طريقها، ولربما كانت نتيجة هذا التداخل ميلاد ما يعرف بـ “النص المفتوح”، وقد أرجع عمر عتيق سبب هذا التداخل إلى مساحة الحرية المتوافرة في تقنية السرد، وهذا ما كنا قد اشرنا إليه من قبل –وبالتحديد– في مقدمة هذه الدراسة.
من النقاط الهامة التي طرحها عمر عتيق في هذه المحطة هي قدرة الخطاب النقدي –على خلاف غيره من الخطابات– على رصد إشكالية تداخل الأنواع الأبية الأخرى، غير أن هذه المهمة من المتوقع أن تزداد صعوبة على النقد وذلك في حال ما أصبحت الرواية كتابا إلكترونيا مصحوبا بالوسائط المساندة التي تمنح النص الروائي مؤثرات صوتية، أو تسجيل صوتي، وصور صامتة وناطقة، بل قد يصل الأمر إلى مقاطع مرئية وغيرها من الوسائط المساندة، حينئذ فإن الخطاب النقدي سيواجه تحديا حقيقيا لإشكالية تداخل الأجناس الأدبية)([30]).
في ختام هذه الورقة لا يسعنا إلا القول بأن كتاب “عمر عتيق” الموسوم بـ: “قضايا نقدية معاصرة في الرواية والقصة القصيرة” هو –بحق– وثيقة نقدية هامة ومرجع نقدي ذو قيمة معتبرة لا يمكن لأي باحث الاستغناء عنه كونه يمكن أن يتخذ منه أداة مساعدة تمكنه من التخلص من هاجس التخوف من مقاربة النصوص الأدبية (شعرية كانت او سردية) وفق عتبات نصية وآليات إجرائية تنضوي تحت لواء منهج نقدي معاصر كالسيميائية أو تحت لواء نظرية نقدية حداثية معاصرة كنظرية التلقي.
3 – 2- العتبات النصّية في مقاربات عمر عتيق النقدية:
إنه وقبل الولوج إلى إبراز أهم العتبات النصية التي اعتمدها الناقد “عمر عتيق” في مقارباته النقدية كآليات إجرائية لمنهج نقدي معاصر، وهو “السيميائية”، ونظرية حداثية وهي (نظرية التلقي)، ارتأينا أن نقدم بعض المفاهيم العامة، والمختصرة لما أطلق عليه بـ “العتبات النصية” وأهم التسميات التي نسبت إليها.
فعن مفهوم العتبات النصية يمكن القول:
- «إنها شبكة المرفقات النصية المحيطة بالنص، التي تعد مفاتيح إجرائية أساسية يستخدمها الباحث لاستكشاف أغوار النص المتن وتكمّله وتتمه»([31]).
- «هي البوابة الرئيسية للدخول قرائيا إلى بهو النص الروائي ، والتعرف على متاهاته، ولمّس أسرار لعبته، وإدراك مواطن جمالياته»(2).
- «هي التي تسيّج النص وتسميه، وتحميه، وتدافع عنه وتميّزه عن غيره، وتعيّن موقعه في جنسه، وتحثّ القارئ على اقتنائه»(3).
أما عن التسميات التي نسبت إلى مصطلح العتبات النصّية، فيمكن حصرها فيما يلي:
- العتبات النصّية عند جيراجينيت Genette.
- هوامش النص عند هنري ميتران Mitterand.
- العنوان بصفة عامة عند شارل كريفل Grivel.
أو ما يسمى اختصارا بالنص الموازي Le paratesite نأتي الآن على ذكر أبرز العتبات النصّية في مقاربات عمر عتيق النقدية، والتي أورد ناها وفق الترتيب الآتي:
أولا: عتبة العنوان
يّعد العنوان من بين الالتزامات الأساسية التي لا يمكن لأي كاتب أن يحيد عنها، بمعنى أنه لابد لأي كاتب أن يضع عنوانا معينا لكتابه وإلا فإن مسألة التداول مع القارئ ستغدو صعبة. فالعنوان هو العتبة الأساسية التي تشيّد العلاقة المفترضة بين الكاتب وقارئه([32]).
