مقاربة السياق التاريخي في شرح الزوزني للمعلقات
Approche to the historical context in Al Zuzni Explanation of the seven mu allaqat
د.يماني مبريك ، رابحة يماني طالبة دكتوراه. جامعة طاهري محمد بشار الجزائر.
YAMANI Mebirik et YAMANI Rabah– Bechar University – Algeria
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 67 الصفحة 51.
ملخص:
تعالج هذه الدراسة مقاربة سياقية في شرح الزوزني للمعلقات، نتناولها بإيجاز يصبُّ في إطار السياق التاريخي، لِما حازته القصائد من أحداث ووقائع تاريخية جاءت مبثوثة في طيّاتها، وذكرت أيامها مصحوبة بأشخاصها تارة بأسمائهم وأخرى بكُناهم، وسجلت أزمنتها وأمكنتها.
وقد أبان الشارح بمنهجية التحليل السياقي الخارجي عن البطاقة الفنية لهذه الحدوث. بزمكانيتها، وشخوصها،
الكلمات المفتاحية: الشرح، المعلقات، السياق، الأحداث، الأشخاص، الزمان،
Abstract:
This study deals with a contextual approche to Al-Zawzani explanation of the mu-allaqat, and we deal With it briefly within the historical context of the events and historical facts That the poems acquired in their folds and mentioned their days .She is accompanied by their names,and later explainer explained the methodology of external contextual anlysis on the technical card for this occurrence (Mr. Sharif Ali Bin Muhammad Bin Ali Al-Jarjani,2009),p87
Keywords : pendants, context, space-time, events, people
مــــــــــــــقدمة:
مسّت عملية الشرح أبعاداً متعددة منها : التاريخية ،الاجتماعية، والنفسية بكل مستوياتها ،وتصدى لها الزوزني بالكشف والقراءة الواعية.
فارتأينا تناول هذه الدراسة لأهمية الموضوع، نهدف من وراء ذلك إلى مقاربة الشرح بالدراسات النقدية بشقيها النسقية والسياقية ،في الخطابات الأدبية الراهنة، وجعلنا المنهج التاريخي سبيلاً للدراسة.
وقد واجهتنا صعوبات بحثية، على الخصوص ما كان منها من خلو المجال السياقي في الدرس القديم من سوابق بطبيعة هذا البحث وكانت الجدة عملا أساسا سببت الوعر والمشقة في التحليل والمناولة.
فالقراءة التاريخية نبهت بقوة إلى أهمية ما كان خارج النص السياق، واستيعابه ويمكن أصحابه كيف ينتقلون من الواقع إلى القيم ومن الأبحاث المتخصصة للتأويلات والتركيبات.[1]
لا ينكر أحد ما للقراءة التاريخية من دور فعّال في إجلاء وكشف الدلالة التي يشي بها الأثر الأدبي
في العملية التحليلية.
وذهب ابن قتيبة صراحة إلى تداخل العملية التحليلية بصنوها الشرح الشعري ملمحا إلى اتباع منهج تاريخي تجلى في تصريحه هذا: قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة ، هذا كتاب ألفته في الشعراء أخبرت فيه عن الشعراء، وأزمانهم، وأقدارهم ،وأحوالهم في أشعارهم وقبائلهم وأسماء أبائهم، ومن كان يعرف باللقب أو بالكنية منهم، وعما يُستحسن تصريحه من أخبار الرجل ويُستجاد من شعره…”،وفي هذه العبارة إيماءات دلالية إلى الدراسة التاريخية السياقية في شروحه الشعرية مغلوثة بالتحليل النسقي بجميع أشكاله.
والذي أبعد اللَّبس في هذه العبارة ما نقصده بعملية التداخل بين التاريخ والسير ما عبر عنه ابن قتيبة بقوله: كما يستحسن من أخبار الرجل، أفادت الجانب التاريخي وعبارة يُستجاد من شعره أفادت الجانب العلمي، ولا شك في هذه الطريقة المنتهجة التي أخبرنا عنها ابن قتيبة في دراساته للمادة الشعرية أنها تنمُّ عن فرزٍ جليٍّ للحديث عن الجانب التاريخي في هذه المعالجة.
هكذا لم يكن الزوزني بعيدا عن هديه ،واحتذاء حذوه، فكانت أعماله تأرز إلى الدلالة التاريخية في جوانبها المتعددة، وما يتضمنه من عوامل في نطاق الإنتاج الشعري المشروح ،فأباَنَ عن هذه الجوانب سواء من الوقائع (الحدوث ) [2] التاريخية ،حيث الشخصيات التاريخية أو (مكانية لأحداث أو الأحداث بعينها، والوقائع التاريخية التي ساهمت في بلورة إنتاج الشروح الشعرية، وأمدَّتها بمادتها الخام لتوضيح معالمها، والوقوف في استجلاء معانيها ،بشكل سياقي خارجي يستمد مفاتيحه من ثقافة الشارح، وقدرته على التأويل والتحليل ،ولمعرفة هذه المستويات نعايشه في شرحه للمعلقات السبع، نكشف عن هذه التصورات الدلالية التاريخية بالوقوف عند توضيحه لها في بعض المواقف من النظم المعلقاتي .
السياق الأناسي:
تضمنت دراسة الزوزني للمعلقات السبع طرائق مختلفة في تفسيرها ،وفي هذا العمل نشير إلى تحليله السياقي ذي البعد التاريخي في مستواه الإنساني، ومنه شرحه لأبيات امرئ القيس.[3]
ويَوْمَ دَخَلتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيزَة **** فقالتْ لَكَ الوَيْلاَتُ إِنَّكَ مُرْجِلـــِي.
أَفَاطِمُ مَهْلاً بَعْضَ هذا التَّدلـّلِ **** وإن كُنْتِ أَزْمعت صَرْمِي فَأجْمِلِي.
وقف الشارح عند تلك الأسماء -التي ذكرت في البيتين -ليعرِّفها في شرحه بهذا المعنى: فإن عنيزة اسم عشيقته وهي ابنة عمه وقيل هو لقب لها واسمها فاطمة، وقيل بل اسمها عنيزة وفاطمة غيرها.
تعددت القراءة للأسماء، والشخص واحد هي امرأة لكن اختلاف الآراء دار حول اسمها أو لقبها، وفي البيت الثاني يكشف الشارح أن فاطمة اسم عنيزة، وعنيزة لقب لها فيما قيل كأنه يقوم بسرد السيرة الذاتية لمعشوقات امرئ القيس ،وذهب التبريزي إلى أن اسمها فاطمة ابنة عبيد بن ثعلبة بن عامر[4] ومهما يكن الاسم فإن الشارح يهيئ نفسه لإنشاء حالة مدنية >> <<Etat civil
لرسم التراجم والسير في حياة الشاعر ومن ذكرهن في نظمه سواء عنيزة أم فاطمة، فتحسس أخبارهن، وكشف عن تلك الألقاب والأسماء منقبا عن مصادرها وعن العلاقة التي تربطهن بالملك الضليل.