ومن العناوين التي استقطبت انتباه الدكتور عمر عتيق :”من قتل ليلى الحايك؟” وهو عنوان لرواية من تأليف: غسان الكنفاني فما يلاحظ على هذا العنوان هو اشتماله على جملة استفهامية لافتة وشائقة، تحث القارئ لمعرفة قاتل “ليلى الحايك”.
كما نلاحظ أن هذا العنوان يعمل على توليد –إن صح التعبير- فيض من الأسئلة منها: لم قتلها؟ كيف وقعت الجريمة؟ ومن المتهم؟ ومن البريء؟. وإن هذا التناسل والتوالد في الأسئلة لدافع مهم ومحفز أساسي للاستغراق في قراءة الرواية([33]).
ومن العناوين التي شكلت علامة سيميائية، ونافذة يستشرف منها المتلقي آفاق المضمون القصصي نذكر “الإعصار والمئذنة” للكاتب والمؤرخ : “خليل عماد الدين” (فالإعصار) يشير في دلالته إلى الحشود العسكرية التي اجتاحت مدينة الموصل، وأجهضت الثورة عام 1959، والعناصر القيادية في حركة أنصار السلام الشيوعية، و(المئذنة) فتشير دلالتها إلى الفضاء الفكري العقائدي لرجال الثورة، وهاتان الدلالتان تشكلان بؤرة الثنائيات الكبرى في الرواية([34]).
بمعنى أن عنوان : (الإعصار والمئذنة) هو إحالة دلالية على ثنائية (الشر والخير)، وثنائية ( الإيمان والعصيان) هذه الثنائية التي مثل قطبيها مجموعة من الشخصيات الروائية، والتي تندرج تحت لواء قطب من أقطاب هذه الثنائية كما هو مبين في الجدول ادناه :
دلالة الشر | دلالة الخير |
الإعصار | المئذنة |
|
ثانيا: عتبة الغلاف
ما يلاحظ هو وجود توافق إلى حد كبير بين دلالة عنوان الرواية “الإعصار والمئذنة” وبين الغلاف، وهذا أمر بديهي، باعتبار أن الغلاف ما هو إلا نص بصري يفضي التأمل فيه إلى علائق نفسية ودلالية بين الغلاف، والعنوان، والمتن.
فمشهد الإعصار الذي يلوح في غلاف الرواية يبدو قاتما ، ومثقلا بالرياح العاتية، يناظر، ويوازي مشهد الحشود العسكرية التي حاصرت الموصل، وصورة المئذنة هي علامة سيميائية تحيل على سمات الصلابة والثبات وقوّة الإيمان التي تحلت بها سلمى، ووالدها الشيخ هاشم.
وإن مشهد (الإعصار والمئذنة) لا يحيل على صفات الشخصيات فحسب بل يحيل أيضا على أهم أحداث الرواية وهو ما وضحناه في الجدول الآتي:
المشهد الأحداث التي يحيل عليها | الإعصار | المئذنة |
|
فالإعصار إذن هو رمز النهاية المأساوية لسلمى، والمئذنة هي رمز يحيل على قوّة إيمانها، ثباتها على الحق، وتمسكها بموطنها ، مسقط رأسها، ومهد طفولتها. مدينة الموصل
ثالثا: عتبة الشخصيات
من الملاحظات الهامة التي أشار إليها عمر عتيق، بشان هذه العتبة، هو أن وضع القاص لأسماء شخصيات عمله السردي (قصة كانت، أو رواية) لا يكون بمحض الصدفة أو الاعتباطية ، بل ثمة نوايا مسبقة تتعلق بوجود دلالات وإيحاءات تنسجم مع السياق النفسي للقصة، أو مع صفات الشخصية، وقد تكون متناقضة مع صفاتها بهدف مضاعفة يقظة القارئ.
ومن هذا المنطلق نجد أن عمر عتيق قد وضح شكل العلاقة بين اسم الشخصية وصفاتها: في قصص “عيون بهية” لعصام أبو فرحة من خلال مسارين مختلفين:
- المسار الأول: وعنونه: (التوافق الدلالي بين اسم الشخصية وصفاتها) وقد مثل لهذا المسار بشخصية (غزوان) التي رسم من خلالها القاص ملامح جسمية ونفسية تتلاءم واسم (غزوان) من أنه «طويل القامة، اسمر البشرة، … لا يرضى الظلم ولا ينام مغلوبا، ولا يغيره قول (لا) في أي مكان وأي زمان»([35]).
- المسار الثاني: وعنوانه: (التناقض الدلالي بين اسم الشخصية وصفاتها) بمعنى أن ثمة تعارض وتناقض واضح وجلي بين اسم الشخصية القصصية وصفاتها، وقد مثل لهذا المسار بشخصية (رضا) في قصص: عيون ملتهبة لـ: عصام أبو فرصة، فشخصية رضا في النص السردي تمثل انحرافا عن المألوف وانزياحا حاد عن دائرة توقع الحدث من قبل المتلقي، فدلالة الاسم لا تتفق مع الملامح الجسمية وهذا ما يبدو في قول السارد: «تعابير وجهه لا تناسب اسمه الذي يحمله… فاسمه رضا وليس في قسماته أي علامات للرضى، عابس طول الوقت… حتى أن ملامح وجهه قد أخذت نصيبها من عدم الرضى فباتت تعكسه بشكل جلي».
وقد نوه عمر عتيق في هذه المحطة إلى أن توافق اسم الشخصية في العمل الروائي مع صفاتها وملامحها وسلوكها تعتبر بمثابة تقنية سردية تتصف بالتوقع المألوف والسلاسة في تلقي الحدث بوصفها تحافظ على تفاعل القارئ مع الحدث، ولا تحمل في ثناياها “مفاجآت” في مسار الحدث. بينما التناقض بين اسم الشخصية وملامحها وصفاتها وسلوكها هو تقنية سردية وتنضوي ضمن المفارقة الدلالية التي تعد من أبرز تقنيات الإثارة والتشويق في بنا النص السردي([36]).
إن التصور الذي طرحه الناقد “عمر عتيق” بشأن ” عتبة الشخصيات ” أو بالأحرى ” سيميائية الشخصيات ” يتوافق – وإلى حد كبير- مع التصور او الطرح الذي قدمه الكاتب ” منير الزامل ” في كتابه الموسوم ” التحليل السيميائي للمسرح ” – وبالتحديد – في الصفحة السابعة ، بل نجده قد قدم إضافة أخرى لم يشر إليها الناقد ” عمر عتيق ” في منجزه النقدي وهي الشخصية الحيادية ، ولتوضيح الأمر أكثر نورد ما جاء على لسان الكاتب ” منير الزامل”: «… إن دراسة سيميائية الشخصية في جانبها التطبيقي يعني، أن يتم التعمق في إبراز الأهمية التحليلية لاسم الشخصية، هذه الأهمية التي لا تقل عن أهمية العنوان في معرفة كنه الشخصية، فتشكل وفق الاسم أنواع تم اقتناصها من القاموس العربي، مثل الاسم المطابق للمسمى عملا ووظيفة، والاسم المخالف للمسمى، وثمة الاسم في الدرجة الصفر، ومهمته الحياد، ولا يدخل في تركيب الشخصية وظيفيا»([37]).
رابعا: عتبة المكان
يجسد المكان الحاضنة الاستيعابية، والإطار العام الذي تتحرك فيه الشخصيات، وتتفاعل معه، وأي نص مهما كان جنسه الأدبي لابد أن يتوافر على هذا العنصر ما دام فعل الحكي هو الأساس الذي ينطلق منه ويعود إليه، ويستظهر من خلاله، بواسطة آلياته وقوانينه([38]).