يطلق الشارح أسماء على شخص فاطمة، ويفصل بين الاسم واللقب ثم يستدرك بعبارة فيما قيل دلّت هذه العبارة على عدم تأكده لما ذهب إليه في هذه التعريفات كأنه متردد في معرفته لهذه الترجمة التي جاء بها تعريفا لقول الشاعر: أفاطم مهــــــــلا. كلمة “قيل” التي استعملها في الشرح أفادت عدم اليقين، ولاحت في أفق الظن والتخمين مهما يكن الأمر فإنه ومعه القارئ يجزمان قطعا أنها عشيقة الشاعر وجملة القول إن الزوزني في معلقة امرئ القيس تعرض لأصناف مختلفة وفئات متعددة من النــــاس:ومن هذا الحقل: كلمة العروس وتعد في نظر الخليل بزعمه حسب ابن فارس ان العروس نعت للرجل والمرأة على وزن فعول، انتهى تحليل الخليل[5]
ومنهم أيضاً:-طهاة اللحم. -العذارى(الطوافات). -العروس. -النساء عنيزة، فاطمة أم الحويرث، أم الرباب.
-فارس حاذق. -الصبي اللاعب(اللاهي)، الصبي الفارس. -الراهب المتقطع المتبتل والتاجر اليماني، والعطار وغيره.
فصّل الشارح في ذكر أصناف البشر في شرحه لمعلقة ذي القروح مرة وأجمل مرة أخرى، أما في معلقة طرفة بن العبد ذكر عدة أشخاص، وبين ماهيتها، ووضح مهامها وصفاتها بداية من مطلع القصيدة:
لِخوْلةَ أطْلاَل بِبرْقَةِ ثهمدِ **** تَلُوحُ كَبَاقِي الوَشْمِ فيِ ظَاهِرِ اليَـدِ.
إن الشاعر عرف من هي خولة، وأراد وصالها، ووقف على أطلالها بخلاف القارئ الذي لا يعرف منها إلا الاسم، ودلالته عن جنس الأنثى في التخاطب العرفي العربي فيجيء الزوزني ليمد الباحث عن كنه خولة، وهويتها من هي خولة ؟، قائلا خولة اسم امرأة كلبية ويجعل مرجعيته في استقاء الخبر رجلا من قبيلتها لقوله: ذكر ذلك هشام بن الكلبي، وفي قول الشاعر:[6]
كَأنَّ حُدوجَ المَالكيّة غُدوةً **** خلايا سفينٍ بالنواصفِ من دَدٍ.
يتساءل الشارح: من تكون المالكية؟ نعم دلّت اللفظة على أنها أنثى منسوبة إلى اسم مالك لكن ،من يكون مالك؟
كل هذه التساؤلات أغنانا عنها الشارح، وفصل مجملها وفك شفرتها، وكشف غامضها بقوله: كأن مراكب العشيقة المالكية (منسوب إلى بني مالك قبيلة من بني مالك) …فاستقر البال وهدأ الخاطر وانكشفت الحقيقة فلا حاجة لنا بعد فسره لوابل الأسئلة فتجلت المعاني على متصوراتها بارزة ظاهرة بإجابة شافية انماز بها الإبهام وبان بها الظلام، كعادته ينبري شارحا لقول الشاعر:[7]
عَدَوْلِية أوْمن سَفينِ ابن يَامـــــــنِ ***** يَجور بِهَا الملاَّح ُ طورًا ويَهتَدي.
تعددت الأسماء عدولية، ابن يامن، الملاح، وما نريده الجانب البشري، لمن نُسِبَتْ عَدَوْلِيَّة؟ ومن هو ابن يامن ؟، لو تركنا كما أراد البنيويون المجال مفتوحا، والفضاء واسعا والقراءات متعددة في فتح استغلاق البيت، وفهم مفاتيح الدخول إليه لم نُصِبْ ذلك لأن الأمر لا يتعلق بالنسق الداخلي لتركيب البيت الشعري ،بل يتجاوزه إلى البحث عن السياق ونوعه.
يتدخل الزوزني لفك الإشكالية، وتنوير القارئ بمعلومات سياقية خارجية أبى إلاّ أن يزودنا إيّاها
بشرحه: عدولي: قبيلة من أهل البحرين، ابن يامن: رجل من أهلها وروى أبو عبيدة: ابن نبتل وهو رجل آخر منها.
تعرض بالشرح لبيان أصناف الفئات البشرية في معلَّقة طرفة ومنهم: (خوله، مالكية ابن يامن أو ابن نبتل، المقامر، المفايل، الرومي، الفتية، الندامى الأحرار وابن عمه وغيرهم).
ويذهب ابن منظور إلى شرح معنى المفايل[8] التي وردت في قصيدة طرفة، بوضعها في صيغ صرفية مثل المفايلة ، والفيال ، والفيال : لعبة للصبيان، وقيل لعبة لفتيان الأعراب بالتراب
يخبؤون الشيءَ في التراب ثم يقسمونه بقسمين ثم يقول الخابىء لصاحبه في أي القسمين هو؟
فإذا أخطأ قال له فال رأيُك وذكر بيت طرفة:
يشق حبابَ الماء حيزومُها بها ***** كما قسم التّرب المفايلُ باليد.
وقد أخذت شروحه طريقها اللاحب في الكشف عن غامض النصوص بشكل جلي في مستواها الأناسي و نجمع أمثلة تتقارب شعرا في كل من معلقة زهير بن أبي بن سُلمى، ولبيد بن ربيعة، وعنترة بن شداد وكيف تمكن صاحب الشرح من تحليلها وما الإطار الذي صبّها فيه؟ وكيف تم إخراجُها لجمهور القراء؟
قال زهير بن أبي سلمى[9]
فَأقْسَمْتُ بِالبَيْتِ الذِي طَافَ حَولَه ***** رِجَالٌ بَنَوْهُ مِنْ قُرَيْشِ وَجُرْهُم.
يَمِينًا لِنِعمَ السيدان وُجدْتُمَــــــــا ***** على كُلِّ حَالٍ مِنْ سحيلٍ ومُبْرَمٍ
ومن معلقة لبيد: بل ما تَذَكَّرُ من نَوَار وقَد نَأتْ *** **** وتقطَّعَتْ أسبابُها ورِمامُهــــــا.