لذلك يعد المكان السردي متخيلا أي معبرا عنه بألفاظ وصيغ وحالات، ورؤى وصور خيالية، يتيح مخيلة الروائي للراوي استكشافه والتعمق فيه، ومن ثم رسم حدوده وملامحه(2).
ومن التقنيات الفنية التي وظفها الناقد “عمر عتيق” وهو يطأ عتبة المكان هي توافق البعدان الدلالي والنفسي للمكان مع العناصر السردية الأخرى، وقد مثل لذلك من خلال ما ورد في رواية “الإعصار والمئذنة”، ففي وصف مناخ الموصل قبيل الأحداث الدامية ، مزج السارد بين الأحوال الجوية، والحالة النفسية مزجا دلاليا وفنيا في قوله: «ومع البرد والمطر كان يحاصر الناس زمهرير الخوف والترقب والقلق بانتظار يوم قد لا يكون دافئا على أية حال»([39])، فتشبيه الخوف والترقب والقلق بالزمهرير، ناجم عن وحدة الشعور بالأحوال المناخية والسياسية، فلا فرق بين ارتعاش مفاصل الجسد من البرد، وخفقان القلوب خوفا وقلقا من الحالة السياسية المرتقبة(4).
في ختام هذا العنصر تشير إلى أننا لم نتطرق إلى جميع العتبات النصية التي طرق الناقد “عمر عتيق” أبوابها وهو يقارب نصوصه الروائية والقصصية، لأن المقام لا يسمح لنا بذلك، غير أننا نخال أن ما قدمناه كاف لفتح المجال أمام الدارسين والباحثين في حقل النقد الأدبي خاصة “السردي” لتتبع آثار بعض المتون السردية (رواية كانت أو قصة) والكشف عن أسرارها، وسبر أغوارها من خلال فتح بعض المنافذ الدلالية أو ما أطلق عليه الناقد “عمر عتيق” العتبات النصية. مثل عتبة العنوان والغلاف والشخصيات والمكان.
الخاتمة :
من أهم النتائج التي تمكنا من رصدها- ونحن بصدد البحث عن تجليات الحداثة في الخطاب النقدي المعاصر-، في هذه الورقة البحثية، الموسومة: “تجليات الحداثة في الخطاب النقدي المعاصر، قراءة في كتاب : “قضايا نقدية معاصرة في الرواية والقصة القصيرة ” لعمر عتيق نذكر ما يلي:
1/ إن الاستقلالية، والحرية هما من أبرز الصفات التي وسم بها الخطاب السردي، مما أهله ليكون عنصرا فاعلا في المشهد الثقافي المعاصر.
2/ من العوامل التي ساهمت في رواج الرواية، واتساع نطاق شهرتها غربيا، وكذا عربيا، هي الحركة النقدية التي لازمتها طوال مسيرتها، الحافلة بالنجاحات والاخفاقات.
3/ إن حداثة الخطاب الروائي تنجر عنها حتما حداثة في الخطاب النقدي، لأنه من غير المعقول مقاربة متن روائي حديث باعتماد آليات إجرائية نقدية كلاسيكية، وإن حدث وإن وقع هذا، فلن يكون إلا إجحاف في حق النص الروائي.
4/ تعد السيميائية، إلى جانب نظرية التلقي من أكثر المناهج النقدية المعاصرة قدرة على سبر أغوار النص السردي الحديث، وكشف أسراره، واستظهار دلالاته وكشف النقاب عنها من خلال تتبع العلامات اللغوية والغير لغوية القابعة خلف عتباته النصية الممثلة خاصة في (العنوان والغلاف والمكان والشخصيات).مع عدم الإغفال عن الدور الإيجابي والفعال الذي يقوم به المتلقي في مقاربة النص السردي والحكم عليه، بل وأكثر من هذا عد المتلقي مبدعا آخر للنص.