ومن معلقة عنترة بن شداد: وَلقَد خَشيتُ بِأن أمُوتَ ولم تَدُرْ **** للحربِ دائرةٌ على ابْنَيْ ضَمْضَمَ
فكان هذا حاله حتى ذكر صاحب العقد فرسان العرب في الجاهلية مبتدئا بعنترة بن شداد ملقبا إيّاه بعنترة الفوارس[10]
ومن معلقة عمر بن كلثوم وذَا البُرَّةِ الذي حدَّثت عَنــــه ***** به نُحْمـــــى ونَحمي المُلجئيــنَا.
وفي قول الحارث بن حلزة: حول قَيسٍ مُسْتَلْئِمين بِكَبشٍ **** قَرظَيٍّ كأَنـــَّــــه عَبْـــــــلاء
الذي شد انتباهي تلك القراءة السياقية التي قام بها لعدة أبيات تخلَّلت المعلقات وشرحه لقول ابن أبي سُلمى حينما يذكر الرجال الذين بنوا البيت وطافوا حوله، وهم قريش، وقد منّ الله عليهم أن أطعمهم من الجوع وآمنهم من الخوف إذْ قال تعالى: ((لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)) سورة قريش.[11]
وتعددت التعريفات للفظة قريش وقيل لِمَ سُميت قريشاً؟ وذهب صاحب القاموس المحيط إلى معان ٍكثيرة منها[12]قرشَه يقرُشه يقرشه قطعه وجمعه من هاهنا وهاهنا، وضمَّ بعضه إلى بعض، ومنه قريش لتجمعهم في الحرم.
ومثل ذلك جرهم، وجرهم يبين الشارح من هم هؤلاء؟ يقول جرهم: قبيلة قديمة تزوج فيهم عليه السلام اسماعيل ومعناه بالسريانية ” مطيع الله [13] ، فغلبوا على الكعبة ، و الحرم بعد وفاته عليه السلام، وضعف أمر أولاده ،ثم استولى عليها بعد جرهم خزاعة إلى أن عادت إلى قريش اسم لولد النضر بن كنانة. ويروى في الحسب الشريف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: أول من فتق لسانه بالعربية البينة اسماعيل وهو ابن أربع عشرة سنة.[14]
ثم يتقدم بعرض توضيحي للقبائل المتعاقبة على سدنة الكعبة، وخدمتها وتولي شؤونها من خلال شرحه لذلك البيت، وفي تفسيره لقول زهير: وهو يقسم ويمدح السيدين ،يا ترى من السيدان؟ لولا الشرح السياقي في مستواه الأناسي ما عُلِم السيدان يقول: هما هرم بن سنان والحارث بن عوف.
وفي شرحه لمعلقة لبيد في بيته السابق اكتفى بتفسيره: اسم امرأة عدولية يتشبب بها يعني الشاعر،وأثناء شرحه للبيت من معلقة عنترة وهو يذكر فيه ابنيْ ضمضم .
إذا لم ينتبه القارئ إلى السياق الخارجي يلتمس أدوات تمكنه من الدخول إلى أغوار النص لم يستطع معرفة مقصدية الشاعر. نتساءل: من هما ابنا ضمضم؟ فالشارح بمعرفته الواسعة لأنساب العرب، وإحاطته بمناسبة القصيدة في بيئتها التي قيلت فيها، أمكنه القول: بأن ابنيْ ضمضم هما هرم، وحصين.
لقد حشد لنا جمعا غفيرا من الأشخاص أثناء شرحه لمعلقة عمرو بن كلثوم منهم: (قبائل بني الطماح، دعمي، قبائل معدم جشم بن بكر، كليب وائل) أسماء الرجال والنساء، ذو البرة، كلثوم عتاب، زهير، مهلهل، أم عمرو، الملك عمرو بن هند).
تعرض لها بالشرح، ومنها شرحه للبيت السالف الذكر، وجاء بهذا التفسير: ولما لحقه ذلك الاسم ،كل ذلك بالشرح السياقي المتداول في الوسط الاجتماعي يومئذ.
وحين عالج معلقة الحارث بن حلزة انتهج الخطة التحليلية نفسها من بداية الشرح وآية ذلك ما قام به في الكشف عن البيت الذي تم ذكره ،بشرحه بهذه الصفة: وأراد قيس بن معد يكرب من ملوك حمير.
تحصل على هذه البطاقة الفنية لكثير من الأشخاص من خلال السياق الذي لم نجده في النص الشعري بل استند المحلل على الوسط الخارجي التاريخي في مستواه الشخصي، فأخرج للقارئ هذه البطاقة المعلوماتية لهذا الرجل الملك المغمور من الكنى، والألقاب ،فكفاءة أبي عبد الله نورَّت القارئ، وجعلت من قيس ملكا ذا شأن يحسب له الحساب، ويشاكله في طرح تحليله لهذا البيت:
إِرَمِيٌّ بمثله جالت الخيْ ***** لُ وتأبى لخَصْمِها الإجلاءُ.
يوضح ارم: جد عاد، وهو عاد بن عوص ارم بن سام، وأشار إلى هذا ابن رشيق في باب أصول النسب، وبيوتات العرب[15] مما يجعله في فسحة من علمه، ورحابة من فهمه ، و المتتبع لهذه الدراسة لا يتلكأ أن يوجه فكره ، بفكرة جلية تقتحم مخيلته تجعله لا يشك البتة بأن مرجعيته في الكشف عن هذه الألقاب والأسماء ، و الصفات مردها إلى قدرته العلمية بأنساب العرب و أصولها ، مثلما تستنبط شيئا آخر قد لا يختلف فيه اثنان ،أن المصادر التي عول عليها الشارح و استند على معينها دراسة التراجم و التواريخ الغابرة التي مكنته من الوقوف على هذه المعارف ذات الدلالة السياقية في بعدها الأناسي.
السياق الزمكاني: جاء الشرح عنده في مستوى الزمان والمكان في نطاق توضيح المعلقات السبع متشابها واشتركت في تحليلاته الأمكنة والأزمنة، تضمنت هذه الألفاظ في سياقاتها المكانية: المنازل المهجورة، والأماكن المعفاة والرسوم الدَّارِسة، والأطلال الموحشة والأودية المقفرة بسقط الرمال البرقاء، وأماكن آخرى.
اشترك فيها الشاعر الجاهلي فتشابهت عندها شروحه، ومن الأزمنة المعهودة في تفسيراته لم يخرج عن الفصول الأربعة، الأيام والشهور والحجج فمعظم الشرح يتخلله ذكر هذه الألفاظ الزمنية: اليوم، الضحى، العشاء الصبح المساء، ظل بات، السحر، الغدوة، الرواح العشية، ومن هذه الألفاظ ما جاء في قول امرئ القيس [16]
تُضِيءُ الظَّلاَمَ بِالعشاء كأنَّــها **** مَنارةٌ مُمسَى راهب متبــتــلِ
يشرحها: تضيء بوجهها ظلام الليل فكأنها مصباح راهب، استعملت لفظة الليل رغم أن لا أثر لها في نظم البيت، فمن خلال السياق الزماني لكلمة العشاء تفطن لتوظيف كلمة الليل للكشف عن حقيقة التفسير، واعتمد كلمة الظلام كقرينة مادية تصرف معنى العشاء إلى مدلول الليل والمتأمل في شرح المحلل لطرفة بن عبد:
وإنِّيِ لأُمضي الهمَّ عِندَ احتِضَاره **** بِعَوجَاءَ مِرقَالٍ تَروحُ وتَغتَدي.
ويرى أهل اللغة أن بنية: مرقال تجمع الجنسين: ذكراً وأنثى جمل مرقال وناقة مرقال[17]
يستنبط الشارح من لفظتي”الرواح”و”الغدوة”معنى خفيا يؤكد ذلك باستعماله فعل المضارع يريد: أي يصرف القارئ إلى مراد الشاعر، والإرادة أمر قلبي يتعلق بالقصد والعزم ولا يخفى عليه ما لهذه الكلمة من مدلول، ومع ذلك وظفها ليخبر المخاطب أو القارئ بأن هذه الازدواجية بين الغدوة، والرواح دلّت على الاستمرارية، والمواظبة فقال: يريد (يعني الشاعر) أنها تصل سير الليل بسير النهار وسير النهار بسير الليل. (Continuité)[18]
وأفضل إشارة طبعها الكاشف بمستوى الزمن في شرحه لقول طرفة[19]
وَيأتيكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لمَ تَبعْ لــَه ****** بتاتًا ولمْ تَضربْ لهُ وقتَ مَوعدِ.
وهذا البيت إشارة إلى الأهمية التاريخية برأي الكاتب أحمد بن إبراهيم بن مصطفى في جواهر الأدب، مشيرا إلى تعريف التاريخ وجعله معرفة أخبار الماضين وأحوالهم من حيث معيشتهم ،وسياستهم ،وادبهم ،ولغتهم.[20]
إن الحركة دؤوب، وعجلة التواصل الزمني منقطعة النظير في حياة العربي إبان العصر الجاهلي غادٍ رائح، آت، ذاهب، ماض، حاضر، استمرارية تحامتها ألفاظ واعتنقت مقاصدها الدلالات تملأ صدفة التاريخ بجوانبها وشخوصها، ووقائعها، وأزمنتها المتعددة هكذا كانت حياة العربي لا تعرف السكون ولا المسكنة ولا تعرف الراحة والدَّعَة، تنمية، وحركية متواصلة. يفسر أنه سينقل إليك الأخبار من لم تبين له وقتا لنقل الأخبار، كما وظف معنى من دلالات الزمن في شرح بيت لزهير بن أبي سُلمى [21] وقفتُ بهَا منْ بَعدِ عِشرينَ حِجَّة فلأَيًا عرفت الدَّار بعدَ توهُّمِ.
شرح كلمة “الحِجة”: بسنة، وقفت بدار أم أوفى بعد مضى عشرين سنة… يريد أنه لم يثبتها بعد جهد، ومشقة لبعد العهد بها، ودروس أعلامها، وما يعجبك في تحليله ذي الدلالة الزمنية استنباطه لما يوحي للمفهوم الزمني من ألفاظ وضعت لمعانٍ أخرى لا تتصل بالزمن من حيث ما وضعت له أصلا، وذلك ما أشار له في قول لبيد [22]
دِمَنٌ تجرَّم بعدَ عهدِ أنيسهـــــَـا *** حجج خَلوْنَ حلالُها وحرامُها.
فسرها: وأراد بالحرام، الأشهر الحرم، وبالحلال أشهر الحل، الخلو: المضي، ويزيد مضيفا والسنة لا تعدو، أشهر الحرم، وأشهر الحل فعبر عن مضي السنة بمضيهما ما وجه الارتباط بين لفظتي الحلال، والحرام، ومعاني الأشهر التي تقوم بها السنة إلا من حيث الحقل الدلالي الذي اطلع عليه الزوزني، وكان سابقا في عمله.
ونجده يفصل تفصيلا زمنيا في شرحه لهذا البيت [23]
من كل سارية وغادٍ مُدْجـــــن ٍ **** وعشيةٍ متجاوبٍ إرزَامُــــــهَا.
ثم شرح: أيْ: كأن رعودها تتجاوب، جمع لها أمطار السنة لأن أمطار الشتاء أكثرها يقع ليلا، وأمطار الربيع أكثرها يقع غداة، وأمطار الصيف أكثرها يقع عشيا، وفي هذا الشرح لم يترك المفسر زمنا إلا أشار إليه في هذه الفقرة بداية من السنة إلى الشهر إلى الفصل إلى اليوم إلى الليلة إلى الصباح الباكر إلى العشية ” المساء
جمع هذه الأوقات في المستوى الزماني ذي البعد التاريخي، وأما مستواه المكاني فكثرت شروح المعلقات به.
ونحن نلامس هذه التخريجات السياقية التي قتلها شرحا، وأظهر غامضها، وفصل مجملها من لَفْظَتَيْ حلال، وحرام، أخرج لقارئه اثني عشر شهرا في كتاب الله منها أربعة حرم، استنتاج ذكي، واقتباس زكي أحالنا عليه، وهذه الأشهر: ذو الحجة، ذو القعدة، محرم، رجب، كانت تدعى بهذا الاسم قبل الإسلام، ثم استمرت هذه التسمية مع بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. ومنه قول عمر بن كلثوم[24]
ألا هُبِّي بصحنِك فاصبَحينَــا **** ولا تُبقِي خمورَ الأنْدرينــَــا.