5/ المفكر والناقد الفلسطيني: “عمر عتيق” يعد –بحق– من أكثر النقاد العرب الذين فلحوا في تتبع آثار الخطاب السردي من خلال مقارباته النقدية المميزة ولأكثر من عشرين نصا سرديا، معتمدا فيها على أدوات مفاهيمية وآليات إجرائية تنتمي إلى حقلين نقديين معاصرين هما: “السيميائية، ونظرية التلقى”، فقلة هم أولئك النقاد الذين يجيدون استعمال هذه الآليات، وبمهارة وحنكة ودقة متناهية تضاهي دقة، وحنكة وبراعة الناقد “عمر عتيق”.
6/ لقد أظهر الناقد “عمر عتيق” -من خلال منجزه النقدي– براعة المتلقي، وخبرته، ومراسه التطبيقي، الذي يمكن أن نميزه عن باقي المتلقين العاديين، فقد أعاد تفكيك الرموز والشفرات الموجودة في النصوص الروائية والقصصية التي قام بمقاربتها، فأنتج نصوصا جديدة وليحقق في الأخير متعة للقراءة، ونموذجا رائعا يحتذى به في المقاربات النقدية.
7/ “قضايا نقدية معاصرة في الرواية والقصة القصيرة ” للدكتور: “عمرعتيق” هو–بحق– منجز نقدي متميز، ومرجع هام لا يمكن الاستغناء عنه، وأكثر من هذا يمكن عده بمثابة البلسم والدواء الشافي من سقم أطلقنا عليه “فوبيا المقاربات النقدية”، هذا النوع من الفوبيا هي هاجس تخوف غالبية الدارسين والباحثين في الدراسات الادبية -خاصة السردية منها– من تحليل النصوص ومقاربتها وفق آليات إجرائية تنتمي لحقل نقدي معاصر، رغم إلمامهم بالجانب النظري لهذا المنهج أو لتلك النظرية النقدية المعاصرة مثل الماهية والجذور الفلسفية، ومدار المقاربة……..الخ، بمعنى الغالبية تفلح في التنظير، وقلة هم فقط من يبرعون في الإجراء والتطبيق، لقلة الممارسة والتدريب خاصة من طرف أهل الاختصاص، فجل المحاضرات التي تلقى في مدرجات قسم الادب العربي –والتي يتمحور موضوعها حول المناهج النقدية –لا يكون الحديث فيها إلا عن الجوانب النظرية المتعلقة بهذه المناهج والنظريات النقدية المعاصرة، مثل التعريف بها، وأهم الأصول المعرفية، والجذور الفلسفية التي قامت عليها، وأبرز، وأشهر المصطلحات التي تسبح في فلكها …الخ، أما الجوانب التطبيقية المتعلقة بكيفية مقاربة النص الأدبي وفق آليات هذه المناهج النقدية المعاصرة فهي مغيبة من قبل الاستاذ المحاضر، ومجهولة من قبل الطالب أو الباحث الأكاديمي.