فسر الشارح هكذا: الأندرينا قرى بالشام، ومن الأماكن التي ذكرها قرى اليمامة ودمشق، بعلبك، وفي معلقة عنترة ذكر أيضا عدة مواضع منها دار عبلة، أرضية الحرب وكان فارسها عنترة الشاعر أما معلقة الحارث بن حلزة فأشار المفسر إلى أماكن بأسمائها برقة شماء خلصاء ونبّه في شرحه أن الشاعر عهد بها حبيبته، وفي سياق الشرح لقول الشاعر [25]
إذْ أحلَّ العَليَاءَ قبَّة ميســـــــو ****** نَ فأدْنَى ديارِها العوْصـــاَءُ
بين ماذا يراد بهذا الكلام: وإنما كان هذا حينما نزل الملك قبة هذه المرأة علياء، وعوصاء التي هي أقرب ديارها إلى الملك فثقافتة مكنته من جغرافية الأرض ومعرفته الجامعة التي قيلت فيه الأشعار جعلته يلم بكل تلك التوضيحات المفسرة للمعلقات في شروحها.
وكأنه يقارب ما أشير إليه من دور السياق في الدراسة الأدبية واللغوية وأن أي مقاربة لسانية تتضمن اعتبارات سياقية تنتمي بالضرورة إلى ذلك المجال من الدراسة اللغوية فإذا عرفت موضوع الدراسة ثم أضفت له معرفة – الظرف-أيْ السياق الزماني والمكاني للحدث…فإن توقعاتك ستكون أكثر دقة وتحديداً[26]
سياق الأحداث و الوقائع:
ونستهل توطئة هذا الفرع من البحث بما عده في كتاب الكامل يشير إلى الوقائع بصريح اللفظ البين القريب المفهم، لا جرم أن الأمر أبلج في معلقة الفلحاء بن شداد إذْ يصرح بلفظ لا يحتمل التأويل في غير ما نحن بصدده ويؤخذ بظاهره في باب الوقائع مدلياً بصريح النظم: يخبرك من شهد الوقيعة أنني ***أغشى الوغى وأعف عند المغنم.[27]
تصدر شرحه للمعلقات بأول رواية كانت القصة التي دارت بين امرئ القيس مع العذارى في غدير دارة جلجل [28] وفيها ابنة عمه عنيزة، وما جرى لهن معه وحكاية نحره مطيته، واللعب باللحم، والتقاذف بالشحم ذلك ما أشار إليه امرؤ القيس بقوله:
ألا ربّ يومٍ منهنَّ صَالــحٍ ***** ولاَ سِّيما يومٍ بدارَةِ جُلْجُلِ.
ويومَ عَقَرتُ لِلعذَارى مطَيتي ****** فيا عَجَبًا من كُورهَا المُتَحمَّل.
جاءت معلقته على هذا السمت يروي فيها الشارح أخباراً متفرقة حول علاقة الشاعر بالنسوة اللائي جمعته بهن عدة علائق متنوعة ثم تطرق إلى المحور الثاني من المعلقة متحدثا عن الشاعر، ومطاردته للصيد على متن فرسه، وتمكنه من اللحاق بكل ما تبدى لناظره، فنظر للعبارة “قيد الأوابد «التي لم يسبق لها شاعر قبل امرئ القيس
كانت من بُنَيات أفكاره، ومخترعاته البدائية كما وقف وقفات من نوع خاص عند خبر وصفه لذلك الفرس العجيب، لما قال امرؤ القيس:[29]
مِكَرِّ مِفَرِّ مُقبلٍ مدبر معــــــــــــًا ..كَجلمود صخْر حطَّه السيلُ من علِ.
تأمَّل كلمة “معًا”، وقال إن تلك الأوصاف مجتمعة في قوة الفرس لا في فعله ثم ينتقل إل المحور الثاني من معلقة امرئ القيس يفسرها بطريقة بيانية ذات مستوى إخباري من وصف الفروسية، والصيد إلى رواية أخرى تمثلت في وصف المطر، ومخلفاته في صورة واقعية ومشاهدة.
فكأن القارئ وهو يتتبع شروحه ينظر لهذه الواقعة بأم عينه بمثابة فيلم سينمائي أخرجه لجمهوره فبدأ الشرح من البيت التالي:
أصاحِ ترَى برقاً أريكَ وميضَهُ ***** كَلَمْعِ اليدينِ في حبيِّيٍ مُكَـــــلَّلِ.[30]
إلى غاية قول الشاعر: كأن السِّباعَ فيه غرقَى عشيــةً **** بأرجائهِ القُصْوى أنابيشُ عنصَلِ.
وصف في هذين البيتين تداعيات ومجريات المطر ومخلفاته وما نتج عنه من خسائر معتبرة ،حيث بين الغامض منه، وعلق على مساره وصيرورته مثل ما جاء في البيت:
قعدتُ له وصُحْبتِي بين ضَارجٍ **** وبين العُذيْبِ بُعدَ ما مُتأمَّلِ.
أشار إلى هيئة السحاب بالبيت التالي: أي بعد السحاب الذي كنت أنظر إليه وأرقب مطره وأشيم برقه ثم يروي الأحداث التي تجلت في معلقة طرفة فانقسمت ثلاثة أقسام: الحديث عن خولة، عن الناقة، عن نفسه، الافتخار بها، وخبر ظلم ابن عمه” اسمه مالك ” رسمها كلها في وقائع وأحداث تخللتها عدة معان: [لهو، مجون، شجاعة، كرم، ظلم، وحكمة] اختتم بها ،كاشفا عن معانيها وفي معلقة زهير تطرق إلى ذكر الأطلال، وما احتوت عليه من أحباب لم تبق إلا رسومهم منهم أم أوفى وما اعترى تلك الأماكن من عفاء، ودرس وما خلف الراحلين من حيوانات، العين، الآرام، والظباء وغيرها .
فقام الشاعر برحلة تذكارية، وصلة يقدمها الشارح في ثنايا تفسيراته لمن شاء أن يطلع بطريقة قربت بعيدها وأظهرت غامضها فلا يسع المتلقي إلا الفهم.
لقد أعلن الشاعر حسبما بينه الشارح أن تلك المنطقة التي غمرتها مياه وسيول جارفة، منطقة منكوبة حسب الاصطلاح الحديث، لم يترك ذلك السيل العرمرم، أطما ولا أشجارا إلا ما كان من جندل أصم فتركها خاوية على عروشها، وأدخل أهلها في حالة طوارئ قصوى حُق لهم أن يطلبوا الغوث ويلجأوا إلى منجى يدركون ما تبقى من معالم يأوون إليها ويتشبثون أركانها.
ينتقل إلى رواية الصلح بين القبيلتين المتعاركتين أشرف عليها هرم بن سنان والحارث بن عوف.
فتصدى بالشرح لكل مصطلح حوته القصيدة وقف عل خبره وروى وقعته فعندما يقول زهير:
فأقسمتُ بالبيْتِ الذي طافَ حولهُ *** رجالٌ بنوهُ من قريْشٍ وجرهم.
وسم البيت: بالكعبة ،ثم يسرد قصة البناء، ومن هي جرهم؟ فيقول جرهم قبيلة قديمة تزوج فيهم إسماعيل عليه السلام فغلبوا على الكعبة، والحرم بعد وفاته عليه السلام، وضعف أمر أولاده ثم استولى عليها بعد جرهم خزاعة إلى أن عادت إلى قريش وقريش اسم لولد النضر بن كنانة.
وددت أن أكتب القصيدة كما فسرها من خلال شرحه لبيت واحد حتى نبين حقيقة المستوى الإخباري في الشرح الذي كان ينتهجه، فمثلا البيت لغة: لها معان متعددة منها المسكن ، وقد أحال معناها إلى الكعبة بقرينة القسم ثم بحكم البيئة، والوسط التي قيلت فيه القصيدة هبْ أنها قيلت في بقعة أخرى من بقاع الأرض فإن المعنى يبعد عن الأذهان لو قيلت هذه الكلمة في السند أو الهند، وجاء المفسر ولم تكن له خلفية إسلامية عربية ما شرحها بهذا المعنى.
لذلك قيل لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كنتم تتحدثون به إذا خلوتم في مجالسكم؟ قالوا: كنا نتناشد الشعر، ونتحدث بأخبار جاهليتنا.[31]
ثم روى لنا قصة زواج إسماعيل عليه السلام من جرهم ،كيف نعلم ذلك؟ لو لم يكن مطلعا على هذه الأخبار ما استطاع أن يدلي بها من تلقاء نفسه، ولا من الألفاظ المبثوثة في البيت حيث إن الشاعر اكتفى بذكر لفظة جرهم، ولم يرد عنها شيء بزواج إسماعيل عليه السلام من هذه القبيلة.
وبعدها ينتقل بنا إلى شرح البيت الموالي لهذا البيت من قول زهير:
يميناً لَنِعَمِ السَّيِّدان وُجَدتُمَا **** علَى كُلِّ حَالٍ من سَحيلٍ ومُبرَمٍ.
وجدته،- انطلاقا من هذا البيت- يحكي لنا رواية الصلح التي أشرف عليها السيدان مشيرا إلى ذلك بـاسميها هرم بن سنان، والحارث بن عوف، وما قدماه من قول، وفعل تداركا بها الحرب، وبسطا بها جناح السلم بين القبيلتين المتطاحنتين عبس وذبيان. ولا يتسع المقام لنلم بكل الشروح في هذه الرواية، وما له من تفاسير جلية عالجت رواية الصلح في مستواها الإخباري.
يتدرج في الكشف عنه متبعا طريقة تفصيليه يجزِّئ فيها تلك الأنباء إذ أعطى لكل واقعة حقها من التوضيح :من بناء البيت الحرام وهو يذكر البُناة، والسدنة، وتداول الأسرة الجرهمية على امتلاك أمره إلى سرد قصة الزواج الاسماعيلي دونما ينسى مسألة الصلح لتلك الحادثة التي تزعم إصلاحها، الحارث، وهرِم وتداركهما للحرب الطاحنة.
وتحليله لمعلقة لبيد بن ربيعة من عدة مستويات معرفية، تشطرت إلى محاور ثلاثة: بدايتها مع ذكر الأطلال والأحداث، ومنهم خوله ثم قصة امتطاء الناقة لقضاء الحوائج، وتفريج الهموم، والتماس المآرب بالسفر والترحال، وذكره لما يشبه الناقة من آتان، وبقرة وحشية حالة كونها تصارع الموت فيصطفي ثمرة كبدها، وتنتصر هي الأخرى على الكلبتين كساب وسخام.
ثم يختم الزوزني الشرح يصور فيه حياة الشاعر ودعوته للافتخار والزهو بنفسه، والتباهي بالكرم وشرب الخمر، وفعل الخير.
فأفصح عنها وأمدها بما لديه من علم ومعرفة من جوانب متعددة للكشف عن غامضها وإجلاء مراميها، مثل شرحه لهذا البيت:
فتقصدت منها كساب فضُرِّجت **** بِدَمٍ وغُودر في المكرِ سُخَامُها
.والإيضاح: فقتلت البقرة كساب من جملة تلك الكلاب فحمرتها بالدم وتركت سُخامها في موضع كرها صريعة أي قتلت هاتين الكلبتين، وفي لفظة سخام يقول الزوزني وقد” رويت بالحاء المهملة ” هذا معناه أن الشرح ملتمس من الأخبار والروايات فدل ذلك على ما نحن بصدده في هذا المستوى الإخباري في رواية الوقائع والأحداث، والمتأمل في ألفاظ البيت المذكور أعلاه لا يستطيع الإتيان بمعنى من المعاني التي وظفها الشارح لكلمتي كساب وسخام أو سحام إلا إذا استلم مفاتيح الشرح لفك شفرة النص من مرجعية الرواية التي آل إليها الشارح في معالجته لهذا النص.
وفصّل معلقة عمرو بن كلثوم إلى عدة اتجاهات، ومن هذه الأبعاد التي أشار إليها في كشفه عن غامض المعلقة استناده على الرواية، والأخبار، وقد لخص سبب قول القصيدة بواقعتين الأولى: يقول الشارح كانت على أثر الخلاف الذي وقع بين قومه “تغلب”، وبين بني أعمامهم بكر، وتقاضيهم إلى عمرو بن هند، وكان سبق أن أصلح بينهم بين حرب البسوس فآثر عمرو بن هند تغلب وهمّ بطرد سيد بكر النعمان بن هرم.
يريد إفادة سامعيه بمسألة التقاضي إلى ابن هند وما قضى به من أحكام بين القبيلتين، وكيف رأوا أنه غمطهم حقهم، وآثر عليهم بني عمومتهم، فاعتبروا قسمتهم، قسمة لم يرضوا بها.
أنشد إذْ ذاك عمرو قصيدته، وأجابه عليها الحارث بن حلزة والثانية: أن سبب احتقار أم عمرو بن هند لأم عمر بن كلثوم والواقعتين ذكرهما في المعلقة وزمن الرواية الأولى قول الشاعر:
أبا هند فلاَ تعْجَلْ عَليْنَا ***** وأنْظِرْنا نُخَبِّرْك اليقينَا.
يريد عمرو بن هند فكناه.
وفي قول الشاعر: وأيامٍ لنَا غُرِّ طِوالِ ***** عصينا الملْك فيها أن ندينا.