قائمة المراجع :
اولا : الكتب
- إبراهيم عبد الله: اعراف الكتابة السردية ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، لبنان، بيروت د.ط، 2019
- توريريت بشير : محاضرات في مناهج النقد الادبي المعاصر – دراسة في الاصول والملامح والاشكالات النظرية والتطبيقية – دار الفجر ، مصر ط1، 2006
- الحبيب عبد المجيد : الرواية العربية الجديدة واشكالية اللغة ، عالم الكتب الحديث ، اربد ، الاردن ، ط 1 ، 2014 ، ص172
- خمري حسين : فضاء المتخيل – مقاربات في الرواية – ، منشورات الاختلاف ، الجزائر ،ط1 ، 2002
- الزامل منير : التحليل السيميائي للمسرح – سيميائية العنوان – سيميائية الشخصيات – سيميائية المكان ،دار رسلان ، سورية دط ، 2014 ، ص 15
- صابر عبيد محمد و البياتي سوسن : جماليات التشكيل الروائي – دراسة في الملحمة الروائية مدارات الشرق لنبيل سليمان – ، دار الحوار ، اللاذقية ، سورية ط 1 ، 2018 ، ص229
- عتيق عمر : قضايا نقدية معاصرة في الرواية والقصة القصيرة ، دار دجلة ، الاردن ، عمان ، ط1 ، 2016
- فضل صلاح : شفرات النص – دراسة سيميولوجية في شعرية القص والقصيد – ، دار عين ، مصر، ط2 ، 1995 ، ص 6
- مرزوق حلمي علي : في النظرية الادبية والحداثة : دار الوفاء ، الاسكندرية ، مصر ، القاهرة ، دط ، دت ،
- النصير ياسين : الرواية والمكان ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، دط ، دت
- وغليسي يوسف : مناهج النقد الادبي ، دار جسور ، الجزائر ط 3 ، 2010 ، ص 107
- يقطين السعيد : قضايا الرواية العربية الجديدة – الوجود والحدود – و منشورات الاختلاف و الجزائر، ط 1 ، 2012 ، ص 46
ثانيا : المحاضرات
1 – بوذراع نادية : محاضرة بعنوان : محاضرات في النقد الادبي الحديث والمعاصر، مقياس (النقد الادبي المعاصر)،(السنة الثانية ليسانس)، قسم الادب العربي، كلية الآداب واللغات ، جامعة محمد دباغين ، ولاية سطيف، الجزائر، 2016 / 2017
2- بشير توريريت: محاضرة بعنوان: السميائية بين التنظير، مقياس (نقد حديث و معاصر) (السنة الثانية ماستر) قسم الأدب العربي، كلية الآداب و اللغات، جامعة محمد خيضر ولاية بسكرة، الجزائر، 2016/2017.
ثالثا : الحصص التلفزيونية
1 – التلفزيون المصري : ليلى رستم، برنامج : نجمك المفضل، نجيب محفوظ في لقاء مع الجمهور، قناة ماسبيرو، مصر، القاهرة جويلية 2016
2 – التلفزيون المصري : ليلى رستم ، برنامج نجمك المفضل و شمس المعرفة ، طه حسين مع نخبة من الكتاب ، قناة ماسبيرو، مصر، القاهرة ،جويلية 2016
رابعا: المواقع الالكترونية
1-http: //youty . be /gtgzi / ccjls4
2 – wikihttps: ،// ar. M.wikipedia.org
([1])حسين خمري: فضاء المتخيل –مقاربات في الرواية- منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1، 2002، ص 18.
([2])عبد الله ابراهيم: اعراف الكتابة السردية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لبنان، بيروت، دط، 2019، ص 125.
(*)هو من اكبر روائي ومسرحي الادب الروسي ويعتبر واحدا من مؤسسي المدرسة الواقعية في الادب الروسي في ق 19، كان يكتب بأسلوب كوميدي ساخر، وتعتبر رواية “نفوس ميتة” من اكبر رواياته مع انها لم تكن كاملة، لأنه احرق بقيتها قبل ان يتوفى.
([3])عبد الله ابراهيم: اعراف الكتابة السردية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، دط، 2019، ص 27.
(**)هي واحدة من المجلات المهمة والرئيسية في روسيا، وقد تأسست عام 1957 في الاتحاد السوفييتي.
([5])ياسين النصير : الرواية والمكان، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، دط، دت، ص 14 و15.
([6])التلفزيون المصري، ليلى رستم، برنامج : نجمك المفضل، شمس المعرفة نجيب محفوظ في لقاء مع الجمهور، قناة ماسبيرو، مصر، القاهرة، جويلية 2016.
([7])للمزيد راجع : بشير توريريت : محاضرات في مناهج النقد الادبي المعاصر – دراسة في الاصول والملامح والاشكالات النظرية والتطبيقية – دار الفجر مصر ، ط1، 2006.
[8]نادية بوذراع، محاضرة بعنوان: محاضرات في النقد الادبي الحديث والمعاصر، المقياس، النقد الادبي المعاصر، (السنة الثانية ليسانس)، قسم الادب العربي، كلية الاداب واللغات، جامعة محمد دباغين، ولاية سطيف، الجزائر 2016/2017.
[9]د. يوسف وغليسي: مناهج النقد الادبي، دار جسور، الجزائر، ط3، 2010 ،ص 107، نقلا عن، عبد الله بوخلخال: مصطلح السيميائية في البحث اللساني العربي الحديث، ضمن “السيميائية، والنص الادبي (اعمال الملتقى معهد اللغة العربية وآدابها)، منشورات جامعة عنابة،1995، ص 74.
[10]د. صلاح فضل : شفرات النص -دراسة سيميولوجية في شعرية القص والقصيد – دار عين، مصر، ط 2، 1995، ص 6.
[11]منير الزامل: التحليل السيميائي للمسرح –سيميائية العنوان– سيميائية الشخصيات– سيميائية المكان– دار رسلان، سورية، 2014 ، د ط، ص 15.
[12]د. حلمي علي مرزوق: في النظرية الادبية والحداثة، دار الوفاء، الاسكندرية، مصر، القاهرة، د ط ، د ت.
[13]د. بشير توريريت : محاضرات في مناهج النقد الادبي المعاصر – دراسة في الاصول والملامح والاشكاليات النظرية والتطبيقية – دار الفجر، مصر، ط1 ، 2006 ، ص 109.
[14]د. يوسف وغليسي : مرجع سابق ص 94.
[15]د. بشير توريريت : مرجع سابق ص 113.
[16] بشير توريريت: محاضرة بعنوان: السميائية بين التنظير، مقياس (نقد حديث و معاصر) (السنة الثانية ماستر) قسم الأدب العربي، كلية الآداب و اللغات، جامعة محمد خيضر ولاية بسكرة، الجزائر، 2016/2017.
[17]منير الزامل: التحليل السيميائي للمسرح – يميائية العنوان، سيميائية الشخصيات وسيميائية المكان، دار رسلان، سورية، دمشق دط 2014 ص 22.
[18]نادية بوذراع : مرجع سابق ص 66
[19]نادية بوذراع : مرجع سابق ص 66
[20]د. ابراهيم حجاج : كل شيء عن نظرية التلقي، http : //youty. Be/gtgzi/ ccjls4 .
[21] نادية بوذراع: مرجع سابق، ص 63.
[22] نفس المرجع ونفس الصفحة.
([23])سعيد يقطين: قضايا الرواية العربية الجديدة -الوجود والحدود- منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1، 2012، ص 49.
([24])عمر عتيق: قضايا نقدية معاصرة في الرواية والقصة القصيرة، دار دجلة الاردن، عمان، ط 1، 2016، ص3.
([26]) نفس المرجع، نفس الصفحة.
([29])التلفزيون المصري، ليلى رستم، برنامج نجمك المفضل: شمس المعرفة طه حسين وسط نجوم الفكر، والادب، قناة ماسبيرو، مصر، القاهرة، جويلية 2016.
([31])، (2)، (3) د/ محمد صابر عبيد ود/ سوسن البيّاتي: جماليات التشكيل الرّوائي، دار الحوار، سورية، اللاذقية، ط1، 2008، ص 38.
([32])الدكتور: عبد المجيد الحبيب: الرواية العربية الجديدة، وإشكالية اللغة عالم الكتب الحديث، أربد، الأردن، ط1، 2014، ص 172.
([33])عمر عتيق، مرجع سابق، ص 11.
([35])عمر عتيق، مرجع سابق، ص 36.
([36])عمر عتيق، مرجع سابق، ص 37.
([37]) منير الزامل، مرجع سابق، ص 07.
([38])، (2) محمد صابر عبيد ، د. سوسن البياتي : جماليات التشكيل الروائي، ص 229.