يوضح نخبرك بمواقع لنا مشاهير كالغر من الخيل، الأيام: الوقائع، وفي الرواية الثانية قول الشاعر:
تهدّدنا وتوعِدناَ رويداً ****** متى كُنَّا لأمّكَ مقتوينا.
يكشف عن المعنى: ترفق في تهددنا وإبعادنا، ولا تمعن فيهما فمتى كنّا خدما لأمك ،أي :لم نكن خدما لها حتى نعبأ تهديدك ووعيدك إيانا .وفي معلقة ابن شداد تداخلت الأخبار من الحديث عن عبلة إلى ذكر المطر، والناقة، والحرب وعن عنترة نفسه حول كرمه وشجاعته، هذه الشروح تدخل في المستوى الإخباري، لا بأس بالتمثيل لها بشرح هذا البيت:
وإذا صَحوتُ فما أقصِّرُ عن ندَى ***** وكمَا علمْتِ شمائلِي وتكرُّمِي.
وهذان البيتان أي هذا البيت والذي سبقه قد حكم الرواة بتقدمهما في بابهما، فلولا الرواية ما علمنا أن هذين البيتين قد تقدما في بابهما، وهنا اختلط الإعلام بالشرح، والحكم الإخباري لروايته الخبرية، وفي موضع آخر يتجلى الشرح المعنوي ذو المستوى الإخباري في قوله:
ولقد خشيتُ بأن أموتَ ولم تدرْ ***** للحربِ دائرةٌ على ا بنيْ ضمضمِ.
جاء في شرحه: الدائرة اسم للحادثة يقول: ولقد أخاف أن أموت، ولم تدر الحرب على ا بني ضمضم بما يكرهانه، وهما حصين وهرم ابنا ضمضم، ونصب الرجلين جاء إخباريا يميل إلى التراجم البشرية فأخرجهما إلى أسماء.
والشرح في معلقة الحارث بن حلزة لم يخرج عن سابقه من الشروح وتنوع التفسير والكشف.
ولكن كنا نريد الحديث عن دلالة الخبر في الشرح، والتنقيب عن تلك الوقائع فإننا واجهناها في تعريفه للفظة الدائرة التي أطلق عليها صراحة اسم الحادثة فدلت بما لا يدع مجالا للشك على صبغتها الوقائعية للحدث الإخباري ، استعمل بعض الاتجاهات وضروب المعرفة للتوضيح، وفتح مغاليق المعلقات، وفي هذا الشرح لمعلقة الحارث نستقي منه ما يرميء إلى المستوى الإخباري، وفي سياق الحديث عن مناسبة القصيدة يفسر الشارح:
قال ابن السكيت: «وقد جمع فيها ذكر عدة من أيام العرب عير ببعضها بني تغلب تصريحا، وعرض ببعضها عمرو بن هند” وما جاء في شرحه لقول الحارث:
وأتاناَ منَ الحوادثِ والأنْبَا **** ءِ خطبٌ نُعْنَى به ِونساءُ.
كشف عن معنى: ولقد أتانا من الحوادث والأخبار أمر عظيم نحن معنيون محزونون لأجله، وفي قول الحارث:
إن إخوانَنَا الأراقمَ يغْلُو ***** ن علينا في قيلهِمْ إحْفَاءُ.
يبدو الشرح في مستواه الإخباري جليا واضحا، وقد فسر الشارح الأراقم، بطون من تغلب تسمو بها لأن امرأة شبهت عيون أبائهم بعيون الأراقم، ثم فسر ذلك الخطب فقال هو تعدي إخواننا من الأراقم علينا، وغلوهم في عداواتهم علينا في مقالتهم، ولا أسترسل في سرد الأخبار مع شروحها نجترئ بهذا الشرح الذي نلاحظ من خلاله طريقته في الحدوث الإخباري بكل مستوياته فلولا علمه بكنية أو لقب ذلك البطن من بطون تغلب بوصفه بالأراقم [32]
وهذه المرأة وخبرها بتسميتهم بالأراقم ما توصل إلى فهم هذه العبارة واستطاع أن يتسرب إلى مغاليق النص، ويفك غامضها في بعدها الدلالي بسياق إخباري بهذا الشكل الذي صار إليه.
خاتمة
جاءت محاولتنا في هذه الدراسة بمثابة مقاربة شرح المعلقات لما توصل إليه النقاد في تحليلاتهم للخطابات الأدبية، مستندين في ذلك على مناهج اجترحوها في الحقول الأبستمولوجيا الحديثة والمعاصرة، سواء كانت سياقية حسب طبيعة موضوعاتها من ، تاريخية، اجتماعية، نفسية ، أومن صنوتها النسقية قديما فنية، لغوية، بلاغية أم حداثية عصرية، بنيوية، أسلوبية، سيمائية.
ورغم أن الشارح لم يكن يحوز هذه الآليات التقنية، والأدوات المنهجية العلمية، إبان فترة التحليل المزامن للقرون الأولى من القرن الرابع والخامس الهجريين، إلاّ أن عمله الرائد في تفكيك وتفتيق ما تضمنته القصائد الطوال من معانٍ دلالية أشكلت عن الفهم. انبرى لها مثله مثل باقي الشراح معولين على ثقافاتهم الزاخرة بشتيت المعارف في الأدب واللغة والتاريخ وغيرها من العلوم التي أمدّتهم بمفاتيح استرسلوا بمعيتها لإيضاح ما استبهم من النصوص الشعرية وانغلق من المعاني النثرية في جميع الأجناس الأدبية التي عاصروها.
وكان لهم ما ارادوا من نشاطات فكرية بوأتهم شناخيب المعرفة وسبل التنوير العلمي ولم يك الزوزني بدعاً من هؤلاء العلماء والنقاد واللغويين الفطاحلة.
والمتمعن في شروح الزوزني يجده رسم لنفسه منهجية تجعل من الدراسة التاريخية ملجأ له في التحليل والتعليل وبسلوكه هذه المحجة اللاحبة والطريقة المضيئة استطاع أن يكشف عن غامض الشعر من تفسير لتلك المدلولات المعنوية ،والاتساقات اللفظية ،بمجاراتها للمناهج العصرية من غير قصدية ،أو معرفة سابقة لمصطلحاتها المنهجية الحديثة، فتارة تطابقها وأخرى توازيها وتعمل بمحاذاتها وأحيانا تتفوق عليها بأسلوب تكاملي يجمع الشتات.
وباتباعه للطرائق العلمية التي كان يمتلكها العصر آنئذٍ تصادف الدراسات النسقية الحالية، فعالج بها أغوار النصوص وأمدته بما حوته من انسجام واتساق وإحالاتٍ لغوية اتسمت بحسن السبك ومنظومية النسيج بخيوط تركيبية، معجمية بنائية، أسلوبية، والأخرى سياقية تقفز خارج النصوص مستعملا كل ما من شأنه الكشف عن مدلهمات الأثر الأدبي من جوانبه الشتيت إن على مستواه التاريخي، أو الاجتماعي، أوالنفسي.
مسرد المصادر والمراجع
المصحف الشريف. (2014). سورة قريش. سوريا حمص: بيت القرآن للطباعة والنشر.
. المصدر:
الزوزني أبو عبد الله أحمد بن الحسين. (1969). شرح المعلقات السبع. بيروت لبنان: دار اليقظة للتأليف والنشر.
المراجع:
- ابن رشيق. (1988). العمدة في محاسن الشعر وآدابه. لبنان: دار المعرفة.
- ابن فارس أبو الحسن. (1366ه). معجم المقاييس في اللغة. بيروت لبنان: دار الفكر.
- ابن قتيبة عبد الله بن مسلم. (1986). الشعر والشعراء. بيروت لبنان: دار إحياء العلوم.
- ابن كثير اسماعيل عماد الدين أبو البقاء. (2020). البداية والنهاية. الجزائر البليدة: دار الامام مالك للكتاب.
- ابن منظور. (2008). لسان العرب. بيروت لبنان: دار صادر.
- أحمد بن إبراهيم بن مصطفى. (2012). جواهر الأدب. بيروت لبنان : دار الكتب العلمية.
- أحمد بن محمد بن عبد ربه. (2008). العقد الفريد. لبنان: دار الفكر.
- أحمد بن محمد بن عبد ربه(ت328). (2008). العقد الفريد ج1. لبنان: دار الفكر.
- أسامة رشيد الصفار. (2011). ينبوع اللغة ومصادر الألفاظ. لبنان: دار صادر بيروت.
- التبريزي يحي بن علي. (2009). شرح المعلقات العشر. بيروت لبنان: دار صادر.
- السيد الشريف علي بن محمد بن علي الجرجاني الحنفي. (2009). التعريفات. القاهرة: دار الطلائع للنشر والتوزيع.
- الفيروزآبادي. (1995). القاموس المحيط. لبنان: دار الفكر.
- المبرد محمد بن يزيد. (2006). الكامل في اللغة والادب. لبنان: المطتبة العصرية صيدا بيروت.
- إيليا الحاوي. (1986). في الند والأدب. لبنان: دار الكتاب اللبناني.
المراجع المترجمة:
- براون و يول. (1997). تحليل الخطاب. السعودية: دار النشر العلمي والمطابع جامعة سعود.
المعاجم:
- مصطفى إبراهيم وآخرون. (1972). المعجم الوسيط. تركيا: المكتبة الإسلامية اسطانبول.
المراجع الأجنبية:
- LAROUSSE. (2004). DICTIONNAIRE DE FRANCAIS. FRANCE: L imprimerie MAURY-EUROLIVRES a MANCHECOUT
[1] . ابن قتيبة عبد الله بن مسلم. (1986). الشعر والشعراء. بيروت لبنان: دار إحياء العلوم، ص21.
[2]. السيد الشريف علي بن محمد بن علي الجرجاني الحنفي. (2009). التعريفات. القاهرة: دار الطلائع للنشر والتوزيع.
[3] الزوزني. (1969). شرح المعلقات السبع . لبنان: دار اليقظة للتأليف والنشر.ص62.
[4] التبريزي يحي بن علي. (2009). شرح المعلقات العشر. بيروت لبنان: دار صادر.ص35_36
[5] ابن فارس أبو الحسن. (1366ه). معجم المقاييس في اللغة. بيروت لبنان: دار الفكر.ص751.
[6] الزوزني أبو عبد الله أحمد بن الحسين. (1969). شرح المعلقات السبع. بيروت لبنان: دار اليقظة للتأليف والنشر.ص146.
[7] الزوزني. (1969). شرح المعلقات السبع. لبنان: دار اليقظة.ص114.
[8] ابن منظور. (2008). لسان العرب. بيروت لبنان: دار صادر.ص253 ج11.
[9] الزوزني. (1969). شرح المعلقات السبع.ص168.
[10] أحمد بن محمد بن عبد ربه(ت328). (2008). العقد الفريد ج1. لبنان: دار الفكر.ص245 ج6.
[11] المصحف الشريف. (2014). سورة قريش. سوريا حمص: بيت القرآن للطباعة والنشر.
[12] الفيروزآبادي. (1995). القاموس المحيط. لبنان: دار الفكر.ص541.
[13] أسامة رشيد الصفار. (2011). ينبوع اللغة ومصادر الألفاظ. لبنان: دار صادر بيروت.ص109.
[14] ابن كثير اسماعيل عماد الدين أبو البقاء. (2020). البداية والنهاية. الجزائر البليدة: دار الامام مالك للكتاب.ص258.
[15] ابن رشيق. (1988). العمدة في محاسن الشعر وآدابه. لبنان: دار المعرفة.ص166 ج2.
[16] الزوزني. (1969). المعلقات.ص83.
[17] مصطفى إبراهيم وآخرون. (1972). المعجم الوسيط. تركيا: المكتبة الإسلامية اسطانبول.ص366.
[18] LAROUSSE. (2004). DICTIONNAIRE DE FRANCAIS. FRANCE: L imprimerie MAURY-EUROLIVRES a MANCHECOUT p1881.
[19] الزوزني. (1969). المعلقات.ص156.
[20] أحمد بن إبراهيم بن مصطفى. (2012). جواهر الأدب. بيروت لبنان : دار الكتب العلمية.ص241.
[21] الزوزني. (1969). المعلقات.ص162.
[22] الزوزني. (1969). المعلقات.ص192.
[23] الزوزني. (1969). المعلقات.ص193.
[24] الزوزني. (1969). شرح المعلقات.ص238.
[25] الزوزني. (1969). المعلقات.ص319.
[26] براون و يول. (1997). تحليل الخطاب. السعودية: دار النشر العلمي والمطابع جامعة سعود.ص36.
[27] المبرد محمد بن يزيد. (2006). الكامل في اللغة والادب. لبنان: المطتبة العصرية صيدا بيروت.ص26.
[28] إيليا الحاوي. (1986). في الند والأدب. لبنان: دار الكتاب اللبناني.
[29] الزوزني. (1969). المعلقات ص91.
[30] الزوزني. (1969). المعلقات ص102.
[31] أحمد بن محمد بن عبد ربه. (2008). العقد الفريد. لبنان: دار الفكر.ص245 ج6.
[32] الزوزني. (1969). المعلقات.ص 310.